تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

قلت : هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومه ، فإنّه بقي معهم في التيه حتّى توفّي. قلت : كان ذلك هيّنا على موسى لأنّ بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصّيصة رسالته ، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة ، أمّا هم فكانوا في مشقّة.

(يَتِيهُونَ) يضلّون ، ومصدره التّيه ـ بفتح التّاء وسكون الياء ـ والتيه ـ بكسر التّاء وسكون التحتية ـ. وسمّيت المفازة تيهاء وسمّيت تيها. وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيّقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتّى بلغوا جبل (نيبو) على مقربة من نهر (الأردن) ، فهنالك توفّي موسى ـ عليه‌السلام ـ وهنالك دفن. ولا يعرف موضع قبره كما في نصّ كتاب اليهود. وما دخلوا الأرض المقدسة حتّى عبروا الأردن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى. وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنّة ، لأنّهما لم يقولا : لن ندخلها. وأمّا بقية الرّوّاد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها.

وقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) تفريع على الإخبار بهذا العقاب ، لأنّه علم أنّ موسى يحزنه ذلك ، فنهاه عن الحزن لأنّهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم. والأسى : الحزن ، يقال أسي كفرح إذا حزن.

[٢٧ ـ ٣٠] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠))

عطف نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قتل النفس والحرابة والسرقة ، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها ، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصص التي هي مواقع عبرة وتنظم كلّها في جرائر الغرور. والمناسبة بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ. فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى : فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة ، وأحد ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين. وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصية ؛ فبنو إسرائيل قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) [المائدة : ٢٤] ، وابن آدم قال :

٨١

لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه. وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداما مذموما من ابن آدم ، وإحجاما مذموما من بني إسرائيل ، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى ، وفي الأخرى اختلاف أخوين بالصّلاح والفساد.

ومعنى (ابْنَيْ آدَمَ) هنا ولداه. وأمّا ابن آدم مفردا فقد يراد به واحد من البشر نحو: «يا بن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك» ، أو مجموعا نحو (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) [الأعراف : ٣١].

والباء في قوله : (بِالْحَقِ) للملابسة متعلّقا ب (اتْلُ). والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت ، والصدق هو الثّابت ، والكذب لا ثبوت له في الواقع ، كما قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) [الكهف : ١٣]. ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل ، أي اتل هذا النبأ متلبّسا بالحقّ ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللهو. ويحتمل أن يكون قوله (بِالْحَقِ) مشيرا إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه.

و (إِذْ) ظرف زمان ل (نَبَأَ) ، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قربانا ، فينتصب (إذ) على المفعول فيه.

وفعل (قَرَّبا) هنا مشتقّ من القربان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد ، وأصله مصدر كالشّكران والغفران والكفران ، يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نسك أو صلاة ، فاشتقّ من القرآن قرّب ، كما اشتقّ من النّسك نسك ، ومن الأضحيّة ضحّى ، ومن العقيقة عقّ. وليس (قَرَّبا) هنا بمعنى أدنيا إذ لا معنى لذلك هنا.

وفي التّوراة هما (قايين) ـ والعرب يسمّونه قابيل ـ وأخوه (هابيل). وكان قابيل فلّاحا في الأرض ، وكان هابيل راعيا للغنم ، فقرّب قابيل من ثمار حرثه قربانا وقرّب هابيل من أبكار غنمه قربانا. ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة. فتقبّل الله قربان هابيل ولم يتقبّل قربان قابيل. والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم. وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلا صالحا بل كانت له خطايا. وقيل : كان كافرا ، وهذا ينافي كونه يقرّب قربانا.

وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس ، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قربانا وليس هو

٨٢

قربانا مشتركا. ولم يسمّ الله تعالى المتقبّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة. وإنّما حمله على قتل أخيه حسده على مزيّة القبول. والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض.

وقوله في الجواب (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله. يقول : القبول فعل الله لا فعل غيره ، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره. يعرّض به أنّه ليس بتقي ، ولذلك لم يتقبّل الله منه. وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس. ولذا فلا ذنب ، لمن تقبّل الله قربانه ، يستوجب القتل. وقد أفاد قول ابن آدم حصر القبول في أعمال المتّقين. فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعا المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل ؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم ، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنات من المؤمن وإن لم يكن متّقيا في سائر أحواله ؛ ويحتمل أن يراد بالمتّقين المخلصون في العمل ، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص ، وفيه إخراج لفظ التّقوى عن المتعارف ؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلا خاصّا ، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان ، فيكون على حدّ قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، أي هدى كاملا لهم ، وقوله : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٣٥] ، أي الآخرة الكاملة ؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة ؛ ويحتمل أن يراد المتّقين بالقربان ، أي المريدين به تقوى الله ، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة. ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرع زمانهم.

وقوله : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) إلخ موعظة لأخيه ليذكّره خطر هذا الجرم الّذي أقدم عليه. وفيه إشعار بأنّه يستطيع دفاعه ولكنّه منعه منه خوف الله تعالى. والظاهر أنّ هذا اجتهاد من هابيل في استعظام جرم قتل النّفس ، ولو كان القتل دفاعا. وقد علم الأخوان ما هو القتل بما يعرفانه من ذبح الحيوان والصّيد ، فكان القتل معروفا لهما ، ولهذا عزم عليه قابيل ، فرأى هابيل للنّفوس حرمة ولو كانت ظالمة ، ورأى في الاستسلام لطالب قتله إبقاء على حفظ النّفوس لإكمال مراد الله من تعمير الأرض. ويمكن أن يكونا تلقّيا من أبيهما الوصاية بحفظ النّفوس صغيرها وكبيرها ولو كان في وقت الدّفاع ، ولذلك قال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ). فقوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) يدلّ على أنّ الدّفاع بما يفضي إلى القتل كان محرّما وأنّ هذا شريعة منسوخة لأنّ الشّرائع تبيح للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه ولو بقتل المعتدي ، ولكنّه لا يتجاوز الحدّ الّذي يحصل به الدّفاع. وأمّا

٨٣

حديث «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار» فذلك في القتال على الملك وقصد التغالب الّذي ينكفّ فيه المعتدي بتسليم الآخر له ؛ فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلح الفريقين بالتّسليم للآخر وحمل التبعة عليه تجنّبا للفتنة ، وهو الموقف الّذي وقفه عثمان ـ رضي‌الله‌عنه ـ رجاء الصلاح.

ومعنى (أُرِيدُ) : أريد من إمساكي عن الدفاع. وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص : ٢٧] ، وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة : ١٨٥]. فالجملة تعليل للّتي قبلها ، ولذلك فصلت وافتتحت ب (إنّ) المشعرة بالتّعليل بمعنى فاء التفريع.

و (تَبُوءَ) ترجع ، وهو رجوع مجازي ، أي تكتسب ذلك من فعلك ، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين. والأظهر في معنى قوله (بِإِثْمِي) ما له من الآثام الفارطة في عمره ، أي أرجو أن يغفر لي وتحمل ذنوبي عليك. وفي الحديث : «يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتّى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات المظلوم فتطرح عليه». رواه مسلم. فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شرع في الإسلام ، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نبوءة.

ومصدر (أَنْ تَبُوءَ) هو مفعول (أُرِيدُ) ، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك ، فإثم مراد به الجنس ، أي ما عسى أن يكون له من إثم. وقد أراد بهذا موعظة أخيه ، ولذلك عطف عليه قوله : (وَإِثْمِكَ) تذكيرا له بفظاعة عاقبة فعلته ، كقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥]. فعطف قوله : (وَإِثْمِكَ) إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده. وكذلك قوله : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) تذكيرا لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء. ومعنى (مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي ممّن يطول عذابه في النّار ، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموها.

وقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) دلّت الفاء على التفريع والتعقيب ، ودلّ (طوّع) على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحسد ودافع الخشية ، فعلمنا أنّ المفرّع عنه محذوف ، تقديره : فتردّد مليّا ، أو فترصّد فرصا فطوّعت له نفسه. فقد قيل : إنّه بقي زمانا يتربّص بأخيه ، (وطوّع) معناه جعله طائعا ، أي مكّنه من المطوّع. والطوع والطواعية :

٨٤

ضدّ الإكراه ، والتطويع : محاولة الطوع. شبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشية. وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي ، فكان (طوّعت) استعارة تمثيلية ، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة. وقد سلك في قوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) مسلك الإطناب ، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ويقتصر على قوله (فَقَتَلَهُ) لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه ، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق ، فلم يكن ذلك إطنابا.

ومعنى (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) صار ، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة ، أي صار بذلك القتل ممّن خسر الآخرة ، ويجوز إبقاء (أصبح) على ظاهرها ، أي غدا خاسرا في الدّنيا ، والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاء ، فتفيد أنّ القتل وقع في الصّباح.

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألهم الله غرابا ينزل بحيث يراه قابيل. وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغربان من قبل ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس. ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غراب البين.

والضمير المستتر في «يريه» إن كان عائدا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائدا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنّه سبب الرؤية فكأنّه مريء. و (كَيْفَ) يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مرادا منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يواري.

٨٥

والسّوءة : ما تسوء رؤيته ، وهي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه.

وكلمة (يا وَيْلَتى) من صيغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب ، وأصله يا لويلتي ، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم : يا عجبا ، ويجوز أن يجعل الألف عوضا عن ياء المتكلم ، وهي لغة ، ويكون النّداء مجازا بتنزيل الويلة منزلة ما ينادى ، كقوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦]. والاستفهام في (أَعَجَزْتُ) إنكاري.

وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر ، وهي من قبيل طلب ستر المشاهد المكروهة. وهو أيضا مشهد أوّل علم اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتّجربة ، وهو أيضا مشهد أوّل مظاهر تلقّي البشر معارفه من عوالم أضعف منه كما تشبّه النّاس بالحيوان في الزينة ، فلبسوا الجلود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش الملوّن وبالزهور والحجارة الكريمة ، فكم في هذه الآية من عبرة للتّاريخ والدّين والخلق.

(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

القول فيه كالقول في (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٣٠]. ومعنى (مِنَ النَّادِمِينَ) أصبح نادما أشدّ ندامة ، لأنّ (مِنَ النَّادِمِينَ) أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه ، من أن يقال «نادما». كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤] وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) في سورة البقرة [٣٥].

والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه ؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات : ٦] ، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترئ على قتل أخيه ، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلّا مبدأ النّدامة وحبّ الكرامة لأخيه.

ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئا عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة ، فلذلك لم ينفعه. فجاء في الصّحيح «ما من نفس تقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ذلك لأنّه أوّل من سنّ القتل». ويحتمل أن يكون دليلا لمن قالوا : إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) الآية من سورة النّساء [٩٣].

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ

٨٦

فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

يتعيّن أن يكون (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) تعليلا ل (كَتَبْنا) ، وهو مبدأ الجملة ، ويكون منتهى التي قبلها قوله : (مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١]. وليس قوله (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) معلّقا ب «النّادمين» تعليلا له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله (فَأَصْبَحَ) [المائدة : ٣١].

و (مِنْ) للابتداء ، والأجل الجرّاء والتسبّب (١) أصله مصدر أجل يأجل ويأجل كنصر وضرب بمعنى جنى واكتسب. وقيل : هو خاصّ باكتساب الجريمة ، فيكون مرادفا لجنى وجرم ، ومنه الجناية والجريمة ، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجل على المكتسب مطلقا بعلاقة الإطلاق. والابتداء الذي استعملت له (من) هنا مجازي ، شبّه سبب الشيء بابتداء صدوره ، وهو مثار قولهم : إنّ من معاني (من) التعليل ، فإنّ كثرة دخولها على كلمة «أجل» أحدث فيها معنى التّعليل ، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل ، كما في قول الأعشى :

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفى حتّى ألاقي محمّدا

واستفيد التّعليل من مفاد الجملة. وكان التّعليل بكلمة من أجل أقوى منه بمجرّد اللام ، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه. وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص (ذلِكَ) قصد استيعاب جميع المذكور.

وقرأ الجمهور (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ـ بسكون نون (من) وإظهار همزة (أجل) ـ. وقراءة ورش عن نافع ـ بفتح النّون وحذف همزة أجل ـ على طريقته. وقرأ أبو جعفر (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ـ بكسر نون (من) وحذف همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير

__________________

(١) الجرّاء ـ بفتح الجيم وتشديد الراء ـ وهو بالمدّ ، وبالقصر : التسبّب ، مشتقّ من جرّ إذا سبّب وعلل.

٨٧

منطوق بها.

ومعنى (كَتَبْنا) شرعنا كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣]. ومفعول (كَتَبْنا) مضمون جملة (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً). و (أنّ) من قوله (أَنَّهُ) بفتح الهمزة أخت (إنّ) المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدريّة ، وضمير «أنّه» ضمير الشأن ، أي كتبنا عليهم شأنا مهمّا هو مماثلة قتل نفس واحدة بغير حقّ لقتل القاتل النّاس أجمعين.

ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التّركيب يتّضح ببيان موقع حرف (أنّ) المفتوح الهمزة المشدّد النّون ، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلّا معمولا لعامل قبله يقتضيه ، فتعيّن أنّ الجملة بعد (أنّ) بمنزلة المفرد المعمول للعامل ، فلزم أنّ الجملة بعد (أنّ) مؤوّلة بمصدر يسبك ، أي يؤخذ من خبر (أنّ).

وقد اتّفق علماء العربيّة على كون (أنّ) المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون أختا لحرف (إنّ) المكسورة الهمزة ، وأنّها تفيد التّأكيد مثل أختها.

واتّفقوا على كون (أن) المفتوحة الهمزة من الموصولات الحرفيّة الخمسة الّتي يسبك مدخولها بمصدر. وبهذا تزيد (أنّ) المفتوحة على (إنّ) المكسورة. وخبر (أنّ) في هذه الآية جملة (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) إلخ. وهي مع ذلك مفسّرة لضمير الشأن. ومفعول (كَتَبْنا) مأخوذ من جملة الشّرط وجوابه ، وتقديره : كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس إلخ بقتل النّاس أجمعين في عظيم الجرم.

وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسّرين والنحويين. ووقع في «لسان العرب» عن الفرّاء ما حاصله : إذا جاءت (أنّ) بعد القول وما تصرّف منه وكانت تفسيرا للقول ولم تكن حكاية له نصبتها (أي فتحت همزتها) ، مثل قولك : قد قلت لك كلاما حسنا أنّ أباك شريف ، تفتح (أنّ) لأنّها فسّرت «كلاما» ، وهو منصوب ، (أي مفعول لفعل قلت) فمفسّره منصوب أيضا على المفعوليّة لأنّ البيان له إعراب المبيّن. فالفراء يثبت لحرف (أنّ) معنى التفسير علاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدريّة ، فصار حرف (أنّ) بالجمع بين القولين دالّا على معنى التّأكيد باطّراد ودالّا معه على معنى المصدريّة تارة وعلى معنى التّفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام. ولعلّ الفرّاء ينحو إلى أنّ حرف (أنّ) المفتوحة الهمزة مركّب من حرفين هما حرف (إنّ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وحرف (أنّ) المفتوحة الهمزة الساكنة النّون الّتي تكون تارة مصدريّة وتارة تفسيرية ؛ ففتح

٨٨

همزته لاعتبار تركيبه من (أنّ) المفتوحة الهمزة السّاكنة النّون مصدريّة أو تفسيرية ، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من (إنّ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وأصله و (أن إنّ) فلمّا ركّبا تداخلت حروفهما ، كما قال بعض النّحويين : إن أصل (لن) (لا أن).

وهذا بيان أنّ قتل النّفس بغير حقّ جرم فظيع ، كفظاعة قتل النّاس كلّهم. والمقصود التّوطئة لمشروعيّة القصاص المصرّح به في الآية الآتية (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] الآية.

والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم ، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطمينا لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيت مصالحها ، كمشروعية القصاص ، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوى منه حتّى دعا ذلك الاشتباه بعض الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذنب آخر ، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المجازاة بالقتل ؛ لأنّ النفوس جبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القوّة الغضبيّة ، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع ، وإذا طمع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة ، ثمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه. وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم ، قال قائلهم ، وهو قيس بن زهير العبسي :

شفيت النفس من حمل بن بدر

وسيفي من حذيفة قد شفاني

ولذلك قال الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩].

ومعنى التشبيه في قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائه أو الستر عليه ، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض ، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس. فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعا ، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس. على أنّ فيه معنى نفسانيا جليلا ، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني النّاشئ عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نظم العالم ، فالّذي كان من حيلته ترجيح ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوما إلى هضم الحقوق ، فكلّما سنحت له الفرصة

٨٩

قتل ، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعا لفعل. ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته ، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلّا بجزاء قاتله بمثل جرمه ؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلا : كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به ، وكيف نداوي الداء بداء آخر ، فبيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعا. وقد ذكرت وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر.

ومعنى (وَمَنْ أَحْياها) من استنقذها من الموت ، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس ، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيا الناس جميعا بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفا ، أو من غلّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).

تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل ، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة ، وأنّهم مع ما شدّد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون ، كما أشعر به قوله (بَعْدَ ذلِكَ) ، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبيّنات. وحذف متعلّق «مسرفون» لقصد التّعميم. والمراد مسرفون في المفاسد الّتي منها قتل الأنفس بقرينة قوله : (فِي الْأَرْضِ) ، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر (فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٦٠] مع ذكر الإفساد.

وجملة (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) عطف على جملة (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ). و (ثمّ) للتراخي في الرتبة ، لأنّ مجيء الرّسل بالبيّنات شأن عجيب ، والإسراف في الأرض بعد تلك البيّنات أعجب. وذكر (فِي الْأَرْضِ) لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه ، كما في قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦]. وتقديم (فِي الْأَرْضِ) للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميّة شأنها.

وقرأ الجمهور (رُسُلُنا) ـ بضمّ السّين ـ. وقرأه أبو عمرو ويعقوب ـ بإسكان السّين ـ.

[٣٣ ، ٣٤] (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

٩٠

تخلّص إلى تشريع عقاب المحاربين ، وهم ضرب من الجناة بجناية القتل. ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل. نزلت هذه الآية في شأن حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في العرنيّين ، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير ، وأخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العرنيّين. ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه : «قدم على النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من عكل وعرينة (١) فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا قد استوخمنا هذه الأرض ، فقال لهم : هذه نعم لنا فاخرجوا فيها فاشربوا ألبانها وأبوالها. فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحّوا ، فمالوا على الرّاعي فقتلوه واطّردوا الذّود وارتدّوا. فبعث رسول الله في آثارهم ، بعث جرير بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فما ترجّل النّهار حتّى جيء بهم ، فأمر بهم ، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم بمسامير أحميت ، ثمّ حبسهم حتّى ماتوا. وقيل : أمر بهم فألقوا في الحرّة يستسقون فما يسقون حتّى ماتوا. قال جماعة : وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة ، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة. نقل ذلك مولى ابن الطلاع في كتاب «الأقضية المأثورة» بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين ، وعلى هذا يكون نزولها نسخا للحدّ الّذي أقامه النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء كان عن وحي أم عن اجتهاد منه ، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع. وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين ، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة. قال أبو قلابة : فما ذا يستبقى من هؤلاء قتلوا النّفس وحاربوا الله ورسوله وخوّفوا رسول الله. وفي رواية للطبري : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض. رواه عن ابن عبّاس والضحّاك. والصّحيح الأوّل. وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية.

فالحصر ب (إِنَّما) في قوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ) إلخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي ، وهو قصر قلب لإبطال ـ أي لنسخ ـ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرنيّين ، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلّا ذلك ، فيكون المقصود من القصر حينئذ أن لا ينقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور

__________________

(١) هم سبعة : ثلاثة من عكل. وأربعة من عرينه. وعكل ـ بضم العين وسكون الكاف ـ قبيلة من تيم الرّباب بن عبد مناف بن طابخة بن إلياس بن مضر. وعرينة ـ بضم العين وفتح الراء ـ قبيلة من قضاعة.

٩١

الأربعة. وقد يكون الحصر لردّ اعتقاد مقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه. وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلا.

وأيّا ما كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها ، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة. والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازما.

ومعنى (يُحارِبُونَ) أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عدوانا لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي ، لأنّ حقيقة الحرب القتال. ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه ، وقد علم أنّ الله لا يحاربه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد بمحاربة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه ، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين ، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقابا على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام. ثمّ إنّ الله شرع حكما للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده ، وسوّى عقوبتها ، فتعيّن أن يصير تأويل (يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) المحاربة لجماعة المسلمين. وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة ، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة. ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين ، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين ، فلهذا المعنى عدّي (يُحارِبُونَ) إلى (اللهَ وَرَسُولَهُ) ليظهر أنّهم لم يقصدوا حرب معيّن من النّاس ولا حرب صفّ.

وعطف (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) لبيان القصد من حربهم الله ورسوله ، فصار الجزء على مجموع الأمرين ، فمجموع الأمرين سبب مركّب للعقوبة ، وكلّ واحد من الأمرين جزء سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها.

وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة ؛ فقال مالك : هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة أي بين المحارب ـ بالكسر ـ وبين المحارب ـ بالفتح ـ ، سواء في البادية أو في المصر ، وقال به الشّافعي وأبو ثور. وقيل : لا يكون المحارب في المصر محاربا ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق. والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة ، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر. وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه «ونّاس» أخاف أهل

٩٢

تونس بحيله في السرقة ، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقا بباب سويقة.

ومعنى (يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه ، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللّمّ ، قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩]. ويقولون : سعى فلان لأهله ، أي اكتسب لهم ، وقال تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه : ١٥].

وصاحب «الكشاف» جعله هنا بمعنى المشي ، فجعل (فَساداً) حالا أو مفعولا لأجله ، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل ، ويكون الفعل منزّلا منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله. وجوّز أن يكون سعى بمعنى أفسد ، فجعل (فَساداً) مفعولا مطلقا. ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد.

والفساد : إتلاف الأنفس والأموال ، فالمحارب يقتل الرجل لأحد ما عليه من الثّياب ونحو ذلك.

و (يُقَتَّلُوا) مبالغة في يقتلوا ، كقول امرئ القيس :

في أعشار قلب مقتّل

قصد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديدا عليهم ، وكذلك الوجه في قوله (يُصَلَّبُوا).

والصّلب : وضع الجاني الّذي يراد قتله مشدودا على خشبة ثمّ قتله عليها طعنا بالرّمح في موضع القتل. وقيل : الصّلب بعد القتل. والأول قول مالك ، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ خِلافٍ) ابتدائية في موضع الحال من (أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) ، فهي قيد للقطع ، أي أنّ القطع يبتدئ في حال التخالف ، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المخالف فتعيّن أنّه مخالف لمقطوع آخر وإلّا لم تتصوّر المخالفة ، فإذا لم يكن عضو مقطوع سابق فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفا ثمّ تجري المخالفة فيما بعد. وقد علم من قوله : (مِنْ خِلافٍ) أنّه لا يقطع من المحارب إلّا يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه ؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف. فهذا التّركيب من بديع الإيجاز. والظاهر أنّ كون القطع من خلاف تيسير ورحمة ،

٩٣

لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عود بجهة الرّجل المقطوعة.

قال علماؤنا : تقطع يده لأجل أخذ المال ، ورجله للإخافة ؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة ، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم.

والنّفي من الأرض : الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود. والمراد الإبعاد ، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم. يقال : نفوا فلانا ، أي أخرجوه من بينهم ، وهو الخليع ، وقال النّابغة :

ليهنئ لكم أن قد نفيتم بيوتنا

أي أقصيتمونا عن دياركم. ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا. وقال أبو حنيفة وبعض العلماء : النّفي هو السجن. وحملهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عن قوم كان فيهم بتسليط ضرّه على قوم آخرين. وهو نظر يحمل على التّأويل ، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفي يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذلّ وخضدت شوكته ، قال امرؤ القيس :

به الذئب يعوي كالخليع المعيّل

وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده. على أنّ من العلماء من قال : ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور. قال أبو الزناد : كان النّفي قديما إلى (دهلك) وإلى (باضع) (١) وهما جزيرتان في بحر اليمن.

وقد دلّت الآية على أمرين : أحدهما : التخيير في جزاء المحاربين ؛ لأنّ أصل (أو) الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع ، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير ، نحو (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦]. وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي،

__________________

(١) دهلك ـ بفتح الدّال المهملة وسكون الهاء وفتح اللام ـ جزيرة بين اليمن والحبشة. وباضع ـ بموحّدة في أوّله وبكسر الضّاد المعجمة ـ جزيرة في بحر اليمن.

٩٤

وأبو حنيفة ، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة ، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذ بأشدّ العقوبة كالقتل ؛ قتل دون تخيير ، وهو مدرك واضح. ثمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. وذهب جماعة إلى أنّ (أو) في الآية للتّقسيم لا للتخيير ، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب : فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن لم يقتل ولا أخذ مالا عزّر ، ومن أخاف الطريق نفي ، ومن أخذ المال فقط قطع ، وهو قول ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن ، والسديّ ، والشافعي. ويقرب خلافهم من التّقارب.

والأمر الثّاني : أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس ، كما دلّ على ذلك قوله بعد (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) الآية وهو بيّن. ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة.

وقوله (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) ، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا. والخزي : الذلّ والإهانة (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٩٤]. وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين : عقابا في الدّنيا وعقابا في الآخرة. فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعرنيّين ، كما قيل به ، فاستحقاقهم العذابين ظاهر ، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) [الممتحنة : ١٢] إلخ فقال : «فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له». فقوله : فهو كفارة له ، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة ، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظا على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب ، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل ، أي لهم خزي في الدنيا إن أخذوا به ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا.

والاستثناء بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) راجع إلى الحكمين خزي الدّنيا وعذاب الآخرة ، بقرينة قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) ، لأنّ تأثير التّوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيّد بما قبل القدرة عليهم. وقد دلّت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة ؛ فتمّ الكلام بها ، خ ز لأنّ الاستثناء كلام مستقلّ لا يحتاج إلى

٩٥

زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب ، وعند جمهور العلماء. فليس المستثنى مسكوتا عنه كما يقول الحنفية ، ولو لا الاستثناء لما دلّت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة. فلو قيل : فإن تابوا ، لم تدلّ إلّا على قبول التّوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة.

ومعنى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) ما كان قبل أن يتحقّق المحارب أنّه مأخوذ أو يضيّق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه ، فإن أتى قبل ذلك كلّه طائعا نادما سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة ، لأنّه قد دلّ على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه. ولمّا لم تتعرّض الآية إلى غرم ما أتلفه بحرابته علم أنّ التّوبة لا تؤثّر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق النّاس من مال أو دم ، لأنّ ذلك معلوم بأدلّة أخرى.

وقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعجّب من سقوط العقاب عنهم. فالفاء فصيحة عمّا دلّ عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرم ، والمعنى : إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمّن تاب قبل أن يقدر عليه فاعلموا أنّ الله غفور رحيم.

وقد دلّ قوله (فَاعْلَمُوا) على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظرا لاستعظامهم هذا العفو. وقد رأيت أنّ شأن فعل (اعلم) أن يدلّ على أهميّة الخبر ، كما سيأتي في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) في سورة الأنفال [٢٤] وقوله فيها : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) [الأنفال : ٤١].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥))

اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٦] الآية. خاطب المؤمنين بالتّرغيب بعد أن حذّرهم من المفاسد ، على عادة القرآن في تخلّل الأغراض بالموعظة والتّرغيب والتّرهيب ، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النّفوس ، كما قال الحريري : «فلمّا دفنوا الميت ، وفات قول ليت ، أقبل شيخ من رباوة ، متأبّطا لهراوة ،. فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون ، إلخ. فعقّب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتّقوى

٩٦

وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله. وقابل قتالا مذموما بقتال يحمد فاعله عاجلا وآجلا».

والوسيلة : كالوصيلة. وفعل وسل قريب من فعل وصل ، فالوسيلة : القربة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي متوسّل بها أي اتبعوا التقرّب إليه ، أي بالطاعة.

و (إِلَيْهِ) متعلّق ب (الْوَسِيلَةَ) أي الوسيلة إلى الله تعالى. فالوسيلة أريد بها ما يبلغ به إلى الله ، وقد علم المسلمون أنّ البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنّه بلوغ زلفى ورضى. فالتّعريف في الوسيلة تعريف الجنس ، أي كلّ ما تعلمون أنّه يقرّبكم إلى الله ، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه. فالوسيلة ما يقرّب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه. وفي الحديث القدسي : «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه» الحديث. والمجرور في قوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) متعلّق ب (ابْتَغُوا). ويجوز تعلّقه ب (الْوَسِيلَةَ) ، وقدم على متعلّقه للحصر ، أي لا تتوسّلوا إلّا إليه لا إلى غيره فيكون تعريضا بالمشركين لأنّ المسلمين لا يظنّ بهم ما يقتضي هذا الحصر.

[٣٦ ، ٣٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

الأظهر أنّ هذه الجملة متّصلة بجملة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٣٣] اتّصال البيان ؛ فهي مبيّنة للجملة السابقة تهويلا للعذاب الّذي توعّدهم الله به في قوله : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٣٣] فإنّ أولئك المحاربين الّذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله ، فلمّا ذكر جزاؤهم عقّب بذكر جزاء يشملهم ويشمل أمثالهم من الّذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية للسابقة مرادا بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين.

والشرط في قوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) مقدّر بفعل دلّت عليه (أنّ) ، إذ التّقدير : لو ثبت ما في الأرض ملكا لهم ؛ فإنّ (لو) لاختصاصها بالفعل صحّ الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت (أنّ) بعدها. وقوله (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) معطوف على (ما فِي الْأَرْضِ) ، ولا حاجة إلى جعله مفعولا معه للاستغناء عن ذلك بقوله (مَعَهُ). واللام في (لِيَفْتَدُوا بِهِ) لتعليل الفعل المقدّر ، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه.

٩٧

وأفرد الضمير في قوله : (بِهِ) مع أنّ المذكور شيئان هما : (ما فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ) : إمّا على اعتبار الضّمير راجعا إلى (ما فِي الْأَرْضِ) فقط ، ويكون قوله (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) معطوفا مقدّما من تأخير. وأصل الكلام لو أنّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه. ودلّ على اعتباره مقدّما من تأخير إفراد الضّمير المجرور بالباء. ونكتة التّقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض. وإمّا ، وهو الظاهر عندي ، أن يكون الضّمير عائدا إلى (مِثْلَهُ مَعَهُ) ، لأنّ ذلك المثل شمل ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنّه قد اندرج في مثله الذي معه.

ويجوز أن يجرى الضّمير مجرى اسم الإشارة في صحّة استعماله مفردا مع كونه عائدا إلى متعدّد على تأويله بالمذكور ؛ وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] أي بين الفارض والبكر ، وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان: ٦٨] إشارة ما ذكر من قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان : ٦٨] ، لأنّ الإشارة صالحة للشيء وللأشياء ، وهو قليل في الضّمير ، لأنّ صيغ الضّمائر كثيرة مناسبة لما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع ، وهو قليل ولكنّه فصيح ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) [الأنعام : ٤٦] أي بالمذكور. وقد جعله في «الكشاف» محمولا على اسم الإشارة ، وكذلك تأوّله رؤبة لمّا. أنشد قوله :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق

فقال أبو عبيدة : قلت : لرؤبة إن أردت الخطوط فقل : كأنّها ، وإن أردت السواد فقل : كأنّهما ، فقال : أردت كأنّ ذلك ويلك. ومنه في الضّمير قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء : ٤]. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) في سورة البقرة [٦٨].

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم تأكيد لقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها).

[٣٨ ، ٣٩] (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩))

جملة معطوفة على جملة (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ) [المائدة : ٣٣]. (وَالسَّارِقُ)

٩٨

مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه. والتّقدير : ممّا يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما. وقال المبرّد : الخبر هو جملة (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشرط ؛ لأنّ تقديره : والّذي سرق والّتي سرقت. والمصول إذا أريد منه التّعميم ينزّل منزلة الشرط ـ أي يجعل (أل) فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء : ١٥] ، قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦]. قال سيبويه : وهذا إذا كان في الكلام ما يدلّ على أنّ المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحكم أو الفرائض نحو (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما)(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) إذ التّقدير في جميع ذلك : وحكم اللاتي يأتين ، أو وجزاء السارق والسّارقة.

ولقد ذكرها ابن الحاجب في «الكافية» واختصرها بقوله : «والفاء للشرط عند المبرّد وجملتان عند سيبويه ، يعني : وأمّا عند المبرّد فهي جملة شرط وجوابه فكأنّها جملة واحدة وإلّا فالمختار النصب». أشار إلى قراءة عيسى بن عمر (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ـ بالنصب ـ ، وهي قراءة شاذّة لا يعتدّ بها فلا يخرّج القرآن عليها. وقد غلط ابن الحاجب في قوله : فالمختار النصب.

وقوله : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ضمير الخطاب لولاة الأمور بقرينة المقام ، كقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢]. وليس الضّمير عائدا على الّذين آمنوا في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) [النساء : ٣٥]. وجمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق. وثنيّ الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى ؛ فالجمع هنا مراد منه التّثنية كقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤].

ووجه ذكر السارقة مع السارق دفع توهّم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيدا بحيث لا يجري حدّ السرقة إلّا على الرجال ، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزنا فلا يجرون عليها الحدود ، وهو الدّاعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة : [١٧٨](الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى). وقد سرقت المخزوميّة في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش ، فقالوا : من يشفع لها عند رسول الله إلّا زيد بن حارثة ، فلمّا شفع لها أنكر عليه وقال : أتشفع في حدّ من حدود الله ، وخطب فقال : «إنّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه وإذا سرق الضّعيف قطعوه ،

٩٩

والله لو أنّ فاطمة سرقت لقطعت يدها».

وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحدّ وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأئمّة المذاهب وليس من غرض المفسّر. وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الشّرعية وتفاصيلها ولكنّه يؤصّل تأصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللّسان من معرفة حقائقها وتمييزها عمّا يشابهها.

فالسارق : المتّصف بالسرقة. والسرقة معروفة عند العرب مميّزة عن الغارة والغصب والاغتصاب والخلسة ، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق ممّا يشحّ به معظم النّاس.

فالسرقة : أخذ أحد شيئا ما يملكه خفية عن مالكه مخرجا إيّاه من موضع هو حرز مثله لم يؤذن آخذه بالدخول إليه.

والمسروق : ما له منفعة لا يتسامح النّاس في إضاعته. وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقلّ شيء حكم النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع يد من سرقه. وقد ثبت في الصّحيح أنّه حكم بقطع يد سارق حجفة ـ بحاء مهملة فجيم مفتوحتين ـ (ترس بن جلد) تساوي ربع دينار في قول الجمهور ، وتساوي دينارا في قول أبي حنيفة ، والثوري ، وابن عبّاس ، وتساوي نصف دينار في قول بعض الفقهاء.

ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد. وقد كان قطع يد السارق حكما من عهد الجاهليّة ، قضى به الوليد بن المغيرة فأقرّه الإسلام كما في الآية. ولم يرد في السنّة خبر صحيح إلّا بقطع اليد. وأوّل رجل قطعت يده في الإسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، وأوّل امرأة قطعت يدها المخزومية مرّة بنت سفيان.

فاتّفق الفقهاء على أنّ أوّل ما يبدأ به في عقوبة السارق أن تقطع يده. فقال الجمهور : اليد اليمنى ، وقال فريق : اليد اليسرى ، فإن سرق ثانية ، فقال جمهور الأئمّة : تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة. وقال عليّ بن أبي طالب : لا يقطع ولكن يحبس ويضرب. وقضى بذلك عمر بن الخطّاب ، وهو قول أبي حنيفة. فقال عليّ : إنّي لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكل ويستنجي أو رجله فعلى أي شيء يعتمد ؛ فإن سرق الثّالثة والرّابعة فقال مالك والشّافعي : تقطع يده الأخرى ورجله الأخرى ، وقال الزهري : لم يبلغنا في السنّة إلّا قطع اليد والرّجل لا يزاد على ذلك ، وبه قال أحمد بن حنبل ،

١٠٠