تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

جملة (وَوُضِعَ الْكِتابُ) معطوفة على جملة (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) [الكهف : ٤٨] ، فهي في موضع الحال ، أي وقد وضع الكتاب.

والكتاب مراد به الجنس ، أي وضعت كتب أعمال البشر ، لأن لكل أحد كتابا ، كما دلت عليه آيات أخرى منها قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ) [الإسراء : ١٣ ـ ١٤] الآية. وإفراد الضمير في قوله : (مِمَّا فِيهِ) لمراعاة إفراد لفظ (الكتاب). وعن الغزالي : أنه قال : يكون كتاب جامع لجميع ما هو متفرق في الكتب الخاصة بكل أحد. ولعله انتزعه من هذه الآية. وتفرع على وضع الكتاب بيان حال المجرمين عند وضعه.

والخطاب بقوله : (فَتَرَى) لغير معين. وليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ في مقامات عالية عن ذلك الموضع.

والإشفاق : الخوف من أمر يحصل في المستقبل.

والتعبير بالمضارع في (يَقُولُونَ) لاستحضار الحالة الفظيعة ، أو لإفادة تكرر قولهم ذلك وإعادته شأن الفزعين الخائفين.

ونداء الويل : ندبة للتوجع من الويل. وأصله نداء استعمل مجازا بتنزيل ما لا ينادى منزلة ما ينادى لقصد حضوره ، كأنه يقول : هذا وقتك فاحضري ، ثم شاع ذلك فصار لمجرد الغرض من النداء وهو التوجع ونحوه.

والويلة : تأنيث الويل للمبالغة ، وهو سوء الحال والهلاك. كما أنثت الدار على دارة ، للدلالة على سعة المكان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) في سورة العقود المائدة [٣١].

والاستفهام في قولهم : (ما لِهذَا الْكِتابِ) مستعمل في التعجب. (فما) اسم استفهام ، ومعناها : أي شيء ، و (لِهذَا الْكِتابِ) صفة ل (ما) الاستفهامية لما فيها من التنكير ، أي ما ثبت لهذا الكتاب.

واللام للاختصاص مثل قوله : (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ١١].

وجملة (لا يُغادِرُ) في موضع الحال ، هي مثار التعجب ، وقد جرى الاستعمال بملازمة الحال لنحو ما لك فيقولون : ما لك لا تفعل وما لك فاعلا.

٨١

والمغادرة : الترك ، وتقدم آنفا في قوله : (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)[الكهف : ٤٧].

والصغيرة والكبيرة : وصفان لموصوف محذوف لدلالة المقام ، أي فعلة أو هنة. والمراد بالصغر والكبر هنا الأفعال العظيمة والأفعال الحقيرة. والعظم والحقارة يكونان بحسب الوضوح والخفاء ويكونان بحسب القوة والضعف.

وتقديم ذكر الصغيرة لأنها أهم من حيث يتعلق التعجب من إحصائها. وعطفت عليها الكبيرة لإرادة التعميم في الإحصاء لأن التعميم أيضا مما يثير التعجب ، فقد عجبوا من إحاطة كاتب الكتاب بجميع الأعمال.

والاستثناء من عموم أحوال الصغيرة والكبيرة ، أي لا يبقي صغيرة ولا كبيرة في جميع أحوالهما إلا في حال إحصائه إياها ، أي لا يغادره غير محصي. فالاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنه إذا أحصاه فهو لم يغادره ، فآل إلى معنى أنه لا يغادر شيئا ، وانتفت حقيقة الاستثناء.

فجملة (أَحْصاها) في موضع الحال. والرابط بينها وبين ذي الحال حرف الاستثناء. والإحصاء : العد ، أي كانت أفعالهم معدودة مفصلة.

وجملة (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) في موضع الحال من ضمير (يَقُولُونَ). أي إنما قالوا ذلك حين عرضت عليهم أعمالهم كلها عند وضع ذلك الكتاب عرضا سريعا حصل به علم كلّ بما في كتابه على وجه خارق للعادة.

وجملة (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) عطف على جملة (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) لما أفهمته الصلة من أنهم لم يجدوا غير ما عملوا ، أي لم يحمل عليهم شيء لم يعملوه ، لأن الله لا يظلم أحدا فيؤاخذه بما لم يقترفه ، وقد حدد لهم من قبل ذلك ما ليس لهم أن يفعلوه وما أمروا بفعله ، وتوعدهم ووعدهم ، فلم يكن في مؤاخذتهم بما عملوه من المنهيات بعد ذلك ظلم لهم. والمقصود : إفادة هذا الشأن من شئون الله تعالى ، فلذلك عطفت الجملة لتكون مقصودة أصالة. وهي مع ذلك مفيدة معنى التذييل لما فيها من الاستدلال على مضمون الجملة قبلها ، ومن العموم الشامل لمضمون الجملة قبلها وغيره ، فكانت من هذا الوجه صالحة للفصل بدون عطف لتكون تذييلا.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠))

٨٢

عطف على جملة (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧] بتقدير : واذكر إذ قلنا للملائكة ، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل ، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراض عن الصالحات ، وبمداحض الكبرياء والعجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالا نفسيا. وكما وعظوا بآخر أيام الدنيا ذكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم ، وهذا أيضا تمهيد وتوطئة لقوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) الآية [الكهف : ٥٢] ، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم.

ولها أيضا مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الكهف : ٢٨] ، فكان في قصة إبليس نحو آدم مثل لهم ، ولأن في هذه القصة تذكيرا بأن الشيطان هو أصل الضلال ، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خطوات الشيطان وأوليائه. ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ).

وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن ، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر ، ولها في كل موضع ذكرت فيه عبرة تخالف عبرة غيره ، فذكرها في سورة البقرة (مثلا) إعلام بمبادئ الأمور ، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ ، وقس على ذلك.

وفسق : تجاوز عن طاعته. وأصله قولهم : فسقت الرّطبة ، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازا في التجاوز. قال أبو عبيدة. والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة. قال أبو عبيدة : «لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن» ، أي في هذه الآية ونحوها. ووافقه المبرد وابن الأعرابي. وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم ، وتقدم في سورة البقرة [٢٦] عند قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

والأمر في قوله : (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) بمعنى المأمور ، أي ترك وابتعد عما أمره الله به.

والعدول في قوله : (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه.

٨٣

وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع ، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلا لأن يتبع.

والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين ، إذ كانوا يعبدون الجن ، قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠]. ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ).

والذرية : النسل ، وذرية الشياطين والجن.

والعدو : اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] وقال : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤].

عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والولوع ، وهما مصدران. وتقدم عند قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) في سورة النساء[٩٢].

والولي : من يتولّى ، أي يتخذ ذا ولاية بفتح الواو وهي القرب. والمراد به القرب المعنوي ، وهو الصداقة والنسب والحلف. و (من) زائدة للتوكيد ، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي. وذلك هو إشراكهم في العبادة ، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذ لهم أولياء من دون الله.

والخطاب في (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه وليا ، وتحذير للمسلمين من ذلك.

وجملة (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء ، أي بئس البدل للمشركين الشيطان وذريته ، فقوله : (بَدَلاً) تمييز مفسر لاسم (بئس) المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل.

والظالمون هم المشركون. وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم ، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم.

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ

٨٤

الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١))

تتنزل هذه الجملة منزلة التعليل للجملتين اللتين قبلها وهما (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ) إلى قوله : (بَدَلاً) [الكهف : ٥٠] ، فإنهم لما لم يشهدوا خلق السماوات والأرض لم يكونوا شركاء لله في الخلق بطريق الأولى فلم يكونوا أحقاء بأن يعبدوا. وهذا احتجاج على المشركين بما يعترفون به فإنهم يعترفون بأن الله هو المتفرد بخلق السماوات والأرض وخلق الموجودات.

والإشهاد : جعل الغير شاهدا ، أي حاضرا ، وهو هنا كناية عن إحضار خاص ، وهو إحضار المشاركة في العمل أو الإعانة عليه. ونفي هذا الشهود يستلزم نفي المشاركة في الخلق والإلهية بالفحوى أي ، بالأولى ، فإن خلق السماوات كان قبل وجود إبليس وذريته ، فهو استدلال على انتفاء إلهيتهم بسبق العدم على وجودهم. وكل ما جاز عليه العدم استحال عليه القدم ، والقدم من لوازم الإلهية. وضمائر الغيبة في قوله : (أَشْهَدْتُهُمْ) وقوله : (أَنْفُسِهِمْ) عائدة إلى المتحدث عنه ، أي إبليس وذريته كما عاد إليهم الضمير في قوله : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ).

ومعنى (أَنْفُسِهِمْ) ، أنفس بعضهم بقرينة استحالة مشاهدة المخلوق خلق نفسه ، فإطلاق الأنفس هنا نظير إطلاقه في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وفي قوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) [البقرة : ٨٤] ، أي أنفس بعضكم. فعلى هذا الوجه تتناسق الضمائر ويتقوم المعنى المقصود.

واعلم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق لهما سكانهما كما دل عليه قوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)[فصّلت : ٩ ـ ١٢]. وكان أهل الجاهلية يعتقدون في الأرض جنّا متصرفين فكانوا إذا نزلوا واديا مخوفا قالوا : أعوذ بعزيز هذا الوادي ، ليكونوا في أمن من ضره.

وقرأ أبو جعفر ما أشهدناهم بنون العظمة ، وقرأ (وَما كُنْتُ) بفتح التاء على الخطاب ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو خبر مستعمل في النهي.

٨٥

والمراد ب (الْمُضِلِّينَ) الشياطين ، لأنهم أضلوا الناس بإلقاء خواطر الضلالة والفساد في النفوس ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١].

وجملة (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) تذييل لجملة (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

والعدول عن الإضمار بأن يقال : وما كنت متخذهم إلى (الْمُضِلِّينَ) لإفادة الذم ، ولأن التذييل ينبغي أن يكون كلاما مستقلا.

والعضد ـ بفتح العين وضم الضاد المعجمة ـ في الأفصح ، و ـ بالفتح وسكون الضاد ـ في لغة تميم. وفيه لغات أخرى أضعف. ونسب ابن عطية أن أبا عمرو قرأه بضم العين وضم الضاد ـ على أنها لغة في عضد وهي رواية هارون عن أبي عمرو وليست مشهورة. وهو : العظم الذي بين المرفق والكتف ، وهو يطلق مجازا على المعين على العمل ، يقال : فلان عضدي واعتضدت به.

والمعنى : لا يليق بالكمال الإلهي أن أتخذ أهل الإضلال أعوانا فأشركهم في تصرفي في الإنشاء ، فإن الله مفيض الهداية وواهب الدراية فكيف يكون أعوانه مصادر الضلالة ، أي لا يعين المعين إلا على عمل أمثاله ، ولا يكون إلا قرينا لأشكاله.

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢))

عطف على جملة (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الكهف : ٥٠] فيقدر : واذكر يوم يقول نادوا شركائي ، أو على جملة (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف : ٥١] ، فالتقدير : ولا أشهدت شركاءهم جميعا ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر ، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذ. وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها ، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها ، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة.

٨٦

وقراءة الجمهور (يَقُولُ) بياء الغيبة ـ وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه ، وقرأ حمزة نقول بنون العظمة.

واليوم الذي يقع فيه هذا القول هو يوم الحشر. والمعنى : يقول للمشركين ، كما دل عليه قوله : (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) ، أي زعمتموهم شركائي. وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكما بالمخاطبين وتوبيخا لهم ، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الزعم الدال على اعتقاد باطل.

والنداء : طلب الإقبال للنصرة والشفاعة.

والاستجابة : الكلام الدال على سماع النداء والأخذ في الإقبال على المنادي بنحو قول : لبيكم.

وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمه وهو إظهار باطلهم بقرينة فعل الزعم. ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال (فَدَعَوْهُمْ) لطمعهم ، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم. ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب. وأتي به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذ حتى كأنه قد انقضى.

والموبق : مكان الوبوق ، أي الهلاك. يقال : وبق مثل وعد ووجل وورث. والموبق هنا أريد به جهنم ، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كوّن الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فوهات جهنم ، ويجوز أن تكون جملة (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) جملة حال أي وقد جعلنا بينهم موبقا تمهيدا لما بعده من قوله : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) [الكهف : ٥٣].

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

عطف على جملة (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) [الكهف : ٥٢] ، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون ، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيده المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار. وكذلك عبر ب (النار) في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن الموبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان.

والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته. ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم ؛ بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك.

والمواقعة : مفاعلة من الوقوع ، وهو الحصول لقصد المبالغة ، أي واقعون فيها وقوع

٨٧

الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه.

والمصرف : مكان الصرف ، أي التخلص والمجاوزة. وفي الكلام إيجاز ، تقديره : وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفا ، أي مخلصا.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤))

عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الكهف : ٣٢] وقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٥]. ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظرا إلى قوله : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) [الكهف : ٢٧] وقوله : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ؛ فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هدي من جملة هدي القرآن الذي تبرموا منه. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) في سورة الإسراء [٨٩] ؛ سوى أنه يتجه هنا أن يسأل لم قدم في هذه الآية أحد متعلقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله : (فِي هذَا الْقُرْآنِ) على قوله : (لِلنَّاسِ) عكس آية سورة الإسراء. وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة ، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس.

والناس : اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة ، والمقصود على الخصوص المشركون ، كما دل عليه جملة (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) ، فوزانه وزان قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الإسراء : ٨٩] ، وسيجيء قوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [الكهف : ٥٦]. وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة.

وجملة (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) تذييل ، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز ، والتقدير : فجادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلا ، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم ، وحرف (ال) فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموما من لفظ الناس. والمعنى : أنهم جادلوا. والجدال : خلق ، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين ،

٨٨

ومنه محمود كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود : ٧٤ ـ ٧٥] ، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل ، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) الآية ، فقوله هنا : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) تمهيد لقوله بعده (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) [الكهف : ٥٦].

و (شيء) اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه ، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣] ، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما ترك الجدال في شأنه أحسن ، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به.

وإنما ألجأنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجدل. فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شعب النطق الذي هو فصل حقيقة الإنسانية ، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) إلى قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠]. وأما الشياطين فهم أكثر جدلا من الإنسان ، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل.

و (جَدَلاً) تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان. والمعنى : وكان الإنسان كثيرا من جهة الجدل ، أي كثيرا جدله. ويدل لهذا المعنى ما ثبت في «الصحيح» عن علي : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال : ألا تصليان!؟ فقال علي : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئا ، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً). يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يسرّ بما في كلام رسول الله من ملام ، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه ، فذلك محل تعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جواب علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ.

ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يرد أن الإنسان أكثر جدلا من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا. ومن

٨٩

أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل؟.

والجدل : المنازعة بمعاوضة القول ، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه : بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل ، قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] ، وقال : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) [المجادلة : ١] ، وقال : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، وقال : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ١٠٧] ، وقال : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) [الأنفال : ٦].

والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل ، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله. وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥))

عطف على جملة (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) [الكهف : ٥٤] إلخ. ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤] معترضة بينهما لو لا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماما بمضمونها في ذاته ، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس. ولهذه الخصوصية فيما أرى عدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ) وبقوله : (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) دون أن يقول : وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصدا لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها ، فتكون فائدة مستقلة تستأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها.

على أن عموم (النَّاسَ) هنا أشمل من عموم لفظ (النَّاسَ) في قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ) [الكهف : ٥٤] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية ، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله.

وكذلك عموم لفظ (الْهُدى) يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال

٩٠

الأنبياء كلها ، فكانت هذه الجملة قياسا تمثيليا بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم.

فالمعنى : ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يمنع مثله ، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير.

والمرد ب (الْأَوَّلِينَ) السابقون من الأمم في الضلال والعناد. ويجوز أن يراد بهم الآباء ، أي سنة آبائهم ، أي طريقتهم ودينهم ، ولكل أمة أمة سبقتها.

و (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) استثناء مفرغ هو فاعل (وَما مَنَعَ). «ولن يؤمنوا» منصوب على نزع الخافض ، أي من أن يؤمنوا.

ومعنى (تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) تحل فيهم وتعتريهم ، أي تلقى في نفوسهم وتسول إليهم. والمعنى : أنهم يشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم ، كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣].

وسنة الأولين : طريقتهم في الكفر. وإضافة (سنة) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله ، أي السنة التي سنّها الأولون. وإسناد منعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة.

والمعنى : ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم.

وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته.

و (أو) هي التي بمعنى (إلى) ، وانتصاب فعل (يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) (بأن) مضمرة بعد (أو). و (أو) متصلة المعنى بفعل (مَنَعَ) ، أي منعهم تقليد سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين.

هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها.

فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عين المراد بهم في قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الكهف : ٥٤] ، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله. وجعلوا المراد بالهدى

٩١

عين المراد بالقرآن ، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين ، أي الأمم المكذبين الماضين ، أي فإضافة (سُنَّةُ) إلى (الْأَوَّلِينَ) مثل إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهي عادة الله فيهم ، أي يعذبهم عذاب الاستيصال.

وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين ، بتقدير مضاف ، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين ، أي ويكون الكلام تهكما وتعريضا بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين ، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال ، أي على معنى قوله تعالى:(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا) [يونس : ١٠٢].

وجعلوا قوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) قسيما لقوله : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) ، فحرف (أو) للتقسيم ، وفعل (يَأْتِيَهُمُ) منصوب بالعطف على فعل (أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) بالاستيصال المفاجئ أو يأتيهم العذاب مواجها لهم. وجعلوا (قُبُلاً) حالا من (الْعَذابُ) ، أي مقابلا. قال الكلبي : وهو عذاب السيف يوم بدر. ولعله يريد أنه عذاب مقابلة وجها لوجه ، أي عذاب الجلاد بالسيوف. ومعناه : أن المشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين ، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة. وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل ، وتقصر على معنى التهديد.

والإتيان : مجاز في الحصول في المستقبل ، لوجود (أن) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال ، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها.

والسنة : العادة المألوفة في حال من الأحوال.

وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي. والمراد : ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب. وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال ، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال. وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين.

وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر. وهو في معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

و (قُبُلاً) حال من العذاب. وهو ـ بكسر القاف وفتح الباء ـ في قراءة الجمهور

٩٢

بمعنى المقابل الظاهر. وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف (قُبُلاً) ـ بضمتين ـ وهو جمع قبيل ، أي يأتيهم العذاب أنواعا.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦))

بعد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤]. وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد ، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به ، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للجادلة ، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق.

والاستثناء من أحوال عامة محذوفة ، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين. والمراد بالمرسلين جميع الرسل.

وجملة (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) عطف على جملة (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤]. وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشئ معناها على معنى التي قبلها ، فكانت جملة (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) مفيدة معنى الاستدراك ، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى ، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر. واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة ، أو لاستحضار صورة المجادلة.

والمجادلة تقدمت في قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) في سورة هود [٧٤].

والإدحاض : الإزلاق ، يقال : دحضت القدم ، إذا زلّت ، وهو مجاز في الإزالة ، لأن الرجل إذا زلقت زالت عن موضع تخطيها ، قال تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١].

وجملة (وَاتَّخَذُوا آياتِي) عطف على جملة (وَيُجادِلُ) فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء ، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا.

٩٣

والهزو : مصدر هزا ، أي اتخذوا ذلك مستهزأ به. والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها ، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب.

وعطف (وَما أُنْذِرُوا) على «الآيات» عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم.

(وَما أُنْذِرُوا) مصدرية ، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة.

وقرأ الجمهور (هُزُواً) بضم الزاي. وقرأه حمزة هزءا بسكون الزاي.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧))

لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية ، ومن استهزائهم بالإنذار ، وعرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم. ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم ، فالذين ذكروا ما هم في غفلة عنه تذكيرا بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة. وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقريش «إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غدا أكنتم مصدّقي؟ فقالوا : ما جربنا عليك كذبا» فقال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

و (من) المجرورة موصولة. وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً). والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه.

وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل.

ومعنى نسيان ما قدمت يداه أنه لم يعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم:أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة ، والصلاح بيّن والفساد بين ، ولذلك سمي الأول معروفا والثاني منكرا ، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم بمجموع الحالين أشد الناس ظلما ، ولو تفكروا قليلا لعلموا أنهم غير مفلتين من لقاء جزاء أعمالهم.

٩٤

ف (من) استفهام مستعمل في الإنكار ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم.

والنسيان : مستعمل في التغاضي عن العمل. وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) في سورة البقرة [١٠٦].

ومعنى (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ما أسلفه من الأعمال. وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيئ ، فصار جاريا مجرى المثل ، قال تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وقال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

والآية مصوغة بصيغة العموم ، والمقصود الأول : منها مشركو أهل مكة.

وجملة (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) مستأنفة بيانية نشأت على جملة (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة. وهو يفيد معنى التعليل بالمآل ، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية.

والقلوب مراد بها : مدارك العلم.

والأكنة : جمع كنان ، وهو الغطاء ، لأنه يكن الشيء ، أي يحجبه.

و (أَنْ يَفْقَهُوهُ) مجرور بحرف محذوف ، أي من أن يفقهوه ، لتضمين (أَكِنَّةً) معنى الحائل أو المانع.

والوقر : ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ.

والضمير المفرد في (يَفْقَهُوهُ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات.

وجملة (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى) عطف على جملة (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) ، وهي متفرعة عليها ، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل.

وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو (لن) ، وبلفظ (أبدا) المؤكد لمعنى (لن) ، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط.

وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني ، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ

٩٥

لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨))

جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريض بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته ، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون ، موجها الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفتتحا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيماء إلى أن مضمون الخبر تكريم له ، كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣].

والوجه في نظم الآية أن يكون (الْغَفُورُ) نعتا للمبتدإ ويكون (ذُو الرَّحْمَةِ) هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) ، فيكون ذكر (الْغَفُورُ) إدماجا في خلال المقصود. فخص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم (الْغَفُورُ) تعريضا بالترغيب في الاستغفار.

والغفور : اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه تعالى واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يحصون ويغفر ذنوبا لا تحصى إن جاءه عبده تائبا مقلعا منكسرا ، على أن إمهاله الكفار والعصاة هو أيضا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة.

وأما قوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) فهو المقصود تمهيدا لجملة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) ، فلذلك كانت تلك الجملة بيانا لجملة (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني.

والمعنى : أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر ، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا.

فوصف (ذُو الرَّحْمَةِ) يساوي وصف (الرحيم) لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه.

وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى (ذُو الرَّحْمَةِ) للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيها بطريقة تغيير الأسلوب ، فإن اسم (الرحيم) صار شبيها بالأسماء الجامدة ، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية.

٩٦

و (بل) للإضراب الإبطالي. عن مضمون جواب (لو) ، أي لم يعجل لهم العذاب إذ لهم موعد للعذاب متأخر ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر.

والموئل : مفعل من وأل بمعنى لجأ ، فهو اسم مكان بمعنى الملجأ.

وأكد النفي ب (لن) ردا على إنكارهم ، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدة طويلة ، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وعده أو مكان وعده ، فهو ملجؤهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي هم غير مفلتين منه.

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

بعد أن أزيل غرورهم بتأخر العذاب ، وأبطل ظنهم الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه ، ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخرة ، فالجملة معطوفة على جملة (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) [الكهف: ٥٨].

والإشارة ب «تلك» إلى مقدر في الذهن ، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد به مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة ، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر ، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة.

والظلم : الشرك وتكذيب الرسل. والمهلك ـ بضم الميم وفتح اللام ـ مصدر ميمي من «أهلك» ، أي جعلنا لإهلاكنا إياهم وقتا معينا في علمنا إذا جاء حلّ بهم الهلاك. هذه قراءة الجمهور. وقرأه حفص عن عاصم ـ بفتح الميم وكسر اللام ـ على أنه اسم زمان على وزن مفعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم ـ بفتح الميم وفتح اللام ـ على أنه مصدر ميمي لهلك.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠))

لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له ، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلا بأسباب الفضائل ومكابرة في الاعتراف بها وحسدا في الشرف والفضل ، فضرب بذلك مثلا لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد ، أعقب

٩٧

تلك القصة بقصة هي مثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال ، اعترافا للفاضل بفضيلته. وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخلقين وإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين ، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى ، وتربية للمتقين.

ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أملوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين. وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به ، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين. قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تطواف في الأرض لطلب نفع صالح ، وهي قصة سفر موسى ـ عليه‌السلام ـ لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى. وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان.

فجملة (وَإِذْ قالَ مُوسى) معطوفة على جملة (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) [الكهف : ٥٠] عطف القصة على القصة. والتقدير : واذكر إذ قال موسى لفتاه ، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه. وناسبها تقدير فعل «اذكر» لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم.

فانتصب (إذ) على المفعولية به.

والفتى : الذكر الشاب ، والأنثى فتاة ، وهو مستعمل مجازا في التابع والخادم. وتقدم عند قوله تعالى : (تُراوِدُ فَتاها) في سورة يوسف [٣٠].

وفتى موسى : خادمه وتابعه ، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص ، كما يقال : غلامه. وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم. وقد قيل : إنه ابن أخت موسى ، كان اسمه الأصلي هوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع. ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي هريرة يا أبا هرّ. وفي التوراة : أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهام.

ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد الخيل زيد الخير.

٩٨

ويوشع أحد الرجال الاثني عشر الذين بعثهم موسى ـ عليه‌السلام ـ ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يوما في التجسس. وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض كنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) [المائدة : ٢٣].

كان ميلاد يوشع في حدود سنة ١٤٦٣ قبل المسيح ووفاته في حدود سنة ١٣٥٣ وعمّر مائة وعشر سنين ، وكان موسى ـ عليه‌السلام ـ قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذا وخادما ، ومثل ذلك الاتخاذ يوصف صاحبه بمثل فتى أو غلام. ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحوي اللغوي غلام ثعلب ، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني المقلب بثعلب.

وكان يوشع أحد الرجلين اللذين عهد إليهما موسى ـ عليه‌السلام ـ بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ. وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى ـ عليه‌السلام ـ فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيئا من يومئذ. ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعا وعشرين سنة. وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ المقتضي تصميما على أن لا يزول عما هو فيه ، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين ، ابتداء عجيبا في باب الإيجاز ، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عمل نهايته البلوغ إلى مكان ، فعلم أن ذلك العلم هو سير سفر.

ويدل على أن فتاه استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها ، أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة ، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة ، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه.

و (أَبْرَحَ) مضارع برح بكسر الراء ، بمعنى زال يزول. وتقدم في سورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ. واستعير (لا أَبْرَحُ) لمعنى : لا أترك ، أو لا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين. ويجوز أن يكون مضارع برح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصا إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفا بقرينة الكلام ، أي لا أبرح سائرا. وعن الرضيّ أن حذف خبرها قليل.

٩٩

وحذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى ـ عليه‌السلام ـ لأنه سيذكر بعد ، وهو حذف إيجاز وتشويق ، له موقع عظيم في حكاية القصة ، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحكم والأمثال قضاء لحق بلاغة الإعجاز.

وتفصيل هذه القصة وارد في «صحيح البخاري» من حديث : «عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أي الناس أعلم؟ فقال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه. فأوحى الله إليه : بلى عبدنا خضر هو أعلم منك. قال : فأين هو؟ قال : بمجمع البحرين. قال موسى ـ عليه‌السلام ـ : يا رب اجعل لي علما أعلم ذلك به. قال : تأخذ معك حوتا في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثمّ ، فأخذ حوتا فجعله في مكتل وقال لفتاه يوشع بن نون : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال (أي فتاه) : ما كلّفت كثيرا. ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وموسى نائم ، فقال فتاه (وكان لم ينم) : لا أوقظه وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار الماء عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ (موسى) نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به (أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه : فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. فقال موسى : ذلك ما كنا نبغي ، فارتدا على آثارهما قصصا ، قال : رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى ثوبا فسلّم عليه موسى. فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام ... الحديث.

قوله : «وأنى بأرضك السلام» استفهام تعجب ، والكاف خطاب للذي سلم عليه فكان الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام ، إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولا بأمة ليست تحيتهم السلام.

وإنما أمسك الله عن الحوت جرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى ـ عليه‌السلام ـ وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما ، ولأن المكان لما كان ظرفا لظهور معجزات علم

١٠٠