تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

فجملة (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) عطف على جملة (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ٢]. الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريبا. وهذه القصة تقدّم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس.

والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازا وليس مستعملا في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قصت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أم كان هذا أول قصصها عليه. وفي قوله : (إِذْ رَأى ناراً) زيادة في التشويق كما يأتي قريبا.

وأوثر حرف (هل) في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن (هل) في الاستفهام مثل (قد) في الإخبار.

والحديث : الخبر ، وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج ، ويجمع على أحاديث على غير قياس. قال الفراء : «واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث» اه. يعني استغنوا به عن صيغة فعلاء.

و (إِذْ) ظرف للحديث. وقد تقدّم نظائره ، وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقا إلى استعلام كنه الخبر ، لأن رؤية النار تحتمل أحوالا كثيرة.

ورؤية النار تدلّ على أن ذلك كان بليل ، وأنه كان بحاجة إلى النار ؛ ولذلك فرع عليه : (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) ... إلخ.

والأهل : الزوج والأولاد. وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله (امْكُثُوا). وفي سفر الخروج من التّوراة «فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر».

وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير (لِأَهْلِهِ) على الأصل. وقرأه حمزة وخلف : بضم الهاء ، تبعا لضمة همزة الوصل في (امْكُثُوا).

والإيناس : الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه.

وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة.

والقبس : ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس ، كالجمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك. وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به. وقيل : اقتدح

١٠١

زنده فصلد ، أي لم يقدح.

ومعنى (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) : أو ألقى عارفا بالطريق قاصدا السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل. قيل : كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدّة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلا.

و (أَوْ) هنا للتخيير ، لأنّ إتيانه بقبس أمر محقق ، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير ، وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصدا الطريق مثله فيصحبه.

وحرف (عَلَى) في قوله : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) مستعمل في الاستعلاء المجازي ، أي شدّة القرب من النار قربا أشبه الاستعلاء ، وذلك أنّ مشعل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها. قال الأعشى :

وبات على النار النّدى والمحلّق

وأراد بالهدى صاحب الهدى.

وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاما إياه أنه سيجد عند تلك النار هدى عظيما ، ويبلّغ قومه منه ما فيه نفعهم.

وإظهار النّار لموسى رمز رباني لطيف ؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزا على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.

[١١ ـ ١٣] (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣))

بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة ، فإبهام المنادي يشوّق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) علم أنّ المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن. ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأنّ موسى ناداه مناد غير معلوم له ، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول.

وجملة (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) بيان لجملة (نُودِيَ). وبهذا النداء علم موسى أنّ الكلام موجّه إليه من قبل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغيّر العوائد التي قررها في الأكوان إلّا لإرادة الإعلام بأنّ له عناية خاصة بالمغيّر ، فالله تعالى خلق أصواتا خلقا غير

١٠٢

معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد ، ولا موجهة له بواسطة ملك يتولى هو تبليغ الكلام لأنّ قوله (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ظاهر في أنه لم يبلّغ إليه ذلك بواسطة الملائكة ، فلذلك قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى. والمراد التي تدلّ عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي. وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزّه عن الحروف والأصوات والتعلّق بالأسماع.

والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه ربّ المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطبه فإن شأن الرب الرفق بالمربوب.

وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) لتحقيقه لأجل غرابته دفعا لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أني» بفتح الهمزة على حذف باء الجر. والتقدير : نودي بأني أنا ربّك. والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين.

وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربّه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حلّه التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه.

والخلع : فصل شيء عن شيء كان متّصلا به.

والنعلان : جلدان غليظان يجعلان تحت الرجل ويشدّان برباط من جلد لوقاية الرّجل ألم المشي على التّراب والحصى ، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل.

وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيما منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي.

وروى الترمذي (١) عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كانت نعلاه من جلد حمار ميّت». أقول : وفيه أيضا زيادة خشوع. وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد. وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكم يقتضي نزع النعل عند الصلاة.

والواد : المفرج بين الجبال والتلال. وأصله بياء في آخره. وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثني لزمته الياء يقال : واديان ولا يقال وادان. وكذلك إذا

__________________

(١) في لبس الصوف من كتاب اللباس.

١٠٣

أضيف يقال : بواديك ولا يقال بوادك.

والمقدّس : المطهّر المنزّه. وتقدم في قوله تعالى : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) في أول البقرة [٣٠]. وتقديس الأمكنة يكون بما يحلّ فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قبل الله تعالى.

واختلف المفسرون في معنى (طُوىً) وهو بضم الطاء وبكسرها ، ولم يقرأ في المشهور إلّا بضم الطاء ، فقيل : اسم لذلك المكان ، وقيل : هو اسم مصدر مثل هدى ، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول ، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة ، كأنه قيل له : إنك بالواد المقدّس الذي طويته سيرا ، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد. وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعد إلى أعلاه لتلقي الوحي. وقد قيل : إنّ موسى صعد أعلى الوادي. وقيل : هو بمعنى المقدس تقديسين ، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين ، ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤]. فالمعنى : المقدّس تقديسا شديدا. فاسم المصدر مفعول مطلق مبيّن للعدد ، أي المقدّس تقديسا مضاعفا.

والظاهر عندي : أنّ (طُوىً) اسم لصنف من الأودية يكون ضيقا بمنزلة الثوب المطوي أو غائرا كالبئر المطوية ، والبئر تسمى طويّا. وسمي واد بظاهر مكة (ذا طوى) بتثليث الطاء ، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده.

وقد اختلف في (طوى) هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو ، مثل عمر عن عامر.

وقرأ الجمهور (طُوىً) بلا تنوين على منعه من الصرف. وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف منوّنا ، لأنه اسم واد مذكّر.

وقوله (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أخبر عن اختيار الله تعالى موسى بطريق المسند الفعلي المفيد تقوية الحكم ، لأنّ المقام ليس مقام إفادة التخصيص ، أي الحصر نحو : أنا سعيت في حاجتك ، وهو يعطي الجزيل. وموجب التقوّي هو غرابة الخبر ومفاجأته به دفعا لتطرّق الشك في نفسه.

والاختيار : تكلف طلب ما هو خير. واستعملت صيغة التكلف في معنى إجادة طلب الخير.

١٠٤

وفرع على الإخبار باختياره أن أمر بالاستماع للوحي لأنه أثر الاختيار إذ لا معنى للاختيار إلّا اختياره لتلقي ما سيوحي الله.

والمراد : ما يوحى إليه حينئذ من الكلام ، وأما ما يوحى إليه في مستقبل الأيام فكونه مأمورا باستماعه معلوم بالأحرى.

وقرأ حمزة وحده وأنا اخترناك بضميري التعظيم.

واللام في (لِما يُوحى) للتقوية في تعدية فعل «استمع» إلى مفعوله ، فيجوز أن تتعلق باخترتك ، أي اخترتك للوحي فاستمع ، معترضا بين الفعل والمتعلّق به. ويجوز أن يضمّن استمع معنى أصغ.

[١٤ ـ ١٦] (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

هذا ما يوحى المأمور باستماعه ، فالجملة بدل من (لِما يُوحى) [طه : ١٣] بدلا مطلقا.

ووقع الإخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلم الدالّ على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وذلك أول ما يجب علمه من شئون الإلهية ، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علما عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربّهم.

وفي هذا إشارة إلى أنّ أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم ، فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلّم كليمه اسمه ، وهو الله.

وهذا الاسم هو علم الربّ في اللغة العربية. واسمه تعالى في اللغة العبرانية (يهوه) أو (أهيه) المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة ، وفي الإصحاح السادس. وقد ذكر اسم الله في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة الثامنة عشرة ، والإصحاح الثاني والثلاثين في الفقرة السادسة عشرة. ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله.

ولفظ (أهيه) أو (يهوه) قريب الحروف من كلمة إله في العربية.

١٠٥

ويقال : إن اسم الجلالة في العبرانية «لا هم». ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله.

وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى ؛ نزل منزلة الشاكّ لأن غرابة الخبر تعرّض السامع للشك فيه.

وتوسيط ضمير الفصل بقوله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) لزيادة تقوية الخبر ، وليس بمفيد للقصر ، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأنّ المتكلّم هو المسمى الله ، فالحمل حمل مواطاة لا حمل اشتقاق. وهو كقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢].

وجملة (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) خبر ثان عن اسم (إنّ). والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى.

ثمّ فرع على ذلك الأمر بعبادته. والعبادة تجمع معنى العمل الدالّ على التعظيم من قول وفعل وإخلاص بالقلب. ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يعبد.

وخصّ من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأنّ الصلاة تجمع أحوال العبادة. وإقامة الصلاة : إدامتها ، أي عدم الغفلة عنها.

والذكر يجوز أن يكون بمعنى التذكر بالعقل ، ويجوز أن يكون الذكر باللّسان.

واللّام في (لِذِكْرِي) للتّعليل ، أي أقم الصلاة لأجل أن تذكرني ، لأنّ الصلاة تذكّر العبد بخالقه. إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته. ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأنّ المكلّف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرّف موسى حكمة الصلاة مجملة وعرّفها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفصّلة.

ويجوز أن يكون اللام أيضا للتوقيت ، أي أقم الصلاة عند الوقت الذي جعلته لذكري. ويجوز أن يكون الذكر الذكر اللساني لأن ذكر اللسان يحرّك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعتراف بما له من الحق ، أي الذي عيّنته لك. ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة ، وفي الكلام حذف يعلم من السياق.

١٠٦

وجملة (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدّين بعد أصل التوحيد ، وهو إثبات الجزاء.

والساعة : علم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب.

وجملة (أَكادُ أُخْفِيها) في موضع الحال من الساعة ، أو معترضة بين جملة وعلّتها.

والإخفاء : الستر وعدم الإظهار ، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.

والمشهور في الاستعمال أن «كاد» تدلّ على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها ، فالفعل بعدها في حيّز الانتفاء ، فقوله تعالى : (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجنّ : ١٩] يدلّ على أن كونهم لبدا غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع.

ولما كانت الساعة مخفية الوقوع ، أي مخفية الوقت ، كان قوله (أَكادُ أُخْفِيها) غير واضح المقصود ، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة.

فقيل : المراد إخفاء الحديث عنها ، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها ، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عنادا على إنكارها.

وقيل : وقعت (أَكادُ) زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيدا للإخفاء. والمقصود : أنا أخفيها فلا تأتي إلّا بغتة.

وتأوّل أبو عليّ الفارسي معنى (أُخْفِيها) بمعنى أظهرها ، وقال : همزة (أُخْفِيها) للإزالة مثل همزة أعجم الكتاب ، وأشكى زيدا ، أي أزيل خفاءها. والخفاء : ثوب تلفّ فيه القربة مستعار للستر.

فالمعنى : أكاد أظهرها ، أي أظهر وقوعها ، أي وقوعها قريب. وهذه الآية من غرائب استعمال (كاد) فيضم إلى استعمال نفيها في قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) في سورة البقرة [٧١].

وقوله (لِتُجْزى) يتعلّق بآتية وما بينهما اعتراض. وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء.

واللام في (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) متعلّق بآتية.

١٠٧

ومعنى (بِما تَسْعى) بما تعمل ، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل ، كما تقدم في قوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) في سورة الإسراء [١٩].

وفرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذير من أن يصدّه عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغترارا بتأخر ظهورها ، فالتفريع على قوله (أَكادُ أُخْفِيها) أوقع لأنّ ذلك الإخفاء هو الذي يشبّه به الذين أنكروا البعث على الناس ، قال تعالى : (فَسَيُنْغِضُونَ)

(إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء : ٥١] وقال : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢].

وصيغ نهي موسى عن الصدّ عنها في صيغة نهي من لا يؤمن بالساعة عن أن يصدّ موسى عن الإيمان بها ، مبالغة في نهي موسى عن أدنى شيء يحول بينه وبين الإيمان بالساعة ، لأنه لما وجّه الكلام إليه وكان النّهي نهي غير المؤمن عن أن يصدّ موسى ، علم أنّ المراد نهي موسى عن ملابسة صدّ الكافر عن الإيمان بالساعة ، أي لا تكن ليّن الشكيمة لمن يصدك ولا تصغ إليه فيكون لينك له مجرئا إياه على أن يصدك ، فوقع النهي عن المسبب. والمراد النهي عن السبب ، وهذا الأسلوب من قبيل قولهم : لا أعرفنّك تفعل كذا ولا أرينّك هاهنا.

وزيادة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) للإيماء بالصلة إلى تعليل الصدّ ، أي لا داعي لهم للصدّ عن الإيمان بالساعة إلا اتّباع الهوى دون دليل ولا شبهة ، بل الدليل يقتضي الإيمان بالساعة كما أشار إليه قوله (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

وفرع على النهي أنّه إن صدّ عن الإيمان بالساعة ردي ، أي هلك. والهلاك مستعار لأسوإ الحال كما في قوله تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة براءة [٤٢].

والتفريع ناشئ عن ارتكاب المنهي لا على النهي ، ولذلك جيء بالتفريع بالفاء ولم يقع بالجزاء المجزوم ، فلم يقل : ترد ، لعدم صحة حلول (إن) مع (لا) عوضا عن الجزاء ، وذلك ضابط صحة جزم الجزاء بعد النّهي.

وقد جاء خطاب الله تعالى لموسى عليه‌السلام بطريقة الاستدلال على كلّ حكم ، وأمر أو نهي ، فابتدئ بالإعلام بأنّ الذي يكلمه هو الله ، وأنه لا إله إلّا هو ، ثمّ فرع عليه الأمر في قوله (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ، ثم عقب بإثبات الساعة ، وعلل بأنها

١٠٨

لتجزى كلّ نفس بما تسعى ، ثم فرع عليه النهي عن أن يصده عنها من لا يؤمن بها. ثم فرع على النهي أنه إن ارتكب ما نهي عنه هلك وخسر.

[١٧ ـ ٢١] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١))

بقية ما نودي به موسى. والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالا إلى محاورة أراد الله منها أن يري موسى كيفية الاستدلال على المرسل إليهم بالمعجزة العظيمة ، وهي انقلاب العصا حيّة تأكل الحيات التي يظهرونها.

وإبراز انقلاب العصا حيّة في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى ، ودفع الشكّ عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأنّ مشاهد الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل ، فلذلك ابتدئ بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حيّة لم يشك في أنّ تلك الحيّة هي التي كانت عصاه. فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسئول عنه.

والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء ، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلّم معتاد ولا في صورة المعتاد ، كما دلّ عليه قوله بعد ذلك (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) [طه : ٢٣].

فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه. وبنيت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله (بِيَمِينِكَ) ، ووقع الظرف حالا من اسم الإشارة ، أي ما تلك حال كونها بيمينك؟.

ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها ، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسئول عنه جريا على الظاهر ، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأنّ شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلّا والسائل يريد من سؤاله أمرا غير ظاهر ، ولذلك لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجّة الوداع : «أيّ يوم هذا؟» سكت النّاس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه. وفي رواية أنهم قالوا : «الله ورسوله أعلم ، فقال : أليس يوم الجمعة؟ ...» إلى آخره.

فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسئول عنه ، وتوقع أن

١٠٩

السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه. فقال : (هِيَ عَصايَ) ، بذكر المسند إليه ، مع أنّ غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسئولا عنه ، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول : عصاي. فلما قال : (هِيَ عَصايَ) كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار ، كما يقول سائل لما رأى رجلا يعرفه وآخر لا يعرفه : من هذا معك؟ فيقول : فلان ، فإذا لقيهما مرة أخرى وسأله : من هذا معك؟ أجابه : هو فلان ، ولذلك عقب موسى جوابه ببيان الغرض من اتّخاذها لعلّه أن يكون هو قصد السائل فقال : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى). ففصّل ثمّ أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتّى إذا استزاده بيانا زاده.

والباء في قوله (بِيَمِينِكَ) للظرفية أو الملابسة.

والتوكّؤ : الاعتماد على شيء من المتاع ، والاتّكاء كذلك ، فلا يقال : توكّأ على الحائط ولكن يقال : توكأ على وسادة ، وتوكأ على عصا.

والهشّ : الخبط ، وهو ضرب الشجرة بعصا ليتساقط ورقها ، وأصله متعدّ إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع ، ثمّ كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين (أهشّ) معنى أسقط على غنمي الورق فتأكله ، أو استعملت (على) بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم : هو وكيل على فلان.

ومآرب : جمع مأربة ، مثلث الراء : الحاجة ، أي أمور أحتاج إليها. وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس ، وقد أفرد الجاحظ من كتاب «البيان والتبيين» بابا لمنافع العصا. ومن أمثال العرب : «هو خير من تفارق العصا». ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأنّ المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث.

والظاهر أنّ قوله (مَآرِبُ أُخْرى) حكاية لقول موسى بمماثله ، فيكون إيجازا بعد الإطناب ، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا. ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه ، أي عدّ منافع أخرى ، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه‌السلام.

والضمير المشترك في (قالَ أَلْقِها) عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلّم الذي في قوله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) ؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حوارا مع قول

١١٠

موسى : (هِيَ عَصايَ ...) إلخ.

وقوله (أَلْقِها) يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي ، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسئول عنه كالذي يجيء في قوله : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) [طه : ٨٣].

والحيّة : اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عضّ بنابيه قتل المعضوض ، ويطلق على الذكر.

ووصف الحيّة بتسعى لإظهار أنّ الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد. والسعي : المشي الذي فيه شدّة ، ولذلك خصّ غالبا بمشي الرجل دون المرأة.

وأعيد فعل (قالَ خُذْها) بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة.

والسيرة في الأصل : هيئة السير ، وأطلقت على العادة والطبيعة ، وانتصب (سِيرَتَهَا) بنزع الخافض ، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حيّة ، أي سنعيدها عصا كما كانت أول مرة.

والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أنّ العصا تطبعت بالانقلاب حيّة ، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي.

[٢٢ ـ ٢٣] (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

هذه معجزة أخرى علمه الله إياها حتى إذا تحدّى فرعون وقومه عمل مثل ذلك أمام السحرة. فهذا تمرين على معجزة ثانية متّحد الغرض مع إلقاء العصا.

والجناح : العضد وما تحته إلى الإبط. أطلق عليه ذلك تشبيها بجناح الطائر.

والضمّ : الإلصاق ، أي ألصق يدك اليمنى التي كنت ممسكا بها العصا. وكيفية إلصاقها بجناحه أن تباشر جلد جناحه بأن يدخلها في جيب قميصه حتى تماس بشرة جنبه ، كما في آية سورة سليمان : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النّمل: ١٢]. جعل الله تغيّر لون جلد يده مماستها جناحه تشريفا لأكثر ما يناسب من أجزاء جسمه بالفعل والانفعال.

١١١

و (بَيْضاءَ) حال من ضمير (تَخْرُجْ) ، و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) حال من ضمير (بَيْضاءَ).

ومعنى (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير مرض مثل البرص والبهق بأن تصير بيضاء ثم تعود إلى لونها المماثل لون بقية بشرته. وانتصب (آيَةً) على الحال من ضمير (تَخْرُجْ).

والتعليل في قوله (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) راجع إلى قوله (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) ، فاللام متعلّقة ب (تَخْرُجْ) لأنّه في معنى نجعلها بيضاء فتخرج بيضاء أو نخرجها لك بيضاء. وهذا التعليل راجع إلى تكرير الآية ، أي كررنا الآيات لنريك بعض آياتنا فتعلم قدرتنا على غيرها ، ويجوز أن يتعلق (لِنُرِيَكَ) بمحذوف دلّ عليه قوله (أَلْقِها) وما تفرّع عليه. وقوله (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) وما بعده ، وتقدير المحذوف : فعلنا ذلك لنريك من آياتنا.

و (مِنْ آياتِنَا) في موضع المفعول الثاني لنريك ، فتكون (من) فيه اسما بمعنى بعض على رأي التفتازانيّ. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في سورة البقرة [٨] ، ويشير إليه كلام «الكشاف» هنا.

و (الْكُبْرى) صفة ل (آياتِنَا). والكبر : مستعار لقوّة الماهية. أي آياتنا القوية الدلالة على قدرتنا أو على أنا أرسلناك.

[٢٤ ـ ٣٦] (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) َاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦))

لما أظهر الله له الآيتين فعلم بذلك أنه مؤيّد من الله تعالى ، أمره الله بالأمر العظيم الذي من شأنه أن يدخل الرّوع في نفس المأمور به وهو مواجهة أعظم ملوك الأرض يومئذ بالموعظة ومكاشفته بفساد حاله ، وقد جاء في الآيات الآتية : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٥ ، ٤٦].

والذهاب المأمور به ذهاب خاص ، قد فهمه موسى من مقدمات الإخبار باختياره ، وإظهار المعجزات له ، أو صرح له به وطوي ذكره هنا على طريقة الإيجاز ، على أنّ التّعليل الواقع بعده ينبئ به.

١١٢

فجملة (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر بالذهاب إليه ، وإنما صلحت للتعليل لأن المراد ذهاب خاص ، وهو إبلاغ ما أمر الله بإبلاغه إليه من تغييره عما هو عليه من عبادة غير الله. ولما علم موسى ذلك لم يبادر بالمراجعة في الخوف من ظلم فرعون ، بل تلقى الأمر وسأل الله الإعانة عليه ، بما يؤول إلى رباطة جأشه وخلق الأسباب التي تعينه على تبليغه ، وإعطائه فصاحة القول للإسراع بالإقناع بالحجة.

وحكي جواب موسى عن كلام الرب بفعل القول غير معطوف جريا على طريقة المحاورات.

ورتّب موسى الأشياء المسئولة في كلامه على حسب ترتيبها في الواقع على الأصل في ترتيب الكلام ما لم يكن مقتض للعدل عنه.

فالشرح ، حقيقته : تقطيع ظاهر شيء ليّن. واستعير هنا لإزالة ما في نفس الإنسان من خواطر تكدره أو توجب تردده في الإقدام على عمل ما تشبيها بتشريح اللحم بجامع التوسعة.

والقلب : يراد به في كلامهم والعقل. فالمعنى : أزل عن فكري الخوف ونحوه ، مما يعترض الإنسان من عقبات تحول بينه وبين الانتفاع بإقدامه وعزامته ، وذلك من العسر ، فسأل تيسير أمره ، أي إزالة الموانع الحافّة بما كلف به.

والأمر هنا : الشأن ، وإضافة (أمر) إلى ضمير المتكلم لإفادة مزيد اختصاصه به وهو أمر الرسالة كما في قوله الآتي (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).

والتيسير : جعل الشيء يسيرا ، أي ذا يسر. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) في سورة البقرة [١٨٥].

ثم سأل سلامة آلة التبليغ وهو اللسان بأن يرزقه فصاحة التعبير والمقدرة على أداء مراده بأوضح عبارة ، فشبه حبسة اللسان بالعقدة في الحبل أو الخيط ونحوهما لأنها تمنع سرعة استعماله.

والعقدة : موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر منه ، وهي بزنة فعلة بمعنى مفعول كقضة وغرفة ؛ أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف على وجه الاستعارة لعدم تصرف اللسان عند النطق بالكلمة وهي استعارة مصرّحة ، ويقال لها حبسة.

١١٣

يقال : عقد اللسان كفرح ، فهو أعقد إذا كان لا يبين الكلام. واستعار لإزالتها فعل الحل المناسب العقدة على طريقة الاستعارة المكنية.

وزيادة (لِي) بعد (اشْرَحْ) وبعد (يَسِّرْ) إطناب كما أشار إليه صاحب «المفتاح» لأنّ الكلام مفيد بدونه. ولكن سلك الإطناب لما تفيده اللام من معنى العلّة ، أي اشرح صدري لأجلي ويسر أمري لأجلي ، وهي اللام الملقبة لام التبيين التي تفيد تقوية البيان ، فإن قوله (صَدْرِي) و (أَمْرِي) واضح أن الشرح والتيسير متعلقان به فكان قوله (لِي) فيهما زيادة بيان كقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وهو هنا ضرب من الإلحاح في الدعاء لنفسه.

وأمّا تقديم هذا المجرور على متعلقه فليحصل الإجمال ثم التفصيل فيفيد مفاد التأكيد من أجل تكرر الإسناد.

ولم يأت بذلك مع قوله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) لأنّ ذلك سؤال يرجع إلى تبليغ رسالة الله إلى فرعون فليست فائدتها راجعة إليه حتى يأتي لها بلام التبيين.

وتنكير (عُقْدَةً) للتعظيم ، أي عقدة شديدة.

و (مِنْ لِسانِي) صفة لعقدة. وعدل عن أن يقول : عقدة لساني ، بالإضافة ليتأتى التنكير المشعر بأنها عقدة شديدة.

وفعل (يَفْقَهُوا) مجزوم في جواب الأمر على الطريقة المتّبعة في القرآن من جعل الشيء المطلوب بمنزلة الحاصل عقب الشرط كقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] أي إن نقل لهم غضّوا يغضوا ، أي شأنهم الامتثال. والفقه : الفهم.

والوزير : فعيل بمعنى فاعل ، من وزار على غير قياس ، مثل حكيم من أحكم ، وهو مشتق من الأزر ، وهو المعونة ، والمؤازرة كذلك ، والكل مشتق من الأزر ، أي الظهر ، كما سيأتي قريبا ، فحقه أن يكون أزيرا بالهمزة إلا أنّهم قلبوا همزته واوا حملا على موازر الذي هو بمعناه الذي قلبت همزته واوا لانضمام ما قبلها. فلما كثر في الكلام قولهم : موازر ويوازر بالواو نطقوا بنظيره في المعنى بالواو بدون موجب للقلب إلّا الحمل على النظير في النطق ، أي اعتياد النطق بهمزته واوا ، أي اجعل معينا من أهلي.

وخصّ هارون لفرط ثقته به ولأنه كان فصيح اللسان مقوالا ، فكونه من أهله مظنة

١١٤

النصح له ، وكونه أخاه أقوى في المناصحة ، وكونه الأخ الخاصّ لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي.

وجملة (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) على قراءة الجمهور بصيغة الأمر في فعلي (اشْدُدْ) ، و (أَشْرِكْهُ) بيان لجملة (اجْعَلْ لِي وَزِيراً). سأل الله أن يجعله معينا له في أعماله ، وسأله أن يأذن له بأن يكون شريكا لموسى في أمره ، أي أمر رسالته.

وقرأ ابن عامر بصيغة المتكلم ـ بفتح الهمزة المقطوعة ـ في «اشدد» ـ وبضم همزة ـ «أشركه» ، فالفعلان إذن مجزومان في جواب الدعاء كما جزم (يَفْقَهُوا قَوْلِي).

و (هارُونَ) مفعول أول لفعل (اجْعَلْ) ، قدم عليه المفعول الثاني للاهتمام.

والشد : الإمساك بقوّة.

والأزر : أصله الظهر. ولما كان الظهر مجمع حركة الجسم وقوام استقامته أطلق اسمه على القوّة إطلاقا شائعا يساوي الحقيقة فقيل الأزر للقوّة.

وقيل : آزره إذا أعانه وقوّاه. وسمي الإزار إزارا لأنّه يشدّ به الظهر ، وهو في الآية مراد به الظهر ليناسب الشدّ ، فيكون الكلام تمثيلا لهيئة المعين والمعان بهيئة مشدود الظهر بحزام ونحوه وشادّه.

وعلّل موسى عليه‌السلام سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه ، بأن يسبّحا الله كثيرا ويذكرا الله كثيرا. ووجه ذلك أنّ فيما سأله لنفسه تسهيلا لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها ، وذلك مظنة تكثيرها.

وأيضا فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة ولم يكن لأخيه من قبل ، وذلك يجعل من أخيه مضاعفة لدعوته ، وذلك يبعث أخاه أيضا على الدعوة. ودعوة كلّ منهما تشتمل على التعريف بصفات الله وتنزيهه فهي مشتملة على التسبيح ، وفي الدعوة حثّ على العمل بوصايا الله تعالى عباده ، وإدخال الأمة في حضرة الإيمان والتّقوى ، وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد هذه الآيات (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) [طه : ٤٢] ، أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة ، فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيحهما وذكرهما الله.

وأيضا في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة ، إذ يمكن

١١٥

أن يقتسما العمل الضروري لحياتهما فيقلّ زمن اشتغالهما بالضروريات وتتوفّر الأوقات لأداء الرسالة. وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ.

والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمه بشدّة فرعون وطغيانه ومنعه الأمة من مفارقة ضلالهم ، فعلم أنّ في دعوته فتنة للداعي فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة ليتوفّرا للتسبيح والذكر كثيرا.

وجملة (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) تعليل لسؤاله شرح صدره وما بعده ، أي لأنك تعلم حالي وحال أخي ، وأنّي ما دعوتك بما دعوت إلا لأننا محتاجان لذلك ، وفيه تفويض إلى الله تعالى بأنه أعلم بما فيه صلاحهم ، وأنه ما سأل سؤاله إلّا بحسب ما بلغ إليه علمه.

وقوله (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) وعد له بالإجابة ، وتصديق له فيما توسمه من المصالح فيما سأله لنفسه ولأخيه.

والسؤل بمعنى المسئول. وهو وزن فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز ، والأكل بمعنى المأكول. وهذا يدل على أن العقدة زالت عن لسانه ، ولذلك لم يحك فيما بعد أنّه أقام هارون بمجادلة فرعون. ووقع في التّوراة في الإصحاح السابع من سفر الخروج : «فقال الرب لموسى أنت تتكلّم بكلّ ما أمرك به وهارون أخوك يكلّم فرعون».

[٣٧ ـ ٤١] (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

جملة (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) معطوفة على جملة (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) [طه : ٣٦] لأنّ جملة (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) تتضمن منّة عليه ، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعد سؤاله أحرى ، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة ، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه. فهذا

١١٦

طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّدا في سائر أحواله المستقبلة ، كقوله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٥ ـ ٨].

وتأكيد الخبر بلام القسم و (قد) لتحقيق الخبر ، لأنّ موسى عليه‌السلام قد علم ذلك ، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه ، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) [طه : ٣٦].

والمرّة : فعلة من المرور ، غلبت على معنى الفعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام. وقد تقدمت عند قوله تعالى : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) في سورة براءة [١٣]. وانتصاب (مَرَّةً) هنا على المفعولية المطلقة لفعل (مَنَنَّا) ، أي مرّة من المنّ. ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة.

و (إِذْ) ظرف للمنّة.

والوحي ، هنا : وحي الإلهام الصادق. وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجزم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى. وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق.

و (ما يُوحى) موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها. ومفيد تأكيد كونه إلهاما من قبل الحق.

و (أَنِ) تفسير لفعل (أَوْحَيْنا) لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى.

والقذف : أصله الرمي ، وأطلق هنا على الوضع في التابوت ، تمثيلا لهيئة المخفي عمله ، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجرا ونحوه.

والتابوت : الصندوق. وتقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) في سورة البقرة [٢٤٨].

واليمّ : البحر ، والمراد به نهر النّيل.

والساحل : الشاطئ ، ولام الأمر في قوله (فَلْيُلْقِهِ) دالة على أمر التكوين ، أي سخرنا اليمّ لأن يلقيه بالساحل ، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد ، والمراد ساحل معهود ، وهو

١١٧

الذي يقصده آل فرعون للسباحة.

والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها ، وقذفه في التّابوت وفي اليمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره ، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشرا أو في ضمن غيره ، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة. ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك.

وجزم (يَأْخُذْهُ) في جواب الأمر على طريقة جزم قوله (يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٨] المتقدم آنفا.

والعدوّ : فرعون ، فهو عدوّ الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية ، وعدوّ موسى تقديرا في المستقبل ، وهو عدوّه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنّه اعتزم على قتل أبنائهم.

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) عطف على جملة (أَوْحَيْنا) أي حين أوحينا إلى أمّك ما كان به سلامتك من الموت ، وحين ألقيت عليك محبّة لتحصل الرقّة لواجده في اليمّ ، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولدا كما جاء في الآية الأخرى (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) [القصص : ٩] ؛ لأنّ فرعون قد غلب على ظنه أنّه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط ، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط.

وإلقاء المحبة مجاز في تعلّق المحبة به ، أي خلق المحبّة في قلب المحبّ بدون سبب عاديّ حتى كأنه وضع باليد لا مقتضي له في العادة.

ووصف المحبّة بأنها من الله للدّلالة على أنها محبّة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبّة العرفيّة من الإلف والانتفاع ، ألا ترى قول امرأة فرعون : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) [القصص : ٩] مع قولها : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) [القصص : ٩] ، فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولدا.

(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ)

جملة (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) عطف على جملة (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) إلخ. جعل

١١٨

الأمران إتماما لمنّة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلّا إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة ، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبليّة. والتقدير : وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تصنع على عيني.

والصنع : مستعار للتربية والتنمية ، تشبيها لذلك بصنع شيء مصنوع ، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة : هو صنيعة فلان.

وأخت موسى : مريم ابنة عمران. وفي التّوراة : أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج. وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد. وذلك سنة ١٤١٧ قبل المسيح.

وقرأه الجمهور ـ بكسر اللام ـ على أنها لام كي وبنصب فعل (لِتُصْنَعَ). وقرأه أبو جعفر ـ بسكون اللّام ـ على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني ، أي وقلنا : لتصنع.

وقوله (عَلى عَيْنِي) (على) منه للاستعلاء المجازي ، أي المصاحبة المتمكنة ، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

والعين : مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] ، وقول النابغة :

عهدتك ترعاني بعين بصيرة

وتبعث حراسا عليّ وناظرا

ووقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته ، وفصّلت في سورة القصص.

والاستفهام في (هَلْ أَدُلُّكُمْ) للعرض. وأرادت ب (مَنْ يَكْفُلُهُ) أمّه. فلذلك قال (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ).

وهذه منّة عليه لإكمال نمائه ، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلّا ساعات قلائل ، أكرمها الله بسبب ابنها.

وعطف نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة ، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها. وانتفاء حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى. وتقديم

١١٩

قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن ؛ روعي فيه مناسبة تعقيب (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) بما فيه من الحكمة ، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) في بيتها ، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة ، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج.

(وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) جملة (وَقَتَلْتَ) عطف على جملة (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) لأنّ المذكور في جملة (وَقَتَلْتَ نَفْساً) منّة أخرى ثالثة.

وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة ، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة ، وهي قتل النّفس ليكون لقوله (فَنَجَّيْناكَ) موقع عظيم من المنّة ، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثله.

وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص.

والغمّ : الحزن. والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه ، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين ، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم. ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك.

والفتون : مصدر فتن ، كالخروج ، والثبور ، والشكور ، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو (فَتَنَّاكَ) ، وتنكيره للتعظيم ، أي فتونا قويّا عظيما.

والفتون كالفتنة : هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١]. ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر ، فيكون في الشرّ وفي الخير. وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ. ويظهر أن التنوين في (فُتُوناً) للتقليل ، وتكون جملة (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) كالاستدراك على قوله (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) ، أي نجيناك وحصل لك خوف ، كقوله (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص : ١٨] فذلك الفتون.

١٢٠