تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

يحسن الوقف على قوله : (إِنِّي مَعَكُمْ) ، ثم يستأنف قوله : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) إلى آخره. ولام (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) موطّئة للقسم ، ولام (لَأُكَفِّرَنَ) لام جواب القسم ، ولعلّ هذا بعض ما تضمّنه الميثاق ، كما أنّ قوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) بعض ما شمله قوله : (إِنِّي مَعَكُمْ).

والمراد بالزكاة ما كان مفروضا على بني إسرائيل : من إعطائهم عشر محصولات ثمارهم وزرعهم ، ممّا جاء في الفصل الثامن عشر من سفر العدد ، والفصل الرابع عشر والفصل التاسع عشر من سفر التثنية. وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) في سورة البقرة [٤٣].

والتعزير : النصر. يقال : عزره مخفّفا ، وعزّره مشدّدا ، وهو مبالغة في عزره عزرا إذا نصره ، وأصله المنع ، لأنّ النّاصر يمنع المعتدي على منصوره.

ومعنى (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الصدقات غير الواجبة.

وتكفير السيّئات : مغفرة ما فرط منهم من التعاصي للرسول فجعل الطاعة والتوبة مكفّرتين عن المعاصي.

وقوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فقد حاد عن الطريق المستقيم ، وذلك لا عذر لسائر فيه حين يضلّه ، لأنّ الطريق السوي لا يحوج السائر فيه إلى الروغان في ثنيّات قد تختلط عليه وتفضي به إلى التيه في الضلال.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣))

قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ، وقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) في سورة النّساء [١٦٠].

واللعن هو الإبعاد ، والمراد هنا الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق.

(وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) قساوة القلب مجاز ، إذ أصلها الصلابة والشدّة ، فاستعيرت

٦١

لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر. وقد تقدّم في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤]. وقرأ الجمهور : (قاسِيَةً) ـ بصيغة اسم الفاعل ـ. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : (قاسِيَةً) فيكون بوزن فعيلة من قسا يقسو.

وجملة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) استئناف أو حال من ضمير (لَعَنَّاهُمْ). والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب. وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطا سويا ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيّات الطريق ، ويعبد الله على حرف ، ويشعّب الأمور. وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية. وهذا التحريف يكون غالبا بسوء التأويل اتّباعا للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواء العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم. وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل. وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) في سورة النساء [٤٦]. وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم.

وجملة (وَنَسُوا حَظًّا) معطوفة على جملة (يُحَرِّفُونَ). والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالبا. وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يذكّره مذكّر. وهو وإن كان مرادا به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحا للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى.

والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ. وما ذكّروا به هو التّوراة.

وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشئ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به.

والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها. وقد حاط علماء الإسلام ـ رضي‌الله‌عنهم ـ هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابا للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس :

٦٢

يجوز أن يقال : هو دين الله ، ولا يجوز أن يقال : قاله الله.

وقوله : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفعل (لا تَزالُ) يدلّ على استمرار ، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال : يدوم اطّلاعك. فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم.

والاطّلاع افتعال من طلع. والطلوع : الصعود. وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ، إذ ليس فعله متعدّيا حتّى يصاغ له مطاوع ، فاطّلع بمنزلة تطّلع ، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف. والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم.

والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ، كالعاقبة ، والطاغية. ومنه (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر : ١٩]. وأصل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن. وقيل : (خائِنَةٍ) صفة لمحذوف ، أي فرقة خائنة.

واستثنى قليلا منهم جبلوا على الوفاء ، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ، قال تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) [الأحزاب : ٢٦]. وأمره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ، فلا يعارض هذا قوله في براءة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى. وجاءت الجملة على سببه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قدّم متعلّق (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) وفيه اسم ظاهر ، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلّق وتثبيته في الذهن إذ يتعلّق الحكم باسمه

٦٣

الظاهر وبضميره ، فالتقدير : وأخذنا ، من الذين قالوا : إنّا نصارى ، ميثاقهم ، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر. وقيل : ضمير (مِيثاقَهُمْ) عائد إلى اليهود ، والإضافة على معنى التشبيه ، أي من النصارى أخذنا ميثاق اليهود ، أي مثله ، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبّه به. وهذا بعيد ، لأنّ ميثاق اليهود لم يفصّل في الآية السابقة حتّى يشبّه به ميثاق النّصارى.

وعبّر عن النصارى ب (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) هنا وفي قوله الآتي : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ٨٢] تسجيلا عليهم بأنّ اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله ، وهو أن يكون أتباعه أنصارا لما يأمر به الله ، (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [الصف : ١٤]. ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدّين بعد عيسى من أتباعه ، مثل بولس وبطرس وغيرهما من دعاة الهدى ؛ وأعظم من ذلك كلّه أن ينصروا النبي المبشّر به في التّوراة والإنجيل الّذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلّص النّاس من الضلال (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١] الآية. فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصّة النّصارى ، فهذا اللقب ، وهو النصارى ، حجّة عليهم قائمة بهم متلبّسة بجماعتهم كلّها.

ويفيد لفظ (قالُوا) بطريق التعريض الكنائي أنّ هذا القول غير موفّى به وأنّه يجب أن يوفّى به. هذا إذا كان النصارى جمعا لناصريّ أو نصراني على معنى النسبة إلى النّصر مبالغة ، كقولهم : شعراني ، ولحياني ، أي النّاصر الشديد النصر ؛ فإن كان النّصارى اسم جمع ناصريّ ، بمعنى المنسوب إلى الناصري ، والناصري عيسى ، لأنّه ظهر من مدينة الناصرة. فالناصري صفة عرف بها المسيح ـ عليه‌السلام ـ في كتب اليهود لأنّه ظهر بدعوة الرسالة من بلد النّاصرة في فلسطين ؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه ؛ فكلّ من حاد عن شرعه لم يكن حقيقا بالنسبة إليه إلّا بدعوى كاذبة ، فلذلك قال : (قالُوا إِنَّا نَصارى). وقيل : إنّ النصارى جمع نصراني ، منسوب إلى النصر : كما قالوا : شعراني ، ولحياني ، لأنّهم قالوا : نحن أنصار الله. وعليه فمعنى (قالُوا : إِنَّا نَصارى) أنّهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيّدوه بفعلهم.

وقد أخذ الله على النصارى ميثاقا على لسان المسيح ـ عليه‌السلام ـ. وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل.

٦٤

وقوله : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) حقيقة الإغراء حثّ أحد على فعل وتحسينه إليه حتّى لا يتوانى في تحصيله ؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم ، أي لزومهما لهم فيما بينهم ، شبّه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحدا بعمل يعمل تشبيه معقول بمحسوس. ولمّا دلّ الظرف ، وهو (بَيْنَهُمُ) ، على أنّهما أغريتا بهم استغني عن ذكر متعلّق (فَأَغْرَيْنا). وتقدير الكلام : فأغرينا العداوة والبغضاء بهم كائنتين بينهم. ويشبه أن يكون العدول على تعدية «أغرينا» بحرف الجرّ إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريدا لبيان أنّ المراد ب (فَأَغْرَيْنا) ألقينا.

وما وقع في «الكشاف» من تفسير (فَأَغْرَيْنا) بمعنى ألصقنا تطوّح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغراء ، وهو الدهن الذي يلصق الخشب به ، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال. والعداوة والضمير المجرور بإضافة بين إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضّمائر.

والعداوة والبغضاء اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة ، فهما ضدّان للمحبّة.

وظاهر عطف أحد الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن ، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة ، أنّهما ليسا من الأسماء المترادفة ؛ لأنّ التزام العطف بهذا الترتيب ببعد أن يكون لمجرّد التّأكيد ، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرّد التّأكيد ، كقوله عدي :

وألفى قولها كذبا ومينا

وقد ترك علماء اللّغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء ، وتابعهم المفسّرون على ذلك ؛ فلا تجد من تصدّى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفة التّونسي ، فقال في «تفسيره» «العداوة أعمّ من البغضاء لأنّ العداوة سبب في البغضاء ؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتّى تنشأ عنه المباغضة ، وقد يتمادى على ذلك» اه.

ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب «الكليّات» أنّه قال : «العداوة أخصّ من البغضاء لأنّ كلّ عدوّ مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدوّ». وهو يخالف كلام ابن عرفة. وفي تعليليهما مصادرة واضحة ، فإن كانت العداوة أعمّ من البغضاء زادت فائدة العطف لأنّه يصير في معنى الاحتراس ، وإن كانت العداوة أخصّ من البغضاء لم يكن العطف إلّا للتّأكيد ، لأنّ التأكيد يحصل بذكر لفظ يدلّ على بعض مطلق من معنى المؤكّد ، فيتقرّر

٦٥

المعنى ولو بوجه أعمّ أو أخصّ ، وذلك يحصل به معنى التّأكيد.

وعندي : أنّ كلا الوجهين غير ظاهر ، والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين ؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها : معاملة بجفاء ، أو قطيعة ، أو إضرار ، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد ، فإنّ مشتقّات مادة (ع د و) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام. وأمّا البغضاء فهي شدّة البغض ، وليس في مادة (ب غ ض) إلّا معنى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها. نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب ، وهو من علامات الاشتقاق ، فإنّ مقلوب بغض يكون غضب لا غير ، فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بعدو ، فهي مضمرة في النفس. فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقت واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع ، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاء بين بعض آخر. فوقع في هذا النظم إيجاز بديع ، لأنّه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد.

ومن اللّطائف ما ذكره ابن هشام ، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب :

لكنّها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل

أنّ الزمخشري قال : إنّه رأى نفسه في النّوم يقول : العداوة مشتقّة من عدوة الوادي ، أي جانبه ، لأنّ المتعاديين يكون أحدهما مفارقا للآخر فكأنّ كلّ واحد منهما على عدوة اه. فيكون مشتقّا من الاسم الجامد وهو بعيد.

وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقابا في الدنيا لقوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) جزاء على نكثهم العهد. وأسباب العداوة والبغضاء شدّة الاختلاف : فتكون من اختلافهم في نحل الدّين بين يعاقبة ، وملكانية ، ونسطورية ، وهراتقة (بروتستانت) ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدّنيا ، كما كان بين ملوك النّصرانية ، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم.

فإن قيل : كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلبا على المسلمين؟ فجوابه : أنّ العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقا ، كما قدّمناه في سورة النساء [١٧١] عند قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) ، وذلك الانقسام يجرّ إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضا. ثمّ إنّ دولهم كانت منقسمة ومتحاربة ، ولم تزل كذلك ، وإنّما تألّبوا في

٦٦

الحروب الصّليبية على المسلمين ثمّ لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن. وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتّحاد بينهم ، وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التّاريخ الإسلامي ، على أنّ اتّفاقهم على أمّة أخرى لا ينافي تمكّن العداوة فيما بينهم ، وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكّروا به.

وقيل : الضمير عائد على الفريقين ، أي بين اليهود والنصارى ، ولا إشكال في تجسّم العداوة بين الملّتين.

وقوله : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) تهديد لأنّ المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم ، كقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام : ١٣٥]. وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقته ، ويحتمل أن يحصل في الدنيا ، فالإنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم.

[١٥ ، ١٦] (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦))

بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة ؛ إذ قد تهيّأ من ظهور صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يسهّل إقامة الحجّة عليهم ، ولذلك ابتدئ وصف الرسول بأنّه يبيّن لهم كثيرا ممّا كانوا يخفون من الكتاب ، ثم أعقبه بأنّه يعفو عن كثير.

ومعنى (يَعْفُوَ) يعرض ولا يظهر ، وهو أصل مادّة العفو. يقال : عفا الرسم ، بمعنى لم يظهر ، وعفاه : أزال ظهوره. ثم قالوا : عفا عن الذنب ، بمعنى أعرض ، ثم قالوا : عفا عن المذنب ، بمعنى ستر عنه ذنبه ، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة ، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة ، أي يبيّن لكم دينكم ويعفو عن جهلكم.

وجملة (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) بدل من جملة (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) بدل اشتمال ، لأنّ مجيء الرسول اشتمل على مجيء الهدى والقرآن ، فوزانها وزان (علمه) من قولهم : نفعني زيد علمه ، ولذلك فصلت عنها ، وأعيد حرف (قد) الداخل على الجملة المبدل منها

٦٧

زيادة في تحقيق مضمون جملة البدل ، لأنّ تعلّق بدل الاشتمال بالمبدل منه أضعف من تعلّق البدل المطابق.

وضمير (بِهِ) راجع إلى الرسول أو إلى الكتاب المبين.

وسبل السلام : طرق السلامة الّتي لا خوف على السائر فيها. وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة ، مثل وادي السباع ، الذي قال فيه سحيم بن وثيل الرياحي :

ومررت على وادي السباع ولا أرى

كوادي السباع حين يظلم واديا

أقلّ به ركب أتوه تئيّة

وأخوف إلّا ما وقى الله ساريا

فسبيل السلام استعارة لطرق الحقّ. والظلمات والنّور استعارة للضلال والهدى. والصراط المستقيم مستعار للإيمان.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى. كان أعظم ضلال النّصارى ادّعاؤهم إلهيّة عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم ، فاستأنف هذه الجملة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) استئناف البيان. وتعيّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال ، لأنّ ظلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفرا.

وحكي قولهم بما تؤدّيه في اللغة العربيّة جملة (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسّرون حقّه من بيان انتزاع المعنى المراد به ، من تركيبه ، من الدلالة على اتّحاد مسمّى هذين الاسمين بطريق تعريف كلّ من المسند إليه والمسند بالعلمية بقرينة السياق الدالّة على أنّ الكلام ليس مقصودا للإخبار بأحداث لذوات ، المسمّى في الاصطلاح : حمل اشتقاق بل هو حمل مواطأة ، وهو ما يسمّى في المنطق : حمل (هو هو) ، وذلك حين يكون كلّ من المسند إليه والمسند معلوما للمخاطب ويراد

٦٨

بيان أنّها شيء واحد ، كقولك حين تقول : قال زياد ، فيقول سامعك : من هو زياد ، فتقول : زياد هو النّابغة ، ومثله قولك : ميمون هو الأعشى ، وابن أبي السّمط هو مروان بن أبي حفصة ، والمرعّث هو بشّار ، وأمثال ذلك. فمجرّد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتّحاد ، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلّف قصدا لتأكيد الاتّحاد ، فليس في مثل هذا التّركيب إفادة قصر أحد الجزأين على الآخر ، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئا سوى التّأكيد. وكذلك وجود حرف (إنّ) لزيادة التّأكيد ، ونظيره قول رويشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة :

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا

قولا يبرئكم إنّي أنا الموت

فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه ، وهو الأصحّ ؛ أو العكس ، وهو قليل ، لأنّ مقام اتّحاد المسمّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر. وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب «الكشّاف» عقب قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) «معناه بتّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير». ومحلّ الشاهد من كلام «الكشّاف» ما عدا قوله (لا غير) ، لأنّ الظاهر أن (لا غير) يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب ، وهو بعيد. وقد يقال : إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئا عن صيغة قصر.

ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى ـ عليه‌السلام ـ بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد ، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى. ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جعل القائلون اسم الجلالة المسند إليه ، واسم عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحد بذات المسيح.

وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد ، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوت عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى. وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول. وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل ، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد ، هو مجموع ثلاثة أقانيم (جمع أقنوم ـ بضمّ الهمزة وسكون القاف ـ وهو كلمة رومية معناها : الأصل ، كما في القاموس ؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات ، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة ، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب : مذهب الملكانيّة وهم الجاثليقية

٦٩

(الكاثوليك) ، ومذهب النّسطورية ، ومذهب اليعقوبية. وتفصيله في كتاب «المقاصد». وتقدّم مفصّلا عند تفسير قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) في سورة النّساء [١٧١]. وهذا قول اليعاقبة من النصارى ، وهم أتباع يعقوب البرذعاني ، وكان راهبا بالقسطنطينية ، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة الملكانية ، ويقال لليعاقبة : أصحاب الطبيعة الواحدة ، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم. ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة.

ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة. وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) في سورة النساء [١٧١].

وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) الآية ، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم : إنّ الله هو المسيح ، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع ، فهي للتعقيب الذكري ، وهذا استعمال كثير في كلامهم ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق ، أي ليس الأمر كما زعمتم ، ولا أنّها جواب شرط مقدّر ، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئا ، إلخ.

ومعنى يملك شيئا هنا يقدر على شيء ، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية ، وهذا اللازم متعدّد وهو الملك ، فاستطاعة التحويل ، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) الآية في سورة الفتح [١١]. وفي الحديث قال رسول الله لعيينة بن حصن «أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة» لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء.

فالتنكير في قوله (شَيْئاً) للتقليل والتحقير. ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضيا نفي الكثير بطريق الأولى ، فالمعنى : فمن يقدر على شيء من الله ، أي من فعله وتصرّفه أن يحوّله عنه ، ونظيره (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٦٧]. وسيأتي لمعنى «يملك» استعمال آخر عند قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [المائدة : ٧٦] في هذه السورة ، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في هذه السورة [المائدة : ٤١].

٧٠

وحرف الشرط من قوله : (إِنْ أَرادَ) مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال ، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف ، ولأنّ إهلاك المسيح ، أي موته واقع عند المجادلين بهذا الكلام ، فينبغي إرخاء العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة ، وهو أيضا واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا : إنّ الله أماته ورفعه دون أن يمكّن اليهود منه ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) [النساء : ١٥٧] ، وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥]. وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال. والمضارع المقترن بأن وهو (أَنْ يُهْلِكَ) مستعمل في مجرّد المصدرية. والمراد ب (مَنْ فِي الْأَرْضِ) حينئذ من كان في زمن المسيح وأمّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة. والتّقدير : من يملك أن يصدّ الله إذ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذ.

ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جعل (مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بمعنى نوع الإنسان ، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل (يُهْلِكَ) على طريقة التغليب ؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح ، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعا ، أي إهلاك جميع النّوع ، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه ممكن الوقوع.

والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية ، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليبا للمعنى الحقيقي ، لأنّ (مَنْ فِي الْأَرْضِ) يعمّ الجميع وهو الأكثر. ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان. وقد هلكت مريم أمّ المسيح ـ عليهما‌السلام ـ في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح.

والتذييل بقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فيه تعظيم شأن الله تعالى. وردّ آخر عليهم بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يظهر المسيح ، فالله هو الإله حقّا ، وأنّه يخلق ما يشاء ، فهو الّذي خلق المسيح خلقا غير معتاد ، فكان موجب ضلال من نسب له الألوهية. وكذلك قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨))

٧١

مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدلّ على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى ، ثمّ هو مناقض لمقالاتهم الأخرى. عطف على المقال المختصّ بالنصارى ، وهو جملة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) [المائدة : ١٧]. وقد وقع في التّوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله ؛ ففي سفر التثنية أوّل الفصل الرابع عشر قول موسى «أنتم أولاد للربّ أبيكم». وأمّا الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح ، وبأبي المؤمنين به ، وتسمية المؤمنين أبناء الله في متّى في الإصحاح الثّالث «وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وفي الإصحاح الخامس «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون». وفي الإصحاح السادس «وأبوكم السماوي يقوتها». وفي الإصحاح العاشر «لأن لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الّذي يتكلّم فيكم». وكلّها جائية على ضرب من التشبيه فتوهّمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها.

وعطف (وَأَحِبَّاؤُهُ) على (أَبْناءُ اللهِ) أنّهم قصدوا أنّهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوبا عليه.

وقد علّم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقضين : أولهما من الشريعة ، وهو قوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) يعني أنّهم قائلون بأنّ نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم ، فلو كانوا أبناء الله وأحبّاءه لما عذّبهم بذنوبهم ، وشأن المحبّ أن لا يعذّب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذّب أبناءه. روي أنّ الشّبلي سأل أبا بكر بن مجاهد : أين تجد في القرآن أنّ المحبّ لا يعذّب حبيبه فلم يهتد ابن مجاهد ، فقال له الشبلي في قوله : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ). وليس المقصود من هذا أنّ يردّ عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر ، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم ، لأنّ ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للرّدّ به ، إذ يصير الردّ مصادرة ، بل المقصود الردّ عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم ، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدّنيا. فأمّا اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠]. وأمّا النّصارى فلم أر في الأناجيل ذكرا لعذاب الآخرة إلّا أنّهم قائلون في عقائدهم بأنّ بني آدم كلّهم استحقّوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم ، فجاء عيسى ابن مريم مخلّصا وشافعا وعرّض نفسه للصلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة ، وهذا يلزمهم الاعتراف بأنّ العذاب كان مكتوبا على الجميع لو لا كفّارة عيسى فحصل الرّدّ عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا.

٧٢

ثم أخذت النتيجة من البرهان بقوله : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي ينالكم ما ينال سائر البشر. وفي هذا تعريض أيضا بأنّ المسيح بشر ، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف ، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل.

وجملة قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) كالاحتراس ، لأنّه لمّا رتّب على نوال العذاب إيّاهم أنهم بشر دفع توهّم النصارى أنّ البشريّة مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تبعة خطيئة آدم فقال : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ، أي من البشر (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

كرّر الله موعظتهم ودعوتهم بعد أن بيّن لهم فساد عقائدهم وغرور أنفسهم بيانا لا يدع للمنصف متمسّكا بتلك الضلالات ، كما وعظهم ودعاهم آنفا بمثل هذا عقّب بيان نقضهم المواثيق. فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ١٥] الآيات ، إلّا أنّه ذكر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكّرهم بأنّ كتبهم مصرّحة بمجيء رسول عقب رسلهم ، وليريهم أنّ مجيئه لم يكن بدعا من الرسل إذ كانوا يجيئون على فتر بينهم. وذكر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأنّ ما ذكر قبل الموعظة هنا قد دلّ على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة ، وما ذكر قبل الموعظة هنالك إنّما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون علمه عن النّاس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم. وحذف مفعول (يُبَيِّنُ) لظهور أنّ المراد بيان الشريعة. فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزّل منزلة تأكيد لجملة (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) [المائدة : ١٥] ، فلذلك فصلت.

وقوله : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) حال من ضمير (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ، فهو ظرف مستقرّ ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلّقا ب (جاءَكُمْ). ويجوز تعلّقه بفعل (يُبَيِّنُ) لأنّ البيان انقطع في مدّة الفترة.

و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى (بعد) لأنّ المستعلي يستقرّ بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه ، فشبّه استقراره بعده باستعلائه عليه ، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء.

٧٣

والفترة : انقطاع عمل ما. وحرف (من) في قوله : (مِنَ الرُّسُلِ) للابتداء ، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدّة وجود الرسل ، أي أيام إرسال الرسل.

والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدّين ، فكما سمّي الرسول رسولا سمّى تبليغه مجيئا تشبيها بمجيء المرسل من أحد إلى آخر.

والمراد بالرسل رسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح ، أو أريد المسيح خاصّة. والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح ، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة. وأمّا غير أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان.

و (أَنْ تَقُولُوا) تعليل لقوله : (قَدْ جاءَكُمْ) لبيان بعض الحكم من بعثة الرسول ، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة ، أو تقريعهم في الدّنيا على ما غيّروا من شرائعهم ، لئلّا يكون من معاذيرهم أنّهم اعتادوا تعاقب الرسل إرشادهم وتجديد الدّيانة ، فلعلّهم أن يعتذروا بأنّهم لمّا مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتّجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنّهم لو جاءهم رسول لاهتدوا. فالمعنى أن تقولوا : ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى. وليس المراد أن يقولوا : ما جاءنا رسول إلينا أصلا ، فإنّهم لا يدّعون ذلك ، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى. فكان قوله : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) تعليلا لمجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ومتعلّقا بفعل (ما جاءَنا). ووجب تقدير لام التّعليل قبل (أن) وهو تقدير يقتضيه المعنى. ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجرّ قبل (أن) حذفا مطّردا ، والمقام يعيّن الحرف المحذوف ؛ فالمحذوف هنا حرف اللام.

ويشكل معنى الآية بأنّ علّة إرسال الرسول إليهم هي انتفاء أن يقولوا (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) لا إثباته كما هو واضح ، فلما ذا لم يقل : أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذر ، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية ، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم :

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

أراد أن لا تشتمونا. فاختلف النحويون في تقدير ما به يتقوّم المعنى في الآيات وغيرها: فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولا لأجله لفعل (جاءَكُمْ) ، وقدّروه : (كراهية أن تقولوا) ، وعليه درج صاحب «الكشّاف» ومتابعوه من جمهور المفسّرين ؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد (أن) ، والتقدير : أن لا

٧٤

تقولوا ، ودرج عليه بعض المفسّرين مثل البغوي ؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتمادا على قرينة السياق والمقام. وزعم ابن هشام في «مغني اللبيب» أنّه تعسّف ، وذكر أنّ بعض النحويين زعم أنّ من معاني (أن) أن تكون بمعنى (لئلّا).

وعندي : أنّ الذي ألجأ النحويين والمفسّرين لهذا التأويل هو البناء على أنّ (أن) تخلّص المضارع للاستقبال فتقتضي أنّ قول أهل الكتاب : ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية ، وأنه مقدّر حصوله في المستقبل. ويظهر أنّ إفادة (أن) تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكثريّة وليست بمطّردة ، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيّان وذكر أنّ أبا بكر الباقلاني ذهب إليه ، بل قد تفيد (أن) مجرد المصدرية كقوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٣] ، وقول امرئ القيس :

فإمّا تريني لا أغمّض ساعة

من الليل إلّا أن أكبّ وأنعسا

فإنّه لا يريد أنّه ينعس في المستقبل. وأنّ صرفها عن إفادة الاستقبال يعتمد على القرائن ، فيكون المعنى هنا أنّ أهل الكتاب قد قالوا هذا العذر لمن يلومهم مثل الّذين اتّبعوا الحنيفية ، كأمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل ، أو قاله اليهود لنصارى العرب.

وقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) الفاء فيه للفصيحة ، وقد ظهر حسن موقعها بما قرّرت به معنى التعليل ، أي لأن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير. ونظير هذا قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

[٢٠ ـ ٢٢] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢))

عطف القصة على القصص والمواعظ. وتقدّم القول في نظائر (وَإِذْ قالَ) في مواضع منها قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) في البقرة [٣٠].

٧٥

ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم.

وقدّم موسى ـ عليه‌السلام ـ أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيّئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعدّ لهم ثلاث نعم عظيمة :

أولاها : أنّ فيهم أنبياء ، ومعنى جعل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأنّ هذه القصّة وقعت بعد موت هارون ؛ فيكون قوله (أَنْبِياءَ) جمعا أريد به الجنس فاستوى انحصر في فرد يومئذ ، كقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤٤] يريد محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء. فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة (إصحاح ١٥ من الخروج). وكذلك ألداد ومى داد كانا نبيئين في زمن موسى ، كما في التّوراة (إصحاح ١١ سفر العدد). وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال.

والثانية : أن جعلهم ملوكا ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها ، من الآموريين ، والعناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل (جَعَلَكُمْ) في معنى الاستقبال مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] قصدا لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم.

والنعمة الثالثة : أنّه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وما صدق (ما) يجوز أن يكون شيئا واحدا ممّا خصّ الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم رزقهم المنّ والسلوى أربعين سنة ، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رسله.

وقوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدّمة ، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب (يا قَوْمِ) لزيادة

٧٦

استحضار أذهانهم. والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ، أي تهيّئوا للدخول. والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة ، أي الّتي بارك الله فيها ، أو لأنّها قدّست بدفن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في أوّل قرية من قراها وهي حبرون. وهي هنا أرض كنعان من برية (صين) إلى مدخل (حماة وإلى حبرون). وهذه الأرض هي أرض فلسطين ، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسّط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى (حماة) شمالا وإلى (غزّة وحبرون) جنوبا. وفي وصفها ب (الَّتِي كَتَبَ اللهُ) تحريض على الإقدام لدخولها.

ومعنى (كَتَبَ اللهُ) قضى وقدّر ، وليس ثمّة كتابة ولكنّه تعبير مجازي شائع في اللّغة ، لأنّ الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ، كما قال الحارث بن حلّزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ، وذلك أنّ الله وعد إبراهيم أن يورثها ذرّيته. ووعد الله لا يخلف.

وقوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) تحذير ممّا يوجب الانهزام ، لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال. والارتداد افتعال من الردّ ، يقال : ردّه ، فارتدّ ، والردّ : إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه. والأدبار : جمع دبر ، وهو الظهر. والارتداد : الرجوع ، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ، أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ، كما يقولون : نكص على عقبيه ، وركبوا ظهورهم ، وارتدّوا على أدبارهم ، وعلى أعقابهم ، فعدّي ب (عَلى) الدالّة على الاستعلاء ، أي استعلاء طريق السير ، نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه.

والانقلاب : الرجوع ، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٧٤]. والمراد به هنا مطلق المصير. وضمائر (فِيها) و (مِنْها) تعود إلى الأرض المقدّسة.

وأرادوا بالقوم الجبّارين في الأرض سكّانها الكنعانيين ، والعمالقة ، والحثيين ، واليبوسيين ، والأموريين. والجبّار : القوي ، مشتقّ من الجبر ، وهو الإلزام لأنّ القويّ يجبر النّاس على ما يريد.

وكانت جواسيس موسى الاثنا عشر الّذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم

٧٧

بجودة الأرض وبقوّة سكّانها. وهذا كناية عن مخالفتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدّسة ، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفا من أهلها ، وأكّدوا الامتناع من دخول أرض العدوّ توكيدا قويّا بمدلول (إنّ) و (لن) في (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) تحقيقا لخوفهم.

وقوله : (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) تصريح بمفهوم الغاية في قوله : (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبّارين الذين فيها.

وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد : «أنّ الله أمر موسى أن يرسل اثني عشر رجلا جواسيس يتجسّسون أرض كنعان الّتي وعدها الله بني إسرائيل من كلّ سبط رجلا ؛ فعيّن موسى اثني عشر رجلا ، منهم : يوشع بن نون من سبط أفرايم ، ومنهم كالب بن يفنة من سبط يهوذا ، ولم يسمّوا بقية الجواسيس. فجاسوا خلال الأرض من برية صين إلى حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكّانها معتزّين ، طوال القامات ، ومدنهم حصينة. فلمّا سمع بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمّروا على موسى وقالوا : لو متنا في أرض مصر كان خيرا لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا ، فقال يوشع وكالب للشعب : إن رضي الله عنّا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الربّ ولا تخافوا من أهلها ، فالله معنا. فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم. وقال لموسى : لا يدخل أحد من سنّه عشرون سنة فصاعدا هذه الأرض إلّا يوشع وكالبا وكلّكم ستدفنون في هذا القفر ، ويكون أبناؤكم رعاة فيه أربعين سنة.

[٢٣ ـ ٢٦] (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

فصلت هذه الجمل الأربع جريا على طريقة المحاورة كما بيّنّاه سالفا في سورة البقرة. والرجلان هما يوشع وكالب. ووصف الرجلان بأنّهم (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله : (يَخافُونَ) الخوف من العدوّ ؛ فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل. جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمّة الخوف وعدم

٧٨

الشجاعة ، فيكون «من» في قوله : (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) اتّصالية وهي الّتي في نحو قولهم: لست منك ولست منّي ، أي ينتسبون إلى الذين يخافون. وليس المعنى أنّهم متّصفون بالخوف بقرينة أنّهم حرّضوا قومهم على غزو العدوّ ، وعليه يكون قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أنّ الله أنعم عليهما بالشجاعة ، فحذف متعلّق فعل «أنعم» اكتفاء بدلالة السياق عليه. ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوف من الله تعالى ، أي كان قولهما لقومها «ادخلوا عليهم الباب» ناشئا عن خوفهما الله تعالى ، فيكون تعريضا بأنّ الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى ، ويكون قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) استئنافا بيانيا لبيان منشأ خوفهما الله تعالى ، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما. وهذا يقتضي أنّ الشجاعة في نصر الدّين نعمة من الله على صاحبها.

ومعنى (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة.

و (الْبابَ) يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدّسة ، أي المسالك الّتي يسلك منها إلى أرض كنعان ، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعرين ، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ، فأرادا : فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم. وقد يسمّى الثغر البحري بابا أيضا ، مثل باب المندب ، وسمّوا موضعا بجهة بخاري الباب. وحمل المفسّرون الباب على المشهور المتعارف ، وهو باب البلد الذي في سوره ، فقالوا : أرادا باب قريتهم ، أي لأنّ فتح مدينة الأرض يعدّ ملكا لجميع تلك الأرض. والظاهر أن هذه القرية هي (أريحا) أو (قادش) حاضرة العمالقة يومئذ ، وهي المذكورة في سورة البقرة. والباب بهذا المعنى هو دفّة عظيمة متّخذة من ألواح توصل بجزأي جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادّا لتلك الفرجة متى أريد سدّها وبأن تفتح عند إرادة فتحها ؛ فيسمّى السّد به غلقا وإزالة السدّ فتحا.

وبعد أن أمرا القوم باتّخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكّل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله ، ولذلك ذيّلا بقولهما : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، لأنّ الشكّ في صدق الرسول مبطل للإيمان. وإنّما خاطبوا موسى عقب موعظة الرجلين لهم ، رجوعا إلى إبايتهم الأولى الّتي شافهوا بها موسى إذ قالوا : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) ، أو لقلّة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكّدوا الامتناع الثّاني من الدخول بعد المحاورة أشدّ توكيد دلّ على شدّته في العربيّة بثلاث مؤكدات : (إنّ) ، و (لن) ، وكلمة (أبدا).

٧٩

ومعنى قولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) إن كان خطابا لموسى أنّهم طلبوا منه معجزة كما تعوّدوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبّارين بدعوة موسى. وقيل : أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى ، وهذا بعيد ، لأنّهم ما كانوا يشكّون في رسالته ، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جوابا عن مقالتهم هذه إلّا وصفهم بالفاسقين. والفسق يطلق على المعصية الكبيرة ، فإنّ عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة ، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى المقداد بن الأسود النبي وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال : «يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل» (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) الحديث.

فلا تظنّنّ من ذلك أنّ هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر ، لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل ، وإنّما تكلّم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحدّثهم به عن بني إسرائيل ، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللّفظ.

«قال» أي موسى ، مناجيا ربّه أو بمسمع منهم ليوقفهم على عدم امتثالهم أمر ربّهم (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ، يجوز أن يكون المعنى لا أقدر إلّا على نفسي وأخي ، وإنّما لم يعدّ الرجلين الذين قالا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) ، لأنّه خشي أن يستهويهما قومهما. والذي في كتب اليهود أنّ هارون كان قد توفّي قبل هذه الحادثة. ويجوز أن يريد بأخيه يوشع بن نون لأنّه كان ملازمه في شئونه ، وسمّاه الله فتاه في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) [الكهف : ٦٠] الآية. وعطفه هنا على نفسه لأنّه كان محرّضا للقوم على دخول القرية.

ومعنى (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أن لا تؤاخذنا بجرمهم ، لأنّه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النّجاة ، ولا يصحّ أن يريد الفرق بينهم في الآخرة ؛ لأنّه معلوم أنّ الله لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم ، ولأنّ براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله ، ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضّالين على غلطهم.

وقوله الله تعالى له : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) إلخ جواب عن قول موسى (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمّنه كلام موسى ، لأنّ الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الّذين عصوا أمره ، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعمّ الجميع ، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصارا لموسى. فإن

٨٠