تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

معطوف على (فِي الْمَهْدِ) لأنّه حال أيضا ، كقوله تعالى : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢]. والمهد والكهل تقدّما في تفسير سورة آل عمران. وتكليمه كهلا أريد به الدعوة إلى الدين فهو من التأييد بروح القدس ، لأنّه الذي يلقي إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه.

وقوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) تقدّم القول في نظيره في سورة آل عمران ، وكذلك قوله (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ـ إلى قوله ـ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) تقدّم القول في نظيره هنالك.

إلّا أنّه قال هنا (فَتَنْفُخُ فِيها) وقال في سورة آل عمران [٤٩](فَأَنْفُخُ فِيهِ). فعن مكّي بن أبي طالب أنّ الضمير في سورة آل عمران عاد إلى الطير ، والضمير في هذه السورة عاد إلى الهيئة. واختار ابن عطية أن يكون الضمير هنا عائدا إلى ما تقتضيه الآية ضرورة. أي بدلالة الاقتضاء. وذلك أنّ قوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا ، وكذلك الضمير المذكّر في سورة آل عمران [٤٩] يعود على المخلوق الذي يقتضيه (أَخْلُقُ). وجعله في «الكشاف» عائدا إلى الكاف باعتبار كونها صفة للفظ هيئة المحذوف الدّال عليه لفظ هيئة المدخول للكاف وكلّ ذلك ناظر إلى أنّ الهيئة لا تصلح لأن تكون متعلّق (فَتَنْفُخُ) ، إذ الهيئة معنى لا ينفخ فيها ولا تكون طائرا.

وقرأ نافع وحده فتكون طائرا بالإفراد كما قرأ في سورة آل عمران. وتوجيهها هنا أنّ الضمير جرى على التأنيث فتعيّن أن يكون المراد وإذ تخلق ، أي تقدّر هيئة كهيئة الطير فتكون الهيئة طائرا ، أي كلّ هيئة تقدّرها تكون واحدا من الطير.

وقرأ البقية «طيرا» ـ بصيغة اسم الجمع ـ باعتبار تعدّد ما يقدّره من هيئات كهيئة الطير.

وقال هنا (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) ولم يقل : (وَأُحْيِ)(١)(الْمَوْتى) ، كما قال في سورة آل عمران [٤٩] ، أي تخرجهم من قبورهم أحياء ، فأطلق الإخراج وأريد به لازمه وهو الإحياء ، لأنّ الميّت وضع في القبر لأجل كونه ميّتا فكان إخراجه من القبر ملزوما الانعكاس السبب الذي لأجله وضع في القبر. وقد سمّى الله الإحياء خروجا في قوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ١١] وقال : (إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ

__________________

(١) في المطبوعة : (وتحيى) وهو خطأ.

٢٦١

مُخْرَجُونَ)(١) [المؤمنون : ٣٥].

وقوله : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عطف على (إِذْ أَيَّدْتُكَ) وما عطف عليه. وهذا من أعظم النعم ، وهي نعمة العصمة من الإهانة ؛ فقد كفّ الله عنه بني إسرائيل سنين ، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلّة أنصاره ، فصرفهم الله عن ضرّه حتى أدّى الرسالة ، ثمّ لمّا استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به ، وماتت نفوسهم بغيظها. وقد دلّ على جميع هذه المدّة الظرف في قوله : (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فإنّ تلك المدّة كلّها مدّة ظهور معجزاته بينهم. وقوله : (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) تخلّص من تنهية تقريع مكذّبيه إلى كرامة المصدّقين به.

واقتصر من دعاوي تكذيبهم إيّاه على قولهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، لأنّ ذلك الادّعاء قصدوا به التوسّل إلى قتله ، لأنّ حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر ، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام ، فقد قرنت التوراة السحر وعرافة الجانّ بالشرك ، كما جاء في سفر اللاويّين في الإصحاح العشرين.

وقرأ الجمهور : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ) ، والإشارة ب (هذا) إلى مجموع ما شاهدوه من البيّنات. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف إلا ساحر. والإشارة إلى عيسى المفهوم من قوله : (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ). ولا شك أنّ اليهود قالوا لعيسى كلتا المقالتين على التفريق أو على اختلاف جماعات القائلين وأوقات القول.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

يجوز أن يكون عطفا على جملة (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة : ١١٠] ، فيكون من جملة ما يقوله الله لعيسى يوم يجمع الرسل. فإنّ إيمان الحواريّين نعمة على عيسى إذ لو لم يؤمنوا به لما وجد من يتّبع دينه فلا يحصل له الثواب المتجدّد بتجدد اهتداء الأجيال بدينه إلى أن جاء نسخه بالإسلام.

والمراد بالوحي إلى الحواريّين إلهامهم عند سماع دعوة عيسى للمبادرة بتصديقه ، فليس المراد بالوحي الذي به دعاهم عيسى. ويجوز أن يكون الوحي الذي أوحي به إلى

__________________

(١) في المطبوعة : (أإذا متنا وكنّا ترابا وعظاما إنّا لمخرجون) وهو خطأ.

٢٦٢

عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه. وخصّ الحواريّون به هنا تنويها بهم حتّى كأنّ الوحي بالدعوة لم يكن إلّا لأجلهم ، لأنّ ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) [الصف : ١٤] ؛ فكان الحواريّون سابقين إلى الإيمان لم يتردّدوا في صدق عيسى. و (أَنْ) تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريّين.

وفصل جملة (قالُوا آمَنَّا) لأنّها جواب ما فيه معنى القول ، وهو «أوحينا» ، على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدّم في سورة البقرة ، وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنّه خاطبهم فأجابوه. والخطاب في قولهم : (وَاشْهَدْ) لله تعالى وإنّما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم ، فحكى الله معناه بما يؤدّيه قوله : (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ). وسمّى إيمانهم إسلاما لأنّه كان تصديقا راسخا قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامّة من آمن بالمسيح غيرهم ، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى ، وهو إيمان الأنبياء والصدّيقين ، وقد قدّمت بيانه في تفسير قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) في سورة آل عمران [٦٧] ، وفي تفسير قوله (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٢] فارجع إليه.

[١١٢ ، ١١٣] (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))

جملة : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فيكون (إِذْ) ظرفا متعلّقا بفعل (قالُوا آمَنَّا) [المائدة : ١١١] فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١] ؛ فإنّ قولهم (آمَنَّا) قد يتكرّر منهم بمناسبات ، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى ، أو عند ما يشاهدون آيات على يد عيسى ، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة. آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون. وأمّا ما قرّر به «الكشاف» ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به.

٢٦٣

ويجوز أن يكون جملة : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) ابتدائية بتقدير : اذكر ، على أسلوب قوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) في سورة النمل [٧] ، فيكون الكلام تخلّصا إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي).

[المائدة : ١١١] وابتدءوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له ، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلبا لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود.

وجرى قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر : هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسئول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظورا فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسئول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسئول ، فقرينة الكناية تحقّق المسئول أنّ السائل يعلم استطاعته. ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني «أنّ رجلا قال لعبد الله بن زيد : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ». فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك. فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلّا لفظا من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص. وليس شكّا في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس. فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] شكّا في الحال. وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية ، والواحدي ، والبغوي خلافا لما في «الكشاف».

وقرأ الجمهور : (يَسْتَطِيعُ) بياء الغيبة ورفع (رَبُّكَ). وقرأه الكسائي هل تستطيع ربك ـ بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة ـ من قوله (رَبُّكَ) على أنّ (رَبُّكَ) مفعول به ، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك ، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة ، أي إجابة السؤال. وقيل : هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك ، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف في إعرابه. وفي رواية الطبري عن عائشة قالت : كان الحواريّون أعلم بالله عزوجل من أن يقولوا : هل يستطيع ربّك ، ولكن قالوا : هل تستطيع ربّك. وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي هل تستطيع ربك.

٢٦٤

واسم (مائِدَةً) هو الخوان الموضوع عليه طعام ، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعام وما يوضع عليه. والخوان ـ بكسر الخاء وضمّها ـ تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل ، اتّفقوا على أنّه معرّب. قال الجواليقي : هو أعجمي. وفي حديث قتادة عن أنس قال : ما أكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خوان قطّ ، ولا في سكرّجة ، قال قتادة : قلت لأنس : فعلام كنتم تأكلون قال : على السّفر ، وقيل : المائدة اسم الطعام ، وإن لم يكن في وعاء ولا على خوان. وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة ، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ. وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة. وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ : لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله ، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة. واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذ أريد السفر به. وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر. وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي.

وقول عيسى حين أجابهم (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان ، ولذلك جاء ب (أَنْ) المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم ، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به ، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ، أي ألم تكن غنيّا عن طلب الدليل المحسوس. فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه. وقيل : نهاهم عن طلب المعجزات ، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة. فأجابوه عن ذلك بأنّهم ما أرادوا ذلك لضعف في إيمانهم إنّما أرادوا التيمّن بأكل طعام نزل من عند الله إكراما لهم ، ولذلك زادوا (مِنْها) ولم يقتصروا على (أَنْ نَأْكُلَ) إذ ليس غرضهم من الأكل دفع الجوع بل الغرض التشرّف بأكل من شيء نازل من السماء. وهذا مثل أكل أبي بكر من الطعام الذي أكل منه ضيفه في بيته حين انتظروه بالعشاء إلى أن ذهب جزء من الليل ، وحضر أبو بكر وغضب من تركهم الطعام ، فلمّا أخذوا يطعمون جعل الطعام يربو فقال أبو بكر لزوجه : ما هذا يا أخت بني فراس. وحمل من الغد بعض ذلك الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأكل منه.

ولذلك قال الحواريّون : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) أي بمشاهدة هذه المعجزة فإنّ الدليل الحسي أظهر في النفس ، (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ، أي نعلم علم ضرورة لا علم استدلال

٢٦٥

فيحصل لهم العلمان ، (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، أي من الشاهدين على رؤية هذه المعجزة فنبلّغها من لم يشهدها. فهذه أربع فوائد لسؤال إنزال المائدة ، كلّها درجات من الفضل الذي يرغب فيه أمثالهم.

وتقديم الجارّ والمجرور في قوله (عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) للرعاية على الفاصلة.

[١١٤ ، ١١٥] (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

إن كان قوله : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢] من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) إلخ ... معترضة بين جملة (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) [المائدة : ١١١] وجملة (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] الآية.

وإن كان قوله : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ) [المائدة : ١١٢] الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا) الآية مجاوبة لقول الحواريّين (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) [المائدة : ١١٢] الآية على طريقة حكاية المحاورات.

وقوله : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) اشتمل على نداءين ، إذ كان قوله : (رَبَّنا) بتقدير حرف النداء. كرّر النداء مبالغة في الضراعة. وليس قوله : (رَبَّنا) بدلا ولا بيانا من اسم الجلالة ، لأنّ نداء (اللهُمَ) لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال. ومن النحاة من أجاز اتباعه ، وأيّا ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانيا أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى (رَبَّنا) مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران. وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافا لله ليجيب دعاءهم.

ومعنى (تَكُونُ لَنا عِيداً) أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيدا ، فإسناد الكون عيدا للمائدة إسناد مجازي ، وإنّما العيد اليوم الموافق

٢٦٦

ليوم نزولها ، ولذلك قال : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) ، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها ، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية.

والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة ، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار. وقد ورد ذكره في كلام العرب. وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم ، قال العجاج :

كما يعود العيد نصرانيّ

مثل يوم السباسب في قول النابغة :

يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب

وهو عيد الشعانين عند النصارى.

وقد سمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفطر عيدا في قوله لأبي بكر لمّا نهى الجواري اللّاء كنّ يغنّين عند عائشة «إنّ لكلّ قوم عيدا وهذا عيدنا» وسمّى يوم النحر عيدا في قوله : «شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجّة».

والعيد مشتقّ من العود ، وهو اسم على زنة فعل ، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة. وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس ، لأنّ قياس الجمع أنّه يردّ الأشياء إلى أصولها ، فقياس ، جمعه أعواد لكنّهم جمعوه على أعياد ، وصغّروه على عييد ، تفرقة بينه وبين جمع عود وتصغيره.

وقوله : (لِأَوَّلِنا) بدل من الضمير في قوله (لَنا) بدل بعض من كلّ ، وعطف (وَآخِرِنا) عليه يصيّر الجميع في قوة البدل المطابق. وقد أظهر لام الجرّ في البدل ، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأنّ كون البدل تابعا للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع ، ولهذا قال النحاة : إنّ البدل على نية تكرار العامل ، أي العامل منوي غير مصرّح به. وقد ذكر الزمخشري في «المفصّل» أنّ عامل البدل قد يصرّح به ، وجعل ذلك دليلا على أنّه منوي في الغالب ولم يقيّد ذلك بنوع من العوامل ، ومثّله بقوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣] ، وبقوله في سورة الأعراف [٧٥](قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا .. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ). وقال في «الكشاف» في هذه الآية (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لَنا) بتكرير العامل. وجوّز البدل أيضا في آية الزخرف ثم قال : ويجوز أن يكون

٢٦٧

اللّامان بمنزلة اللّامين في قولك : وهبت له ثوبا لقميصه. يريد أن تكون اللام الأولى متعلّقة ب (تَكُونُ) والثانية متعلّقة ب (عِيداً).

وقد استقريت ما بلغت إليه من موارد استعماله فتحصّل عندي أنّ العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرّر مع البدل ، وأمّا العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجرّ خاصّة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) في سورة الأعراف [٧٥] ، وآية سورة الزخرف ، وقوله : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) [الأنعام : ٩٩]. ذلك لأنّ حرف الجرّ مكمّل لعمل الفعل الذي يتعلّق هو به لأنّه يعدّي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدّى إليه بمعنى مصدره ، فحرف الجرّ ليس بعامل قوي ولكنّه مكمّل للعامل المتعلّق هو به.

ثمّ إنّ علينا أن نتطلّب الداعي إلى إظهار حرف الجرّ في البدل في مواقع ظهوره. وقد جعل ابن يعيش في «شرح المفصّل» ذلك للتأكيد قال : «لأن الحرف قد يتكرّر لقصد التأكيد». وهذا غير مقنع لنا لأنّ التأكيد أيضا لا بدّ من داع يدعو إليه.

فما أظهر فيه حرف الجرّ من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إمّا قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات ، وأمّا دفع اللبس ، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلّا يتوهّم السامع أنّ من يتوهّم أنّ «من آمن» من المقول وأنّ «من» استفهام فيظنّ أنّهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم ، ومعنى التأكيد حاصل على كلّ حال لأنّه ملازم لإعادة الكلمة. وأمّا ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام ، نحو : أين تنزل أفي الدار أم في الحائط ، ومن ذا أسعيد أم علي.

وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنّهم ذكروا أنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ أكل مع الحواريّين على مائدة ليلة عيد الفصح ، وهي الليلة التي يعتقدون أنّه صلب من صباحها. فلعلّ معنى كونها عيدا أنّها صيّرت يوم الفصح عيدا في المسيحية كما كان عيدا في اليهودية ، فيكون ذلك قد صار عيدا باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحدا لأنّ المسيحيين وفّقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية.

وجملة (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها) جواب دعاء عيسى ، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة. وأكّد الخبر بإن تحقيقا للوعد. والمعنى إنّي منزّلها عليكم الآن ، فهو

٢٦٨

استجابة وليس بوعد.

وقوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ) تفريع عن إجابة رغبتهم ، وتحذير لهم من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إعلاما بأهمّية الإيمان عند الله تعالى ، فجعل جزاء إجابته إيّاهم أن لا يعودوا إلى الكفر فإن عادوا عذّبوا عذابا أشدّ من عذاب سائر الكفّار لأنّهم تعاضد لديهم دليل العقل والحسّ فلم يبق لهم عذر.

والضمير المنصوب في قوله (لا أُعَذِّبُهُ) ضمير المصدر ، فهو في موضع المفعول المطلق وليس مفعولا به ، أي لا أعذّب أحدا من العالمين ذلك العذاب ، أي مثل ذلك العذاب.

وقد وقفت قصّة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطوي خبر ما ذا حدث بعد نزولها لأنّه لا أثر له في المراد من القصّة ، وهو العبرة بحال إيمان الحواريّين وتعلّقهم بما يزيدهم يقينا ، وبقربهم إلى ربّهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم ، وعلى ضراعة المسيح الدالّة على عبوديته ، وعلى كرامته عند ربّه إذ أجاب دعوته ، وعلى سعة القدرة. وأمّا تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه. وقد أكثر فيه المفسّرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمّار بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما» الحديث. قال الترمذي : هذا الحديث رواه غير واحد عن عمّار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا.

واختلف المفسّرون في أنّ المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل. فعن مجاهد والحسن أنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل. وقال الجمهور : نزلت. وهو الظاهر لأنّ قوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) وعد لا يخلف ، وليس مشروطا بشرط ولكنه معقّب بتحذير من الكفر ، وذلك حاصل أثره عند الحواريّين وليسوا ممّن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل.

وأمّا النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء ، وكم من خبر أهملوه في الأناجيل.

[١١٦ ـ ١١٨] (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي

٢٦٩

إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

(وَإِذْ قالَ اللهُ) عطف على قوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) [المائدة : ١١٠] فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس ممّا قاله في الدنيا ، لأنّ عبادة عيسى حدثت بعد رفعه ، ولقوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ). فقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد به يوم القيامة. وأنّ قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) قول يقوله يوم القيامة. وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فرغ من تقريع اليهود من قوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) [المائدة : ١١٠] إلى هنا. وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدّم عند قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩] الآية ، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل (ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] والله يعلم أنّ عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) يدلّ على أنّ الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أنّ الخبر حاصل لا محالة. فقول قائلين : اتّخذوا عيسى وأمّه إلهين ، واقع. وإنّما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضا بالإرهاب والوعيد بتوجّه عقوبة ذلك إلى من قال هذا القول إن تنصّل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنّهم المراد بذلك.

والمعنى أنّه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنّهم زعموا أنّهم يتّبعون أقوال عيسى وتعاليمه ، فلو كان هو القائل لقال : اتّخذوني وأمّي ، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية. والمراد بالناس أهل دينه.

وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلّق ب (اتَّخِذُونِي) ، وحرف (مِنْ) صلة وتوكيد. وكلمة (دُونِ) اسم للمكان المجاوز ، ويكثر أن يكون مكانا مجازيا مرادا به المغايرة ، فتكون بمعنى (سوى). وانظر ما تقدّم آنفا عند قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [المائدة : ٧٦]. والمعنى اتّخذوني وأمّي إلهين سوى الله.

٢٧٠

وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] ، وقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)(١)(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله.

وذكر هذا المتعلّق إلزاما لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية. وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) في هذه السورة [١٧].

وجواب عيسى ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (سُبْحانَكَ) تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة. وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهمّ من تبرئته نفسه ، على أنّها مقدّمة للتبرّي لأنّه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنّه لا يأمر به أحدا. وتقدّم الكلام على (سُبْحانَكَ) في قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) في سورة البقرة [٣٢].

وبرّأ نفسه فقال : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) ؛ فجملة (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) مستأنفة لأنّها جواب السؤال. وجملة (سُبْحانَكَ) تمهيد.

وقوله : (ما يَكُونُ لِي) مبالغة في التبرئة من ذلك ، أي ما يوجد لديّ قول ما ليس لي بحقّ ، فاللام في قوله : (ما يَكُونُ لِي) للاستحقاق ، أي ما يوجد حقّ أن أقول. وذلك أبلغ من لم أقله لأنّه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول.

والباء في قوله (بِحَقٍ) زائدة في خبر (لَيْسَ) لتأكيد النفي الذي دلّت عليه (لَيْسَ). واللام في قوله (لَيْسَ لِي بِحَقٍ) متعلّقة بلفظ (بِحَقٍ) على رأي المحقّقين من النحاة أنّه يجوز تقديم المتعلّق على متعلّقه المجرور بحرف الجرّ. وقدّم الجارّ والمجرور للتنصيص على أنّه ظرف لغو متعلّق (بِحَقٍ) لئلا يتوهّم أنّه ظرف مستقرّ صفة لحق حتى يفهم منه أنّه نفى كون ذلك حقّا له ولكنّه حقّ لغيره الذين قالوه وكفروا به ، وللمبادرة بما يدلّ على تنصّله من ذلك بأنّه ليس له. وقد أفاد الكلام تأكيد كون ذلك ليس حقّا له بطريق المذهب الكلامي لأنّه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحقّ له ، فعلم أنّ ذلك ليس حقّا له وأنّه لم يقله لأجل كونه كذلك. فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنّن.

__________________

(١) في المطبوعة : (ما لا ينفعهم ولا يضرهم) وهو خطأ ، والمثبت هو الموافق للمصحف.

٢٧١

ثم ارتقى في التبرّي فقال : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ، فالجملة مستأنفة لأنّها دليل وحجّة لمضمون الجملة التي قبلها ، فكانت كالبيان فلذلك فصلت. والضمير المنصوب في (قُلْتُهُ) عائد إلى الكلام المتقدّم. ونصب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] ، فاستدلّ على انتفاء أن يقوله بأنّ الله يعلم أنّه لم يقله ، وذلك لأنّه يتحقّق أنّه لم يقله ، فلذلك أحال على علم الله تعالى. وهذا كقول العرب : يعلم الله أني لم أفعل ، كما قال الحارث بن عبّاد :

لم أكن من جناتها علم الله وأني لحرّها اليوم صال

ولذلك قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ، فجملة (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) بيان لجملة الشرط (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) فلذلك فصلت.

والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان ، إنسان وهي الروح الإنساني ، وتطلق على الذات. والمعنى هنا : تعلم ما أعتقده ، أي تعلم ما أعلمه لأنّ النفس مقرّ العلوم في المتعارف.

وقوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) اعتراض نشأ عن (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كلّ حال. وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرّي ، والتنصّل ، فلذلك تكون الواو اعتراضية.

وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطلع عليه غيره ، أي ولا أعلم ما تعلمه ، أي ممّا انفردت بعمله. وقد حسّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في «الكشاف».

وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف ؛ فمن العلماء من منع ذلك وإليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح «المفتاح» و «التخليص». وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] من قبيل المتشابه. ومن العلماء من جوّز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في «التفسير» عند قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) في سورة الأنعام [٥٤] ، ويشهد له تكرّر استعماله في القرآن وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الحديث القدسي فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) علّة لقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ولذلك جيء

٢٧٢

ب (إنّ) المفيدة التعليل. وقد جمع فيه أربع مؤكّدات وطريقة حصر ، فضمير الفصل أفاد الحصر ، وإنّ وصيغة الحصر ، وجمع الغيوب ، وأداة الاستغراب.

وبعد أن تبرّأ من أن يكون أمر أمّته بما اختلقوه انتقل فبيّن أنّه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ، فقوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ) ارتقاء في الجواب ، فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) إلخ ... صرّح هنا بما قاله لأنّ الاستفهام عن مقاله. والمعنى : ما تجاوزت فيما قلت حدّ التبليغ لما أمرتني به ، فالموصول وصلته هو مقول (ما قُلْتُ لَهُمْ) وهو مفرد دالّ على جمل ، فلذلك صحّ وقوعه منصوبا بفعل القول.

و (أَنِ) مفسّرة (أَمَرْتَنِي) لأنّ الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) تفسيرية ل (أَمَرْتَنِي). واختير (أَمَرْتَنِي) على (قلت لي) مبالغة في الأدب. ولمّا كان (أَمَرْتَنِي) متضمّنا معنى القول كانت جملة (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) هي المأمور بأن يبلّغه لهم فالله قال له : قل لهم اعبدوا الله ربّي وربّكم. فعلى هذا يكون (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من مقول الله تعالى لأنّه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبّر عن ذلك بفعل (أَمَرْتَنِي بِهِ) صح تفسيره بحرف (أَنِ) التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله. فلا حاجة إلى ما تكلّف به في «الكشاف» على أنّ صاحب «الانتصاف» جوّز وجها آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى ، فيكون الله تعالى قال له : قل لهم أن يعبدوا ربّك وربّهم. فلمّا حكاه عيسى قال : اعبدوا الله ربّي وربّكم اه. وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالا لحكاية القول بالمعنى.

وأقول : هو استعمال فصيح قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) في سورة الأنعام [٦] إذا أخبرت أنّك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له : فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة اه. وعندي أنّه ضعيف في هذه الآية.

ثمّ تبرّأ من تبعتهم فقال (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي كنت مشاهدا لهم ورقيبا يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء.

و (ما دُمْتُ) (ما) فيه ظرفية مصدرية ، و (دام) تامّة لا تطلب منصوبا ، و (فِيهِمْ)

٢٧٣

متعلّق ب (دُمْتُ) ، أي بينهم ، وليس خبرا ل (دام) على الأظهر ، لأنّ (دام) التي تطلب خبرا هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معيّن هو مضمون خبرها ، أمّا هي هنا فهي بمعنى البقاء ، أي ما بقيت فيهم ، أي ما بقيت في الدنيا.

ولذلك فرّع عنه قوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، أي فلمّا قضيت بوفاتي ، لأنّ مباشر الوفاة هو ملك الموت. والوفاة الموت ، وتوفّاه الله أماته ، أي قضى به وتوفّاه ملك الموت قبض روحه وأماته.

وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) في سورة آل عمران [٥٥]. والمعنى: أنّك لمّا توفّيتني قد صارت الوفاة حائلا بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم ، ولذلك قال (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، فجاء بضمير الفصل الدّال على القصر ، أي كنت أنت الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتّصال. والمعنى أنّك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت. وقد أرسل إليهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهداهم بكلّ وجوه الاهتداء. وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة.

وقوله : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تذييل ، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفا على ما تقدّم لئلّا يكون في حكم جواب (فَلَمَّا).

وقوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فوّض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأنّ المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدّة هول ذلك اليوم ، وغاية ما عرّض به عيسى أنه جوّز المغفرة لهم رحمة منه بهم.

وقوله : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة ، وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض ، أي المحكم للأمور العالم بما يليق بهم.

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩))

جواب عن قول عيسى ، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار. والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة.

وجملة : (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) مضاف إليها (يَوْمُ) ، أي هذا يوم نفع الصدق. وقد قرأ غير نافع من العشرة (يَوْمُ) ـ مضموما ضمّة رفع ـ لأنّه خبر (هذا). وقرأه نافع

٢٧٤

ـ مفتوحا ـ على أنّه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية. وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوّغ بناءه على الفتح ، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر ، كقول النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية ، وهو التحقيق. وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أنّ مضمونها يحصل فيه ، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذ. وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا ، فنفع كليهما يظهر يومئذ ؛ فأمّا نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه ، وأمّا نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنّب غضبه على الذي يكذّبه فلا حيرة في معنى الآية.

والمراد ب (الصَّادِقِينَ) الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه. ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قام عليه الدليل العقلي أو الشرعي. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [١١٩].

ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه ، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلّا الأثر الحسن ، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرّا لصاحبه بتحريف الناس للحقائق ، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد. وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة. وقد ابتلي كعب بن مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ في الصدق ثم رأى حسن مغبّته في الدنيا.

ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبر عنه حسن فيكون نفعا محضا وعليه جزاءان ، كما في قول عيسى : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦] إلى آخره ، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحا لأنّه قد حصل قبيحا سواء أخبر عنه أم لم يخبر ، وكان لقبحه مستحقّا أثرا قبيحا مثله. وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه.

وجملة : (لَهُمْ جَنَّاتٌ) مبيّنة لجملة : (يَنْفَعُ) باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق.

٢٧٥

وجملة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) صفة ل (جَنَّاتٌ) و (خالِدِينَ) حال. وكذلك جملة (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

ومعنى : (رَضُوا عَنْهُ) المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه. وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب ، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان. فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله : (يُحِبُّهُمْ). ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع.

واسم الإشارة في قوله (ذلِكَ) لتعظيم المشار إليه ، وهو الجنّات والرضوان.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

تذييل مؤذن بانتهاء الكلام ، لأنّ هذه الجملة جمعت عبودية كلّ الموجودات لله تعالى ، فناسبت ما تقدّم من الردّ على النصارى ، وتضمّنت أنّ جميعها في تصرّفه تعالى فناسبت ما تقدّم من جزاء الصادقين. وفيها معنى التفويض لله تعالى في كلّ ما ينزل ، فآذنت بانتهاء نزول القرآن على القول بأنّ سورة المائدة آخر ما نزل ، وباقتراب وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما في الآية من معنى التسليم لله وأنّه الفعّال لما يريد. وتقديم المجرور باللام مفيد للقصر أي له لا لغيره.

وجيء بالموصول (ما) في قوله (وَما فِيهِنَ) دون (من) لأنّ (ما) هي الأصل في الموصول المبهم فلم يعتبر تغليب العقلاء ، وتقديم المجرور ب (عَلى) في قوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) للرعاية على الفاصلة المبنيّة على حرفين بينهما حرف مدّ. (وَما فِيهِنَ) عطف على (مُلْكُ) أي لله ما في السماوات والأرض ، كما في سورة البقرة [٢٨٤](لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيفيد قصرها على كونها لله لا لغيره. وليس معطوفا على السماوات والأرض إذ لا يحسن أن يقال : لله ملك ما في السماوات والأرض لأنّ الملك يضاف إلى الأقطار والآفاق والأماكن كما حكى الله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) [الزخرف : ٥١] ويضاف إلى صاحب الملك كما في قوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢]. ويقال : في مدّة ملك الأشوريين أو الرومان.

٢٧٦

محتوى الجزء الخامس من كتاب تفسير التحرير والتنوير

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)......................................... ٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ شَدِيدُ الْعِقابِ)....................................... ١٤

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ـ إلى ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ)....................................... ٢٠

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ـ إلى ـ سَرِيعُ الْحِسابِ)................................ ٣٦

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ـ إلى ـ الْخاسِرِينَ)...................................... ٤٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)..................................... ٤٨

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ـ إ لى ـ بِذاتِ الصُّدُورِ)................................. ٥٣

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).................................. ٥٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)................................... ٥٧

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ـ إلى ـ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)....................... ٥٩

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ـ إلى ـ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)................................... ٦١

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ـ إلى ـ كانُوا يَصْنَعُونَ)............................... ٦٣

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ـ إلى ـ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).......................... ٦٧

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ـ إلى ـ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)................ ٦٨

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى ـ إلى ـ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).................................. ٧١

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ ـ إلى ـ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)................................ ٧٣

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ـ إلى ـ داخِلُونَ).......................................... ٧٥

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ـ إلى ـ الْفاسِقِينَ)................................. ٧٨

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ـ إلى ـ الْخاسِرِينَ)..................................... ٨١

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً ـ إلى ـ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)..................................... ٨٥

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا ـ إلى ـ لَمُسْرِفُونَ)........................................... ٨٧

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ ـ إلى ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ)................................ ٩٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ـ إلى ـ تُفْلِحُونَ).................................... ٩٦

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ـ إلى ـ عَذابٌ مُقِيمٌ).................................. ٩٧

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ـ إلى ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ)........................... ٩٨

٢٧٧

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ ـ إلى ـ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)................. ١٠٢

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ ـ إلى ـ الْمُقْسِطِينَ).................................. ١٠٢

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ ـ إلى ـ أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)..................... ١١١

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ـ إلى ـ هُمُ الْكافِرُونَ)........................... ١١٢

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها ـ إلى ـ الظَّالِمُونَ)........................................... ١١٧

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ ـ إلى ـ الْفاسِقُونَ)......................................... ١٢١

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ـ إلى ـ تَخْتَلِفُونَ)........................................ ١٢٣

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ـ إلى ـ لَفاسِقُونَ)........................................... ١٢٦

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ـ إلى ـ يُوقِنُونَ)....................................... ١٢٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ خاسِرِينَ)........................................... ١٢٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ واسِعٌ عَلِيمٌ)........................................ ١٣٤

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ـ إلى ـ الْغالِبُونَ)....................................... ١٣٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ يَعْقِلُونَ)........................................... ١٣٩

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ـ إلى ـ سَواءِ السَّبِيلِ)....................................... ١٤٠

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ـ إلى ـ يَصْنَعُونَ)........................................ ١٤٤

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ ـ إلى ـ الْمُفْسِدِينَ)....................................... ١٤٥

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا ـ إلى ـ النَّعِيمِ)...................................... ١٤٨

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ ـ إلى ـ يَعْمَلُونَ)....................................... ١٤٩

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ـ إلى ـ الْكافِرِينَ)......................................... ١٥١

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ـ إلى ـ الْكافِرِينَ).......................................... ١٥٨

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى ـ يَحْزَنُونَ).............................................. ١٦٠

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ ـ إلى ـ يَقْتُلُونَ)............................................. ١٦٣

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ـ إلى ـ يَعْمَلُونَ)....................................... ١٦٦

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا ـ إلى ـ أَنْصارٍ)........................................... ١٧٠

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا ـ إلى ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ)....................................... ١٧١

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ـ إلى ـ يُؤْفَكُونَ)......................................... ١٧٤

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ـ إلى ـ الْعَلِيمُ)......................................... ٧٦

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا ـ إلى ـ السَّبِيلِ).................................... ١٧٨

٢٧٨

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ إلى ـ يَفْعَلُونَ)............................................. ١٧٩

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ ـ إلى ـ فاسِقُونَ).............................................. ١٨١

سورة المائدة

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ـ إلى ـ الصَّالِحِينَ).................................. ١٨٣

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ـ إلى ـ الْمُحْسِنِينَ)................................. ١٨٨

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ـ إلى ـ الْجَحِيمِ).................................... ١٨٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا ـ إلى ـ مُؤْمِنُونَ).................................. ١٨٩

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ـ إلى ـ تَشْكُرُونَ)............................ ١٩٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ـ إلى ـ مُنْتَهُونَ)........................ ١٩٥

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ـ إلى ـ الْمُبِينُ).................................... ٢٠٢

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ إلى الْمُحْسِنِينَ)................ ٢٠٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ ـ إلى ـ أَلِيمٌ).................................. ٢٠٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ـ إلى ـ انْتِقامٍ).............................. ٢١١

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ـ إلى ـ تُحْشرُونَ)...................... ٢١٩

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ـ إلى ـ عَلِيمٌ)................................... ٢٢١

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ـ إلى ـ تَكْتُمُونَ).................................. ٢٢٧

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ـ إلى ـ تُفْلِحُونَ)................................ ٢٢٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا ـ إلى ـ كافِرِينَ).................................. ٢٣٠

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ـ إلى ـ يَعْقِلُونَ)............................... ٢٣٥

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ ـ إلى ـ يَهْتَدُونَ)............................ ٢٣٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ـ إلى ـ تَعْمَلُونَ)............................ ٢٤٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ـ إلى ـ الْفاسِقِينَ)............................. ٢٤٣

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ـ إلى ـ مُبِينٌ............................................. ٢٥٧

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ـ إلى ـ مُسْلِمُونَ)................................... ٢٦٢

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ـ إلى ـ الشَّاهِدِينَ)................................. ٢٦٣

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَ ـ إلى ـ الْعالَمِينَ)................................... ٢٦٦

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ـ إلى ـ الْحَكِيمُ)................................ ٢٧٠

٢٧٩

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ـ إلى ـ الْعَظِيمُ)................................ ٢٧٤

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ إلى ـ قَدِيرٌ)..................................... ٢٧٦

٢٨٠