تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم.

فكونوا على حذر ممن يقول : أخبرني الخضر.

[٨٣ ، ٨٤] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤))

افتتاح هذه القصة ب (وَيَسْئَلُونَكَ) يدلّ على أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضابا تنبيها على مثل ذلك.

وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) في سورة الإسراء [٨٥] عن ابن عباس : «أن المشركين بمكة سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب. فقالوا : سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عنها كلها فليس بنبي». وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبيء؟. وبيّنا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف.

وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة.

فالسائلون : قريش لا محالة ، والمسئول عنه : خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين ، كانت أخبار سيرته خفيّة مجملة مغلقة ، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها ، وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شئون الصلاح والعدل ، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق ، فكان أحبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جرّبوا بها نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه ، لأن ذلك من شئون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن ، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حكمية أو خلقية فلذلك قال الله : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً).

١٢١

والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره ، فحذف المضاف إيجازا لدلالة المقام ، وكذلك حذف المضاف في قوله : (مِنْهُ) أي من خبره و (من) تبعيضية.

والذكر : التذكر والتفكر ، أي سأتلو عليكم ما به التذكر ، فجعل المتلو نفسه ذكرا مبالغة بالوصف بالمصدر ، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب ، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية.

اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافا كثيرا تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية ، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصّاصين الذين عنوا بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها. والذي يجب الانفصال فيه بادئ ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفا ذاتيا له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ.

ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة ، بل هما على التشبيه أو على الصورة. فالأظهر أن يكونا ذؤابتين من شعر الرأس متدليتين ، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية ، قال عمر بن أبي ربيعة :

فلثمت فاها آخذا بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت أم عطية : «فجعلنا رأسها ثلاثة قرون» ، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفيرتين فسمي ذا القرنين ، كما سمّي خرباق ذا اليدين.

وقيل : هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنعت بهما. وقيل : هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون.

ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين ، فأحد الأقوال : إنه الإسكندر بن فيليبوس المقدوني. وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين. وقيل : كان

١٢٢

يلبس خوذة في الحرب بها قرنان ، وقيل : رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلا لنفسه بالمعبود (آمون) معبود المصريين وذلك حين ملك مصر.

والقول الثاني : إنه ملك من ملوك حمير هو تبّع أبو كرب.

والقول الثالث : أنه ملك من ملوك الفرس وأنه (أفريدون بن أثفيان بن جمشيد). هذه أوضح الأقوال ، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته.

ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوالا تقرّب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال ، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع.

وهذه القصة القرآنية تعطي صفات لا محيد عنها :

إحداها : أنه كان ملكا صالحا عادلا.

الثانية : أنه كان ملهما من الله.

الثالثة : أن ملكه شمل أقطارا شاسعة.

الرابعة : أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكانا كان مجهولا وهو عين حمئة.

الخامسة : أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج ، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطا بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه.

السادسة : أنه أقام سدّا يحول بين يأجوج وماجوج وبين قوم آخرين.

السابعة : أن يأجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فسادا وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك.

الثامنة : أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء.

التاسعة : أن خبره خفيّ دقيق لا يعلمه إلّا الأحبار علما إجماليا كما دل عليه سبب النزول.

وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكا صالحا بل كان وثنيا فلم يكن أهلا لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة ، وأيضا فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سدّا بين بلدين.

١٢٣

وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد يأجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشئ عن شهرة الإسكندر ، فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلّا من بنائه ، كما توهم العرب أن مدينة تدمر بناها سليمان عليه‌السلام. وأيضا فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة (سكيثوس). وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريبا (١).

وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم إسكندر المقدوني أثرا في اشتهار نسبة السد إليه. وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام.

ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة ، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عراة أو عديمي المساكن ، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين. وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعنيّ بذي القرنين في هذه الآية ، فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين ، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به. وأيضا فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمّتان مجاورتان للأمة العربية.

ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملك المتحدث عنه هو أفريدون ، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم. وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصرا إبراهيم عليه‌السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع. ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا ، وقد ظهر من أقوالهم أنّ سبب هذا التوهم هو وجود كلمة (ذو) التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته.

فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكا من ملوك الصين لوجوه :

أحدها : أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.

الثاني : أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.

الثالث : أن من سماتهم تطويل شعر رءوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.

__________________

(١) انظر القاموس الجديد تأليف لاروس في مادة سكيتس.

١٢٤

الرابع : أن سدا وردما عظيما لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المغول ، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم ، وسيرد وصفه.

الخامس : ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي‌الله‌عنهما ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ليلة فقال : «ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج هكذا» ، وأشار بعقد تسعين (أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام). وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن يأجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم ، وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شاول ملك إسرائيل باسم طالوت. وهذا الملك هو الذي بنى السدّ الفاصل بين الصين ومنغوليا. واسم هذا الملك (تسينشي هوانفتي) أو (تسين شي هوانق تي). وكان موجودا في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن. وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين (كنفيشيوس) المشرع المصلح ، فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين.

وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيرا وقتل علماء وأحرق كتبا ، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها.

ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن فيليبوس نحلوه بناء السدّ. وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين. وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة.

والأمر في قوله (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ) إذن من الله لرسوله بأن يعد بالجواب عن سؤالهم عملا بقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) على أحد تأويلين في معناه.

والسين في قول (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ) لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سورة يوسف [٩٨].

وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكرا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوة حسب شأن القرآن فإنّه يتلى لأجل الذكر ولا يساق مساق

١٢٥

القصص.

وقوله (مِنْهُ ذِكْراً) تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكرا وعظة. ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف : نحن نقصّ عليك من نبئهم ، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر ، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا.

وحرف (من) في قوله (مِنْهُ ذِكْراً) للتبعيض باعتبار مضاف محذوف ، أي من خبره.

والتمكين : جعل الشيء متمكنا ، أي راسخا ، وهو تمثيل لقوّة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد. وحق فعل (مكنّا) التعدية بنفسه ، فيقال : مكّناه في الأرض كقوله (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [الأنعام : ٦].

فاللام في قوله : (مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) للتوكيد كاللام في قولهم : شكرت له ، ونصحت له ، والجمع بينهما تفنن. وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [الأنعام : ٦].

فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف.

والمراد بالأرض أهل الأرض ، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض ملكه. وتقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [يوسف : ٥٦].

والسبب : حقيقته الحبل ، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) في سورة البقرة [١٦٦].

و (كُلِّ شَيْءٍ) مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٧] أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة.

[٨٥ ـ ٨٨] (فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨))

السبب : الوسيلة. والمراد هنا معنى مجازي وهو الطريق ، لأن الطريق وسيلة إلى

١٢٦

المكان المقصود ، وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ). والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) إظهار اسم السبب دون إضماره ، لأنه لما أريد به معنى غير ما أريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيها على اختلاف المعنيين ، أي فاتبع طريقا للسير وكان سيره للغزو ، كما دلّ عليه قوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ).

ولم يعدّ أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام. ويظهر أن قوله تعالى : (أَسْبابَ السَّماواتِ) [فاطر : ٣٧] من هذا المعنى. وكذلك قول زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

أي هاب طرق المنايا أن يسلكها تنله المنايا ، أي تأتيه ، فذلك مجاز بالقرينة.

والمراد ب (مَغْرِبَ الشَّمْسِ) مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته. وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة ، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل. والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين.

والقول في تركيب (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) كالقول في قوله : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها).

والعين : منبع ماء.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) مهموزا مشتقا من الحمأة ، وهو الطين الأسود. والمعنى : عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : في عين حامية بألف بعد الحاء وياء بعد الميم ، أي حارة من الحمو وهو الحرارة ، أي أن ماءها سخن.

ويظهر أن هذه العين من عيون النفط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة (باكو) ، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفا يومئذ. والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة.

١٢٧

وتنكير (قَوْماً) يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم.

فجملة (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) استئناف بياني لما أشعر به تنكير (قَوْماً) من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين.

وقد دل قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) على أنهم مستحقون للعذاب ، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل.

وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام ، أي ألقينا في نفسه ترددا بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل ، ويكون قوله (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) ، أي قال في نفسه معتمدا على حالة وسط بين صورتي التردد.

وقيل : إن ذا القرنين كان نبيئا يوحى عليه فيكون القول كلاما موحى به إليه يخيّره فيه بين الأمرين ، مثل التخيير الذي في قوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] ، ويكون قوله : (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) جوابا منه إلى ربّه. وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٩].

و (حُسْناً) مصدر. وعدل عن (أن تحسن إليهم) إلى (أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحسن ، مثل قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣]. وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما.

والظلم : الشرك ، بقرينة قسيمه في قوله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

واجتلاب حرف الاستقبال في قوله : (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه. وقد صرح بهذا المفهوم في قوله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي آمن بعد كفره. ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن ، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير.

والمعنى : فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال : (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) وذلك عذاب الآخرة.

وقرأ الجمهور (جَزاءً الْحُسْنى) بإضافة (جَزاءً) إلى (الْحُسْنى) على الإضافة البيانية. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف (جَزاءً الْحُسْنى) بنصب (جَزاءً) منونا على أنه تمييز لنسبة استحقاقه الحسنى ، أو مصدر مؤكد لمضمون

١٢٨

جملة (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) ، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير.

وتأنيث (الْحُسْنى) باعتبار الخصلة أو الفعلة. ويجوز أن تكون (الْحُسْنى) هي الجنة كما في قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

والقول اليسر : هو الكلام الحسن ، وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه ، وهو مثل قوله تعالى : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) [الإسراء : ٢٨] أي جميلا.

فإن كان المراد من (الْحُسْنى) الخصال الحسنى ، فمعنى عطف (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أنه يجازى بالإحسان وبالثناء ، وكلاهما من ذي القرنين ، وإن كان المراد من (الْحُسْنى) ثواب الآخرة فذلك من أمر الله تعالى وإنما ذو القرنين مخبر به خبرا مستعملا في فائدة الخبر ، على معنى. إنا نبشره بذلك ، أو مستعملا في لازم الفائدة تأدبا مع الله تعالى ، أي أني أعلم جزاءه عندك الحسنى.

وعطف عليه (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) لبيان حظ الملك من جزائه وأنه البشارة والثناء.

[٨٩ ، ٩٠] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠))

تقدم خلاف القراء في (فَأَتْبَعَ سَبَباً) فهو كذلك هنا.

ومطلع الشمس : جهة المشرق من سلطانه ومملكته ، بلغ جهة قاصية من الشرق حيث يخال أن لا عمران وراءها ، فالمطلع مكان الطلوع.

والظاهر أنه بلغ ساحل بحر اليابان في حدود منشوريا أو كوريا شرقا ، فوجد قوما تطلع عليهم الشمس لا يسترهم من حرها ، أي لا جبل فيها يستظلون بظلّه ولا شجر فيها ، فهي أرض مكشوفة للشمس ، ويجوز أن يكون المعنى أنهم كانوا قوما عراة فكانوا يتّقون شعاع الشمس في الكهوف أو في أسراب يتخذونها في التراب. فالمراد بالستر ما يستر الجسد.

وكانوا قد تعودوا ملاقاة حرّ الشمس ، ولعلهم كانوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عن أنفسهم ما يلاقونه من القر ليلا.

١٢٩

وفي هذه الحالة عبرة من اختلاف الأمم في الطبائع والعوائد وسيرتهم على نحو مناخهم.

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١))

(كَذلِكَ) الكاف للتشبيه ، والمشبه به شيء تضمنه الكلام السابق بلفظه أو معناه.

والكاف ومجرورها يجوز أن يكون شبه جملة وقع صفة لمصدر محذوف يدلّ عليه السياق ، أي تشبيها مماثلا لما سمعت.

واسم الإشارة يشير إلى المحذوف لأنه كالمذكور لتقرر العلم به ، والمعنى : من أراد تشبيهه لم يشبهه بأكثر من أن يشبهه بذاته على طريقة ما تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

ويجوز أن يكون جزء جملة حذف أحد جزأيها والمحذوف مبتدأ. والتقدير : أمر ذي القرنين كذلك ، أي كما سمعت.

ويجوز أن يكون صفة ل (قَوْماً) أي قوما كذلك القوم الذين وجدهم في مغرب الشمس ، أي في كونهم كفارا ، وفي تخييره في إجراء أمرهم على العقاب أو على الإمهال. ويجوز أن يكون المجرور جزء جملة أيضا جلبت للانتقال من كلام إلى كلام فيكون فصل خطاب كما يقال : هذا الأمر كذا.

وعلى الوجوه كلها فهو اعتراض بين جملة (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) إلخ ... وجملة (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) [الكهف : ٩٢ ، ٩٣] إلخ ...

(وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) (٩١).

هذه الجملة حال من الضمير المرفوع في (ثُمَّ أَتْبَعَ).

و (بِما لَدَيْهِ) : ما عنده من عظمة الملك من جند وقوّة وثروة.

والخبر ـ بضم الخاء وسكون الموحدة ـ : العلم والإحاطة بالخبر ، كناية عن كون المعلوم عظيما بحيث لا يحيط به علما إلّا علّام الغيوب.

[٩٢ ـ ٩٨] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا

١٣٠

يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨))

السدّ ـ بضم السين وفتحها ـ : الجبل. ويطلق أيضا على الجدار الفاصل ، لأنه يسد به الفضاء ، وقيل : الضم في الجبل والفتح في الحاجز.

وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف ، ويعقوب ـ بضم السين ـ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ـ بفتح السين ـ على لغة عدم التفرقة.

والمراد بالسدين هنا الجبلان ، وبالسد المفرد الجدار الفاصل ، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك.

وتعريف (السَّدَّيْنِ) تعريف الجنس ، أي بين سدّين معينين ، أي اتبع طريقا آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين.

ويظهر أن هذا السبب اتّجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق ، فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب. وعينه المفسّرون أنه للشمال ، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني ، فقالوا : إن جهة السدّين بين (إرمينيا وأذربيجان). ونحن نبني على ما عيّناه في الملقب بذي القرنين ، فنقول : إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء (قوبي) الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب (منغوليا). وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثاره إلى اليوم شاهدها الجغرافيون والسائحون وصورت صورا شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية.

ومعنى (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أنهم لا يعرفون شيئا من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم ، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام.

١٣١

ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم.

وقرأ الجمهور (يَفْقَهُونَ) ـ بفتح الياء التحتية وفتح القاف ـ أي لا يفهمون قول غيرهم. وقرأ حمزة ، والكسائي ـ بضم الياء وكسر القاف ـ أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم. والمعنيان متلازمان. وهذا كما في حديث الإيمان : «نسمع دويّ صوته ولا نفهم ما يقول».

وهؤلاء القوم مجاورون يأجوج وماجوج ، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد يأجوج وماجوج. ولم يذكر المفسرون تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم سوى أنهم قالوا : هم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوما صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتاخم بلاد المغول والتّتر.

وجملة (قالُوا) استئناف للمحاورة. وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] الآية. فعلى أول الاحتمالين في معنى (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال ، وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي.

وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين ، ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين يدل على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده.

ويأجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين ، وهم المغول وبعض أصناف التتار. وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين.

ووقع لعلماء التاريخ وعلماء الأنساب في اختلاف إطلاق اسمي المغول والتتار كل على ما يطلق عليه الآخر لعسر التفرقة بين المتقاربين منهما ، وقد قال بعض العلماء : إن المغول هم ماجوج بالميم اسم جد لهم يقال له أيضا (سكيثوس) وربما يقال له (جيته). وكان الاسم العام الذي يجمع القبيلتين ماجوج ثم انقسمت الأمة فسميت فروعها بأسماء خاصة ، فمنها ماجوج ويأجوج وتتر ثم التركمان ثم الترك. ويحتمل أن الواو المذكورة

١٣٢

ليست عاطفة ولكنها جاءت في صورة العاطفة فيكون اللفظ كلمة واحدة مركبة تركيبا مزجيا ، فيتكون اسما لأمة وهم المغول.

والذي يجب اعتماده أن يأجوج وماجوج هم المغول والتتر. وقد ذكر أبو الفداء أن ماجوج هم المغول فيكون يأجوج هم التتر. وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين. وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أمّ حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل عليها فزعا يقول : «لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج مثل هذه». وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. وقد تقدم آنفا.

ولا يعرف بالضبط وقت انطلاقهم من بلادهم ولا سبب ذلك. ويقدّر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري. وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة ٦٢٨ ه‍ ثم ما كان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة ٦٦٠ ه‍.

ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمّة من العرب البائدة ، وإطلاق السكاسك والسكون في القبائل اليمنية ، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر ، وإطلاق أولاد وزاز وأولاد يحيى على حيّ بتونس بالجنوب الغربي ، ومرادة وفرجان على حي من وطن نابل بتونس.

وقرأ الجمهور (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) كلتيهما بألف بعد التحتية بدون همز ، وقرأه عاصم بالهمز.

واختلف المفسرون في أنه اسم عربي أو معرّب ، وغالب ظني أنه اسم وضعه القرآن حاكى به معناه في لغة تلك الأمة المناسب لحال مجتمعهم فاشتق لهما من مادة الأج ، وهو الخلط ، إذ قد علمت أن تلك الأمة كانت أخلاطا من أصناف.

والاستفهام في قوله (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ) ، مستعمل في العرض.

والخرج : المال الذي يدفع للملك. وهو ـ بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء ـ في قراءة الجمهور. ويقال فيه الخراج بألف بعد الراء ، وكذلك قرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف.

١٣٣

وقرأ الجمهور (سَدًّا) ـ بضم السين ـ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بفتح السين ـ.

وقوله (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه أو خير من السد الذي سألتموه ، أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم ، فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تحيلوا فتسلقوا الجبال ودخلوا بلاد الصين ، فأراد أن يبني سورا ممتدا على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذّر عليهم تسلق تلك الجبال ، ولذلك سمّاه ردما.

والردم : البناء المردّم. شبه بالثوب المردّم المؤتلف من رقاع فوق رقاع ، أي سدا مضاعفا. ولعله بنى جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتراب المخلوط ليتعذر نقبه.

ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي بقوّة الأبدان ، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضر عنهم.

وقد بنى ذو القرنين وهو (تسين شي هوانق تي) سلطان الصين هذا الردم بناء عجيبا في القرن الثالث قبل المسيح وكان يعمل فيه ملايين من الخدمة ، فجعل طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة كيلومتر. وبعضهم يقول : ألفا ومائتي ميل ، وذلك بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل ، وجعل مبدأه عند البحر ، أي البحر الأصفر شرقي مدينة (بيكنغ) عاصمة الصين في خط تجاه مدينة (مكدن) الشهيرة. وذلك عند عرض ٤ ، ٤٠ شمالا ، وطول ٠٢ ، ١٢ شرقا ، وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول ٥٠ ، ١١١ شرقا ، والعرض ٥٠ ، ٣٩ شمالا ، وأيضا في ٣٧ عرض شمالي. ومن هنالك ينعطف إلى جهة الشمال الغربي وينتهي بقرب ٩٩ طولا شرقيا و ٤٠ عرضا شماليا.

وهو مبني بالحجارة والآجر وبعضه من الطين فقط.

وسمكه عند أسفله نحو ٢٥ قدما وعند أعلاه نحو ١٥ قدما وارتفاعه يتراوح بين ١٥ إلى ٢٠ قدما ، وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو ٤٠ قدما.

وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع ، ولكنه بقي علامة على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية فهو فاصل بين الصين ومنغوليا ، وهو يخترق جبال (يابلوني) التي هي حدود طبيعية بين الصين وبلاد منغوليا فمنتهى طرفه إلى الشمال الغربي لصحراء (قوبي).

١٣٤

وقرأ الجمهور (مَكَّنِّي) بنون مدغمة ، وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل.

وقوله (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد. فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه وهو المناولة وليس تكليفا للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه لأن ذلك ينافي قوله (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقا على جعل السدّ. وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم لمرور سيول الماء في شعب الجبل حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها ، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد.

والزبر : جمع زبرة ، وهي القطعة الكبيرة من الحديد.

والحديد : معدن من معادن الأرض يكون قطعا كالحصى ودون ذلك فيها صلابة.

وهو يصنف ابتداء إلى صنفين : ليّن ، ويقال له الحديد الأنثى ، وصلب ويقال له الذكر. ثم يصنف إلى ثمانية عشر صنفا ، وألوانه متقاربة وهي السنجابي ، منها ما هو إلى الحمرة ، ومنها ما هو إلى البياض ، وهو إذا صهر بنار قوية في أتون مغلق التأمت أجزاؤه وتجمعت في وسط النار كالإسفنجة واشتدت صلابته لأنه بالصهر يدفع ما فيه من الأجزاء الترابية وهي المسماة بالصدإ والخبث ، فتعلو تلك الأجزاء على سطحه وهي الزبد. وخبث الحديد الوارد في الحديث : «إنّ المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد». ولذلك فبمقدار ما يطفو من تلك الأجزاء الغربية الخبيثة يخلص الجزء الحديدي ويصفو ويصير زبرا. ومن تلك الزبر تصنع الأشياء الحديدية من سيوف وزجاج ودروع ولأمات ، ولا وسيلة لصنعه إلّا الصهر أيضا بالنار بحيث تصير الزبرة كالجمر ، فحينئذ تشكّل بالشكل المقصود بواسطة المطارق الحديدية.

والعصر الذي اهتدى فيه البشر لصناعة الحديد يسمى في التاريخ العصر الحديدي.

وقوله : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أشعرت (حَتَّى) بشيء مغيّا قبلها ، وهو كلام محذوف تقديره : فآتوه زبر الحديد فنضدها وبناها حتى إذا جعل ما بين الصدفين مساويا لعلو الصدفين. وهذا من إيجاز الحذف. والمساواة : جعل الأشياء متساوية ، أي متماثلة في مقدار أو وصف.

والصدفان ـ بفتح الصاد وفتح الدال ـ في قراءة الجمهور وهو الأشهر. وقرأه ابن

١٣٥

كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب ـ بضم الصاد والدال ، وهو لغة. وقرأه أبو بكر عن عاصم ـ بضم الصاد وسكون الدال ـ.

والصدف : جانب الجبل ، وهما جانبا الجبلين وهما السدان. وقال ابن عطية والقزويني في «الكشف» : لا يقال إلّا صدفان بالتثنية ، ولا يقال لأحدهما صدف لأن أحدهما يصادف الآخر ، أي فالصدفان اسم لمجموع الجانبين مثل المقصّان لما يقطع به الثوب ونحوه. وعن أبي عيسى : الصدف كلّ بناء عظيم مرتفع.

والخطاب في قوله (انْفُخُوا) وقوله (آتُونِي) خطاب للعملة. وحذف متعلّق (انْفُخُوا) لظهوره من كون العمل في صنع الحديد. والتقدير : انفخوا في الكيران ، أي الكيران المصفوفة على طول ما بين الصدفين من زبر الحديد.

وقرأ الجمهور : (قالَ آتُونِي) مثل الأول. وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم (آتُونِي) على أنه أمر من الإتيان ، أي أمرهم أن يحضروا للعمل.

والقطر ـ بكسر القاف ـ : النّحاس المذاب.

وضمير (اسْطاعُوا) و (اسْتَطاعُوا) ليأجوج ومأجوج.

والظهور : العلو. والنقب : كسر الرّدم ، وعدم استطاعتهم ذلك لارتفاعه وصلابته.

و (اسْطاعُوا) تخفيف (اسْتَطاعُوا) ، والجمع فبينهما تفنن في فصاحة الكلام كراهية إعادة الكلمة. وابتدئ بالأخف منهما لأنه وليه الهمز وهو حرف ثقيل لكونه من الحلق ، بخلاف الثاني إذ وليه اللام وهو خفيف.

ومقتضى الظاهر أن يبتدأ بفعل (اسْتَطاعُوا) ويثني بفعل (اسْطاعُوا) لأنه يثقل بالتكرير ، كما وقع في قوله آنفا (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨] ثم قوله : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢].

ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه ، فهذا من مواضع دلالة زيادة المبنى على زيادة في المعنى.

وقرأ حمزة وحده (فَمَا اسْطاعُوا) الأول بتشديد الطاء مدغما فيها التاء.

وجملة (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء

١٣٦

حكاية وصف الردم كان ذلك مثيرا سؤال من يسأل : ما ذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم؟ فيجاب بجملة : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي).

والإشارة بهذا إلى الرّدم ، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة يأجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة.

و (من) ابتدائية ، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب.

وفرع عليه (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) نطقا بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال. ولأنه علم أن عملا عظيما مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام ، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان.

والوعد : هو الإخبار بأمر مستقبل. وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم ، فاستعار له اسم الوعد. ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئا أو ألهمه إن كان صالحا أن لذلك الردم أجلا معينا ينتهي إليه.

وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج هكذا ، وعقد بين إصبعيه الإبهام والسبابة» كما تقدم.

والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة ، أي جعله مدكوكا ، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) بالمد. والدكاء : اسم للناقة التي لا سنام لها ، وذلك على التشبيه البليغ.

وجملة (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] و (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [يونس : ٤٩] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقا ثابتا لا يتخلف. وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلا بديعا.

[٩٩ ـ ١٠١] (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)

١٣٧

الترك : حقيقته مفارقة شيء شيئا كان بقربه ، ويطلق مجازا على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلا لحال إلفائه على حالة ، ثم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه ، وإنما يكون هذا المجاز مقيدا بحالة كان عليها مفعول ترك ، فيفيد أن ذلك آخر العهد ، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة.

والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) ، فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد يأجوج وماجوج ، بمنزلة جملة (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) في القصة الأولى ، وجملة (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد.

و (يَوْمَئِذٍ) هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) الآية.

و (يَمُوجُ) يضطرب تشبيها بموج البحر.

وجملة (يَمُوجُ) حال من (بَعْضَهُمْ) أو مفعول ثان ل (تَرَكْنا) على تأويله ب (جعلنا) ، أي جعلنا يأجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصرا عليهم ودفع عن غيرهم.

والنار تأكل نفسها

إن لم تجد ما تأكله

لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١).

تخلص من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه ، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة ، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر ، تذكيرا للسامعين بأمر الحشر وتقريبا بحصوله في خيال المشركين. فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد ، بفعل من يسره لذلك من خلقه ، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته ، لأنّ متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب. وقد تقدّم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات

١٣٨

البعث. واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيها على تحقيق وقوعه.

والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيها لحال الدّاعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة ، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير ، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج. على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة.

والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى.

وتأكيد فعلي (فَجَمَعْناهُمْ) و (عَرَضْنا) بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز ، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل.

ونعت الكافرين ب (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ) للتنبيه على أن مضمون الصلة هو سبب عرض جهنم لهم ، أي الذين عرفوا بذلك في الدنيا.

والغطاء : مستعار لعدم الانتفاع بدلالة البصر على تفرد الله بالإلهية.

وحرف (من) للظرفية المجازية ، وهي تمكّن الغطاء من أعينهم بحيث كأنها محوية للغطاء.

و (عن) للمجاوزة ، أي عن النظر فيما يحصل به ذكري.

ونفي استطاعتهم السمع أنهم لشدة كفرهم لا تطاوعهم نفوسهم للاستماع. وحذف مفعول (سَمْعاً) لدلالة قوله (عَنْ ذِكْرِي) عليه.

والتقدير : سمعا لآياتي ، فنفي الاستطاعة مستعمل في نفي الرغبة وفي الإعراض كقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥].

وعرض جهنم مستعمل في إبرازها حين يشرفون عليها وقد سيقوا إليها فيعلمون أنها المهيئة لهم ، فشبه ذلك بالعرض تهكما بهم ، لأنّ العرض هو إظهار ما فيه رغبة وشهوة.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

أعقب وصف حرمانهم الانتفاع بدلائل المشاهدات على وحدانية الله وإعراضهم عن سماع الآيات بتفريع الإنكار لاتخاذهم أولياء من دون الله يزعمونها نافعة لهم تنصرهم

١٣٩

تفريع الإنكار على صلة الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ، لأن حسبانهم ذلك نشأ عن كون أعينهم في غطاء وكونهم لا يستطيعون سمعا ، أي حسبوا حسبانا باطلا فلم يغن عنهم ما حسبوه شيئا ، ولأجله كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا.

وتقدم حرف الاستفهام على فاء العطف لأن للاستفهام صدر الكلام وهو كثير في أمثاله. والخلاف شهير بين علماء العربية في أن الاستفهام مقدم من تأخير ، أو أن العطف إنما هو على ما بعد الاستفهام بعد حذف المستفهم عنه لدلالة المعطوف عليه. فيقدر هنا : أأمنوا عذابي فحسبوا أن يتخذوا إلخ ... وأول القولين أولى. وقد تقدمت نظائره منها قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) في سورة البقرة [٧٥].

والاستفهام إنكاري ، والإنكار عليهم فيما يحسبونه يقتضي أن ما ظنوه باطل ، ونظيره قوله (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت : ٢].

و (أَنْ يَتَّخِذُوا) سادّ مسدّ مفعولي (فَحَسِبَ) لأنه يشتمل على ما يدل على المفعولين فهو ينحل إلى مفعولين. والتقدير : أحسب الذين كفروا عبادي متخذين أولياء لهم من دوني.

والإنكار متسلط على معمول المفعول الثاني وهو (أَوْلِياءَ) المعمول ل (يَتَّخِذُوا) بقرينة ما دل عليه فعل (فَحَسِبَ) من أن هنالك محسوبا باطلا ، وهو كونهم أولياء باعتبار ما تقتضيه حقيقة الولاية من الحماية والنصر.

و (عِبادِي) صادق على الملائكة والجنّ والشياطين ومن عبدوهم من الأخيار مثل عيسى عليه‌السلام ، ويصدق على الأصنام بطريق التغليب.

و (مِنْ دُونِي) متعلّق ب (أَوْلِياءَ) إما بجعل (دُونِي) اسما بمعنى حول ، أي من حول عذابي ، وتأويل (أَوْلِياءَ) بمعنى أنصارا ، أي حائلين دون عذابي ومانعيهم منه ، وإما بجعل (دُونِي) بمعنى غيري ، أي أحسبوا أنهم يستغنون بولايتهم.

وصيغ فعل الاتخاذ بصيغة المضارع للدلالة على تجدده منهم وأنهم غير مقلعين عنه.

وجعل في «الكشاف» فعل (يَتَّخِذُوا) للمستقبل ، أي أحسبوا أن يتخذوا عبادي أولياء يوم القيامة كما اتّخذوهم في الدنيا ، وهو المشار إليه بقوله (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً). ونظّره بقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَ) نقول (لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ

١٤٠