تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

وجوابه دليل على خبر (إن) المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه.

ومعنى (يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يرجعوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم ، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم.

والملة. الدين. وقد تقدم في سورة يوسف [٣٧] عند قوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنها يترتب عليها انتفاء فلاحهم في المستقبل ، لما دلت عليه حرف (إذا) من الجزائية.

و (أَبَداً) ظرف للمستقبل كله. وهو تأكيد لما دل عليه النفي ب (لن) من التأبيد أو ما يقاربه.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها).

انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرة أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم باطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطريقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره.

وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم ، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان.

فالكلام عطف على قوله : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) [الكهف : ١٩] الآية.

والقول في التشبيه والإشارة في (وَكَذلِكَ) نظير القول في الذي قبله آنفا.

والعثور على الشيء : الاطلاع عليه والظفر به بعد الطلب. وقد كان الحديث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) الآية.

ومفعول (أَعْثَرْنا) محذوف دل عليه عموم (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف:

٤١

٢٠]. تقديره : أعثرنا أهل المدينة عليهم.

وضمير (لِيَعْلَمُوا) عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور.

ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث. وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها ، أي ساعة الحشر ، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية ، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق.

(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)

الظرف متعلق ب (أَعْثَرْنا) ، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم. وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم. وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى : (أَمْرَهُمْ) فضمير (يَتَنازَعُونَ) و (بَيْنَهُمْ) عائدان إلى ما عاد الله ضمير (لِيَعْلَمُوا).

وضمير (أَمْرَهُمْ) يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف. والأمر هنا بمعنى الشأن.

والتنازع : الجدال القوي ، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف ، مثل : أكانوا نياما أم أمواتا ، وأ يبقون أحياء أم يموتون ، وأ يبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة ، وفي مدة مكثهم.

ويجوز أن يكون ضمير (أَمْرَهُمْ) عائدا إلى ما عاد عليه ضمير (يَتَنازَعُونَ) ، أي شأنهم فيما يفعلونه بهم.

والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع.

(فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)

طوي هنا وصف العثور عليهم ، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره ، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي.

وتفريع (فَقالُوا) على (يَتَنازَعُونَ).

٤٢

وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنيانا لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين ، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب ، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناء يمكن غلق بابه وحراسته.

وجملة (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا ، ابنوا عليهم بنيانا. والمعنى : ربهم أعلم بشئونهم التي تنازعنا فيها ، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم. ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم ، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه.

والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة ، فضمير (أَمْرَهُمْ) يعود إلى ما عاد إليه ضمير (فَقالُوا) ، أي الذين غلبوا على أمر القائلين : ابنوا عليهم بنيانا.

وإنما رأوا أن يكون البناء مسجدا ليكون إكراما لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم. وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى ، ونهى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ : «ولو لا ذلك لأبرز قبره» ، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة.

واتخاذ المساجد على القبور ، والصلاة فيها منهي عنه ، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيه بفعل من يعبدون صالحي ملتهم. وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم ، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميّت. وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية ، فإن كان شرعا لهم فقد نسخه الإسلام ، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢))

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ).

لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي ، فكانت

٤٣

مثار تخرصات في معرفة عددهم ، وحصر مدة مكثهم في كهفهم ، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصا ، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة ، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس ، ودل علم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك.

وضمير «يقولون» عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام ، أي يقول الناس أو المسلمون ، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نبّهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه. ومعنى سين الاستقبال سار إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين ، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر.

وقد أعلم الله أن قليلا من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك. وفي مقدمتهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم. وروي أن ابن عباس قال : أنا من القليل.

وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية تيمنا بعدد المفرد ، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره ، وقد سمى الله قولهم ذلك رجما بالغيب.

والرجم حقيقته : الرمي بحجر ونحوه. واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت ، قال زهير :

وما هو عنها بالحديث المرجم

والباء في (بِالْغَيْبِ) للتعدية ، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به.

وكل من جملة (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) وجملة (سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها ، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف.

وجملة (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) الواو فيها واو الحال ، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف ، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ ، وهو وإن كان نكرة فإن وقوعه خبرا عن معرفة أكسبه تعريفا. على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة. ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في «الكشاف» لأنه غير معروف في فصيح الكلام : وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد.

٤٤

ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم : إن هذه الواو واو الثمانية ، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعفة النحاة ولم يعين مبتكره. وقد عد ابن هشام في «مغني اللبيب» من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين.

قلت : أقدم هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة ٣٧٠ فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة. وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في «الانتصاف على الكشاف» من سورة التحريم إذ روى عن ابن الحاجب : أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) في سورة التحريم [٥] هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية. وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة ، أحدها : التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في سورة براءة [١١٢]. والثانية : في قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). والثالثة : في قوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) في الزمر [٧٣]. قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري ؛ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره.

وقال في «المغني» : سبق الثعلبي الفاضل إلى عدها من المواضع في تفسيره. وأقول : لعل الفاضل لم يطلع عليه. وزاد الثعلبي قوله تعالى : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) في سورة الحاقة [٧] حيث قرن اسم عدد (ثمانية) بحرف الواو.

ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاق بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظه كما هنا وآية الحاقة ، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم ، وإما بكون مسماه معدودا بعدد الثمانية كما في آية الزمر. ولقد يعدّ الانتباه إلى ذلك من اللطائف ، ولا يبلغ أن يكون من المعارف. وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضل منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة في صفات الموصوفين ، وكذلك لعد الثعلبي آية سورة الحاقة ؛ ومثل هذه اللطائف كالزهرة تشم ولا تحك.

وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في سورة براءة [١١٢].

٤٥

وجملة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لما تثيره جملة (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم. فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب. وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه.

وجملة (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) كذلك مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا : هل يكون بعض الناس عالما بعدتهم علما غير كامل ، فأجيب بأن قليلا من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كلّ حال فهم لا يوصفون بالأعلمية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك.

(فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)

تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف ، أي إذ أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى. وهذا التفريع وما عطف عليه معترض في أثناء القصة.

والتماري : تفاعل مشتق من المرية ، وهي الشك. واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك ، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه ، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز ، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة. والمراد بالمراء فيهم : المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع.

والمراء الظاهر : هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه. وذلك مثل قوله: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) وقوله : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنكاره وإبايته لوضوح حجّته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه.

والاستفتاء : طلب الفتوى ، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد. ومعنى (فِيهِمْ) أي في أمرهم ، أي أمر أهل الكهف. والمراد من النهي عن استفتائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف ، فضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) ،

٤٦

وهم أهل مكة الذين سألوا عن أمر أهل الكهف.

أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد ، وأنه لا يعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف ، وتكون (من) تعليلية ، والضمير المجرور بها عائدا إلى السائلين المتعنتين ، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه ، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه. وفي التقييد ب (مِنْهُمْ) محترز ولا يستقيم جعل ضمير (مِنْهُمْ) عائدا إلى أهل الكتاب ، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين.

[٢٣ ، ٢٤] (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

عطف على الاعتراض. ومناسبة موقعه هنا ما رواه ابن إسحاق والطبري في أول هذه السورة والواحدي في سورة مريم : أن المشركين لما سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يقل «إن شاء الله» ، فلم يأته جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالجواب إلا بعد خمسة عشر يوما. وقيل : بعد ثلاثة أيام كما تقدم ، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتابا رمزيا من الله لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما عاتب سليمان ـ عليه‌السلام – فيما رواه البخاري : «أن سليمان قال : لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة ولدا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شقّ غلام». ثم كان هذا عتابا صريحا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول : «إن شاء الله» كما نسي سليمان ، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف ، ثم نهاه عن أن يعد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله. وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين ، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي ، أي هو استثناء من حكم النهي ، أي لا تقولن : إني فاعل إلخ ... إلا أن يشاء الله أن تقوله. ومشيئة الله تعلم من إذنه بذلك ، فصار المعنى : إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله. وعليه فالمصدر المسبك من (أَنْ يَشاءَ اللهُ) مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى ، ومفعول (يَشاءَ اللهُ)

٤٧

محذوف دل عليه ما قبله كما هو شأن فعل المشيئة والتقدير : إلا قولا شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله.

ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) ، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنهي عنه ، أي إلا قولا مقترنا ب (إن شاء الله) فيكون المصدر المنسبك من (أن) والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة. والتقدير : إلا ب (إن يشاء الله) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله ، لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال ، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ (إن شاء الله) ونحوه ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له.

وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ثلاث جهات :

الأولى : أنه أجاب سؤله ، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.

الثانية : أنه علمه علما عظيما من أدب النبوءة.

الثالثة : أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسا لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه ، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله ، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم. ومثاله ما في الصحيح : أن حكيم بن حزام قال : «سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم : يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزا أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا». فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سؤله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل ، فلذلك أقسم حكيم : أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئا ، ولم يقل : لا أسألك بعد هذه المرة شيئا.

فنظم الآية أن اللام في قوله : (لِشَيْءٍ) ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة ، أي لا تقولن : إني فاعل كذا لأجل شيء تعد به ، فاللام بمنزلة (في).

و «شيء» اسم متوغل في التنكير يفسره المقام ، أي لشيء تريد أن تفعله.

٤٨

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) عائدة إلى «شيء». أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه.

و (غَداً) مستعمل في المستقبل مجازا. وليست كلمة (غدا) مرادا بها اليوم الذي يلي يومه ، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل ، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال ، والأمس بمعنى زمن الماضي. وقد جمعها قول زهير :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاء مثل الأيمان ، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها ، فقال جمهورهم : يكون ذكر (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) حلا لعقد اليمين يسقط وجوب الكفارة. ولعلهم أخذوه من معنى (شيء) في قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) إلخ : بحيث إذا أعقبت اليمين بقول (إلا أن يشاء الله) ونحوه لم يلزم البر في اليمين. وروى ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك أن قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ) إلخ .. إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء. يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنّة. ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين ، وهي قول (إن شاء الله). وهذا قول أبي حنيفة والشافعي.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ)

عطف على النهي ، أي لا تعد بوعد فإن نسيت فقلت : إني فاعل ، فاذكر ربك ، أي اذكر ما نهاك عنه. والمراد بالذكر التدارك وهو هنا مشتق من الذكر ـ بضم الذال ـ ، وهو كناية عن لازم التذكر ، وهو الامتثال ، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ : «أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه».

وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافا إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العلم من كمال الملاطفة ما لا يخفى.

وحذف مفعول (نَسِيتَ) لظهوره من المقام ، أي إذا نسيت النهي فقلت : إني فاعل. وبعض الذين أعملوا آية (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ترخيصا في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك ، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة. وعن ابن عباس : لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا.

٤٩

والجمهور على أن قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا ، واستدلوا بأن السنّة وردت بخلافه.

(وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)

لما أبر الله وعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليه ، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله ، وأمره أن يذكر نهي ربه. ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذنه الله به ، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بعث للاشتغال بمثل ذلك ، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة ، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم. والمعنى : وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا.

فجملة (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ) إلخ ... معطوفة على جملة (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) [الكهف : ٢٢]. ويجوز أن تكون جملة (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) عطفا على جملة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك : عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ، أي ادع الله بهذا.

وانتصب (رَشَداً) على تمييز نسبة التفضيل من قوله : (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا). ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل (أَنْ يَهْدِيَنِ) لأن الرشد نوع من الهداية.

ف (عَسى) مستعملة في الرجاء تأدبا ، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضا في أثنائها.

ويجوز أن يكون المعنى : وارج من الله أن يهديك فيذكرك أن لا تعد وعدا ببيان شيء دون إذن الله.

والرّشد ـ بفتحتين ـ : الهدى والخير. وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السورة (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) [الكهف : ١٠].

٥٠

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥))

رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) إلى قوله : (رَشَداً) [الكهف : ٢٢ ـ ٢٤].

فيجوز أن تكون جملة (وَلَبِثُوا) عطفا على مقولهم في قوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ). [الكهف : ٢٢] أي ويقولون : لبثوا في كهفهم ، ليكون موقع قوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) [الكهف : ٢٦] كموقع قوله السابق (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) [الكهف : ٢٢] ، وعليه فلا يكون هذا إخبارا عن مدة لبثهم. وعن ابن مسعود أنه قرأ وقالوا لبثوا في كهفهم إلى آخره ، فذلك تفسير لهذا العطف.

ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها. والتقدير : وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره ، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين.

وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) [الكهف : ٢٦] كما سيأتي. ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم ، وأن المراد لبثهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) [الكهف : ١٩] ، وقد قدمنا عند قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) [الكهف : ٩] إلخ ... أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة. وقيل : المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية.

والمعنى : أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين. فعبّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع ، ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم. قال السهيلي في «الروض الأنف» : النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به. وأقول : واليهود الذين لقّنوا قريشا السؤال عنهم يؤرّخون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية ، فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسية ، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسية بثلاث سنين زائدة قمرية. كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر. وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد. وهذا من علم القرآن

٥١

وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به.

وقرأ الجمهور (ثَلاثَ مِائَةٍ) بالتنوين. وانتصب (سِنِينَ) على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوبا ، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك.

وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة. وقد جاء تمييز المائة جمعا ، وهو نادر لكنه فصيح.

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

إن كان قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) [الكهف : ٢٥] إخبارا من الله عن مدة لبثهم يكون قوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) قطعا للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب ، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم.

وإن كان قوله : (وَلَبِثُوا) حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) تفويضا إلى الله في علم ذلك كقوله : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) [الكهف : ٢٢].

وغيب السماوات والأرض ما غاب علمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم. واللام في (لَهُ) للملك. وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص ، أي لله لا لغيره ، ردا على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم.

و (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات ، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد.

وضمير الجمع في قوله : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم. وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول (من) الزائدة على النكرة المنفية.

وكذلك قوله : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه.

وقرأ الجمهور (وَلا يُشْرِكُ) برفع (يُشْرِكُ) وبياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ). وقرأه ابن عامر ـ بتاء الخطاب وجزم و (يُشْرِكُ) ـ

٥٢

على أن (لا) ناهية. والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراد به أمته ، أو الخطاب لكل من يتلقاه.

وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها ، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))

عطف على جملة (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) [الكهف : ٢٦] بما فيها من قوله : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف : ٢٦].

والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ كانوا أيامئذ لا يبيّن لهم شيء إلا وانتقلوا إلى طلب شيء آخر فسألوا عن أهل الكهف وعن ذي القرنين ، وطلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل بعض القرآن للثناء عليهم ، ونحو ذلك ، كما تقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) في سورة الإسراء [٧٣].

والمعنى : لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض ما أوحي إليك واتل جميع ما أوحي إليك فإنه لا مبدّل له. فلما وعدهم الجواب عن الروح وعن أهل الكهف وأبرّ الله وعده إياهم قطعا لمعذرتهم ببيان إحدى المسألتين ذيل ذلك بأن أمر نبيئه أن يقرأ القرآن كما أنزل عليه وأنه لا مبدّل لكلمات الله ، ولكي لا يطمعهم الإجابة عن بعض ما سألوه بالطمع في أن يجيبهم عن كل ما طلبوه.

وأصل النفي ب (لا) النافية للجنس أنه نفي وجود اسمه. والمراد هنا نفي الإذن في أن يبدل أحد كلمات الله.

والتبديل : التغيير بالزيادة والنقص ، أي بإخفاء بعضه بترك تلاوة ما لا يرضون بسماعه من إبطال شركهم وضلالهم. وهذا يؤذن بأنهم طعنوا في بعض ما اشتملت عليهم القصة في القرآن كما أشار إليه قوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) [الكهف : ٢٢] وقوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) [الكهف : ٢٥].

وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) في سورة الأنعام [٣٤].

فالأمر في قوله : (وَاتْلُ) كناية عن الاستمرار. و (ما أُوحِيَ) مفيد للعموم ، أي كل

٥٣

ما أوحي إليك. ومفهوم الموصول أن ما لم يوح إليه لا يتلوه ، وهو ما اقترحوا أن يقوله في الثناء عليهم وإعطائهم شطرا من التصويب.

والتلاوة : القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في سورة البقرة [١٠٢] وقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) في الأنفال [٢].

والملتحد : اسم مكان ميمي يجيء على زنة اسم المفعول من فعله. والملتحد : مكان الالتحاد ، والالتحاد : الميل إلى جانب. وجاء بصيغة الافتعال لأن أصله تكلف الميل.

ويفهم من صيغة التكلف أنه مفر من مكروه يتكلف الخائف أن يأوي إليه ، فلذلك كان الملتحد بمعنى الملجأ. والمعنى : لن تجد شيئا ينجيك من عقابه. والمقصود من هذا تأييسهم مما طمعوا فيه.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨))

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف ، فهو مشارك لقوله : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ) [الكهف : ٢٧]. الآية وتقدم في سورة الأنعام [٥٢] عند قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لو لا أن من المؤمنين ناسا أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتوا إلى مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمعوا القرآن ، فاقترحوا عليه أن يطردهم من حوله إذا غشية سادة قريش ، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة.

وما هنا آكد إذ أمره بملازمتهم بقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ، أي احبسها معهم حبس ملازمة. والصبر : الشد بالمكان بحيث لا يفارقه. ومنه سميت المصبورة وهي الدابة تشد لتجعل غرضا للرمي. ولتضمين فعل (اصبر) معنى الملازمة علق به ظرف (مع).

٥٤

والغداة قرأه الجمهور ـ بألف بعد الدال ـ : اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس. والعشي : المساء. والمقصود أنهم يدعون الله دعاء متخللا سائر اليوم والليلة. والدعاء : المناجاة والطلب. والمراد به ما يشمل الصلوات.

والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم ، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة. وقرأ ابن عامر بالغداة ـ بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة ـ وهو مرادف الغداة.

وجملة (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) في موضع الحال. ووجه الله : مجاز في إقباله على العبد.

ثم أكّد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم.

وظاهر (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) نهي العينين عن أن تعدوا عن الذين يدعون ربهم ، أي أن تجاوزاهم ، أي تبعدا عنهم. والمقصود : الإعراض ، ولذلك ضمن فعل العدو معنى الإعراض ، فعدي إلى المفعول ب (عن) وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال : عداه ، إذا جاوزه. ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما ، فيؤول إلى معنى : ولا تعدّي عينيك عنهم. وهو إيجاز بديع.

وجملة (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من كاف الخطاب ، لأن المضاف جزء من المضاف إليه ، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت.

وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة.

(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)

هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما صدق (من) كل من اتصف بالصلة ، وقيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة

٥٥

قريش.

والمراد بإغفال القلب جعله غافلا عن الفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك ، فإن ذلك ناشئ عن خلقة عقول ضيفة التبصر مسوقة بالهوى والإلف.

وأصل الإغفال : إيجاد الغفلة ، وهي الذهول عن تذكر الشيء ، وأريد بها هنا غفلة خاصة ، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خلقة تلك القلوب ، وما بالطبع لا يتخلف.

وقد اعتضد هذا المعنى بجملة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) ، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول ، فالغفلة خلقة في قلوبهم ، واتباع الهوى كسب من قدرتهم.

والفرط ـ بضمتين ـ : الظلم والاعتداء. وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأن الظلم سبق في الشر.

والأمر : الشأن والحال.

وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم ، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))

بعد أن أمر الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فيه نقض ما يفتلونه من مقترحاتهم وتعريض بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله ، وأنه مبلغه بدون هوادة ، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض ، ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به ، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم ، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بعض ما أوحى إليه.

و (الْحَقُ) خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام ، أي هذا الحق. والتعبير ب (رَبِّكُمْ) للتذكير بوجوب توحيده.

والأمر في قوله : (فَلْيُؤْمِنْ) وقوله : (فَلْيَكْفُرْ) للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد.

٥٦

وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه.

وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى (من) الموصولة في الموضعين.

وفعل «يؤمن ، ويكفر» مستعملان للمستقبل ، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه.

وجملة (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل : فما ذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر ، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم.

والمراد بالظالمين : المشركون قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

وتنوين (ناراً) للتهويل والتعظيم.

والسرادق ـ بضم السين ـ قيل : هو الفسطاط ، أي الخيمة. وقيل : السرادق : الحجزة ـ بضم الحاء وسكون الزاي ـ ، أي الحاجز الذي يكون محيطا بالخيمة يمنع الوصول إليها ، فقد يكون من جنس الفسطاط أديما أو ثوبا وقد يكون غير ذلك كالخندق. وهو كلمة معربة من الفارسية. أصلها (سراطاق) قالوا : ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان. والسرادق : هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار ، وأثبت لها سرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم ، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف ، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية.

والاستغاثة : طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم. وشمل (يَسْتَغِيثُوا) الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئا يبرد عليهم ، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلا ، كما في آية الأعراف (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠]. والاستغاثة من شدة العطش الناشئ عن الحر فيسألون الشراب. وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله : (يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ).

والإغاثة : مستعارة للزيادة مما استغيث من أجله على سبيل التهكم ، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

والمهل ـ بضم الميم ـ له معان كثيرة أشبهها هنا أنه دردي الزيت فإنه يزيدها التهابا

٥٧

قال تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٨].

والتشبيه في سواد اللون وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة ، ولذلك عقب بقوله : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) وهو استئناف ابتدائي.

والوجه أشد الأعضاء تألما من حر النار قال تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [المؤمنون : ١٠٤].

وجملة (بِئْسَ الشَّرابُ) مستأنفة ابتدائية أيضا لتشنيع ذلك الماء مشروبا كما شنع مغتسلا. وفي عكسه الماء الممدوح في قوله تعالى : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) [ص : ٤٢].

والمخصوص بذم (بِئْسَ) محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير : بئس الشراب ذلك الماء.

وجملة (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) معطوفة على جملة (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ، فهي مستأنفة أيضا لإنشاء ذم تلك النار بما فيها.

والمرتفق : محل الارتفاق ، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المرفق وهو مجمع العضد والذراع. سمي مرفقا لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكئ عليه. فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد ، ثم اشتق منه المرتفق. فالمرتفق هو المتكأ ، وتقدم في سورة يوسف.

وشأن المرتفق أن يكون مكان استراحة ، فإطلاق ذلك على النار تهكم ، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة ، وكما أطلق لى مكانهم السرادق.

وفعل (ساء) يستعمل استعمال (بئس) فيعمل عمل (بئس) ، فقوله : (مُرْتَفَقاً) تمييز. والمخصوص بالذم محذوف كما تقدم في قوله : (بِئْسَ الشَّرابُ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠))

جملة مستأنفة استئنافا بيانيا مراعى فيه حال السامعين من المؤمنين ، فإنهم حين يسمعون ما أعد للمشركين تتشوف نفوسهم إلى معرفة ما أعد للذين آمنوا ونبذوا الشرك فأعلموا أن عملهم مرعي عند ربهم. وجريا على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد

٥٨

والترهيب بالترغيب.

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد (إن) لتحقيق مضمونها. وإعادة حرف (إن) في الجملة المخبر بها عن المبتدأ الواقع في الجملة الأولى لمزيد العناية والتحقيق كقوله تعالى في سورة الحج [١٧](إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] ومثله قول جرير :

إن الخليفة إن الله سربله

سربال ملك به تزجى الخواتيم

وموقع (إن) الثانية في هذه الآية أبلغ منه في بيت جرير لأن الجملة التي وقعت فيها في هذه الآية لها استقلال بمضمونها من حيث هي مفيدة حكما يعم ما وقعت خبرا عنه وغيره من كل من يماثل الخبر عنهم في عملهم ، فذلك العموم في ذاته حكم جدير بالتأكيد لتحقيق حصوله لأربابه بخلاف بيت جرير.

وأما آية سورة الحج فقد اقتضى طول الفصل حرف التأكيد حرصا على إفادة التأكيد.

والإضاعة : جعل الشيء ضائعا. وحقيقة الضيعة : تلف الشيء من مظنة وجوده. وتطلق مجازا على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف ، قال تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) في سورة آل عمران [١٩٥] ، وقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) في البقرة [١٤٣]. ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيها للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية ، أي أنا لا نحرم من أحسن عملا أجر عمله. ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة : ١٢٠].

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما يبين هذا الأجر.

وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة ، وهي كونهم آمنوا وعملوا

٥٩

الصالحات.

واللام في (لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) لام الملك. و (من) للابتداء ، جعلت جهة تحتهم منشأ لجري الأنهار. وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في سورة براءة [٧٢].

و (عَدْنٍ) تقدم في قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) في سورة براءة [٧٢].

و (مِنْ تَحْتِهِمُ) ، بمنزلة من تحتها لأنّ تحت جناتهم هو تحت لهم.

ووجه إيثار إضافة (تحت) إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك ، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقررات لمضمونه ، وهي : التأكيد مرتين ، وذكر اسم الإشارة. ولام الملك ، وجر اسم الجهة ب (من) ، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم ، والمقصود من ذلك : التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتمّ تقرر.

وجملة (يُحَلَّوْنَ) في موضع الصفة «لجنات عدن».

والتحلية : التزيين ، والحلية : الزينة.

وأسند الفعل إلى المجهول ، لأنهم يجدون أنفسهم محلّين بتكوين الله تعالى.

والأساور : جمع سوار على غير قياس. وقيل : أصله جمع أسورة الذي هو جمع سوار. فصيغة جمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها ، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت.

و (من) في قوله : (مِنْ أَساوِرَ) مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش ، وسيأتي وجهه في سورة الحج. ويجوز أن تكون للابتداء ، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات.

والسوار : حلي من ذهب أو فضة يحيط بموضع من الذراع ، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية (دستواره) بهاء في آخره كما في «كتاب الراغب» ، وكتب بدون هاء في «تاج العروس».

وأما قوله : (مِنْ ذَهَبٍ) فإن (من) فيه للبيان ، وفي الكلام اكتفاء ، أي من ذهب وفضة كما اكتفي في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله : (وَحُلُّوا أَساوِرَ

٦٠