تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكراما لنزلاء ذلك المكان.

ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين. والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى ـ عليه‌السلام ـ وقومه. وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل ، فإن موسى ـ عليه‌السلام ـ بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلا فعلمنا أنه لم يكن مكانا بعيدا جدا. وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتا له.

ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى ـ عليه‌السلام ـ أنه يعلم علوما من معاملة الناس لم يعلّمها الله لموسى. فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم ، وهو تفاوت نسبي.

والخضر : اسم رجل صالح. قيل : هو نبيء من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام. فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر ، فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ. وقيل : الخضر لقبه. وأما اسمه فهو (بليا) بموحدة أو إيليا بهمزة وتحتية.

واتفق الناس على أنه كان من المعمرين ، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حيا اختلافا لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية ، وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية ، والمشاهدات الحسية والكشفية ، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي.

وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس : وقيل : هو من ذرية عيسو بن إسحاق. وقيل : هو نبيء بعث بعد شعيب.

وجرجس المعني هو المعروف باسم مار جرجس. والعرب يسمونه : مار سرجس كما في «كتاب سيبويه». وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى ـ عليه‌السلام ـ وتوفي سنة ٣٠٣ وهو من الشهداء. وهذا ينافي كونه في زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والخضر لقب له ، أي الموصوف بالخضرة ، وهي رمز البركة ، قيل : لقب خضرا لأنه كان إذا جلس على الأرض اخضرّ ما حوله ، أي اخضرّ بالنبات من أثر بركته. وفي «دائرة المعارف الإسلامية» ذكرت تخرصات تلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها

١٠١

رومانية وما رائده في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص ، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها.

والمحقق أنّ قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنّها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم. ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نوفا البكالي على أن قال : إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في «صحيح البخاري» وأن ابن عباس كذب نوفا ، وساق الحديث المتقدم.

وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهود إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥].

واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون ، فقيل : نعم ، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا (أو منسه) ابن يوسف بن يعقوب. وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدّ من صحابته. وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين. وسمي الخضر بليا بن ملكان ـ أو إيليا ـ أو إلياس ، فقيل : إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس.

ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفا بشريعة موسى ويقره موسى على أفعال لا تبيحها شريعته. بل يتعين أن يكون نبيئا موحى إليه بوحي خاص ، وعلم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها. ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله : بلى عبدنا خضر هو أعلم منك. كما في حديث أبي بن كعب ، لم يصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمة وحده. وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة ، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقا بموسى ـ عليه‌السلام ـ.

ومعنى (أَوْ أَمْضِيَ) أو أسير. والمضي : الذهاب والسير.

والحقب ـ بضمتين ـ اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار ، وجمعه أحقاب.

وعطف (أَمْضِيَ) على (أَبْلُغَ) ب (أو) فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير ، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمنا طويلا. ولما كان موسى لا يخامره الشك

١٠٢

في وجود مكان هو مجمع للبحرين والفاء طلبته عنده ، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى ، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمنا يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين. فالمعنى : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو أسير أزمانا طويلة فإني بالغ مجمع البحرين لا محالة ، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما ، كما دل عليه قوله بعد (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) [الكهف : ٦٢].

أو أراد شحذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد.

[٦١ ـ ٦٣] (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣))

الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر ، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وضمير (بَيْنِهِما) عائد إلى البحرين ، أي محلا يجمع بين البحرين. وأضيف (مجمع) إلى (بين) على سبيل التوسع ، فإن (بين) اسم لمكان متوسط شيئين ، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفا للفعل ، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافة كما هنا ، ومنه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] ، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معمولة ؛ أو بدون إضافة توسعا كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] في قراءة من قرأ برفع بينكم.

والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث. والنسيان تقدم في قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) في سورة البقرة [١٠٦].

ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباق هو في مكتله حينئذ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه فيه هو الموضع المؤقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعبا في المشي ، فإسناد النسيان إليهما حقيقة ، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته. وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجة إذا وكله إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده. ثم إن موسى ـ عليه‌السلام ـ نام وبقي فتاه يقظان فاضطرب الحوت وجعل

١٠٣

لنفسه طريقا في البحر.

والسرب : النفق. والاتخاذ : الجعل. وقد انتصب (سَرَباً) على الحال من (سَبِيلَهُ) مرادا بالحال التشبيه ، كقول امرئ القيس :

إذا قامتا تضوّع المسك منهما

نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل

وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سربا في الحديث السابق عن أبيّ بن كعب.

وحذف مفعول (جاوَزا) للعلم ، أي جاوزا مجمع البحرين.

والغداء : طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يؤكل في وقت الغدوة ، وضده العشاء ، وهو طعام العشي. والنصب : التعب.

والصخرة : صخرة معهودة لهما ، إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها ، وكانت في مجمع البحرين. قيل : إن موضعها دون نهر يقال له : نهر الزيت ، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون.

وقوله : (نَسِيتُ الْحُوتَ) أي نسيت حفظه وافتقاده ، أي فانفلت في البحر.

وقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). هذا نسيان آخر غير النسيان الأول ، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه.

وقرأ حفص عن عاصم (وَما أَنْسانِيهُ) ـ بضم هاء ـ الضمير على أصل الضمير وهي لغة. والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف.

و (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل اشتمال من ضمير (أَنْسانِيهُ) لا من الحوت ، والمعنى : ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان. فالذكر هنا ذكر اللسان.

ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به. ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين ، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعا في حدوث العوائق.

وجملة (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) عطف على جملة (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) وهي بقية

١٠٤

كلام فتى موسى ، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر ، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتا زمنا طويلا.

وقوله : (عَجَباً) جملة مستأنفة ، وهي من حكاية قول الفتى ، أي أعجب له عجبا ، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله.

[٦٤ ـ ٧٠] (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

(قالَ ذلِكَ) إلخ .. جواب عن كلامه ، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقد الحوت. ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى. وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت.

وكتب (نَبْغِ) في المصحف بدون ياء في آخره ، فقيل : أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف ، لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها. وقيل : أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية. والعرب يميلون إلى التخفيف. فقرأ نافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ـ بحذف الياء ـ في الوقف وإثباتها في الوصل ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير ، ويعقوب بإثباتها في الحالين ، والنون نون المتكلم المشارك ، أي ما أبغيه أنا وأنت ، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح.

والارتداد : مطاوع الرد كأن رادا ردّهما. وإنما ردتهما إرادتهما ، أي رجعا على آثار سيرهما ، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه.

والقصص : مصدر قص الأثر ، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول.

والمراد بالعبد : الخضر ، ووصف بأنه من عباد الله تشريفا له ، كما تقدم عند قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١].

وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه ، وللإشارة إلى

١٠٥

أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى. وما منهم إلا له مقام معلوم.

وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه : أنه جعل مرحوما ، وذلك بأن رفق الله به في أحواله. ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفا يجلب الرحمة العامة. والعلم من لدن الله : هو الإعلام بطريق الوحي.

و (عند) و (لدن) كلاهما حقيقته اسم مكان قريب. ويستعملان مجازا في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.

و (من) ابتدائية ، أي آتيناه رحمة صدرت من مكان القرب ، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله ، وعلما صدر منه أيضا. وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة ، أو ما أوتيه من العلم عزيز ، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يعطى إلا للمصطفين.

والمخالفة بين (مِنْ عِنْدِنا) وبين (مِنْ لَدُنَّا) للتفنن تفاديا من إعادة الكلمة. وجملة (قالَ لَهُ مُوسى) ابتداء محاورة ، فهو استئناف ابتدائي ، ولذلك لم يقع التعبير ب (قال) مجردة عن العاطف.

والاستفهام في قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) مستعمل في العرض بقرينة أنه استفهام عن عمل نفس المستفهم. والاتباع : مجاز في المصاحبة كقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) [النّجم : ٢٨].

و (على) مستعملة في معنى الاشتراط لأنه استعلاء مجازي. جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم لشدة المقارنة بينهما. فصيغة : أفعل كذا على كذا ، من صيغ الالتزام والتعاقد.

ويؤخذ من الآية جواز التعاقد على تعليم القرآن والعلم ، كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يقبلها ، فزوجها من رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن.

وفيه أنه التزام يجب الوفاء به. وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط فيجب على المنتصب للتعليم أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم.

١٠٦

وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك للعلم من كتاب المدارك : أن رجلا خراسانيا جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرضون عليه وهو يسمع ولا يسمعون قراءة منه عليهم ، فسأله أن يقرأ عليهم فأبى مالك ، فاستعدى الخراساني قاضي المدينة. وقال : جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا. فحكم القاضي على مالك : أن يقرأ له ، فقيل لمالك : أأصاب القاضي الحق؟ قال : نعم.

وفيه أيضا إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به.

وانتصب (رُشْداً) على المفعولية ل (تُعَلِّمَنِ) أي ما به الرشد ، أي الخير.

وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية ، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة ، لأنه لذلك أرسله وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصة الذين وجدهم يؤبّرون النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم». ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيش المسلمين ببدر أول مرة ليس الأليق بالحرب.

وإنما رام موسى أن يعلم شيئا من العلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير. وقد قال الله تعالى تعليما لنبيه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤]. وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غير عامة تتعلق بمعينين لجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة. فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة عامة لكافة الناس ، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة. ونظيره معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحوال بعض المشركين والمنافقين ، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دوما إلى الإيمان ، وتحققه أن أولئك المنافقين غير مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين ، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه بهم.

وقرأ الجمهور (رُشْداً) ـ بضم الراء وسكون الشين ـ. وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ـ بفتح الراء وفتح الشين ـ مثل اللفظين السابقين ، وهما لغتان كما تقدم.

وأكد جملة (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) بحرف (إن) وبحرف (لن) تحقيقا

١٠٧

لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه ، لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف. ولما كان موسى ـ عليه‌السلام ـ من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجراء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المشربين لأن الأنبياء لا يقرون المنكر.

وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار ، وليس المقصود منه الإخبار. فمناط التأكيدات في جملة (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل ، ولو كان خبرا على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً).

وفي هذا أصل من أصول التعليم أن ينبه المعلم المتعلم بعوارض موضوعات العلوم الملقنة لا سيما إذا كانت في معالجتها مشقة.

وزادها تأكيدا عموم الصبر المنفي لوقوعه نكرة في سياق النفي ، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطع ذلك ، فأفاد هذا التركيب نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه.

وزيادة (مَعِيَ) إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره فانتفاء الصبر على أعماله أجدر.

وجملة (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) في موضع الحال من اسم (إن) أو من ضمير (تَسْتَطِيعَ) ، فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى. وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية ، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد ، للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها.

و (كيف) للاستفهام الإنكاري في معنى النفي ، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خبرا.

والخبر ـ بضم الخاء وسكون الباء ـ : العلم. وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله : (ما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ، أي إحاطة من حيث العلم.

١٠٨

والإحاطة : مجاز في التمكن ، تشبيها لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به.

وقوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) أبلغ في ثبوت الصبر من نحو : سأصبر ، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه. وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شأنه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة ، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه ، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد.

ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغا في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم.

فجملة (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) معطوفة على جملة (سَتَجِدُنِي) ، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفا على (صابِراً) فيؤوّل بمصدر ، أي وغير عاص. وفي هذا دليل على أن أهم ما يتسم به طالب العلم هو الصبر والطاعة للمعلم.

وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله ـ استعانة به وحرصا على تقدم التيسير تأدبا مع الله ـ إيذان بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج ، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب ، إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها ، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالبا الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة. وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقى من موسى هذه المعاملة فقال له : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) ، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره. والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعة لأن الله أخبره بأنه آتاه علما.

والتاء في قوله : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابرا ، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه.

وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقا لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم ، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسئول بإكمال عمله فتضيق له نفسه ، فربما كان الجواب عنه بدون شره نفس ، وربما خالطه بعض القلق فيكون الجواب غير شاف ، فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسبا ليكون البيان أبسط والإقبال

١٠٩

أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين.

والذكر ، هنا : ذكر اللسان. وتقدم عند قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) في سورة البقرة [٤٠]. أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض.

وإحداث الذكر : إنشاؤه وإبرازه ، كقول ذي الرمة :

أحدثنا لخالقها شكرا

وقرأ نافع (فَلا تَسْئَلْنِي) ـ بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون ـ على أنه مضارع سأل المهموز مقترنا بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم.

وقرأ ابن عامر مثله ، لكن بحذف ياء المتكلم. وقرأ البقية (تَسْئَلْنِي) ـ بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون ـ. وأثبتوا ياء المتكلم.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١))

أي فعقب تلك المحاورة أنهما انطلقا. والانطلاق : الذهاب والمشي ، مشتق من الإطلاق وهو ضد التقييد ، لأن الدابة إذا حلّ عقالها مشت. فأصله مطاوع أطلقه.

و (حتى) غاية للانطلاق. أي إلى أن ركبا في السفينة.

و (حتى) ابتدائية ، وفي الكلام إيجاز دل عليه قوله : (إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ). أصل الكلام : حتى استأجرا سفينة فركباها فلما ركبا في السفينة خرقها.

وتعريف (السَّفِينَةِ) تعريف العهد الذهني ، مثل التعريف في قوله تعالى : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣].

و (إِذا) ظرف للزمان الماضي هنا ، وليست متضمنة معنى الشرط. وهذا التوقيت يؤذن بأخذه في خرق السفينة حين ركوبهما. وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجل خرقها لأن الشيء المقصود يبادر به قاصده لأنه يكون قد دبره وارتآه من قبل.

وبني نظم الكلام على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقع بمجرد الركوب في السفينة ، لأن في تقديم الظرف اهتماما به ، فيدل على أن وقت الركوب مقصود لإيقاع الفعل فيه.

١١٠

وضمن الركوب معنى الدخول لأنه ركوب مجازي ، فلذلك عدي بحرف (في) الظرفية نظير قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) [هود : ٤١] دون نحو قوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨]. وقد تقدم ذلك في سورة هود.

والخرق : الثقب والشق ، وهو ضد الالتئام.

والاستفهام في (أَخَرَقْتَها) للإنكار. ومحل الإنكار هو العلة بقوله : (لِتُغْرِقَ أَهْلَها) ، لأن العلة ملازمة للفعل المستفهم عنه. ولذلك توجه أن يغير موسى ـ عليه‌السلام ـ هذا المنكر في ظاهر الأمر ، وتأكيد إنكاره بقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).

والإمر ـ بكسر الهمزة ـ : هو العظيم المفظع. يقال : أمر كفرح إمرا ، إذا كثر في نوعه. ولذلك فسره الراغب بالمنكر ، لأن المقام دال على شيء ضارّ. ومقام الأنبياء في تغيير المنكر مقام شدة وصراحة. ولم يجعله نكرا كما في الآية بعدها لأن العلم الذي عمله الخضر ذريعة للغرق ولم يقع الغرق بالفعل.

وقرأ الجمهور (لِتُغْرِقَ) ـ بمثناة فوقية مضمومة ـ على الخطاب. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ليغرق ـ بتحتية مفتوحة ورفع أهلها على إسناد فعل الغرق للأهل.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢))

استفهام تقرير وتعريض باللوم على عدم الوفاء بما التزم ، أي أتقرّ أني قلت إنك لا تستطيع معي صبرا.

و (مَعِيَ) ظرف متعلق ب (تَسْتَطِيعَ) ، فاستطاعة الصبر المنفية هي التي تكون في صحبته لأنه يرى أمورا عجيبة لا يدرك تأويلها.

وحذف متعلق القول تنزيلا له منزلة اللازم ، أي ألم يقع مني قول فيه خطابك بعدم الاستطاعة.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣))

اعتذر موسى بالنسيان وكان قد نسي التزامه بما غشي ذهنه من مشاهدة ما ينكره.

والنهي مستعمل في التعطف والتماس عدم المؤاخذة ، لأنه قد يؤاخذه على النسيان مؤاخذة من لا يصلح للمصاحبة لما ينشأ عن النسيان من خطر. فالحزامة الاحتراز من

١١١

صحبة من يطرأ عليه النسيان ، ولذلك بني كلام موسى على طلب عدم المؤاخذة بالنسيان ولم يبن على الاعتذار بالنسيان ، كأنه رأى نفسه محقوقا بالمؤاخذة ، فكان كلاما بديع النسيج في الاعتذار.

والمؤاخذة : مفاعلة من الأخذ ، وهي هنا للمبالغة لأنها من جانب واحد كقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) [النحل : ٦١].

و (ما) مصدرية ، أي لا تؤاخذني بنسياني.

والإرهاق : تعدية رهق ، إذا غشي ولحق ، أي لا تغشّني عسرا. وهو هنا مجاز في المعاملة بالشدة.

والإرهاق : مستعار للمعاملة والمقابلة.

والعسر : الشدة وضد اليسر. والمراد هنا : عسر المعاملة ، أي عدم التسامح معه فيما فعله فهو يسأله الإغضاء والصفح.

والأمر : الشأن.

و (من) يجوز أن تكون ابتدائية ، فكون المراد بأمره نسيانه ، أي لا تجعل نسياني منشئا لإرهاقي عسرا. ويجوز أن تكون بيانية فيكون المراد بأمره شأنه معه ، أي لا تجعل شأني إرهاقك إياي عسرا.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤))

يدل تفريع قوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) عن اعتذار موسى ، على أن الخضر قبل عذره وانطلقا مصطحبين.

والقول في نظم قوله : (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) كالقول في قوله : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) [الكهف : ٧١].

وقوله : (فَقَتَلَهُ) تعقيب لفعل (لَقِيا) تأكيدا للمبادرة المفهومة من تقديم الظرف ، فكانت المبادرة بقتل الغلام عند لقائه أسرع من المبادرة بخرق السفينة حين ركوبها.

وكلام موسى في إنكار ذلك جرى على نسق كلامه في إنكار خرق السفينة سوى أنه

١١٢

وصف هذا الفعل بأنه نكر ، وهو ـ بضمتين ـ : الذي تنكره العقول وتستقبحه ، فهو أشد من الشيء الإمر ، لأن هذا فساد حاصل والآخر ذريعة فساد كما تقدم. ووصف النفس بالزاكية لأنها نفس غلام لم يبلغ الحلم فلم يقترف ذنبا فكان زكيا طاهرا. والزكاء : الزيادة في الخير.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ورويس عن يعقوب زاكية ـ بألف بعد الزاي ـ اسم فاعل من زكا. وقرأ الباقون (زَكِيَّةً) ، وهما بمعنى واحد.

قال ابن عطية : النون من قوله : (نُكْراً) هي نصف القرآن ، أي نصف حروفه. وقد تقدم أن ذلك مخالف لقول الجمهور : إن نصف القرآن هو حرف التاء من قوله تعالى : (وَلْيَتَلَطَّفْ) في هذه السورة [١٩].

[٧٥ ، ٧٦] (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦))

كان جواب الخضر هذا على نسق جوابه السابق إلا أنه زاد ما حكي في الآية بكلمة (لَكَ) وهو تصريح بمتعلّق فعل القول. وإذ كان المقول له معلوما من مقام الخطاب كان في التصريح بمتعلق فعل القول تحقيق لوقوع القول وتثبيت له وتقوية ، والداعي لذلك أنه أهمل العمل به.

واللام في قوله (لَكَ) لام التبليغ ، وهي التي تدخل على اسم أو ضمير السامع لقول أو ما في معناه ، نحو : قلت له ، وأذنت له ، وفسّرت له ؛ وذلك عند ما يكون المقول له الكلام معلوما من السياق فيكون ذكر اللام لزيادة تقوي الكلام وتبليغه إلى السامع ، ولذلك سميت لام التبليغ. ألا ترى أن اللام لم يحتج لذكره في جوابه أول مرة (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، فكان التقرير والإنكار مع ذكر لام تعدية القول أقوى وأشدّ.

وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان : إما لأنه لم يكن نسي ، ولكنه رجّح تغيير المنكر العظيم ، وهو قتل النفس بدون موجب ، على واجب الوفاء بالالتزام ؛ وإما لأنّه نسي وأعرض عن الاعتذار بالنسيان لسماجة تكرر الاعتذار به ، وعلى الاحتمالين فقد عدل إلى المبادرة باشتراط ما تطمئن إليه نفس صاحبه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يبتغيه صاحبه فقد جعل له أن لا يصاحبه بعده.

١١٣

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كانت الأولى من موسى نسيانا ، والثانية شرطا» ، فاحتمل كلام النبي الاحتمالين المذكورين.

وأنصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنبا لإحراجه.

وقرأ الجمهور : (لَدُنِّي) ـ بتشديد النون ـ قال ابن عطية : وهي قراءة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعني أن فيها سندا خاصا مرويا فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.

وقرأ نافع ، وأبو بكر ، وأبو جعفر (مِنْ لَدُنِّي) ـ بتخفيف النون ـ على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفا ، لأن (لدن) أثقل من (عن) (ومن) فكان التخفيف فيها مقبولا دونهما.

ومعنى (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) قد وصلت من جهتي إلى العذر. فاستعير (بَلَغْتَ) لمعنى (تحتّم وتعين) لوجود أسبابه بتشبيه العذر في قطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية. وأثبت له البلوغ تخييلا ، أو استعار البلوغ لتعيّن حصول الشيء بعد المماطلة.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧))

نظم قوله (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) كنظم نظيريه السابقين.

والاستطعام : طلب الطعام. وموقع جملة (اسْتَطْعَما أَهْلَها) كموقع جملة (خرقها) وجملة (فقتله) ، فهو متعلق (إذا). وإظهار لفظ (أَهْلَها) دون الإتيان بضميرهم بأن يقال : استطعماهم ، لزيادة التصريح ، تشنيعا بهم في لؤمهم ، إذ أبوا أن يضيفوهما. وذلك لؤم ، لأنّ الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه‌السلام وهي من المواساة المتبعة عند الناس. ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمر عليهم عابر السبيل ويسألهم الضيافة ، أو من أعدّ نفسه لذلك من كرام القبيلة ؛ فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية.

وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالا عن نكتة هذا الإظهار في أبيات. وأجابه السبكي جوابا طويلا نثرا ونظما بما لا يقنع ، وقد ذكرهما الآلوسي.

وفي الآية دليل على إباحة طلب الطعام لعابر السبيل لأنه شرع من قبلنا ، وحكاه القرآن ولم يرد ما ينسخه.

١١٤

ودلّ لوم موسى الخضر ، على أن لم يأخذ أجر إقامة الحائط على صاحبه من أهل القرية ، على أنه أراد مقابلة حرمانهم لحق الضيافة بحرمانهم من إقامة الجدار في قريتهم.

وفي الآية مشروعية ضيافة عابر السبيل إذا نزل بأحد من الحيّ أو القرية. وفي حديث «الموطأ» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة (أي يتحفه ويبالغ في بره) وضيافته ثلاثة أيام (أي إطعام وإيواء بما حضر من غير تكلّف كما يتكلف في أول ليلة) فما كان بعد ذلك فهو صدقة».

واختلف الفقهاء في وجوبها فقال الجمهور : الضيافة من مكارم الأخلاق ، وهي مستحبة وليست بواجبة. وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي. وقال سحنون : الضيافة على أهل القرى والأحياء ، ونسب إلى مالك. قال سحنون : أما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافرون. وقال الشافعي ومحمد بن عبد الحكم من المالكية : الضيافة حق على أهل الحضر والبوادي. وقال الليث وأحمد : الضيافة فرض يوما وليلة.

ويقال : ضيّفه وأضافه ، إذا قام بضيافته ، فهو مضيّف بالتشديد. ومضيف بالتخفيف ، والمتعرض للضيافة : ضائف ومتضيّف ، يقال : ضفته وتضيّفته ، إذا نزل به ومال إليه.

والجدار : الحائط المبني.

ومعنى (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أشرف على الانقضاض ، أي السقوط ، أي يكاد يسقط ، وذلك بأن مال ، فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعل شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده ، لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه.

وإقامة الجدار : تسوية ميله ، وكانت إقامته بفعل خارق للعادة بأن أشار إليه بيده كالذي يسوي شيئا ليّنا كما ورد في بعض الآثار.

وقول موسى : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لوم ، أي كان في مكنتك أن تجعل لنفسك أجرا على إقامة الجدار تأخذه ممن يملكه من أهل القرية ولا تقيمه مجانا لأنهم لم يقوموا بحق الضيافة ونحن بحاجة إلى ما ننفقه على أنفسنا ، وفيه إشارة إلى أن نفقة الأتباع على المتبوع.

وهذا اللوم يتضمن سؤالا عن سبب ترك المشارطة على إقامة الجدار عند الحاجة

١١٥

إلى الأجر ، وليس هو لوما على مجرد إقامته مجانا ، لأن ذلك من فعل الخير وهو غير ملوم.

وقرأ الجمهور (لَاتَّخَذْتَ) ـ بهمزة وصل بعد اللام وبتشديد المثناة الفوقية ـ على أنه ماضي (اتخذ).

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب لتخذت بدون همزة على أنه ماضي (تخذ) المفتتح بتاء فوقية على أنه ماضي (تخذ) أوله فوقية ، وهو من باب علم.

[٧٨ ـ ٨٢] (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

المشار إليه بلفظ (هذا) مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما ، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا ، كما يقال : الشرط أملك عليك أم لك. وكثيرا ما يكون المشار إليه مقدار في الذهن كقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص : ٨٣]. وإضافة (فِراقُ) إلى (بَيْنِي) من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله : فراق بيني ، أي حاصل بيننا ، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله ، كما يضاف المصدر إلى مفعوله. وقد تقدم خروج (بين) عن الظرفية عند قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) [الكهف : ٦١].

وجملة (سَأُنَبِّئُكَ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، تقع جوابا لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه‌السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه‌السلام وسأله عنها موسى فإنه قد وعده أن يحدث له ذكرا مما يفعله.

والتأويل : تفسير لشيء غير واضح ، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع. شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه. وقد مضى في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير ، وأيضا عند قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي

١١٦

الْعِلْمِ يَقُولُونَ) إلخ .. من أول سورة آل عمران [٧].

وفي صلة الموصول من قوله (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

والمساكين : هنا بمعنى ضعفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويرق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم. فليس المراد أنهم فقراء أشدّ الفقر كما في قوله تعالى:(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠] بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين : «... مسكين ابن آدم وأيّ مسكين».

وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد.

ومعنى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) : هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخّر كل سفينة يجدها غصبا ، أي بدون عوض. وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملك في مصالح نفسه وشهواته ، كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام.

ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كلّ بحسب حاله من الاحتياج لأنّ ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها.

ووراء اسم الجهة التي خلف ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم ، وهو ضد أمام وقدّام.

ويستعار (الوراء) لحال تعقب شيء شيئا وحال ملازمة طلب شيء شيئا بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريبا ، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) في [الجاثية : ١٠].

وقال لبيد :

أليس ورائي أن تراخت منيتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

وبعض المفسرين فسروا (وَراءَهُمْ مَلِكٌ) بمعنى أمامهم ملك ، فتوهم بعض مدوني اللغة أن (وراء) من أسماء الأضداد ، وأنكره الفراء وقال : لا يجوز أن تقول للذي بين يديك هو وراءك ، وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد. يعني أنّ ذلك على المجاز. قال الزجاج : وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللّغة.

١١٧

ومعنى (كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي صالحة ، بقرينة قوله (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، وقد ذكروا في تعيين هذا الملك وسبب أخذه للسفن قصصا وأقوالا لم يثبت شيء منها بعينه ، ولا يتعلّق به غرض في مقام العبرة.

وجملة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) متفرعة على كل من جملتي (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ، و (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) ، فكان حقها التأخير عن كلتا الجملتين بحسب الظاهر ، ولكنها قدمت خلافا لمقتضى الظاهر لقصد الاهتمام والعناية بإرادة إعابة السفينة حيث كان عملا ظاهره الإنكار وحقيقته الصلاح زيادة في تشويق موسى إلى علم تأويله ، لأن كون السفينة لمساكين مما يزيد السامع تعجبا في الإقدام على خرقها. والمعنى : فأردت أن أعيبها وقد فعلت. وإنما لم يقل : فعبتها ، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل.

وقد تطلق الإرادة على القصد أيضا. وفي «اللسان» عزو ذلك إلى سيبويه.

وتصرف الخضر في أمر السفينة تصرف برعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء إذ كان الخضر عالما بحال الملك ، أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي ، فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضررين. وهذا أمر خفي لم يطلع عليه إلّا الخضر ، فلذلك أنكره موسى.

وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جار على قطع فساد خاص علمه الله وأعلم به الخضر بالوحي ، فليس من مقام التشريع ، وذلك أنّ الله علم من تركيب عقل الغلام وتفكيره أنه عقل شاذ وفكر منحرف طبع عليه بأسباب معتادة من انحراف طبع وقصور إدراك ، وذلك من آثار مفضية إلى تلك النفسية وصاحبها في أنه ينشأ طاغيا كافرا. وأراد الله اللّطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالم من هذا الطاغي لطفا أراده الله خارقا للعادة جاريا على مقتضى سبق علمه ، ففي هذا مصلحة للدّين بحفظ أتباعه من الكفر ، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين ، ومصلحة عامة لأنه حقّ لله تعالى فهو كحكم قتل المرتد.

والزّكاة : الطهارة ، مراعاة لقول موسى (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً).

والرحم : ـ بضم الراء وسكون الحاء ـ : نظير الكثر للكثرة.

والخشية : توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله.

وضميرا الجماعة في قوله (فَخَشِينا) وقوله (فَأَرَدْنا) عائدان إلى المتكلم الواحد

١١٨

بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل. وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأنّ الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال : (فَخَشِينا فَأَرَدْنا) ، ولم يقل مثله عند ما قال (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) لأنّ سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في سورة يوسف [٧٩].

وقرأ الجمهور (أَنْ يُبْدِلَهُما) ـ بفتح الموحدة وتشديد الدال ـ من التبديل. وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بسكون الموحدة وتخفيف الدال ـ من الإبدال.

وأما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالا ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضا لطف خارق للعادة. وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين.

وقوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها.

ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى. وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرف عن خطأ.

وانتصب (رَحْمَةً) على المفعول لأجله فينازعه كل من (أردت) ، و (أردنا) ، و (أراد ربّك).

وجملة (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فذلكة للجمل التي قبلها ابتداء من

١١٩

قوله (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه.

و (تَسْطِعْ) مضارع (اسطاع) بمعنى (استطاع). حذف تاء الاستفعال تخفيفا لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفة بينه وبين قوله (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) للتفنن تجنبا لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه. وابتدئ بأشهرهما استعمالا وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر (تَسْتَطِعْ) يحصل من تكريره ثقل.

وأكد الموصول الأول الواقع في قوله (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) تأكيدا للتعريض باللوم على عدم الصبر.

واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلا بنوا عليه قواعد موهومة.

فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئا وإنما كان عبدا صالحا ، وأن العلم الذي أوتيه ليس وحيا ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحه الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعا لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه.

وبنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه «الفتوحات المكية» ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورة في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفا للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة. وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوما ولتفاوت مراتب الكشف عندهم. وقد تعرض لها النسفي في «عقائده» ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط.

والأظهر أن الخضر نبيء عليه‌السلام وأنه كان موحى إليه بما أوحي ، لقوله (وَما

١٢٠