تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١] ، ولكل من المعدنين جماله الخاص.

واللباس : ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء ، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل.

والثياب : جمع ثوب ، وهو الشقة من النسيج.

واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر ، وكان من شعار الملوك. قال النابغة:

يصونون أجسادا قديما نعيمها

بخالصة الأردان خضر المناكب

والسندس : صنف من الثياب ، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشرا للجلد ليقيه غلظ الإستبرق.

والإستبرق : الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب ، يلبس فوق الثياب المباشرة للجلد.

وكلا اللفظين معرب. فأما لفظ (سندس) فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله ، فقال جماعة : أصله فارسي ، وقال المحققون : أصله هندي وهو في اللغة (الهندية) (سندون) بنون في آخره. كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون معهم هدية من هذا الديباج ، وأن الروم غيروا اسمه إلى (سندوس) ، والعرب نقلوه عنهم فقالوا (سندس) فيكون معربا عن الرومية وأصله الأصيل هندي.

وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية. وأصله في الفارسية (استبره) أو (استبر) بدون هاء أو (استقره) أو (استفره). وقال ابن دريد : هو سرياني عرب وأصله (استروه). وقال ابن قتيبة : هو رومي عرب ، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع ، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة وهو الأصوب ، ويجمع على أبارق قياسا ، على أنهم صغروه على أبيرق فعاملوا السين والتاء معاملة الزوائد.

وفي «الإتقان» للسيوطي عن ابن النقيب : لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذا اللفظ ويأتوا بلفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا.

وذلك : أن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة بالوعد والوعيد. والوعد بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في : الأماكن ، والمآكل ، والمشارب ، والملابس ، ونحوها مما

٦١

تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه. وأرفع الملابس في الدنيا الحرير ، والحرير كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح ، وذلك ليس إلا الإستبرق ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ إستبرق. هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه.

و (من) في قوله : (مِنْ سُنْدُسٍ) للبيان.

وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا لأن ذلك وقع صفة للجنات ابتداء ، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات ، فقدم ذكر الحلي وأخر اللباس لأن اللباس أشد اتصالا بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة ، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) [الإنسان : ٢١] لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة.

وجملة (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) في موضع الحال من ضمير (يَلْبَسُونَ).

والاتكاء : جلسة الراحة والترف. وتقدم عند قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) في سورة يوسف عليه‌السلام [٣١].

والأرائك : جمع أريكة. وهي اسم لمجموع سرير وحجلة. والحجلة : قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها. ولذلك يقال للنساء : ربات الحجال. فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فيه أريكة. ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة ، وذلك من شعار أهل الترف.

وجملة (نِعْمَ الثَّوابُ) استئناف مدح ، ومخصوص فعل المدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه. والتقدير : نعم الثواب الجنات الموصوفة.

وعطف عليه فعل إنشاء ثان وهو (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) لأن (حسن) و (ساء) مستعملان استعمال (نعم) و (بئس) فعملا عملهما. ولذلك كان التقدير : وحسنت الجنات مرتفقا. وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً).

والمرتفق : هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم.

[٣٢ ـ ٣٦] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ

٦٢

جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦))

عطف على جملة (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الآيات ؛ فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلا لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر ، فكان لذلك المثل شبه بمثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين من عصر أهل الكهف ، فضرب مثلا للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبا مؤنقا وحال الآخر بخلاف ذلك ؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تبابا وخسارة ، وكانت عاقبة الآخر نجاحا ، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء ، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضا للصلاح والنجاح.

واللام في قوله : (لَهُمْ) يجوز أن يتعلق بفعل (وَاضْرِبْ) كقوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم : ٢٨]. ويجوز أن يتعلق بقوله : (مَثَلاً) تعلق الحال بصاحبها ، أي شبها لهم ، أي للفريقين كما في قوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤] ، والوجه أن يكون متنازعا فيه بين «ضرب ، ومثلا».

والضمير في قوله : (لَهُمْ) يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر ، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني.

ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالا معروفا فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس. فقال الكلبي : المعنيّ بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود بن عبد الأشد ـ بشين معجمة ـ وقيل ـ بسين مهملة ـ بن عبد ياليل ، والآخر مسلم وهو أخوه : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل. ووقع في «الإصابة» : بن هلال ، وكان زوج أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان ، ولعلهما كانتا بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة.

وعن ابن عباس : هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالا فاشترى أحدهما أرضا وجعل فيها جنتين ، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه

٦٣

الله تعالى في هذه السورة ، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات [٥٠ ـ ٥٢] في قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) الآيات .. فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف.

وإن كان حال الرجلين حالا مفروضا كما جوّزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة. قال ابن عطية : فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس ، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) [البقرة : ٢٦٥] الآيات.

والأظهر ـ من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) [الكهف : ٣٧] إلخ فقد جاء (قال) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة ، ومثل قوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) [الكهف : ٤٣] ـ أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية.

ومعنى (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) قدرنا له أسباب ذلك.

وذكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) في سورة البقرة [٢٦٦].

ومعنى (حَفَفْناهُما) أحطناهما ، يقال : حفّه بكذا ، إذا جعله حافا به ، أي محيطا ، قال تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥] ، لأن (حف) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثان عدي إليه بالباء ، مثل : غشيه وغشاه بكذا. ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة.

ومعنى (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) ألهمناه أن يجعل بينهما. وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلا بين الجنتين : كانت الجنتان تكتنفان حقل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة. وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد.

و (كِلْتَا) اسم دال على الإحاطة بالمثنى يفسره المضاف هو إليه ، فهو اسم مفرد دال

٦٤

على شيئين نظير زوج ، ومذكره (كلا). قال سيبويه : أصل كلا كلو وأصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث. ويجوز في خبر كلا وكلتا الإفراد اعتبارا للفظه وهو أفصح كما في هذه الآية. ويجوز تثنيته اعتبارا لمعناه كما في قول الفرزدق :

كلاهما حين جدّ الجري بينهما

قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

و (أُكُلَها) قرأه الجمهور ـ بضم الهمزة وسكون الكاف ـ. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف ـ بضم الهمزة وضم الكاف ـ وهو الثمر ، وتقدم.

وجملة (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) معترضة بين الجمل المتعاطفة. والمعنى : أثمرت الجنتان إثمارا كثيرا حتى أشبهت المعطي من عنده.

ومعنى (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) لم تنقص منه ، أي من أكلها شيئا ، أي لم تنقصه عن مقدار ما تعطيه الأشجار في حال الخصب. ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف. والتقدير : ولم تظلم من مقدار أمثاله. واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خبرهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها بحيث إذا لم تأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبهتا من حرم ذا حق حقه فظلمه ، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال ، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار.

والتفجير تقدم عند قوله تعالى : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) في سورة الإسراء [٩٠].

والنهر ـ بتحريك الهاء ـ لغة في النهر بسكونها. وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) في سورة البقرة [٢٤٩].

وجملة (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) في موضع الحال من (لِأَحَدِهِما). والثمر ـ بضم الثاء والميم ـ : المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع. وهو مأخوذ من ثمر ماله بتشديد الميم بالبناء للنائب ، يقال : ثمّر الله ماله إذا كثر. قال النابغة :

فلما رأى أن ثمّر الله ماله

وأثّل موجودا وسدّ مفاقره

مشتقا من اسم الثمرة على سبيل المجاز أو الاستعارة لأن الأرباح وعفو المال يشبهان ثمر الشجر. وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة. قال النابغة :

مهلا فداء لك الأقوام كلّهم

وما أثمّر من مال ومن ولد

٦٥

وقرأ الجمهور (ثَمَرٌ) ـ بضم المثلثة وضم الميم ـ. وقرأه أبو عمرو ويعقوب ـ بضم المثلثة وسكون الميم ـ. وقرأه عاصم ـ بفتح المثلثة وفتح الميم ـ.

فقالوا : إنه جمع ثمار الذي هو جمع ثمر ، مثل كتب جمع كتاب فيكون دالا على أنواع كثيرة مما تنتجه المكاسب ، كما تقدم آنفا في جمع أساور من قوله : (أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الكهف : ٣١]. وعن النحاس بسنده إلى ثعلب عن الأعمش : أن الحجاج قال : لو سمعت أحدا يقرأ (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) (أي بضم الثاء) لقطعت لسانه. قال ثعلب : فقلت للأعمش : أنأخذ بذلك. قال : لا ولا نعمة عين ، وكان يقرأ : ثمر ، أي بضمتين.

والمعنى : وكان لصاحب الجنتين مال ، أي غير الجنتين. والفاء لتفريع جملة (فَقالَ) على الجمل السابقة ، لأن ما تضمنته الجمل السابقة من شأنه أن ينشأ عنه غرور بالنفس ينطق ربه عن مثل ذلك القول.

و (الصاحب) هنا بمعنى المقارن في الذكر حيث انتظمهما خبر المثل ، أو أريد به الملابس المخاصم ، كما في قول الحجاج يخاطب الخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز».

والمراد بالصاحب هنا الرجل الآخر من الرجلين ، أي فقال : من ليس له جنات في حوار بينهما. ولم يتعلق الغرض بذكر مكان هذا القول ولا سببه لعدم الاحتياج إليه في الموعظة.

وجملة (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) حال من ضمير (فَقالَ).

والمحاورة : مراجعة الكلام بين متكلمين.

وضمير الغيبة المنفصل عائد على ذي الجنتين. والضمير المنصوب في (يُحاوِرُهُ) عائد على صاحب ذي الجنتين ، وربّ الجنتين يحاور صاحبه. ودل فعل المحاورة على أن صاحبه قد وعظه في الإيمان والعمل الصالح ، فراجعه الكلام بالفخر عليه والتطاول شأن أهل الغطرسة والنقائص أن يعدلوا عن المجادلة بالتي هي أحسن إلى إظهار العظمة والكبرياء.

و (أَعَزُّ) أشد عزة. والعزة : ضد الذل. وهي كثرة عدد عشيرة الرجل وشجاعته.

والنفر : عشيرة الرجل الذين ينفرون معه. وأراد بهم هنا ولده ، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف : ٤٠]. وانتصب

٦٦

(نَفَراً) على تمييز نسبة (أَعَزُّ) إلى ضمير المتكلم.

وجملة (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) في موضع الحال من ضمير (قالَ) ، أي قال ذلك وقد دخل جنته مرافقا لصاحبه ، أي دخل جنته بصاحبه ، كما يدل عليه قوله : (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) ، لأن القول لا يكون إلا خطابا لآخر ، أي قال له ، ويدل عليه أيضا قوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) [الكهف : ٣٧]. ووقوع جواب قوله : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) في خلال الحوار الجاري بينهما في تلك الجنة.

ومعنى (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو مشرك مكذب بالبعث بطر بنعمة الله عليه.

وإنما أفرد الجنة هنا وهما جنتان لأن الدخول إنما يكون لإحداها لأنه أول ما يدخل إنما يدخل إحداهما قبل أن ينتقل منها إلى الأخرى ، فما دخل إلا إحدى الجنتين.

والظن بمعنى : الاعتقاد ، وإذا انتفى الظن بذلك ثبت الظن بضده.

وتبيد : تهلك وتفنى.

والإشارة بهذا إلى الجنة التي هما فيها ، أي لا أعتقد أنها تنتقض وتضمحل.

والأبد : مراد منه طول المدة ، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها. وهذا اغترار منه بغناه واغترار بما لتلك الجنة من وثوق الشجر وقوته وثبوته واجتماع أسباب نمائه ودوامه حوله ، من مياه وظلال.

وانتقل من الإخبار عن اعتقاده دوام تلك الجنة إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة.

ولا تلازم بين المعتقدين. ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه ، ولذلك عقب ذلك بقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) تهكما بصاحبه. وقرينة التهكم قوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً). وهذا كقول العاصي بن وائل السهمي لخباب بن الأرت «ليكونن لي مال هنالك فأقضيك دينك منه».

وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد مبالغة في التهكم.

وانتصب (مُنْقَلَباً) على تمييز نسبة الخبر. والمنقلب : المكان الذي ينقلب إليه ، أي يرجع.

وضمير منهما للجنتين عودا إلى أول الكلام تفننا في حكاية كلامه على قراءة الجمهور منهما بالتثنية ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف

٦٧

(مِنْها) بالإفراد جريا على قوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) وقوله : (أَنْ تَبِيدَ هذِهِ).

[٣٧ ـ ٤١] (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١))

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ).

حكي كلام صاحبه بفعل القول بدون عطف للدلالة على أنه واقع موقع المحاورة والمجاوبة ، كما قدمناه غير مرة.

والاستفهام في قوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ) مستعمل في التعجب والإنكار ، وليس على حقيقته ، لأن الصاحب كان يعلم أن صاحبه مشرك بدليل قوله له : (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً). فالمراد بالكفر هنا الإشراك الذي من جملة معتقداته إنكار البعث ، ولذلك عرّف بطريق الموصولية لأن مضمون الصلة من شأنه أن يصرف من يدركه عن الإشراك به ، فإنهم يعترفون بأن الله هو الذي خلق الناس فما كان غير الله مستحقا للعبادة.

ثم إن العلم بالخلق الأول من شأنه أن يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثاني ، كما قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] ، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، فكان مضمون الصلة تعريضا بجهل المخاطب.

وقوله : (مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى الأجزاء التي تتكون منها النطفة وهي أجزاء الأغذية المستخلصة من تراب الأرض ، كما قال تعالى في الآية الأخرى (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) [يس : ٣٦].

والنطفة : ماء الرجل ، مشتقة من النطف وهو السيلان. و (سَوَّاكَ) عدل خلقك ، أي جعله متناسبا في الشكل والعمل.

و (من) في قوله : (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ابتدائية ، وقوله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)

٦٨

كتب في المصحف بألف بعد النون. واتفق القراء العشرة على إثبات الألف في النطق في حال الوقف ، وأما في حال الوصل فقرأه الجمهور بدون نطق بالألف ، وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بإثبات النطق بالألف في حال الوصل ، ورسم المصحف يسمح بكلتا الروايتين.

ولفظ (لكِنَّا) مركب من (لكن) بسكون النون الذي هو حرف استدراك ، ومن ضمير المتكلم (أنا). وأصله : لكن أنا ، فحذفت الهمزة تخفيفا كما قال الزجاج ، أي على غير قياس لا لعلة تصريفية ، ولذلك لم يكن للهمزة حكم الثابت فلم تمنع من الإدغام الذي يمنع منه ما هو محذوف لعلة بناء على أن المحذوف لعلة بمنزلة الثابت ، ونقلت حركتها إلى نون (لكن) الساكنة دليلا على المحذوف فالتقى نونان متحركتان فلزم إدغامهما فصار (لكنا). ولا يجوز أن تكون (لكنّ) المشددة النون المفتوحتها أشبعت فتحتها ، لأن لكن المشددة من أخوات إنّ تقتضي أن يكون الاسم بعدها منصوبا وليس هنا ما هو ضمير نصب ، ولا يجوز اعتبار ضمير (أنا) ضمير نصب اسم (لكنّ) لأن ضمير المتكلم المنصوب يجب أن يكون بياء المتكلم ، ولا اعتباره ضمير المتكلم المشارك لمنافاته لإفراد ضمائره بعده في قوله : (هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً).

(فأنا) مبتدأ ، وجملة (هُوَ اللهُ رَبِّي) ضمير شأن وخبره ، وهي خبر (أنا) ، أي شأني هو الله ربي. والخبر في قوله : (هُوَ اللهُ رَبِّي) مستعمل في الإقرار ، أي أعترف بأنه ربي خلافا لك.

وموقع الاستدراك مضادة ما بعد (لكن) لما قبلها ، ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء.

وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة ، وهي : الجملتان الاسميتان ، وضمير الشأن في قوله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) ، وتعريف المسند والمسند إليه في قوله : (اللهُ رَبِّي) المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصرا إضافيا بالنسبة لمخاطبه ، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله ، وما القصر إلا توكيد مضاعف ، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله : (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً).

وعطف جملة (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ) على جملة (أَكَفَرْتَ) عطف إنكار على إنكار. و (لو لا) للتوبيخ ، كشأنها إذا دخلت على الفعل الماضي ، نحو (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ

٦٩

شُهَداءَ) [النور : ١٣] ، أي كان الشأن أن تقول (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) عوض قولك : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف : ٣٦]. والمعنى : أكفرت بالله وكفرت نعمته.

و (ما) من قوله : (ما شاءَ اللهُ) أحسن ما قالوا فيها إنها موصولة ، وهي خبر عن مبتدأ محذوف يدل عليه ملابسة حال دخول الجنة ، أي هذه الجنة ما شاء الله ، أي الأمر الذي شاء الله إعطاءه إياي.

وأحسن منه عندي : أن تكون (ما) نكرة موصوفة. والتقدير : هذه شيء شاء الله ، أي لي.

وجملة (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) تعليل لكون تلك الجنة من مشيئة الله ، أي لا قوة لي على إنشائها ، أو لا قوة لمن أنشأها إلا بالله ، فإن القوى كلها موهبة من الله تعالى لا تؤثر إلا بإعانته بسلامة الأسباب والآلات المفكرة والصانعة. فما في جملة (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) من العموم جعلها كالعلة والدليل لكون تلك الجنة جزئيا من جزئيات منشئات القوى البشرية الموهوبة للناس بفضل الله.

(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (٤١).

جملة ابتدائية رجع بها إلى مجاوبة صاحبه عن قوله : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) [الكهف : ٣٤] ، وعظه فيها بأنه لا يدري أن تصير كثرة ماله إلى قلة أو إلى اضمحلال، وأن يصير القليل ماله ذا مال كثير.

وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا وهو كثير.

و (أنا) ضمير فصل ، فلذلك كان (أَقَلَ) منصوبا على أنه مفعول ثان ل (تَرَنِ) ولا اعتداد بالضمير. و (عسى) للرجاء ، وهو طلب الأمر القريب الحصول. ولعله أراد به الدعاء لنفسه وعلى صاحبه.

والحسبان : مصدر حسب كالغفران. وهو هنا صفة لموصوف محذوف ، أي هلاكا حسبانا ، أي مقدرا من الله ، كقوله تعالى : (عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦]. وقيل : الحسبان اسم جمع لسهام قصار يرمى بها في طلق واحد وليس له مفرد. وقيل : اسم جمع حسبانة وهي الصاعقة. وقيل : اسم للجراد. والمعاني الأربعة صالحة هنا ، والسماء : الجو

٧٠

المرتفع فوق الأرض.

والصعيد : وجه الأرض. وتقدم عند قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة:٦]. وفسروه هنا بذلك فيكون ذكره هنا توطئة لإجراء الصفة عليه وهي (زَلَقاً).

وفي «اللسان» عن الليث «يقال للحديقة ، إذا خربت وذهب شجراؤها : قد صارت صعيدا ، أي أرضا مستوية لا شجر فيها» ا ه. وهذا إذا صح أحسن هنا ، ويكون وصفه ب (زَلَقاً) مبالغة في انعدام النفع به بالمرة. لكني أظن أن الليث ابتكر هذا المعنى من هذه الآية وهو تفسير معنى الكلام وليس تبيينا لمدلول لفظ صعيد. ونظيره قوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف : ٨] في أول هذه السورة.

والزلق : مصدر زلقت الرجل ، إذا اضطربت وزلت على الأرض فلم تستقر. ووصف الأرض بذلك مبالغة ، أي ذات زلق ، أي هي مزلقة.

والغور : مصدر غار الماء ، إذا ساخ الماء في الأرض. ووصفه بالمصدر للمبالغة ، ولذلك فرع عليه (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً). وجاء بحرف توكيد النفي زيادة في التحقيق لهذا الرجاء الصادر مصدر الدعاء.

[٤٢ ، ٤٣] (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣))

كان صاحبه المؤمن رجلا صالحا فحقق الله رجاءه ، أو كان رجلا محدّثا من محدّثي هذه الأمة ، أو من محدّثي الأمم الماضية على الخلاف في المعنيّ بالرجلين في الآية ، ألهمه الله معرفة ما قدره في الغيب من عقاب في الدنيا للرجل الكافر المتجبر.

وإنما لم تعطف جملة (وَأُحِيطَ) بفاء التفريع على رجاء صاحبه المؤمن إذ لم يتعلق الغرض في هذا المقام بالإشارة إلى الرجل المؤمن ، وإنما المهم التنبيه على أن ذلك حادث حل بالكافر عقابا له على كفره ليعلم السامعون أن ذلك جزاء أمثاله وأن ليس بخصوصية لدعوة الرجل المؤمن.

والإحاطة : الأخذ من كل جانب ، مأخوذة من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم. وقد تقدمت في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) في سورة يوسف [٦٦] وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ

٧١

أَحاطَ بِالنَّاسِ) في سورة الإسراء [٦٠].

والمعنى : أتلف ماله كله بأن أرسل على الجنة والزرع حسبان من السماء فأصبحت صعيدا زلقا وهلكت أنعامه وسلبت أمواله ، أو خسف بها بزلزال أو نحوه.

وتقدم اختلاف القراء في لفظ (ثَمَرٌ) آنفا عند قوله تعالى : (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) [الكهف : ٣٤].

وتقليب الكفين : حركة يفعلها المتحسر ، وذلك أن يقلبهما إلى أعلى ثم إلى قبالته تحسرا على ما صرفه من المال في إحداث تلك الجنة. فهو كناية عن التحسر ، ومثله قولهم : قرع السن من ندم ، وقوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩].

والخاوية : الخالية ، أي وهي خالية من الشجر والزرع ، والعروش : السقف. و (على)للاستعلاء. وجملة (عَلى عُرُوشِها) في موضع الحال من ضمير (خاوِيَةٌ).

وهذا التركيب أرسله القرآن مثلا للخراب التام الذي هو سقوط سقوف البناء وجدرانه. وتقدم في قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) في سورة البقرة [٢٥٩] ، على أن الضمير مراد به جدران القرية بقرينة مقابلته بعروشها ، إذ القرية هي المنازل المركبة من جدران وسقف ، ثم جعل ذلك مثلا لكل هلاك تام لا تبقى معه بقية من الشيء الهالك.

وجملة (وَيَقُولُ) حكاية لتندمه على ما فرط منه حين لا ينفعه الندم بعد حلول العذاب.

والمضارع للدلالة على تكرر ذلك القول منه.

وحرف النداء مستعمل في التلهف. و (ليتني) تمن مراد به التندم. وأصل قولهم (يا ليتني) أنه تنزيل للكلمة منزلة من يعقل ، كأنه يخاطب كلمة (ليت) يقول : احضري فهذا أوانك ، ومثله قوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) سورة الزمر [٥٦].

وهذا ندم على الإشراك فيما مضى وهو يؤذن بأنه آمن بالله وحده حينئذ.

وقوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) موعظة وتنبيه على جزاء قوله :

٧٢

(وَأَعَزُّ نَفَراً) [الكهف : ٣٤].

والفئة : الجماعة. وجملة (يَنْصُرُونَهُ) صفة ، أي لم تكن له فئة هذه صفتها ، فإن فئته لم تغن عنه من عذاب الله.

وقوله : (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولا يكون له انتصار وتخلص من العذاب.

وقرأه الجمهور (وَلَمْ تَكُنْ) بمثناة فوقية اعتدادا بتأنيث (فِئَةٌ) في اللفظ. وقرأه حمزة والكسائي وخلف «يكن» بالياء التحتية. والوجهان جائزان في الفعل إذا رفع ما ليس بتحقيقي التأنيث.

وأحاط به هذا العقاب لا لمجرد الكفر ، لأن الله قد يمتع كافرين كثيرين طول حياتهم ويملي لهم ويستدرجهم. وإنما أحاط به هذا العقاب جزاء على طغيانه وجعله ثروته وماله وسيلة إلى احتقار المؤمن الفقير ، فإنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى التكذيب بوعد الله استحق عقاب الله بسلب تلك النعم عنه كما سلبت النعمة عن قارون حين قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨]. وبهذا كان هذا المثل موضع العبرة للمشركين الذين جعلوا النعمة وسيلة للترفع عن مجالس الدعوة لأنها تجمع قوما يرونهم أحط منهم وطلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طردهم عن مجلسه كما تقدم.

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

تذييل للجمل قبلها لما في هذه الجملة من العموم الحاصل من قصر الولاية على الله تعالى المقتضي تحقيق جملة (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : ٤٢] ، وجملة (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) [الكهف : ٤٣] ، وجملة (وَما كانَ مُنْتَصِراً) [الكهف : ٤٣] ، لأن الولاية من شأنها أن تبعث على نصر المولى وأن تطمع المولى في أن وليه ينصره. ولذلك لما رأى الكافر ما دهاه من جراء كفره التجأ إلى أن يقول : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : ٤٢] ، إذ علم أن الآلهة الأخرى لم تغن ولايتهم عنه شيئا ، كما قال أبو سفيان يوم أسلم «لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا». فاسم الإشارة مبتدأ و (الْوَلايَةُ لِلَّهِ) جملة خبر عن اسم الإشارة.

واسم إشارة المكان البعيد مستعار للإشارة إلى الحال العجيبة بتشبيه الحالة بالمكان لإحاطتها بصاحبها ، وتشبيه غرابتها بالبعد لندرة حصولها. والمعنى : أن في مثل تلك الحالة تقصر الولاية على الله. فالولاية : جنس معرف بلام الجنس يفيد أن هذا الجنس

٧٣

مختص باللام على نحو ما قرر في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢].

والولاية ـ بفتح الواو ـ مصدر ولي ، إذا ثبت له الولاء. وتقدمت عند قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) في سورة الأنفال [٧٢]. وقرأه حمزة والكسائي وخلف (الْوَلايَةُ) ـ بكسر الواو ـ وهي اسم للمصدر أو اسم بمعنى السلطان والملك.

و (الْحَقِ) قرأه الجمهور بالجر ، على أنه وصف لله تعالى ، كما وصف بذلك في قوله تعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) في سورة يونس [٣٠]. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (الْحَقِ) ـ بالرفع ـ صفة للولاية ، ف (الْحَقِ) بمعنى الصدق لأن ولاية غيره كذب وباطل.

قال حجة الإسلام : «والواجب بذاته هو الحق مطلقا ، إذ هو الذي يستبين بالعقل أنه موجود حقا ، فهو من حيث ذاته يسمى موجودا ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقا» ا ه.

وبهذا يظهر وجه وصفه هنا بالحق دون وصف آخر ، لأنه قد ظهر في مثل تلك الحال أن غير الله لا حقيقة له أو لا دوام له.

(وَخَيْرٌ) يجوز أن يكون بمعنى أخير ، فيكون التفضيل في الخيرية على ثواب غيره وعقب غيره ، فإن ما يأتي من ثواب من غيره ومن عقبى إما زائف مفض إلى ضر وإما زائل ، وثواب الله خالص دائم وكذلك عقباه.

ويجوز أن يكون (خَيْرٌ) اسما ضد الشر ، أي هو الذي ثوابه وعقبه خير وما سواه فهو شر.

والتمييز تمييز نسبة الخير إلى الله. و «العقب» بضمتين وبسكون القاف بمعنى العاقبة ، أي آخرة الأمر. وهي ما يرجوه المرء من سعيه وعمله.

وقرأ الجمهور (عُقْباً) بضمتين وبالتنوين. وقرأه عاصم وحمزة وخلف بإسكان القاف وبالتنوين.

فكان ما ناله ذلك المشرك الجبار من عطاء إنما ناله بمساع وأسباب ظاهرية ولم ينله بعناية من الله تعالى وكرامة فلم يكن خيرا وكانت عاقبته شرا عليه.

٧٤

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥))

كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكهم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها ، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١] ، وقال : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٤ ـ ١٥].

وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]. وما كان أحد الرجلين اللذين تقدمت قصتهما إلا واحدا من المشركين إذ قال : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف : ٣٦].

فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها.

والحياة الدنيا : تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها. فإطلاق اسم (الْحَياةِ الدُّنْيا) على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها ، فهي دنيا.

وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد ، أي حياة كل أحد. ووصفها ب (الدنيا)بمعنى القريبة ، أي الحاضرة غير المنتظرة ، كنى عن الحضور بالقرب ، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت.

والكاف في قوله : (كَماءٍ) في محل الحال من (الحياة) المضاف إليه (مثل). أي اضرب لهم مثلا لها حال أنها كماء أنزلناه.

وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها ، فهما مرادان منه. وضمير (لَهُمْ) عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ) ـ (وَعُرِضُوا) ـ (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [الكهف : ٤٧ ـ ٤٨].

واختلاط النبات : وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخصب والازدهار.

والباء في قوله : (به) باء السببية. والضمير عائد إلى (ماء) أي فاختلط النبات بسبب الماء ، أي اختلط بعض النبات ببعض. وليست الباء لتعدية فعل (فَاخْتَلَطَ) إلى المفعول

٧٥

لعدم وضوح المعنى عليه ، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق.

و (أصبح) مستعملة بمعنى صار ، وهو استعمال شائع.

والهشيم : اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول ، أي مهشوما محطما. والهشم : الكسر والتفتيت.

و (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تفرقه في الهواء. والذرو : الرمي في الهواء. شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زمانا بهجة خضرة ثم يصير نبتها بعد حين إلى اضمحلال. ووجه الشبه : المصير من حال حسن إلى حال سيّئ. وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تقلص بهجة الحياة ، وأيضا شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجدة وزخرف العيش لأهله ، ثم تقلص ذلك وزوال نفعه ثم انقراضه أشتاتا بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأته عنه ونضارته ووفرته ثم أخذه في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطايره أشتاتا في الهواء ، تشبيها لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت.

وجملة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) جملة معترضة في آخر الكلام. موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها ، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها ، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء ، وذلك اقتدار عجيب. وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) وهو بذلك العموم أشبه التذييل. والمقتدر: القوي القدرة.

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال ، كقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملا. والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب ، قال طرفة :

فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي

بنون كرام سادة لمسوّد

٧٦

و (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) صفتان جرتا على موصوف محذوف ، أي الأعمال الصالحات الباقيات ، أي التي لا زوال لها ، أي لا زوال لخيرها ، وهو ثوابها الخالد ، فهي خير من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية.

وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم (الصَّالِحاتُ) على (وَالْباقِياتُ) لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات ، لأنه قد شاع أن يقال : الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات ، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها ، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيرا في الكلام حتى صار لفظ (الصالحات) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير ، وذلك كثير في القرآن قال تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)[الكهف : ١٠٧]، وفي كلامهم قال جرير :

كيف الهجاء وما تنفك صالحة

من آل لأم بظهر الغيب تأتيني

ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا ، فقدم (الباقيات) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولا لأنه ليس بباق ، وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [الرعد : ٢٦] ، فكان هذا التقديم قاضيا لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره : أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : ٤٥] مفيدا للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن ، وكان قوله : (وَالْباقِياتُ) مفيدا زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاما مؤكدا موجزا.

ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم : ٧٦] فإنه وقع إثر قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم : ٧٣ ـ ٧٤] الآية.

وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطورا لأذهان الناس ، لأنه يرغب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضا قدم في بيت طرفة المذكور آنفا.

٧٧

ومعنى (وَخَيْرٌ أَمَلاً) أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد ، ويأمل شيئا تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧]. فلا جرم كان قوله : (وَخَيْرٌ أَمَلاً) بالتحقق والعموم تذييلا لما قبله.

[٤٧ ، ٤٨] (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨))

عطف على جملة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٥]. فلفظ (يوم) منصوب بفعل مضمر ، تقديره : اذكر ، كما هو متعارف في أمثاله. فبعد أن بين لهم تعرض ما هم فيه من نعيم إلى الزوال على وجه الموعظة ، أعقبه بالتذكير بما بعد ذلك الزوال بتصوير حال البعث وما يترقبهم فيه من العقاب على كفرهم به ، وذلك مقابلة لضده المذكور في قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) [الكهف : ٤٦].

ويجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف غير فعل (اذكر) يدل عليه مقام الوعيد مثل : يرون أمرا مفظعا أو عظيما أو نحو ذلك مما تذهب إلى تقديره نفس السامع. ويقدر المحذوف متأخرا عن الظرف وما اتصل به لقصد تهويل اليوم وما فيه.

ولا يجوز أن يكون الظرف متعلقا بفعل القول المقدر عند قوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) إذ لا يناسب موقع عطف هذه الجملة على التي قبلها ، ولا وجه معه لتقديم الظرف على عامله.

وتسيير الجبال : نقلها من مواضعها بزلزال أرضي عظيم ، وهو مثل قوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) [التكوير : ٣] وقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النّمل : ٨٨]. وقيل : أطلق التسيير على تناثر أجزائها. فالمراد : ويوم نسير كل جبل من الجبال ، فيكون كقوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] وقوله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ـ ٦] وقوله : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [النبأ : ٢٠]. والسبب واحد ، والكيفيتان متلازمتان ، وهو من أحوال

٧٨

انقراض نظام هذا العالم ، وإقبال عالم الحياة الخالدة والبعث.

وقرأ الجمهور (نُسَيِّرُ) بنون العظمة. وقرأ ابن كثير وابن عامر ، وأبو عمرو ويوم تسير الجبال بمثناة فوقية ببناء الفعل إلى المجهول ورفع (الْجِبالَ).

والخطاب في قوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) لغير معين. والمعنى : ويرى الرائي ، كقول طرفة :

ترى جثوتين من تراب عليهما

صفائح صمّ من صفيح منضد

وهو نظير قوله : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) [الكهف : ٤٩].

والبارزة : الظاهرة ، أي الظاهر سطحها ، إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من شجر ونبات أو حيوان ، كقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٤].

وجملة (وَحَشَرْناهُمْ) في موضع الحال من ضمير (تَسِيرُ) على قراءة من قرأ بنون العظمة ، أو من الفاعل المنوي الذي يقتضيه بناء الفعل للنائب على قراءة من قرأ (تَسِيرُ الْجِبالُ) بالبناء للنائب.

ويجوز أن نجعل جملة (وَحَشَرْناهُمْ) معطوفة على جملة (نُسَيِّرُ الْجِبالَ) على تأويله ب (نحشرهم) بأن أطلق الفعل الماضي على المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه.

والمغادرة : إبقاء شيء وتركه من تعلق فعل به ، وضمائر الغيبة في (حَشَرْناهُمْ) و (مِنْهُمْ) ـ (وَعُرِضُوا) عائدة إلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٥].

وعرض الشيء : إحضاره ليرى حاله وما يحتاجه. ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم. وفي الحديث «عرضت عليّ لأمم» وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم.

والصف : جماعة يقفون واحدا حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحدا. وأصله مصدر (صفهم) إذا أوقفهم ، أطلق على المصفوف. وانتصب (صَفًّا) على الحال من واو (عُرِضُوا). وتلك الحالة إيذان بأنهم أحضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعا للرعب في قلوبهم.

وجملة (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) معطوفة على جملة (وَحَشَرْناهُمْ) ، فهي في موضع

٧٩

الحال من الضمير المنصوب في (حَشَرْناهُمْ) ، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيها على سرعة عرضهم في حين حشرهم.

وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله : (عَلى رَبِّكَ) دون أن يقال (علينا) لتضمن الإضافة تنويها بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيبا من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث.

وجملة (لَقَدْ جِئْتُمُونا) مقول لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتعين تقدير القول ، وهذه الجملة في محل الحال. والتقدير : قائلين لهم لقد جئتمونا. وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى. والخطاب في قوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) موجه إلى معاد ضمير (عُرِضُوا).

والخبر في قوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث. والمجيء : مجاز في الحضور ، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب.

وقوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة ، أي جئتمونا مجيئا كخلقكم أول مرة. فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول ، أي فهذا خلق ثان. و (ما) مصدرية ، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى ، قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥]. والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث.

والإضراب في قوله : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار ؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازا وليس مستعملا في إفادة مدلوله الأصلي.

والزعم : الاعتقاد المخطئ ، أو الخبر المعرّض للكذب. والموعد أصله : وقت الوعد بشيء أو مكان الوعد. وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت.

والمعنى : أنكم اعتقدتم باطلا أن لا يكون لكم موعد للبعث بعدا لموت أبدا.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

٨٠