تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) إلى قوله : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ١٨ ـ ٢١].

وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى ، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم ترد إليهم دعوة إلهية حينئذ. فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلى موسى بالخوف والغربة عتابا له على إقدامه على قتل النفس ، كما قال في الآية الأخرى : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) [القصص : ١٥ ـ ١٦]. وعباد الله الذين أراد بهم خيرا ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالا يكسبونه ، ويسمى مثل ذلك بالابتلاء ، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئة ضمير لتحمّل المصاعب ، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب ـ عليه‌السلام ـ. ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.

أو يكون الفتون مشتركا بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، أي واختبرناك اختبارا ، والاختبار : تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر ، ولهذا اختير هنا دون الفتنة.

وأهل مدين : قوم شعيب. ومدين : اسم أحد أبناء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة ، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علما للمكان فمن ثمّ أضيف إليه (أهل). وقد تقدم في سورة الأعراف.

ومعنى (جِئْتَ) حضرت لدينا ، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي.

و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن ؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه.

والقدر : تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل

١٢١

المصادفة ، فيكون غير ملائم أو في ملاءمته خلل ، قال النّابغة :

فريع قلبي وكانت نظرة عرضت

يوما وتوفيق أقدار لأقدار

أي موافقة ما كنت أرغبه.

فقوله (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّرا من الله تقديرا مناسبا متدرجا ، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديدا منظما لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله ، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير.

فهذا تقدير خاص ، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه.

وليس المراد القدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات ، فإن ذلك لا يشعر بمزية لموسى ـ عليه‌السلام ـ. وقد انتبه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز :

أتى الخلافة إذ كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة ، وذلك جملة (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) الذي هو بمنزلة ردّ العجز على الصدر على قوله (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) الآية ، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) [طه : ١٣] ومن قوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤].

والاصطناع : صنع الشيء باعتناء. واللام للأجل ، أي لأجل نفسي. والكلام تمثيل لهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئا لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢))

رجوع إلى المقصد بعد المحاورة ، فالجملة بيان لجملة : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ، أو هي استئناف بياني لأن قوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] يؤذن بأنه اختاره وأعدّه لأمر عظيم ، لأنّ الحكيم لا يتّخذ شيئا لنفسه إلّا مريدا جعله مظهرا لحكمته ، فيترقب المخاطب تعيينها ، وقد أمره هنا بالذهاب إلى فرعون وأن يذهب أخوه معه. ومعنى

١٢٢

ذلك أنه يبلّغ أخاه أن الله أمره بمرافقته ، لأنّ هارون لم يكن حاضرا حين كلّم الله موسى في البقعة المباركة من الشجرة. ولأنه لم يكن الوقت وقت الشروع في الذهاب إلى فرعون ، فتعيّن أن الأمر لطلب حصول الذهاب المستقبل عند الوصول إلى مصر بلد فرعون وعند لقائه أخاه هارون وإبلاغه أمر الله إياه ، فقرينة عدم إرادة الفور هنا قائمة.

والباء للمصاحبة لقصد تطمين موسى بأنّه سيكون مصاحبا لآيات الله ، أي الدلائل التي تدلّ على صدقه لدى فرعون.

ومعنى (وَلا تَنِيا) لا تضعفا. يقال : ونى يني ونى ، أي ضعف في العمل ، أي لا تن أنت وأبلغ هارون أن لا يني ، فصيغة النهي مستعملة في حقيقتها ومجازها.

[٤٣ ـ ٤٤] (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤))

يجوز أن يكون انتقال إلى خطاب موسى وهارون. فيقتضي أن هارون كان حاضرا لهذا الخطاب ، وهو ظاهر قوله بعده (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ) [طه : ٤٥] ، وكان حضور هارون عند موسى بوحي من الله أوحاه إلى هارون في أرض «جاسان» حيث منازل بني إسرائيل من أرض قرب (طيبة). قال في التّوراة في الإصحاح الرابع من سفر الخروج «وقال (أي الله) ها هو هارون خارجا لاستقبالك فتكلمه أيضا». وفيه أيضا «وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى فذهب والتقيا في جبل الله» أي جبل حوريب ، فيكون قد طوي ما حدث بين تكليم الله تعالى موسى في الوادي عند النار وما بين وصول موسى مع أهله إلى جبل (حوريب) في طريقه إلى أرض مصر ، ويكون قوله (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ) إلخ ، جوابا عن قول الله تعالى لهما : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) إلخ. ويكون فصل جملة (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ) إلخ لوقوعها في أسلوب المحاورة.

ويجوز أن تكون جملة (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) بدلا من جملة (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) [طه : ٤٢] ، فيكون قوله (اذْهَبا) أمرا لموسى بأن يذهب وأن يأمر أخاه بالذهاب معه وهارون غائب ، وهذا أنسب لسياق الجمل ، وتكون جملة (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وقد طوي ما بين خطاب الله موسى وما بين حكاية (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ) إلخ. والتقدير : فذهب موسى ولقي أخاه هارون ، وأبلغه أمر الله له بما أمره ، فقالا ربّنا إننا نخاف إلخ.

١٢٣

وجملة (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر بأن يذهبا إليه. فعلم أنه لقصد كفّه عن طغيانه.

وفعل (طَغى) رسم في المصحف آخره ألفا ممالة ، أي بصورة الياء للإشارة إلى أنّه من طغي مثل رضي. ويجوز فيه الواو فيقال : يطغو مثل يدعو.

والقول الليّن : الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال ، بأن يظهر المتكلّم للمخاطب أنّ له من سداد الرأي ما يتقبّل به الحق ويميّز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله.

فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء الليّن.

واللين ، حقيقة من صفات الأجسام ، وهو : رطوبة ملمس الجسم وسهولة ليّه ، وضد الليّن الخشونة. ويستعار الليّن لسهولة المعاملة والصفح. وقال عمرو بن كلثوم :

فإن قناتنا يا عمرو أعيت

على الأعداء قبلك أن تلينا

واللين من شعار الدعوة إلى الحق ، قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: ١٢٥] وقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩]. ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ١٨ ، ١٩] وقوله : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [الكهف : ٤٧] ، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى. فإذا لم ينفع اللين مع المدعوّ وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه ، قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦] ، وقال تعالى عن موسى : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه : ٤٨].

والتّرجي المستفاد من (لعلّ) إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي ، وإما أن يكون إعلاما لموسى وفرعون بأن يرجوا ذلك ، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما ، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء : فلعلّه يصادفك تيسير ، وأنت لا تريد أنّك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب. وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرّة.

والتذكّر : من الذّكر ـ بضم الذال ـ أي النظر ، أي لعلّه ينظر نظر المتبصّر فيعرف الحق أو يخشى حلول العقاب به فيطيع عن خشية لا عن تبصر. وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق ، فالتذكر : أن يعرف أنه على الباطل ، والخشية : أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى.

١٢٤

وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى ـ عليه‌السلام ـ.

[٤٥ ـ ٤٨] (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفا ، أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربّهما (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ، لأنّ غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل ، والأخذ في التهيّؤ له ، ولذلك أعيد أمرهما بقوله تعالى : (فَأْتِياهُ).

و (يَفْرُطَ) معناه يعجّل ويسبق ، يقال : فرط يفرط من باب نصر. والفارط : الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب. والمعنى : نخاف أن يعجّل بعقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلغه ونحجّه.

والطغيان : التظاهر بالتكبر. وتقدم آنفا عند قوله (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤] ، أي نخاف أن يخامره كبره فيعدّ ذكرنا إلها دونه تنقيصا له وطعنا في دعواه الإلهية فيطغى ، أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة. فذكر الطغيان بعد الفرط إشارة إلى أنّهما لا يطيقان ذلك ، فهو انتقال من الأشدّ إلى الأضعف لأن نخاف يؤول إلى معنى النفي. وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك.

وحذف متعلّق (يَطْغى) فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه ، وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل. والتقدير : أو أن يطغى علينا. ويحتمل أن متعلّقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلّق آخر لكون التقسيم التقديري دليلا عليه ، لأنهما لما ذكر متعلّق (يَفْرُطَ عَلَيْنا) وكان الفرط شاملا لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم ب «أو» منظورا فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه ، أي أن يطغى على الله بالتنقيص كقوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وقوله : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) [القصص : ٣٨] ، فحذف متعلق (يَطْغى) حينئذ لتنزيهه عن التصريح به في هذا المقام. والتقدير : أو أن يطغى عليك فيتصلّب في كفره ويعسر صرفه عنه. وفي التحرز من ذلك

١٢٥

غيرة على جانب الله تعالى ، وفيه أيضا تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل ، وتلك مفسدة في نظر الدّين. وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة.

قال الله (لا تَخافا) ، أي لا تخافا حصول شيء من الأمرين ، وهو نهي مكنى به عن نفي وقوع المنهي عنه.

وجملة (إِنَّنِي مَعَكُما) تعليل للنهي عن الخوف الذي هو في معنى النفي ، والمعيّة معيّة حفظ.

و (أَسْمَعُ وَأَرى) حالان من ضمير المتكلم ، أي أنا حافظكما من كل ما تخافانه ، وأنا أعلم الأقوال والأعمال فلا أدع عملا أو قولا تخافانه.

ونزل فعلا (أَسْمَعُ وَأَرى) منزلة اللازمين إذ لا غرض لبيان مفعولهما بل المقصود : أني لا يخفى عليّ شيء. وفرع عليه إعادة الأمر بالذهاب إلى فرعون.

والإتيان : الوصول والحلول ، أي فحلّا عنده ، لأنّ الإتيان أثر الذهاب المأمور به في الخطاب السابق ، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته ، فلذا أمرا بإتيانه ودعوته.

وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجري عليه في الإفراد وغيره.

وفعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة ، كقولهم ناقة طروقة الفحل ، وعدم المطابقة كقولهم : وحشية خلوج ، أي اختلج ولدها. وجاء الوجهان في نحو (رسول) وهما وجهان مستويان. ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء [١٦] : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله.

وأدخل فاء التفريع على طلب إطلاق بني إسرائيل لأنّه جعل طلب إطلاقهم كالمستقرّ المعلوم عند فرعون ؛ إما لأنّه سبقت إشاعة عزمهما على الحضور عند فرعون لذلك المطلب ، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرّر. وتفريع ذلك على كونهما مرسلين من الله ظاهر ، لأنّ المرسل من الله تجب طاعته.

وخصّا الربّ بالإضافة إلى ضمير فرعون قصدا لأقصى الدعوة ، لأنّ كون الله ربّهما

١٢٦

معلوم من قولهما (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وكونه ربّ الناس معلوم بالأحرى لأنّ فرعون علّمهم أنه هو الرب.

والتعذيب الذي سألاه الكفّ عنه هو ما كان فرعون يسخّر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقّة في الخدمة ، لأنه كان يعدّ بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه.

وجملة (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) فيها بيان لجملة (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) فكانت الأولى إجمالا والثانية بيانا. وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلين من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق. وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها.

واقتصر على أنهما مصاحبان لآية إظهارا لكونهما مستعدّين لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك. فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل ، ولذلك حكي في سورة الأعراف [١٦] قول فرعون : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وهذه الآية هي انقلاب العصا حيّة ، وقد تبعتها آيات أخرى.

والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة ؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم ، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه.

وأيضا لأنّ ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل. وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى.

والسّلام : السلامة والإكرام. وليس المراد به هنا التحيّة ، إذ ليس ثمّ معيّن يقصد بالتحيّة. ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام ، وهذا كقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في كتابه إلى هرقل وغيره : «أسلم تسلم».

و (على) للتمكّن ، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب. وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ، فقوله: (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧] تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) تعريض لإنذاره على التكذيب قبل حصوله منه ليبلغ

١٢٧

الرسالة على أتمّ وجه قبل ظهور رأي فرعون في ذلك حتى لا يجابهه بعد ظهور رأيه بتصريح توجيه الإنذار إليه. وهذا من أسلوب القول اللّين الذي أمرهما الله به.

وتعريف العذاب تعريف الجنس ، فالمعرّف بمنزلة النكرة ، كأنّه قيل : إنّ عذابا على من كذّب.

وإطلاق السّلام والعذاب دون تقييد بالدنيا أو الآخرة تعميم للبشارة والنذارة ، قال تعالى في سورة النازعات [٢٥ ، ٢٦] : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى).

وهذا كلّه كلام الله الذي أمرهما بتبليغه إلى فرعون ، كما يدلّ لذلك تعقيبه بقوله تعالى: (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩] على أسلوب حكاية المحاورات. وما ذكر من أول القصة إلى هنا لم يتقدّم في السور الماضية.

[٤٩ ـ ٥٠] (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠))

هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون ، ففي الآية حذف جمل دلّ عليها السياق قصدا للإيجاز. والتقدير : فأتياه فقالا له ما أمرا به ، فقال : فمن ربّكما؟.

ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصولة على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبينّاها في سورة البقرة وغيرها.

ووجّه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك ، ثمّ خصّ موسى بالإقبال عليه بالنداء ، لعلمه بأنّ موسى هو الأصل بالرسالة وأنّ هارون تابع له ، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعيّن أن يكون فرعون علمه من كيفيّة دخولهما عليه ومخاطبته ، ولأنّ موسى كان معروفا في بلاط فرعون لأنه ربيّه أو ربيّ أبيه فله سابقة اتصال بدار فرعون ، كما دلّ عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء [١٨] : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) الآية. ولعلّ موسى هو الذي تولى الكلام وهارون يصدقه بالقول أو بالإشارة.

وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنّهما قالا له (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه : ٤٧].

١٢٨

وأعرض عن أن يقول : فمن ربي؟ إلى قوله (فَمَنْ رَبُّكُما) إعراضا عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما ، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربّه ، أو أنه اعترف بأنّ له ربّا. وتولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره.

وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جريا على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس ، فإن فرعون من جملة الأشياء ، فهو داخل في عموم (كُلَّ شَيْءٍ).

و (كُلَّ شَيْءٍ) مفعول أول ل (أَعْطى). و (خَلْقَهُ) مفعوله الثاني.

والخلق : مصدر بمعنى الإيجاد. وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة ، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معا.

ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ ، وهو الخلق على شكل مخصوص ، فهو بمعنى الجعل ، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به ، فكونت بذلك الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق.

ويجوز أن يكون (كُلَّ شَيْءٍ) مفعولا ثانيا ل (أَعْطى) ومفعوله الأول (خَلْقَهُ) ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه ، كقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩٩]. فتركيب الجملة صالح للمعنيين.

والاستغراق المستفاد من (كلّ) عرفي ، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصناف الخلق ويناسب المعطي ، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق ، مثل : ركب القوم دوابّهم.

والمعنى : تأمل وانظر هل أنت أعطيت الخلق أو لا؟ فلا شك أنه يعلم أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه ، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها ، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق.

و (ثم) للترتيب بمعنييه الزمني والرتبي ، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله ، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم ، وأفاض عليهم النّعم ، على حد قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ٨ ـ ١٠] أي طريقي الخير والشرّ ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة.

١٢٩

قال الزمخشري في «الكشاف» : «ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق».

[٥١ ـ ٥٢] (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))

والبال : كلمة دقيقة المعنى ، تطلق على الحال المهمّ ، ومصدره البالة بتخفيف اللّام ، قال تعالى : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) [محمد : ٢] ، أي حالهم. وفي الحديث «كل أمر ذي بال ...» إلخ ، وتطلق على الرأي يقال : خطر كذا ببالي. ويقولون : ما ألقى له بالا ، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغيّة.

أراد فرعون أن يحاجّ موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملّة فرعون ، أي قرون أهل مصر ، أي ما حالهم ، أفتزعم أنّهم اتفقوا على ضلالة. وهذه شنشنة من لا يجد حجّة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه ، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [يونس : ٧٨].

ويجوز أن يكون المعنى أنّ فرعون أراد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى : هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى : (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه : ٤٨] ، فإذا قال : إنّهم في عذاب ، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى ، وإذا قال : هم في سلام ، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم ، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعرا بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء ، فسأل : ما بال القرون الأولى؟ ما شأنهم وما الخبر عنهم؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب.

وقول موسى في جوابه (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) صالح للاحتمالين ، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن أحوال الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء ، وهذا نظير قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمّا سئل عن ذراري المشركين فقال : «الله أعلم بما كانوا عاملين».

وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله.

١٣٠

والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك. وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم.

وإضافة (عِلْمُها) من إضافة المصدر إلى مفعوله. وضمير (عِلْمُها) عائد إلى (الْقُرُونِ الْأُولى) لأنّ لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره.

وقوله (فِي كِتابٍ) يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة ، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأنّ الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حلّزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ويؤكد هذا المعنى قوله (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى).

والضلال : الخطأ في العلم ، شبّه بخطإ الطريق. والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم.

[٥٣ ـ ٥٤] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤))

هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.

فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان. ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً). فقوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) مهادا خبر لمبتدإ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادا ، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من (رَبِّي) [طه:٥٢] ، أي هو ربّ موسى.

وتعريف جزأي الجملة يفيد الحصر ، أي الجاعل الأرض مهادا فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقا بالإلهية.

١٣١

وقرأ الجمهور (مِهاداً) ـ بكسر الميم وألف بعد الهاء ـ وهو اسم بمعنى الممهود مثل الفراش واللّباس. ويجوز أن يكون جمع مهد ، وهو اسم لما يمهد للصّبيّ ، أي يوضع عليه ويحمل فيه ، فيكون بوزن كعاب جمعا لكعب. ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع.

وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف (مَهْداً) ـ بفتح الميم وسكون الهاء ـ ، أي كالمهد الذي يمهد للصبي ، وهو اسم بمصدر مهده ، على أنّ المصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، ثمّ شاع ذلك فصار اسما لما يمهد.

ومعنى القراءتين واحد ، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسّير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نتوء فيها إلّا نادرا يمكن تجنبه ، كقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) [نوح : ١٩ ، ٢٠].

(وَسَلَكَ) فعل مشتق من السلوك والسّلك الذي هو الدخول مجتازا وقاطعا. يقال: سلك طريقا ، أي دخله مجتازا. ويستعمل مجازا في السّير في الطريق تشبيها للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر. يقال : سلك طريقا. فحق هذا الفعل أن يتعدّى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه ، ويستعمل متعديا بمعنى أسلك. وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال : أسلك المسمار في اللّوح ، أي جعله سالكا إياه ، إلّا أنّه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى : نسلكه (عَذاباً صَعَداً) [الجنّ : ١٧]. وكثر كون الاسم الذي كان مفعولا ثانيا يصير مجرورا ب (في) كقوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢] بمعنى أسلككم سقر. وقوله : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الشعراء [٢٠٠] ، وقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) في سورة الزمر [٢١]. وقال الأعشى :

كما سلك السّكيّ في الباب فيتق

أي أدخل المسمار في الباب نجار ، فصار فعل سلك يستعمل قاصرا ومتعديا.

فأما قوله هنا (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) فهو سلك المتعدي ، أي أسلك فيها سبلا ، أي جعل سبلا سالكة في الأرض ، أي داخلة فيها ، أي متخللة. وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض.

والمراد بالسبل : كلّ سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال ، أو كان من أثر فعل النّاس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقا يتابع الناس السير فيها.

١٣٢

ولما ذكر منّة خلق الأرض شفعها بمنّة إخراج النّبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء. وتلك منّة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير ، ولذا لم يقل : وصببنا الماء على الأرض ، كما في آية : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ٢٥ ، ٢٦]. وهذا إدماج بليغ.

والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله : (فَأَخْرَجْنا) التفات. وحسّنه هنا أنّه بعد أن حجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر ، فهو يخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء ، فكان تسخير النبات أثرا لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض.

ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩٩] ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) [فاطر : ٣٥] ، وقوله : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) [النمل : ٦٠] ومنها قوله في سورة الزخرف [١١] : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً). وقد نبّه إلى ذلك في «الكشاف» ، ولله درّه. ونظائره كثيرة في القرآن.

والأزواج : جمع زوج. وحقيقة الزوج أنه اسم لكلّ فرد من اثنين من صنف واحد. فكلّ أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر ، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجا. ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان ، قال تعالى : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [المؤمنون : ٢٧] ، وقال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩] وقال : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥]. ولمّا شاعت فيه ملاحظة معنى اتّحاد النّوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانيا لآخر ، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٦] ، ومنه قوله : (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [لقمان : ١٠]. وفي الحديث : «من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنّة ...» الحديث ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة ، ومثل الخيل والرواحل. وهذا الإطلاق هو المراد هنا ، أي فأنبتنا به أنواعا من نبات. وتقدّم في سورة الرعد.

١٣٣

والنّبات : مصدر سمي به النبات ، فلكونه مصدرا في الأصل استوى فيه الواحد والجمع.

وشتّى : جمع شتيت بوزن فعلى ، مثل : مريض ومرضى.

والشّتيت : المشتّت ، أي المبعّد. وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللّون والطعم ، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان.

والجملة الثانية (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) مقول قول محذوف هو حال من ضمير (فَأَخْرَجْنا). والتقدير : قائلين : كلوا وارعوا أنعامكم. والأمر للإباحة مراد به المنّة. والتقدير : كلوا منها وارعوا أنعامكم منها. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع.

وفعل (رعى) يستعمل قاصرا ومتعديا. يقال : رعت الدابة ورعاها صاحبها. وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر : الرّعي ، ومصدر المتعدي : الرعاية. ومنه قول النّابغة :

رأيتك ترعاني بعين بصيرة

والجملة الثالثة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) معترضة مؤكدة للاستدلال ؛ فبعد أن أشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفا من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته ، والمنّة بها على الإنسان لمن تأمل ، جمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة. وكلّ من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة.

وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين ، لأنّهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله ، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النّهى ، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلّا لأنهم لم يعدوها آيات. لا جرم أنّ ذلك المذكور مشتمل على آيات جمّة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمّل والتفكّر ، وينتبهون لها بالتذكير.

والنهى : اسم جمع نهية ـ بضم النون وسكون الهاء ـ ، أي العقل ، سمي نهية لأنّه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة ، ولذلك أيضا سمّي بالعقل وسمي بالحجر.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

١٣٤

مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وهذا إدماج للتذكير بالخلق الأول ليكون دليلا على إمكان الخلق الثاني بعد الموت. والمناسبة متمكنة ؛ فإن ذكر خلق الأرض ومنافعها يستدعي إكمال ذكر المهم للنّاس من أحوالها ، فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيها بخروج النبات منها. وإخراج النّاس إلى الحشر شبيه بإخراج النبات من الأرض. قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) [نوح : ١٧ ، ١٨].

وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها ؛ فأما المجرور الأول والمجرور الثالث فللاهتمام بكون الأرض مبدأ الخلق الأول والخلق الثاني. وأما تقديم (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) فللمزاوجة مع نظيريه.

ودل قوله تعالى : (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) على أن دفن الأموات في الأرض هو الطريقة الشرعيّة لمواراة الموتى سواء كان شقّا في الأرض أو لحدا ، لأن كليهما إعادة في الأرض ؛ فما يأتيه بعض الأمم غير المتدينة من إحراق الموتى بالنّار ، أو إغراقهم في الماء ، أو وضعهم في صناديق فوق الأرض ، فذلك مخالف لسنّة الله وفطرته. لأنّ الفطرة اقتضت أنّ الميت يسقط على الأرض فيجب أن يوارى فيها. وكذلك كانت أول مواراة في البشر حين قتل أحد ابني آدم أخاه. كما قال تعالى في سورة العقود [٣١] (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) فجاءت الشرائع الإلهيّة بوجوب الدفن في الأرض.

والتّارة : المرة ، وجمعها تارات. وأصل ألفها الواو. وقال ابن الأعرابي : أصل ألفها همزة فلمّا كثر استعمالهم لها تركوا الهمزة. وقال بعضهم : ظهر الهمز في جمعها على فعل فقالوا : تئر بالهمز. ويظهر أنّها اسم جامد ليس له أصل مشتق منه.

والإخراج : هو إخراجها إلى الحشر بعد إعادة هياكل الأجسام في داخل الأرض ، كما هو ظاهر قوله (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) ، ولذلك جعل الإخراج تارة ثانية للخلق الأول من الأرض. وفيه إيماء إلى أن إخراج الأجساد من الأرض بإعادة خلقها كما خلقت في المرّة الأولى ، قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤].

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦))

رجوع إلى قصص موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون. وهذه الجملة بين الجمل التي حكت محاورة موسى وفرعون وقعت هذه كالمقدمة لإعادة سوق ما جرى بين موسى

١٣٥

وفرعون من المحاورة. فيجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩] باعتبار ما يقدّر قبل المعطوف عليها من كلام حذف اختصارا ، تقديره : فأتياه فقالا ما أمرناهما أن يقولاه قال فمن ربّكما إلخ. المعنى : فأتياه وقالا ما أمرناهما وأريناه آياتنا كلها على يد موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين ما قبلها ، والواو اعتراضيّة.

وتأكيد الكلام بلام القسم و (قد) مستعمل في التعجيب من تصلّب فرعون في عناده ، وقصد منها بيان شدّته في كفره وبيان أن لموسى آيات كثيرة أظهرها الله لفرعون فلم تجد في إيمانه.

وأجملت وعممت فلم تفصل ، لأنّ المقصود هنا بيان شدّة تصلبه في كفره بخلاف آية سورة الأعراف التي قصد منها بيان تعاقب الآيات ونصرتها.

وإراءة الله إياه الآيات : إظهارها له بحيث شاهدها.

وإضافة (آيات) إلى ضمير الجلالة هنا يفيد تعريفا لآيات معهودة ، فإن تعريف الجمع بالإضافة ـ يأتي لما يأتي له التعريف باللّام ـ يكون للعهد ويكون للاستغراق ، والمقصود هنا الأول ، أي أرينا فرعون آياتنا التي جرت على يد موسى ، وهي المذكورة في قوله تعالى : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) [النمل : ١٢]. وهي انقلاب العصا حيّة ، وتبدّل لون اليد بيضاء ، وسنو القحط ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والطوفان ، وانفلاق البحر. وقد استمر تكذيبه بعد جميعها حتى لما رأى انفلاق البحر اقتحمه طمعا للظفر ببني إسرائيل.

وتأكيد الآيات بأداة التوكيد (كُلَّها) لزيادة التعجيب من عناده. ونظيره قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ* كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) في سورة القمر [٤١ ، ٤٢].

وظاهر صنيع المفسرين أنهم جعلوا جملة (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا) عطفا على جملة (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩] ، وجملة (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما) بيانا لجملة (فَكَذَّبَ وَأَبى). فيستلزم ذلك أن يكون عزم فرعون على إحضار السحرة متأخّرا عن إرادة الآيات كلها فوقعوا في إشكال صحة التعميم في قوله تعالى : (آياتِنا كُلَّها). وكيف يكون ذلك قبل اعتراف السحرة بأنهم غلبوا مع أن كثيرا من الآيات إنما ظهر بعد زمن طويل مثل : سني القحط ، والدم ، وانفلاق البحر. وهذا الحمل لا داعي إليه لأنّ العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا.

١٣٦

[٥٧ ـ ٥٩] (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩))

هذه الجملة متصلة بجملة (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١] وجواب موسى عنها. وافتتاحها بفعل (قالَ) وعدم عطفه لا يترك شكّا في أن هذا من تمام المحاورة.

وقوله (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ) يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حيّة ، وانقلاب يده بيضاء. وذلك ما سمّاه فرعون سحرا. وقد صرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ* قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ...) الآية في سورة الشعراء [٢٩ ـ ٣٥]. وقد استغنى عن ذكره هنا بما في جملة (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) [طه : ٥٦] من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حيّة.

وإضافته السحر إلى ضمير موسى قصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحرا.

وأسند الإتيان بسحر مثله إلى ضمير نفسه تعظيما لشأنه. ومعنى إتيانه بالسحر : إحضار السحرة بين يديه ، أي فلنأتينك بسحر ممن شأنهم أن يأتوا بالسحر ، إذ السحر لا بد له من ساحر.

والمماثلة في قوله (مِثْلِهِ) مماثلة في جنس السحر لا في قوته.

وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه : أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياسا منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولهم محلّهم ، يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه ، أي حسبت أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكا عليهم وتخرجني من أرضي. فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة ، لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم.

ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملا في الجماعة تغليبا ، ونزّل فرعون

١٣٧

نفسه واحدا منها. وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [طه : ٤٧] ، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك.

والاستفهام في (أَجِئْتَنا) إنكاري ، ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله ، والقسم من أساليب إظهار الغضب.

واللام لام القسم ، والنون لتوكيده. وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق ، لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر.

وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره.

والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي ، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد ، وهذا إيجاز في الكلام.

وقوله (مَكاناً) بدل اشتمال من (مَوْعِداً) بأحد معنييه ، لأنّ الفعل يقتضي مكانا وزمانا فأبدل منه مكانه.

وقوله (لا نُخْلِفُهُ) في قراءة الجمهور برفع الفعل صفة ل (مَوْعِداً) باعتبار معناه المصدري. وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من (نخلفه) على أن (لا) ناهية. والنهي تحذير من إخلافه.

و (سُوىً) قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ـ بكسر السين ـ. وقرأه عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، ويعقوب ، وخلف ـ بضم السين ـ وهما لغتان ، فالكسر بوزن فعل ، قال أبو عليّ : وزن فعل يقلّ في الصفات ، نحو : قوم عدى. وقال أبو عبيدة ، وأبو حاتم ، والنحاس : كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة ، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء : فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين. وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي :

وإن أبانا كان حلّ ببلدة

سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

(الفزر : لقب لسعد بن زيد مناة بن تميم هو بكسر الفاء).

١٣٨

والمعنى : قال مجاهد : إنه مكان نصف ، وكأنّ المراد أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة. وعن ابن زيد : المعنى مكانا مستويا ، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين ، أراد مكانا منكشفا للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة.

ثم تعيين الموعد غير المخلف يقتضي تعيين زمانه لا محالة ، إذ لا يتصوّر الإخلاف إلّا إذا كان للوعد وقت معيّن ومكان معيّن ، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكانا معروفا. ولعلّه كان بساحة قصر فرعون ، لأنّهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم.

فقوله (يَوْمُ الزِّينَةِ) تعيين للوقت ، وقوله (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) تعيين للمكان ، وقوله (ضُحًى) تقييد لمطلق الوقت.

والضحى : وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها.

ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط ، وهو يوم كسر الخليج أو الخلجان ، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للسقي ، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها.

وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطيّة ، وذلك هو أول يوم من شهر (توت) القبطي ، وهو (أيلول) بحسب التاريخ الإسكندري ، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوما ، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوما ، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين (سبتمبر). وأول أيام شهر (توت) هو يوم النيروز عند الفرس ، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس.

واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلج له ، فأحبّ أن يكون ذلك في وقت أكثر مشاهدا وأوضح رؤية.

[٦٠ ـ ٦١] (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١))

١٣٩

تفريع التولّي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يضع الوقت للتهيئة له.

والتولّي : الانصراف ، وهو هنا مستعمل في حقيقته ، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيث يرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عرفوا بعلم السحر ، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات [٢٢ ، ٢٣] (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى).

ومعنى جمع الكيد : تدبير أسلوب مناظرة موسى ، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه ، وإقناع الحاضرين بأنّ موسى ليس على شيء.

وهذا أسلوب قديم في المناظرات : أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجّة خصمه بكلّ وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير ، ومباداته بما يفتّ في عضده ويشوش رأيه حتّى يذهب منه تدبيره.

فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي. واستقصاء ترتيب الأمر ، كقوله (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) [يونس : ٧١] ، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى. ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده ، أي جمع السحرة ، على حد قوله تعالى : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ٣٨].

والكيد : إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في سورة الأعراف [١٨٣].

ومعنى (ثُمَّ أَتى) ثمّ حضر الموعد ، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معا ، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد ، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهمّ من جمع الكيد ، لأنّ فيه ظهور أثر ما أعدّه.

وجملة (قالَ لَهُمْ مُوسى) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنّ قوله (ثُمَّ أَتى) يثير سؤالا في نفس السامع أن يقول : فما ذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد. وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة.

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى معلوم من قوله (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي بأهل سحر ، أو يكون الخطاب للجميع ، لأنّ ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته ، فيكون معاد الضمير ما دلّ عليه قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) ، أي جمع رجال كيده.

١٤٠