تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وحرف (من) في قوله (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) للتبعيض ، وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناولات ، كقوله : «كلوا من ثمره». وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد ، ولا أنّ ذلك احتراس عن أكل الريش ، والعظم ، والجلد ، والقرون ؛ لأنّ ذلك كلّه لا يتوهّمه السامع حتّى يحترس منه.

وحرف (على) في قوله (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) بمعنى لام التعليل ، كما تقول : سجن على الاعتداء ، وضرب الصبيّ على الكذب ، وقول علقمة بن شيبان :

ونطاعن الأعداء عن أبنائنا

وعلى بصائرنا وإن لم نبصر

أي نطاعن على حقائقنا : أي لحماية الحقيقة ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.

ومعنى الآية إباحة أكل ما صاده الجوارح : من كلاب ، وفهود ، وسباع طير: كالبزاة ، والصقور ، إذا كانت معلّمة وأمسكت بعد إرسال الصائد. وهذا مقدار اتّفق علماء الأمّة عليه وإنّما اختلفوا في تحقّق هذه القيود.

فأمّا شرط التعليم فاتّفقوا على أنّه إذا أشلى ، فانشلى ، فاشتدّ وراء الصيد ، وإذا دعي فأقبل ، وإذا زجر فانزجر ، وإذا جاء بالصيد إلى ربّه ، أنّ هذا معلّم. وهذا على مراتب التعلّم. ويكتفي في سباع الطير بما دون ذلك : فيكتفي فيها بأن تؤمر فتطيع. وصفات التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد ، وأنّه صار له معرفة ، وبذلك قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي : ولا حاجة إلى ضبط ذلك بمرّتين أو ثلاث ، خلافا لأحمد ، وأبي يوسف ، ومحمد.

وأمّا شرط الإمساك لأجل الصائد : فهو يعرف بإمساكها الصيد بعد إشلاء الصائد إيّاها ، وهو الإرسال من يده إذا كان مشدودا ، أو أمره إيّاها بلفظ اعتدت أن تفهم منه الأمر كقوله : «هذا لك» لأنّ الإرسال يقوم مقام نية الذكاة. ثم الجارح ما دام في استرساله معتبر حتّى يرجع إلى ربّه بالصيد. واختلفوا في أكل الجارح من الصيد قبل الإتيان به إلى ربّه هل يبطل حكم الإمساك على ربّه : فقال جماعة من الصحابة والتابعين : إذا أكل الجارح من الصيد لم تؤكل البقية ؛ لأنّه إنّما أمسك على نفسه ، لا على ربّه. وفي هذا المعنى حديث عديّ بن حاتم في الصحيح : أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكلب ، فقال : «وإذا أكل فلا تأكل فإنّما أمسك على نفسه». وبه أخذ الشافعي ، وأحمد ، وأبو

٤١

ثور ، وإسحاق. وقال جماعة من الصحابة : إذا أكل الجارح لم يضرّ أكله ، ويؤكل ما بقي. وهو قول مالك وأصحابه : لحديث أبي ثعلبة الخشني ، في «كتاب أبي داود» : أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «وإن أكل منه». ورام بعض أصحابنا أن يحتجّ لهذا بقوله تعالى : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) حيث جاء بمن المفيدة للتبعيض ، المؤذنة بأنّه يؤكل إذا بقي بعضه ، وهو دليل واه فقد ذكرنا آنفا أنّ (من) تدخل على الاسم في مثل هذا وليس المقصود التّبعيض ، والكلب أو الجارح ، إذا أشلاه القنّاص فانشلى ، وجاء بالصيد إلى ربّه. فهو قد أمسكه عليه وإن كان قد أكل منه ، فقد يأكل لفرط جوع أو نسيان. ونحا بعضهم في هذا إلى تحقيق أنّ أكل الجارح من الصيد هل يقدح في تعليمه ، والصواب أنّ ذلك لا يقدح في تعليمه ، إذا كانت أفعاله جارية على وفق أفعال الصيد ، وإنما هذا من الفلتة أو من التهوّر. ومال جماعة إلى الترخيص في ذلك في سباع الطير خاصّة ، لأنّها لا تفقه من التعليم ما يفقه الكلب ، وروي هذا عن ابن عباس ، وحمّاد ، والنخعي ، وأبي حنيفة ، وأبي ثور.

وقد نشأ عن شرط تحقّق إمساكه على صاحبه مسألة لو أمسك الكلب أو الجارح صيدا لم يره صاحبه وتركه ورجع دونه ، ثم وجد الصائد بعد ذلك صيدا في الجهة التي كان يجوسها الجارح أو عرف أثر كلبه فيه ؛ فعن مالك : لا يؤكل ، وعن بعض أصحابه : يؤكل. وأمّا إذا وجد الصائد سهمه في مقاتل الصيد فإنّه يؤكل لا محالة.

وأحسب أنّ قوله تعالى : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) احتراز عن أن يجد أحد صيدا لم يصده هو ، ولا رأى الجارح حين أمسكه ، لأنّ ذلك قد يكون موته على غير المعتاد فلا يكون ذكاة ، وأنّه لا يحرم على من لم يتصدّ للصيد أن يأكل صيدا رأى كلب غيره حين صاده إذا لم يجد الصائد قريبا ، أو ابتاعه من صائده ، أو استعطاه إيّاه.

وقوله : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أمر بذكر الله على تعالى الصيد ، ومعناه أن يذكره عند الإرسال لأنه قد يموت بجرح الجارح ، وأمّا إذا أمسكه حيّا فقد تعيّن ذبحه فيذكر اسم الله عليه حينئذ. ولقد أبدع إيجاز كلمة «عليه» ليشمل الحالتين. وحكم نسيان التسمية وتعمّد تركها معلوم من كتب الفقه والخلاف ، والدين يسر.

وقد اختلف الفقهاء : في أنّ الصيد رخصة ، أو صفة من صفات الذكاة. فالجمهور ألحقوه بالذكاة ، وهو الراجح ، ولذلك أجازوا أكل صيد الكتابي دون المجوسي. وقال مالك : هو رخصة للمسلمين فلا يؤكل صيد الكتابيّ ولا المجوسي ولا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا

٤٢

الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) [المائدة : ٩٤]. وهو دليل ضعيف : لأنّه وارد في غير بيان الصيد ، ولكن في حرمة الحرم. وخالفه أشهب ، وابن وهب ، من أصحابه. ولا خلاف في عدم أكل صيد المجوسي إلّا رواية عن أبي ثور إذ ألحقهم بأهل الكتاب فهو اختلاف في الأصل لا في الفرع.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) الآية تذييل عامّ ختمت به آية الصيد ، وهو عامّ المناسبة.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).

يجيء في التقييد (باليوم) هنا ما جاء في قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣] وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] ، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم ، فلا يجيء هنا ، لأنّ إحلال الطيّبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرّما ، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كليّة ، فيكون كقوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] في تعلّق قوله : (الْيَوْمَ) به ، كما تقدّم.

ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله (الْيَوْمَ يَئِسَ) [المائدة : ٣] و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) [المائدة : ٣] أنّ هذا أيضا منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين.

والكلام على الطيّبات تقدّم آنفا ، فأعيد ليبنى عليه قوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). وعطف جملة (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) على جملة (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم.

والطعام في كلام العرب ما يطعمه المرء ويأكله ، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة ، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح. قال ابن عطية : الطعام الذي لا محاولة فيه كالبرّ

والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له ، والطعام الذي تقع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت. فهذا إن تجنّب من الذميّ فعلى جهة

٤٣

التقذّر. والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية ، فلمّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس. وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا ، ولهذا قال كثير من العلماء : أراد الله هنا بالطعام الذبائح ، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح ، ولكن هؤلاء قالوا : إنّ غير الذبائح ليس مرادا ، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله. والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم ، وهم لا يتوقّون ما نتوقّى ، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه. ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح.

و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : هم أتباع التوراة والإنجيل ، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ إلى اتّباع الدين ، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختيارا ؛ فإنّ موسى وعيسى ودعوا بني إسرائيل خاصّة ، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن ، وتنصّر من العرب تغلب ، وبهراء ، وكلب ، ولخم ، ونجران ، وبعض ربيعة وغسّان ، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال : لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب ، وقال : إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر. وقال القرطبي : هذا قول الشافعي ، وروى الربيع عن الشافعي : لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب. وعن الشافعي : من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمّدية فهو من أهل الكتاب ، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلّا الإسلام ، ولا تقبل منه الجزية ، أي كالمشركين.

وأمّا المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع ، فلا تؤكل ذبائحهم ، وشذّ من جعلهم أهل كتاب. وأمّا المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف.

وحكمة الرخصة في أهل الكتاب : لأنّهم على دين إلهي يحرّم الخبائث ، ويتقي النجاسة ، ولهم في شئونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها ، وهي مستندة للوحي الإلهي ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان. وأمّا المجوس فلهم كتاب لكنّه ليس بالإلهي ، فمنهم أتباع (زرادشت) ، لهم كتاب (الزندفستا) وهؤلاء هم محلّ الخلاف. وأمّا المجوس (المانويّة) فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان ، أو هم شرّ منهم. وقد قال مالك : ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتّقون النجاسة. وفي «جامع الترمذي» : أنّ أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

٤٤

قدور المجوس. فقال له : «أنقوها غسلا واطبخوا فيها». وفي البخاري : أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن آنية أهل الكتاب. فقال له : «إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها». قال ابن العربي : «فغسل آنية المجوس فرض ، وغسل آنية أهل الكتاب ندب». يريد لأنّ الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم ، وإنّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه ، ولم يبح لنا طعام المجوس ، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين.

ثم الطعام الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعاما لهم إذا كانوا يستحلّونه في دينهم ، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم ، ولو كان ممّا ذكر القرآن أنّه حرّمه عليهم ، لأنّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات ، وهذا قول مالك. وأرى أنّ دليله : أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلا للمسلمين ، ولا التفات إلى ما حكى الله أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين ، فكان عموم طعامهم في شرعنا مباحا ناسخا للمحرّم عليهم ، ولا نصير إلى الاحتجاج «بشرع من قبلنا ...» إلّا إذا لم يكن لنا دليل على حكمه في شرعنا. وقيل : لا يؤكل ما علمنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن ، وهو قول بعض أهل العلم ، وقيل به في مذهب مالك ، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم ؛ لأنّ الله ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم.

ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرّمه الله علينا بعينه : كالخنزير والدم ، ولا ما حرّمه علينا بوصفه ، الذي ليس بذكاة : كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وأكيلة السبع ، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك ، فأمّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفة تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت ، والمفتولة العنق فتتمزّق العروق ، فقال جمهور العلماء : لا يؤكل. وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية : تؤكل. وقال في «الأحكام» : فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس فالجواب : أنّ هذه ميتة ، وهي حرام بالنصّ ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن ، كالخنزير فإنّه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا ـ يريد إباحته عند النصارى ـ ثم قال : ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه ، فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا وكلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا». وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي ، وإنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم ، والأوداج ولو بالخنق ،

٤٥

وبين نحو الخنق لحبس النفس ، ورضّ الرأس وقول ابن العربي شذوذ.

وقوله : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ). والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم ، فأباح لنا طعامهم ، وأباح لنا أن نطعمهم طعامنا ، فعلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم ، وذلك أيضا تمهيد لقوله بعد : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصاهرة معهم.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

عطف (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) على (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) عطف المفرد على المفرد. ولم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة لذكر حلّ المحصنات من المؤمنات في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب ، وإباحة تزوّج نسائهم. وعندي : أنّه إيماء إلى أنّهنّ أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب ، والمقصود هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإنّ هذه الآية جاءت لإباحة التزوّج بالكتابيات. فقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) عطف على (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ). فالتقدير : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم.

والمحصنات : النسوة اللاء أحصنهنّ ما أحصنهنّ ، أي منعهنّ عن الخنا أو عن الريب ، فأطلق الإحصان : على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء [٢٤] عطفا على المحرّمات (الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ؛ وعلى المسلمات لأنّ الإسلام وزعهن عن الخنا ، قال الشاعر :

ويصدّهن عن الخنا الإسلام

وأطلق على الحرائر ، لأنّ الحرائر يترفّعن عن الخنا من عهد الجاهلية. ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأوّل ، إذ لا يحلّ تزوّج ذات الزوج ، ولا الثاني لقوله : (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) الذي هو ظاهر في أنّهنّ بعض المؤمنات فتعيّن معنى الحرية ، ففسّرها مالك بالحرائر ، ولذلك منع نكاح الحرّ الأمة إلّا إذا خشي العنت ولم يجد للحرائر طولا ، وجوّز

٤٦

ذلك للعبد ، وكأنّه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء [٢٥](وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) وهو تفسير بيّن ملتئم. وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد. ومن العلماء من فسّر المحصنات هنا بالعفائف ، ونقل عن الشعبي وغيره ، فمنعوا تزوّج غير العفيفة من النساء لرقّة دينها وسوء خلقها.

وكذلك القول في تفسير قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي الحرائر عند مالك ، ولذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقا للحرّ والعبد. والذين فسّروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك.

وشمل أهل الكتاب : الذمّيّين ، والمعاهدين ، وأهل الحرب ، وهو ظاهر ، إلّا أنّ مالكا كره نكاح النساء الحربيّات ، وعن ابن عبّاس : تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب ، فمنع نكاح الحربيات. ولم يذكروا دليله.

والأجور : المهور ، وسمّيت هنا (أجورا) مجازا في معنى الأعواض عن المنافع الحاصلة من آثار عقدة النكاح ، على وجه الاستعارة أو المجاز المرسل. والمهر شعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة. ولو كانت المهور أجورا حقيقة لوجب تحديد مدّة الانتفاع ومقداره وذلك ممّا تنزّه عنه عقدة النكاح.

والقول في قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) كالقول في نظيره (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [النساء : ٢٥] تقدّم في هذه السورة.

وجملة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) معترضة بين الجمل. والمقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم ، ولكن ذلك تيسير على المسلمين. وقد ذكر في سبب نزولها أنّ نساء أهل الكتاب قلن «لو لا أنّ الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا». والمراد بالإيمان الإيمان المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لقّبوا بالمؤمنين ، فالكفر هنا الكفر بالرسل ، أي : ينكر الإيمان ، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات ، إذ الإيمان صار لقبا لمجموع ما يجب التصديق به.

والحبط ـ بسكون الموحّدة ـ والحبوط : فساد شيء كان صالحا ، ومنه سمّي الحبط ـ بفتحتين ـ مرض يصيب الإبل من جرّاء أكل الخضر في أوّل الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت. وفعل (حبط) يؤذن بأنّ الحابط كان صالحا فانقلب إلى فساد. والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان ، وهو أشدّ الفساد ، فدلّ فعل (حبط) على أنّ الأعمال صالحة ،

٤٧

وحذف الوصف لدلالة الفعل عليه. وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفساد الذوات النافعة ، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها. والمراد ضياع ثوابها وما يترقّبه العامل من الجزاء عليها والفوز بها.

والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان ، والترغيب في الدخول فيه كذلك ، ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم ، ويعلم المشركون ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص : من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولا ، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع ، جزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيرا بنعمة عظيمة من نعم التّشريع : وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهّر بالماء ، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبل ، وإنّما ذكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين ، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة ، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ. وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ـ في سورة النّساء [٤٣] ـ الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء ، أم آية سورة المائدة. وذكرنا هنالك أنّ حديث «الموطأ» من رواية مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سمّاها آية التيمّم ، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم ، وكذلك اختار الواحدي في «أسباب النّزول» ، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حريث عن عائشة : أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية ، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمن بن القاسم ، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة ، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهوا من أحد رواته غير عبد الرحمن بن القاسم وأبيه ، أراد أن يذكر آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى

٤٨

تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، وهي آية النّساء [٤٣] ، فذكر آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية. فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) قد نزلت قبل نزول سورة المائدة ، ثمّ أعيد نزولها في سورة المائدة ، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة ، والأرجح عندي : أن يكون ما في حديث البخاري وهما من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة.

فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفا عن الوضوء بنصّ القرآن ؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآن فيه ولكنّه كان مشروعا بالسنّة. ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعا من قبل ذلك ، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلّ صلاة إلّا بوضوء. قال أبو بكر ابن العربي في «الأحكام» «لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية ، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولا قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا : إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة ، معناه كان بالسنّة. فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلّا فرضا» وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظهر ذلك اليوم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلّما له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا صحيح وإن كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اه.

وفي «سيرة ابن إسحاق» ثمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خديجة فتوضّأ لها ليريها كيف الطهور للصّلاة كما أراه جبريل اه. وقولهم : الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود. وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة. قال بعض علمائنا : ولذلك قالوا في حديث عائشة : فنزلت آية التّيمّم ؛ ولم يقولوا : آية الوضوء ؛ لمعرفتهم إيّاه قبل الآية.

فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة ، إذ لم يذكر العلماء إلّا شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك ، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن. وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل ، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة ، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء. ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا (فَاطَّهَّرُوا) ، وقوله هنالك (تَغْتَسِلُوا) [النساء : ٤٣] ، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضا عن الوضوء.

ومعنى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إذا عزمتم على الصّلاة ، لأنّ القيام يطلق في كلام

٤٩

العرب بمعنى الشروع في الفعل ، قال الشاعر :

فقام يذود النّاس عنها بسيفه

وقال ألا لا من سبيل إلى هند

وعلى العزم على الفعل ، قال النابغة :

قاموا فقالوا حمانا غير مقروب

أي عزموا رأيهم فقالوا. والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب (إلى) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا.

وروى مالك في «الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم ، وهو مروي عن السديّ. فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية ، وكلّها تؤول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة.

وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شرط ب (إِذا قُمْتُمْ) فاقتضى طلب غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة. والأمر ظاهر في الوجوب. وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوب الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داود الظاهري ، ولم يذكر ذلك ابن حزم في «المحلّى» ولم أره لغير الطبرسي. وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجبا على المسلمين لكلّ صلاة ثمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد. وقال بعضهم : هذا حكم خاصّ بالنّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه ، كيف وهي مصدّرة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). والجمهور حملوا الآية على معنى «إذا قمتم محدثين» ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء [٤٣] المصدّرة بقوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ـ إلى قوله ـ وَلا جُنُباً) الآية. وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضا على النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّا به غير داخل في هذه الآية ، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة ؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لكلّ صلاة. وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره. والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب

٥٠

الوضوء. وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط ، هو القيام إلى الصّلاة ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ـ إلى قوله ـ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ـ إلى قوله ـ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء ، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات ، إمّا مانع من أصل الوضوء وهو المرض والسفر ، وإمّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلّا فالتيمّم ، فمفهوم الشرط وهو قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) ومفهوم النّفي وهو (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) تأويل بيّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل ، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب.

وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة. وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ، ولذلك اقتصر على قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ) في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء. وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة ، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما.

وقد اختلف الأئمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة ، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود. وفي «المدارك» أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها. ثمّ قال للسائل بعد أيّام : قرأت «كتاب سيبويه» فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود. وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل ، وأولاهما دخولهما. قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تكلّف التحديد. وعن أبي هريرة : أنّه يغسل يديه إلى الإبطين ، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغرّة يوم القيامة. وقيل : تكره الزيادة.

وقوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب ـ بالنّصب ـ عطفا على (وَأَيْدِيَكُمْ) وتكون جملة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) معترضة بين المتعاطفين. وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ

٥١

الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي ، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضا للوسخ ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ، ولذلك كان النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها ، وقد نادى بأعلى صوته للذي لم يحسن غسل رجليه «ويل للأعقاب من النّار».

وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بخفض ـ (وَأَرْجُلَكُمْ). وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكم الرجلين المسح دون الغسل ، وروي هذا عن ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة. وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوما بالأهواز فذكر الوضوء فقال : «إنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما» فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجّاج قال الله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ). ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل ، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسح الرجلين منسوخا بالسّنة ، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى قوما يتوضّئون وأعقابهم تلوح ، فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النّار» مرّتين. وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلّا الإمامية من الشيعة ، قالوا : ليس في الرجلين إلّا المسح ، وإلّا ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح. واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء. ومن الذين قرءوا ـ بالخفض ـ من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل ، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحا وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مرادا هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح.

وجملة (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ـ إلى قوله ـ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا.

وجملة (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) تعليل لرخصة التيمّم ، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق.

٥٢

واللام في (لِيَجْعَلَ) داخلة على أن المصدرية محذوفة وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر ، وهي لام زائدة على الأرجح ، وتسمّى لام أن. وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النّساء [٢٦] ، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود.

والحرج : الضيق والشدّة ، والحرجة : البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق ، والجمع حرج. والحرج المنفي هنا هو الحرج الحسّي لو كلّفوا بطهارة الماء مع المرض أو السفر ، والحرج النفسي لو منعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفر أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها.

وقوله : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف ، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة ؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار : منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة ؛ ومنها ما لا يعلمه إلّا الله ، ككون الظهر أربع ركعات ، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكم منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم ، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم ، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثمّ يقضون الجميع. فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جعل التّيمّم بدلا عن الوضوء ، كما تقدّم في سورة النساء.

وقوله (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام ، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكية والتطهير مع التيسير في أحوال كثيرة. فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن ، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي رجاء شكركم إيّاه. جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

عطف على جملة (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة : ٦] الآية الواقعة تذييلا لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] الآية.

٥٣

والكلام مرتبط بما افتتحت به السورة من قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لأنّ في التذكير بالنعمة تعريضا بالحثّ على الوفاء.

ذكّرهم بنعم مضت تذكيرا يقصد منه الحثّ على الشكر وعلى الوفاء بالعهود ، والمراد من النّعمة جنسها لا نعمة معيّنة ، وهي ما في الإسلام من العزّ والتمكين في الأرض وذهاب أحوال الجاهلية وصلاح أحوال الأمّة.

والميثاق : العهد ، وواثق : عاهد. وأطلق فعل واثق على معنى الميثاق الّذي أعطاه المسلمون ، وعلى وعد الله لهم ما وعدهم على الوفاء بعهدهم. ففي صيغة (واثَقَكُمْ) استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.

و (إِذْ) اسم زمان عرّف هنا بالإضافة إلى قول معلوم عند المخاطبين.

والمسلمون عاهدوا الله في زمن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدّة عهود : أوّلها عهد الإسلام كما تقدّم في صدر هذه السورة. ومنها عهد المسلمين عند ما يلاقون الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو البيعة أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصونه في معروف ، وهو عين العهد الذي ذكره القرآن في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء المؤمنات ، كما ورد في الصّحيح أنّه كان يبايع المؤمنين على مثل ذلك ، ومنها بيعة الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موسم الحجّ سنة ثلاث عشرة من البعثة قبل الهجرة. وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا التقوا برسول الله بعد الموسم في العقبة ومعهم العبّاس بن عبد المطلب ، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله كما يمنعون نساءهم وأبناءهم ، وعلى أنّهم يأوونه إذا هاجر إليهم. وقد تقدّم هذه البيعة بيعتان إحداهما سنة إحدى عشرة من البعثة ، بايعه نفر من الخزرج في موسم الحجّ. والثّانية سنة اثنتي عشرة من البعثة ، بايع اثنا عشر رجلا من الخزرج في موسم الحجّ بالعقبة ليبلّغوا الإسلام إلى قومهم. ومن المواثيق ميثاق بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة سنة ستّ من الهجرة ، وفي كلّ ذلك واثقوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره.

ومعنى (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الاعتراف بالتّبليغ ، والاعتراف بأنّهم سمعوا ما طلب منهم العهد عليه. فالسمع أريد به العلم بما واثقوا عليه ، ويجوز أن يكون (سَمِعْنا) مجازا في الامتثال ، (وَأَطَعْنا) تأكيدا له. وهذا من استعمال سمع ، ومنه قولهم : بايعوا على السمع والطّاعة. وقال النّابغة يذكر حالة من لدغته حيّة فأخذوا يرقونه :

٥٤

تناذرها الرّاقون من سوء سمعها

أي من سوء طاعتها للرقية ، أي عدم نجاح الرقية في سمّها. وعقّب ذلك بالأمر بالتّقوى ؛ لأنّ النعمة تستحقّ أن يشكر مسديها. وشكر الله تقواه.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل للتحذير من إضمار المعاصي ومن توهّم أنّ الله لا يعلم إلّا ما يبدو منهم. وحرف (إنّ) أفاد أنّ الجملة علّة لما قبلها على الأسلوب المقرّر في البلاغة في قول بشّار :

إنّ ذاك النجاح في التبكير [٨]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨))

لمّا ذكّرهم بالنّعمة عقّب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له ، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم.

فالجملة استئناف نشأ عن ترقّب السامعين بعد تعداد النعم. وقد تقدّم نظير هذه الآية في سورة النساء ، ولكن آية سورة النساء [١٣٥] تقول : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) وما هنا بالعكس.

ووجه ذلك أنّ الآية الّتي في سورة النّساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء :١٠٥] ، ثمّ تعرّضت لقضية بني أبيرق في قوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥] ، ثمّ أردفت بأحكام المعاملة بين الرّجال والنّساء ، فكان الأهمّ فيها أمر العدل فالشهادة. فلذلك قدّم فيها (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) [النساء : ١٣٥] ؛ فالقسط فيها هو العدل في القضاء ، ولذلك عدّي إليه بالباء ، إذ قال : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥].

وأمّا الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله ، فكان المقام الأوّل للحضّ على القيام لله ، أي الوفاء له بعهودهم له ، ولذلك عدّي قوله : (قَوَّامِينَ) باللام. وإذ كان العهد شهادة أتبع قوله : (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) بقوله : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) ، أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها ، وأولى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى. وقد حصل

٥٥

من مجموع الآيتين : وجوب القيام بالعدل ، والشهادة به ، ووجوب القيام لله ، والشهادة له.

وتقدّم القول في معنى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) قريبا ، ولكنّه هنا صرّح بحرف (على) وقد بيّناه هنالك. والكلام على العدل تقدّم في قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨].

والضمير في قوله : (هُوَ أَقْرَبُ) عائد إلى العدل المفهوم من (تَعْدِلُوا) ، لأنّ عود الضمير يكتفى فيه بكلّ ما يفهم حتّى قد يعود على ما لا ذكر له ، نحو (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢]. على أنّ العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب :

المرتبة الأولى : أن تدخل عليه (أن) المصدرية.

الثّانية : أن تحذف (أن) المصدريّة ويبقى النصب بها ، كقول طرفة :

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

بنصب (أحضر) في رواية ، ودلّ عليه عطف (وأن أشهد).

الثّالثة : أن تحذف (أن) ويرفع الفعل عملا على القرينة ، كما روي بيت طرفة (أحضر) برفع أحضر ، ومنه قول المثل (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) ، وفي الحديث «تحمل لأخيك الركاب صدقة».

الرابعة : عود الضمير على الفعل مرادا به المصدر ، كما في هذه الآية. وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتّى يخيّل للنّاظر أنّه مثال فذّ في بابه ، وليس كذلك بل منه قوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [الكهف : ٤]. وأمثلته كثيرة : منها قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) [الكهف : ٥] ، فضمير (بِهِ) عائد إلى القول المأخوذ من (قالُوا) ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج : ٣٠] ، فضمير (فَهُوَ) عائد للتعظيم المأخوذ من فعل (يُعَظِّمْ) ، وقول بشّار :

والله ربّ محمّد

ما إن غدرت ولا نويته

أي الغدر.

ومعنى (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي للتقوى الكاملة الّتي لا يشذّ معها شيء من الخير ، وذلك أنّ العدل هو ملاك كبح النّفس عن الشهوة وذلك ملاك التّقوى.

[٩ ، ١٠] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)

٥٦

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))

عقّب أمرهم بالتّقوى بذكر ما وعد الله به المتّقين ترغيبا في الامتثال ، وعطف عليه حال أضداد المتّقين ترهيبا. فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ومفعول (وَعَدَ) الثّاني محذوف تنزيلا للفعل منزلة المتعدّي إلى واحد.

وجملة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) مبيّنة لجملة (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، فاستغني بالبيان عن المفعول ، فصار التقدير : وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لهم. وإنّما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرّر.

والقصر في قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قصر ادّعائي لأنّهم لمّا كانوا أحقّ النّاس بالجحيم وكانوا خالدين فيه جعلوا كالمنفردين به ، أو هو قصر حقيقي إذا كانت إضافة (أَصْحابُ) مؤذنة بمزيد الاختصاص بالشيء كما قالوه في مرادفها ، وهو ذو كذا ، كما نبّهوا عليه في قوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [آل عمران : ٤] فيكون وجه هذا الاختصاص أنّهم الباقون في الجحيم أبدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

بعد قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) [المائدة : ٧] أعيد تذكيرهم بنعمة أخرى عظيمة على جميعهم إذ كانت فيها سلامتهم ، تلك هي نعمة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم لأنّها نعمة يحصل بها ما يحصل من النصر دون تجشّم مشاقّ الحرب ومتالفها. وافتتاح الاستئناف بالنّداء ليحصل إقبال السامعين على سماعه. ولفظ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وما معه من ضمائر الجمع يؤذن بأنّ الحادثة تتعلّق بجماعة المؤمنين كلّهم. وقد أجمل النعمة ثمّ بيّنها بقوله : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ).

وقد ذكر المفسّرون احتمالات في تعيين القوم المذكورين في هذه الآية. والّذي يبدو لي أنّ المراد قوم يعرفهم المسلمون يومئذ ؛ فيتعيّن أن تكون إشارة إلى وقعة مشهورة أو قريبة من تاريخ نزول هذه السورة. ولم أر فيما ذكروه ما تطمئنّ له النّفس. والّذي أحسب أنّها تذكير بيوم الأحزاب ؛ لأنّها تشبه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩] الآية.

٥٧

ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما كان من عزم أهل مكّة على الغدر بالمسلمين حين نزول المسلمين بالحديبية عام صلح الحديبية ثمّ عدلوا عن ذلك. وقد أشارت إليها الآية : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح : ٢٤] الآية. ويجوز أن تكون الإشارة إلى عزم أهل خيبر وأنصارهم من غطفان وبني أسد على قتال المسلمين حين حصار خيبر ، ثم رجعوا عن عزمهم وألقوا بأيديهم ، وهي الّتي أشارت إليها آية : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) [الفتح : ٢٠]. وعن قتادة : سبب الآية ما همّت به بنو محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر فأشعر الله رسوله بذلك ، ونزلت صلاة الخوف ، وكفّ الله أيديهم عن المؤمنين.

وأمّا ما يذكر من غير هذا ممّا همّ به بنو النضير من قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جاءهم يستعينهم على دية العامريّين فتآمروا على أن يقتلوه ، فأوحى الله إليه بذلك فخرج هو وأصحابه. وكذا ما يذكر من أنّ المراد قصّة الأعرابي الّذي اخترط سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائل في منصرفه من إحدى غزواته ، فذلك لا يناسب خطاب الّذين آمنوا ، ولا يناسب قصّة الأعرابي لأنّ الّذي أهمّ بالقتل واحد لا قوم.

وبسط اليد مجاز في البطش قال تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢] ويطلق على السلطة مجازا أيضا ، كقولهم : يجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على كلّ من بسطت يده في الأرض ؛ وعلى الجود ، كما في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤]. وهو حقيقة في محاولة الإمساك بشيء ، كما في قوله تعالى حكاية عن ابن آدم (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) [المائدة : ٢٨].

وأمّا كفّ اليد فهو مجاز عن الإعراض عن السوء خاصّة (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) [الفتح : ٢٠]. والأمر بالتقوى عقب ذلك لأنّها أظهر للشكر ، فعطف الأمر بالتّقوى بالواو للدلالة على أنّ التّقوى مقصودة لذاتها ، وأنّها شكر لله بدلالة وقوع الأمر عقب التذكير بنعمة عظمى.

وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر لهم بالاعتماد على الله دون غيره. وذلك التّوكل يعتمد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات فناسب التّقوى. وكان من مظاهره تلك النّعمة الّتي ذكّروا بها.

٥٨

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))

ناسب ذكر ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قوله : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) [المائدة : ٧] تحذيرا من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم. ومحلّ الموعظة هو قوله : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ). وهكذا شأن القرآن في التفنّن ومجيء الإرشاد في قالب القصص ، والتنقّل من أسلوب إلى أسلوب.

وتأكيد الخبر الفعلي بقد وباللام للاهتمام به ، كما يجيء التأكيد بإنّ للاهتمام وليس ثمّ متردّد ولا منزّل منزلته. وذكر مواثيق بني إسرائيل تقدّم في سورة البقرة.

والبعث أصله التوجيه والإرسال ، ويطلق مجازا على الإقامة والإنهاض كقوله : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢] ، وقوله : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦]. ثم شاع هذا المجاز حتّى بني عليه مجاز آخر بإطلاقه على الإقامة المجازية (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] ، ثمّ أطلق على إثارة الأشياء وإنشاء الخواطر في النفس. قال متمم بن نويرة :

فقلت لهم إنّ الأسى يبعث الأسى

أي أنّ الحزن يثير حزنا آخر. وهو هنا يحتمل المعنى الأول والمعنى الثّالث.

والعدول عن طريق الغيبة من قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ) إلى طريق التكلّم في قوله : (وَبَعَثْنا) التفات.

والنقيب فعيل بمعنى فاعل : إمّا من نقب إذا حفر مجازا ، أو من نقّب إذا بعث (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) [ق : ٣٦] ، وعلى الأخير يكون صوغ فعيل منه على خلاف القياس ، وهو وارد كما صيغ سميع من أسمع في قول عمرو بن معد يكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

أي المسمع.

٥٩

ووصفه تعالى بالحكيم بمعنى المحكم للأمور. فالنقيب الموكول إليه تدبير القوم ، لأنّ ذلك يجعله باحثا عن أحوالهم ؛ فيطلق على الرّئيس وعلى قائد الجيش وعلى الرائد ، ومنه ما في حديث بيعة العقبة أنّ نقباء الأنصار يومئذ كانوا اثني عشر رجلا.

والمراد بنقباء بني إسرائيل هنا يجوز أن يكونوا رؤساء جيوش ، ويجوز أن يكونوا روادا وجواسيس ، وكلاهما واقع في حوادث بني إسرائيل.

فأمّا الأوّل فيناسب أن يكون البعث معه بمعنى الإقامة ، وقد أقام موسى ـ عليه‌السلام ـ من بني إسرائيل اثني عشر رئيسا على جيش بني إسرائيل على عدد الأسباط المجنّدين ، فجعل لكلّ سبط نقيبا ، وجعل لسبط يوسف نقيبين ، ولم يجعل لسبط لاوي نقيبا ، لأنّ اللاويين كانوا غير معدودين في الجيش إذ هم حفظة الشريعة ، فقد جاء في أوّل سفر العدد : كلّم الله موسى : أحصوا كلّ جماعة إسرائيل بعشائرهم بعدد الأسماء من ابن عشرين فصاعدا كلّ خارج للحرب في إسرائيل حسب أجنادهم ، تحسبهم أنت وهارون ، ويكون معكما رجل لكلّ سبط رءوس ألوف إسرائيل «وكلّم الربّ موسى قائلا : أمّا سبط لاوي فلا تعدّه بل وكّل اللاويين على مسكن الشهادة وعلى جميع أمتعته». وكان ذلك في الشهر الثّاني من السنة الثّانية من خروجهم من مصر في برية سينا.

وأمّا الثّاني فيناسب أن يكون البعث فيه بمعناه الأصلي ، فقد بعث موسى اثني عشر رجلا من أسباط إسرائيل لاختبار أحوال الأمم الّتي حولهم في أرض كنعان ، وهم غير الاثني عشر نقيبا الذين جعلهم رؤساء على قبائلهم. ومن هؤلاء يوشع بن نون من سبط أفرايم ، وكالب بن يفنة من سبط يهوذا ، وهما الوارد ذكرهما في قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) [المائدة : ٢٣] ، كما سيأتي في هذه السورة. وقد ذكرت أسماؤهم في الفصل الثالث عشر من سفر العدد. والظاهر أنّ المراد هنا النقباء الّذين أقيموا لجند إسرائيل.

والمعيّة في قوله : (إِنِّي مَعَكُمْ) معيّة مجازية ، تمثيل للعناية والحفظ والنصر ، قال تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) [الأنفال : ١٢] ، وقال : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] وقال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : ٤]. والظاهر أنّ هذا القول وقع وعدا بالجزاء على الوفاء بالميثاق.

وجملة (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) الآية. واستئناف محض ليس منها شيء يتعلّق ببعض ألفاظ الجملة الّتي قبلها وإنّما جمعهما العامل ، وهو فعل القول ، فكلتاهما مقول ، ولذلك

٦٠