تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البلى كرامة لهم.

وقد عرف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا على رقيمهم ، ولذلك اختلفوا في شأنهم ، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها.

ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف. وقد ذكر ابن عطية ملخصا في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقصّاص.

والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له (أبسس) ـ بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة ـ وكان بلدا من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية.

وليست هي (أفسس) ـ بالفاء أخت القاف ـ المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بولس رسالته المشهورة. وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين. وهي قريبة من (مرعش) من بلاد أرمينية ، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات ، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين ، فكان من أهل (أبسس) نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام. وكانوا في زمن الإنبراطور (دوقيوس) ويقال (دقيانوس) الذي ملك في حدود سنة ٢٣٧. وكان ملكه سنة واحدة. وكان متعصبا للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانيّة ، فأظهروا كراهية الديانة الرومانية. وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب ، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له (بنجلوس) فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله. ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومة فظنهم أتباع الملك أمواتا. وقد قيل : إنه أمر أن تسد فوهة كهفهم بحائط ، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم. ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد ، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة ، وكان انبعاثهم في مدة ملك (ثاوذوسيوس) فيصر الصغير ، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة.

ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم

٢١

وأرسلوا أحدهم إلى المدينة ، وهي (أبسس) ، بدراهم ليشتري لهم طعاما. فعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال. وتسامع أهل المدينة بأمرهم ، فخرج قيصر الصغير مع أساقفة وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم ، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم ، وكانت آية تأيّد بها دين المسيح.

والذي في «كتاب الطبري» أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة (أريوس) و (أطيوس) ومن معهما من أهل المدينة ، وقيل لما شاهدهم الناس كتب واليا المدينة إلى ملك الروم ، فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد. ولم يذكروا هل نفّذ بناء المسجد أو لم ينفذ. ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك. ولعله قد انهدم بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه ، وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين في أقطار الأرض كثيرة. وفي جنوب القطر التونسي موضع يدعى أنه الكهف. وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقادا بأن أهل الكهف كانوا سبعة. وستعلم مثار هذه التوهمات.

وفي «تفسير الألوسي» عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزو المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف. فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس : ليس ذلك لك ، قد منع الله ذلك من هو خير منك ، فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) [الكهف : ١٨] فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال : اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا ، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم. وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة : أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام. فقال رجل : هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.

وفي «تفسير الفخر» عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم : «أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف ، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه ، قال : وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم ، قال : فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم ، قال : وعرفت أنه تمويه واحتيال ، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره» ا ه.

٢٢

وقوله : (فسافر إلى الروم) مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة (أفسوس) ـ بالفاء أخت القاف ـ وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفا ، فإن بلد (أفسس) في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية ، ولذلك قال بعض المؤرخين : إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق ، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه ، أما مدينة (أبسس) ـ بالباء الموحدة ـ فقد كانت حينئذ من جملة مملكة الإسلام.

قال ابن عطية : «وبالأندلس في جهة (أغرناطة) بقرب قرية تسمى (لوشة) كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة ، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة ، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق (كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة) وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة ، وبأعلى حضرة (أغرناطة) مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة (دقيوس) وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها» ا ه.

وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق ، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض.

وللكهوف ذكر شائع في اللوذ إليها والدفن بها.

وقد كان المتنصرون يضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك ، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها. ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك ، وكانوا كثيرا ما يستصحبون معهم كلبا ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها. وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف.

غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف ، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية ، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف. ويوجد مكان بأرض سكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من

٢٣

اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.

ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبرا عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته ، وبني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم.

قال السهيلي في «الروض الأنف» : وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به ا ه. وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) في سورة الإسراء [٨٥].

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠))

(إذ) ظرف مضاف إلى الجملة بعده ، وهو متعلق ب (كانُوا) [الكهف : ٩] فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها.

ويجوز كون الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره : اذكر ، فتكون مستأنفة استئنافا بيانيا للجملة التي قبلها. وأيا ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء ، تنبيها على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله ، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييدا لهم لأجل إيمانهم ، فلذلك عطف عليه قوله : (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً).

وأوى أويا إلى المكان : جعله مسكنا له ، فالمكان : المأوى. وقد تقدم عند قوله تعالى : (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) في سورة يونس [٨].

والفتية : جمع قلة لفتى ، وهو الشاب المكتمل. وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف. والمراد بالفتية : أصحاب الكهف. وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إذ أووا ، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أترابا متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي ، وثبات الجأش ، والدفاع عن الحق ، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل : إذ أووا إلى الكهف.

ودلت الفاء في جملة (فَقالُوا) على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله.

٢٤

ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه ، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة ، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به ، فزيادة (مِنْ لَدُنْكَ) للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك ، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه ، فذلك أبلغ مما لو قالوا : آتنا رحمة ، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله ، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها ، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة ، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما ، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.

ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء.

و (من) في قوله : (مِنْ أَمْرِنا) ابتدائية.

والأمر هنا : الشأن والحال الذي يكونون فيه ، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم ، وأن ألهمهم موضع الكهف ، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة ، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة ، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورا متبعا ، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.

والرّشد ـ بفتحتين ـ : الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح ، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني. والرشد ـ بضم الراء وسكون الشين ـ مرادف الرّشد. وغلب في حسن تدبير المال. لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا ـ بفتح الراء ـ بخلاف قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) في البقرة [٢٥٦] ، وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) في سورة النساء [٦] فلم يقرأ فيهما إلا ـ بضم الراء ـ.

ووجه إيثار ـ مفتوح الراء والشين ـ في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) [الكهف : ٢٤] : أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل ؛ ألا ترى أن الجمهور قرءوا قوله في هذه السورة : (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف : ٦٦] ـ بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي (مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ـ (مَعِيَ صَبْراً)

٢٥

[الكهف : ٦٧] ـ (ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨] ـ (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [الكهف : ٦٩] إلى آخره. ولم يقرأه هنالك ـ بفتح الراء والشين ـ إلا أبو عمرو ويعقوب.

[١١ ، ١٢] (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

تفريع هذه الجملة ـ بالفاء ـ إما على جملة دعائهم ، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم ، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم. بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم ، وأيد بذلك أنهم على الحق ، وأرى الناس ذلك بعد زمن طويل.

وإما على جملة (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ) [الكهف : ١٠] إلخ فيؤذن بأن الله عجل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم.

والضرب : هنا بمعنى الوضع ، كما يقال : ضرب عليه حجابا ، ومنه قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١] ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦].

وحذف مفعول (فَضَرَبْنا) لظهوره ، أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائلا عن السمع ، كما يقال : بنى على امرأته ، تقديره : بنى بيتا. والضرب على الآذان كناية عن الإنامة لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع ، لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم ، بخلاف البصر الصحيح فقد يحجب بتغميض الأجفان.

وهذه الكناية من خصائص القرآن لم تكن معروفة قبل هذه الآية وهي من الإعجاز.

و (عَدَداً) نعت (سِنِينَ). والعدد : مستعمل في الكثرة ، أي سنين ذات عدد كثير.

ونظيره ما في حديث بدء الوحي من قول عائشة : فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد» تريد الكثيرة. وقد أجمل العدد هنا تبعا لإجمال القصة.

والبعث : هنا الإيقاظ ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع. كما يبعث البعير من مبركه. وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلا على إمكان البعث وكيفيته.

والحزب : الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد ، فالحزبان فريقان : أحدهما مصيب والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم. فقيل : هما فريقان من أهل

٢٦

الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) [الكهف: ١٩]. وفي هذا بعد من لفظ حزب إذ كان القائل واحدا والآخرون شاكين ، وبعيد أيضا من فعل (أَحْصى) لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم بل خالوها زمنا قليلا. فالوجه : أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم ، أحد الفريقين مصيب والآخر مخطئ ، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ ، فهما فريقان في جانبي صواب وخطأ كما دل عليه قوله : (أَحْصى).

ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) الآية [الكهف : ١٩].

وجعل حصول علم الله بحال الحزبين علة لبعثه إياهم كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم علم الواقعات ، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه تنجيزي وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام.

وقد تقدم عند قوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في أول السورة الكهف [٧].

و (أَحْصى) يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ، أن يكون اسم تفضيل مصوغا من الرباعي على خلاف القياس. واختار الزمخشري في «الكشاف» تبعا لأبي علي الفارسي الأول تجنبا لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته. واختار الزجاج الثاني. ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياسا فهو كثير في الكلام الفصيح وفي القرآن.

فالوجه ، أن (أَحْصى) اسم تفضيل ، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة. والمعنى : لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاء ، أي عدا بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ويكون ما عداه تقريبا ورجما بالغيب. وذلك هو ما فصله قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) [الكهف : ٢٢] الآية.

ف (أي) اسم استفهام مبتدا وهو معلق لفعل (لِنَعْلَمَ) عن العمل ، (وَأَحْصى) خبر عن (أي) و (أَمَداً) تمييز لاسم التفصيل تمييز نسبة ، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) [الكهف : ٣٤]. ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولا عن الفاعل لأنه لا يستقيم أن تقول : أفضل أمده ، إذ التحويل أمر تقديري

٢٧

يقصد منه التقريب.

والمعنى : ليظهر اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال خرصهم وتخمينهم إذا تصدوا لها ، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث وتاريخها ، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة.

[١٣ ، ١٤] (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤))

لما اقتضى قوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجما بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم ، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يشك في صدق خبره كانت جملة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) استئنافا بيانيا لجملة (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢].

وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها. وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) يفيد الاختصاص ، أي نحن لا غيرنا يقص قصصهم بالحق.

والحق : هنا الصدق. والصدق من أنواع الحق ، ومنه قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) في سورة الأعراف [١٠٥].

والباء للملابسة ، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات.

والقصص : سرد خبر طويل فالإخبار بمخاطبة مفرقة ليس بقصص ، وتقدم في طالع سورة يوسف.

والنبأ : الخبر الذي فيه أهمية وله شأن.

وجملة (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) مبينة للقصص والنبأ. وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار.

٢٨

وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هدى الإيمان المعلوم من قوله : (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) بفتح بصائرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات ، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان.

ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧].

والزيادة : وفرة مقدار شيء مخصوص ، مثل وفرة عدد المعدود ، ووزن الموزون ، ووفرة سكان المدينة.

وفعل (زاد) يكون قاصرا مثل قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، ويكون متعديا كقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠]. وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا.

والربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه ، فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده. كما قال تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص : ١٠]. ومنه قولهم : هو رابط الجأش. وفي ضده يقال : اضطرب قلبه ، وقال تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠]. استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء.

وتعدية فعل (رَبَطْنا) بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل.

و (إِذْ قامُوا) ظرف للربط ، أي كان الربط في وقت في قيامهم ، أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارنا لربط الله على قلوبهم ، أي لو لا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول.

والقيام يحتمل أن يكون حقيقيا ، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك ، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك. ويحتمل أن يكون القيام مستعارا للإقدام والجسر على عمل عظيم ، وللاهتمام بالعمل أو القول ، تشبيها للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما ، كقول النابغة :

بأن حصنا وحيا من بني أسد

قاموا فقالوا حمانا غير مقروب

فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود.

٢٩

وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم : إما لأنهم عرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات ، وإما لأن الله لم يكن معروفا باسم علم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو (جوبيتر) الممثل في كوكب المشتري ، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة. وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤].

هذا إن كان القول مسوقا إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهار عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه ، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٥٠] ، أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهة خطابهم استنزالا لطائرهم على طريقة التعريض من باب (إيّاك أعني فاسمعي يا جارة) ، واستقصاء لتبليغ الحق إليهم. وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته ، ولأن القول نسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم ، بخلاف الإسناد في قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) [الكهف : ١٩] تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقا آخر ، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم ، ويكون قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر المبتدأ إعلاما لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة (لَنْ نَدْعُوَا) استئنافا. وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيدا لقوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) [الكهف : ١٦] إلخ. فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم ، ولأنها تتضمن تشريفا لأنفسهم ، ويكون قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صفة كاشفة ، وجملة (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) خبر المبتدأ.

وذكر الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال.

وجملة (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي ب (لن). وإن وجود حرف الجواب في خلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها. واللام للقسم.

والشطط : الإفراط في مخالفة الحق والصواب. وهو مشتق من الشط ، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس ، فاستعير للإفراط في شيء مكروه ، أي لقد قلنا قولا شططا ، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله.

٣٠

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥))

استئناف بياني لما اقتضته جملة (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) [الكهف : ١٤] إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنزيل غير السائل منزلة السائل.

وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله : (دُونِهِ) العائد إلى (رَبُّنا) [الكهف : ١٤].

والإشارة إلى قومهم ب (هؤُلاءِ) لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم. وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم ، وهو من لوازم قصد التمييز.

وجملة (اتَّخَذُوا) خبر عن اسم الإشارة ، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين ، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر.

ومعنى (مِنْ دُونِهِ) من غيره ، و (من) ابتدائية ، أي آلهة ناشئة من غير الله ، وكان قومهم يومئذ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله.

وجملة (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار ، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم.

و (لو لا) حرف تحضيض. حقيقته : الحثّ على تحصيل مدخولها. ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذرا بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط ، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم.

ومعنى (عَلَيْهِمْ) على آلهتهم ، بقرينة قوله : (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً).

والسلطان : الحجة والبرهان.

والبين : الواضح الدلالة. ومعنى الكلام : إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ ، ولذلك فرع عليه جملة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

٣١

و (من) استفهامية ، وهو إنكار ، أي لا أظلم ممن افترى. والمعنى : أنه أظلم من غيره. وليس المراد المساواة بينه وبين غيره ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤].

والمعنى : أن هؤلاء افتروا على الله كذبا ، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع.

وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣].

ثم إن كان الكلام من مبدئه خطابا لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا) على ظاهرها ، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة ؛ وإن كان الكلام من مبدئه دائرا بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) [الأنعام : ٨٩] أي مشركو مكة.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة. وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد ، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر. ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضا ، وهو ضرب من الالتفات. فعلى الوجه الأول يكون فعل (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) مستعملا في إرادة الفعل مثل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضا. وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك ممّا لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص.

و «إذ» للظرفية المجازية بمعنى التعليل.

والاعتزال : التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء ، فمعنى اعتزال القوم ترك

٣٢

مخالطتهم. ومعنى اعتزال ما يعبدون : التباعد عن عبادة الأصنام.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا اللهَ) منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم.

والفاء للتفريع على جملة (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) باعتبار إفادتها معنى : اعتزلتم دينهم اعتزالا اعتقاديا ، فيقدر بعدها جملة نحو : اعتزلوهم اعتزال مفارقة فأووا إلى الكهف ، أو يقدر : وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف. وجوز الفراء أن تضمن (إذ) معنى الشرط ويكون (فَأْوُوا) جوابها. وعلى الشرط يتعين أن يكون (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) مستعملا في إرادة الاعتزال.

والأوي تقدم آنفا ، أي فاسكنوا الكهف.

والتعريف في (الْكَهْفِ) يجوز أن يكون تعريف العهد ، بأن كان الكهف معهودا عندهم يتعبدون فيه من قبل. ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] ، أي فأووا إلى كهف من الكهوف. وعلى هذا الاحتمال يكون إشارة منهم إلى سنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات ، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك.

ونشر الرحمة : توفر تعلقها بالمرحومين. شبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في أنه لا يبقي من الثوب شيئا مخفيا ، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطيّ وبالقبض.

والمرفق ـ بفتح الميم وكسر الفاء ـ : ما يرتفق به وينتفع. وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ، ـ وبكسر الميم وفتح الفاء ـ وبه قرأ الباقون.

وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية ، تشبيها بتهيئة القرى للضيف المعتنى به. وجزم (يَنْشُرْ) في جواب الأمر. وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء. وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧))

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ).

٣٣

عطف بعض أحوالهم على بعض. انتقل إلى ذكره بمناسبة الإشارة إلى تحقيق رجائهم في ربهم حين قال بعضهم لبعض (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) [الكهف : ١٦]. وهذا حال عظيم وهو ما هيأ الله لهم في أمرهم من مرفق ، وأن ذلك جزاؤهم على اهتدائهم وهو من لطف الله بهم.

والخطاب لغير معين. والمعنى : يرى من تمكنه الرؤية. وهذا كثير في الاستعمال ، ومنه قول النابغة :

ترى عافيات الطير قد وثقت لها

بشبع من السخل العتاق الأكائل

وقد أوجز من الخبر أنهم لما قال بعضهم لبعض (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف : ١٦] أنهم أووا إليه. والتقدير : فأخذوا بنصيحته فأووا إلى الكهف. ودل عليه قوله في صدر القصة (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف : ١٠] فرد عجز الكلام على صدره.

و (تَزاوَرُ) مضارع مشتق من الزور ـ بفتح الزاي ـ ، وهو الميل. وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ـ بفتح التاء وتشديد الزاي بعدها ألف وفتح الواو ـ. وأصله : تتزاور ـ بتاءين أدغمت تاء التفاعل في الزاي تخفيفا ـ.

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ـ بتخفيف الزاي ـ على حذف إحدى التاءين وهي تاء المضارعة للتخفيف اجتزاء برفع الفعل الدال على المضارعة ـ. وقرأه ابن عامر ويعقوب تزور ـ بفتح التاء بعدها زاي ساكنة وبفتح الواو وتشديد الراء ـ بوزن تحمرّ. وكلها أبنية مشتقة من الزور بالتحريك ، وهو الميل عن المكان ، قال عنترة :

فازورّ من وقع القنا بلبانه

أي مال بعض بدنه إلى بعض وانقبض.

والإتيان بفعل المضارعة للدلالة على تكرر ذلك كل يوم.

و (تَقْرِضُهُمْ) أي تنصرف عنهم. وأصل القرض القطع ، أي أنها لا تطلع في كهفهم.

و (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) بمعنى صاحبة ، وهي صفة لمحذوف يدل عليه الكلام ، أي الجهة صاحبة اليمين. وتقدم الكلام على (ذاتَ) عند قوله تعالى : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) في سورة الأنفال [١].

٣٤

والتعريف في (الْيَمِينِ) ، و (الشِّمالِ) عوض عن المضاف إليه ، أي يمين الكهف وشماله ، فيدل على أن فم الكهف كان مفتوحا إلى الشمال الشرقي ، فالشمس إذا طلعت تطلع على جانب الكهف ولا تخترقه أشعتها ، وإذا غربت كانت أشعتها أبعد عن فم الكهف منها حين طلوعها.

وهذا وضع عجيب يسّره الله لهم بحكمته ليكون داخل الكهف بحالة اعتدال فلا ينتاب البلى أجسادهم ، وذلك من آيات قدرة الله.

والفجوة : المتسع من داخل الكهف ، بحيث لم يكونوا قريبين من فم الكهف. وفي تلك الفجوة عون على حفظ هذا الكهف كما هو.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى المذكور من قوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ).

وآيات الله : دلائل قدرته وعنايته بأوليائه ومؤيدي دين الحق.

والجملة معترضة في خلال القصة للتنويه بأصحابها.

والإشارة للتعظيم.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)

استئناف بياني لما اقتضاه اسم الإشارة من تعظيم أمر الآية وأصحابها.

وعموم (من) الشرطية يشمل المتحدث عنهم بقرينة المقام. والمعنى : أنهم كانوا مهتدين لأن الله هداهم فيمن هدى ، تنبيها على أن تيسير ذلك لهم من الله هو أثر تيسيرهم لليسرى والهدى ، فأبلغهم الحق على لسان رسولهم ، ورزقهم أفهاما تؤمن بالحق. وقد تقدم الكلام على نظير (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) ، وعلى كتابة (الْمُهْتَدِ) بدون ياء في سورة الإسراء.

والمرشد : الذي يبين للحيران وجه الرشد ، وهو إصابة المطلوب من الخير.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

٣٥

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ)

عطف على بقية القصة ، وما بينهما اعتراض. والخطاب فيه كالخطاب في قوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ) [الكهف : ١٧]. وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مدمج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم ، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس.

ومعنى حسبانهم أيقاظا : أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم ، فقيل : كانت أعينهم مفتوحة.

وصيغ فعل (تَحْسَبُهُمْ) مضارعا للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة.

والأيقاظ : جمع يقظ ، بوزن كتف ، وبضم القاف بوزن عضد.

والرقود : جمع راقد.

والتقليب : تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه ، قال تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) [الكهف : ٤٢].

و (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم. والمعنى : أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس ، وذلك لحكمة لعل لها أثرا في بقاء أجسامهم بحالة سلامة.

والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي. ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية.

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)

هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم ، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطا ذراعيه شأن جلسة الكلب.

والوصيد : مدخل الكهف ، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.

وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم. وقد يقال : إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رمة مبسوطة عظام ذراعيه.

٣٦

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)

الخطاب لغير معين ، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله ، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية.

والمعنى : لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصا قطاعا للطريق ، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق ، كما قال تأبط شرا :

أقول للحيان وقد صفّرت لهم

وطابي يومي ضيّق الجحر معور

ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم ، كقوله تعالى : (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [هود : ٧٠]. وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس ، ولا الخوف من كونهم أمواتا إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب ، على أنه قد سبق (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ).

والاطلاع : الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع ، لأنه افتعال من طلع إذا ارتقى جبلا ، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء ، وضمن معنى الإشراف فعدي ب (على) ، ثم استعمل مجازا مشهورا في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد ، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) في سورة مريم [٧٨] ، فضلا عن أن يكون الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي «الكشاف» عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح.

وانتصب (فِراراً) على المفعول المطلق المبين لنوع (لَوَلَّيْتَ).

و (لَمُلِئْتَ) مبني للمجهول ، أي ملاك الرعب وملّا بتشديد اللام مضاعف ملا وقرئ بهما.

والملء : كون المظروف حالا في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف ، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف ، ومثل عقل الإنسان بالظرف ، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف ، فكان في قوله : (لَمُلِئْتَ) استعارة تمثيلية ، وعكسه قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) [القصص : ١٠].

وانتصب (رُعْباً) على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يملأ ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلا تمييزا. وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال ، وليس تمييزا محولا

٣٧

عن المفعول كما قد يلوح بادئ الرأي.

والرعب تقدم في قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) في سورة آل عمران [١٥١].

وقرأ نافع وابن كثير (وَلَمُلِئْتَ) ـ بتشديد اللام ـ على المبالغة في الملء ، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل.

وقرأ الجمهور (رُعْباً) ـ بسكون العين ـ. وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب ـ بضم العين ـ.

[١٩ ، ٢٠] (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))

عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة ، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث ، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠].

والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها ، أي كما أنمناهم قرونا بعثناهم. ووجه الشبه : أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة.

ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة ، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة ، وفي التعليل من قوله : (لِيَتَساءَلُوا) عند قوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢]. والمعنى : بعثناهم فتساءلوا بينهم.

وجملة (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) بيان لجملة (لِيَتَساءَلُوا). وسميت هذه المحاورة تساؤلا لأنها تحاور عن تطلب كل رأي الآخر للوصول إلى تحقيق المدة. والذين قالوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ) هم من عدا الذي قال : (كَمْ لَبِثْتُمْ).

٣٨

وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم : إما لأنهم تواطئوا عليه ، وإما على إرادة التوزيع ، أي منهم من قال : لبثنا يوما ، ومنهم قال : لبثنا بعض يوم. وعلى هذا يجوز أن تكون (أو) للتقسيم في القول بدليل قوله بعد (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى ، وذلك من كمال إيمانهم. فالقائلون (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر. ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صوابا.

وتفريع قولهم : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) على قولهم : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) لأنه في معنى فدعوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، وهو قريب من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها على أن غيره أولى بحاله ، ولو لا قولهم : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) لكان قولهم : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) عين الأسلوب الحكيم.

والورق ـ بفتح الواو وكسر الراء : الفضة. وكذلك قرأه الجمهور. ويقال ورق ـ بفتح الواو وسكون الراء ـ وبذلك قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وخلف. والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة ، وهي الدراهم قيل : كانت من دراهم (دقيوس) سلطان الروم.

والإشارة بهذه إلى دراهم معينة عندهم ، والمدينة هي (أبسس) ـ بالباء الموحدة ـ. وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة.

و (أَيُّها) ما صدقه أي مكان من المدينة ، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة ، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاما ، أي أزكى طعامه من طعام غيره.

وانتصب (طَعاماً) على التمييز لنسبة (أزكى) إلى (أي).

والأزكى : الأطيب والأحسن ، لأن الزّكو الزيادة في الخير والنفع.

والرزق : القوت. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في سورة يوسف [٣٧] ، والفاء لتفريع أمرهم من يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف.

وصيغة الأمر في قوله : (فَلْيَأْتِكُمْ) و (لْيَتَلَطَّفْ) أمر لأحد غير معين سيوكلونه ، أي أن تبعثوه يأتكم برزق ، ويجوز أن يكون المأمور معينا بينهم وإنما الإجمال في حكاية

٣٩

كلامهم لا في الكلام المحكي. وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك.

قيل التاء من كلمة (وَلْيَتَلَطَّفْ) هي نصف حروف القرآن عدّا. وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤] هي نصف حروف القرآن.

والإشعار : الإعلام ، وهو إفعال من شعر من باب نصر وكرم شعورا ، أي علم. فالهمزة للتعدية مثل همزة (أَعْلَمُ) من علم الذي هو علم العرفان يتعدى إلى واحد.

وقوله : (بِكُمْ) متعلق ب (يُشْعِرَنَ). فمدخول الباء هو المشعور ، أي المعلوم. والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل (يُشْعِرَنَ) من قبيل تعليق الحكم بالذات ، والمراد بعض أحوالها. والتقدير : ولا يخبرن بوجودكم أحدا. فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك. والنون لتوكيد النهي تحذيرا من عواقبه المضمنة في جملة (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) الواقعة تعليلا للنهي ، وبيانا لوجه توكيد النهي بالنون ، فهي واقعة موقع العلة والبيان ، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها.

وجملة (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) علة للأمر بالتلطف والنهي عن إشعار أحد بهم.

وضمير (إِنَّهُمْ) عائد إلى ما أفاده العموم في قوله : (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) ، فصار (أَحَداً) في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي.

والظهور أصله : البروز دون ساتر. ويطلق على الظفر بالشيء ، وعلى الغلبة على الغير ، وهو المراد هنا.

قال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١] وقال : (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) [التحريم : ٣] وقال : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [البقرة : ٨٥].

والرجم : القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت ، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب.

وجملة (يَرْجُمُوكُمْ) جواب شرط (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ). ومجموع جملتي الشرط

٤٠