تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إيّاه ، لأنّه قد علم أنّ التحريم متعلّق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة. وقد أكل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الحمار الذي صاده أبو قتادة ، كما في حديث «الموطأ» عن زيد بن أسلم. وأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون. وعلى ذلك مضى عمل الصحابة ، وهو قول.

وأمّا ما صيد لأجل المحرم فقد ثبت أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ردّ على الصعب بن جثّامة حمارا وحشيا أهداه إليه وقال له : «إنّا لم نردّه عليك إلّا أنّا حرم». وقد اختلف الفقهاء في محل هذا الامتناع. فقيل : يحرم أن يأكله من صيد لأجله لا غير. وهذا قول عثمان بن عفّان ، وجماعة من فقهاء المدينة ، ورواية عن مالك ، وهو الأظهر ، لأنّ الظاهر أنّ الضمير

في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّما لم نردّه عليك إلّا أنّا حرم» أنّه عائد إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحده ، لقوله «لم نردّه» ، وإنّما ردّه هو وحده. وقيل : يحرم على المحرم أكل ما صيد لمحرم غيره ، وهو قول بعض أهل المدينة ، وهو المشهور عن مالك. وكأنّ مستندهم في ذلك أنّه الاحتياط وقيل : لا يأكل المحرم صيدا صيد في مدّة إحرامه ويأكل ما صيد قبل ذلك ، ونسب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس ، وقيل : يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقا ، وإنّما حرّم الله قتل الصيد ، وهو قول أبي حنيفة. والحاصل أنّ التنزّه عن أكل الصيد الذي صيد لأجل المحرم ثابت في السنّة بحديث الصعب بن جثّامة ، وهو محتمل كما علمت. والأصل في الامتناع الحرمة لأنّه ، لو أراد التنزّه لقال : أمّا أنا فلا آكله ، كما قال في حديث خالد بن الوليد في الضبّ.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

استئناف بياني لأنّه يحصل به جواب عمّا يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام ، بأنّ ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حرّمت أرض الحرم لأجل تعظيمها ، وتذكير بنعمة الله على سكّانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها.

والجعل يطلق بمعنى الإيجاد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، في سورة الأنعام [١] ، ويطلق بمعنى التصيير فتعدّى إلى

٢٢١

مفعولين ، وكلا المعنيين صالح هنا. والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة ، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياما للناس. فقوله : (قِياماً) منصوب على الحال ، وهي حال مقدّرة ، أي أوجدها مقدّرا أن تكون قياما. وإذا حمل (جَعَلَ) على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيت عبادة فصيّرها الله قياما للناس لطفا بأهلها ونسلهم ، فيكون (قِياماً) مفعولا ثانيا ل (جَعَلَ). وأمّا قوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) يصحّ جعله مفعولا.

والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد. وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) في سورة آل عمران [٩٦]. قالوا : إنّه علم مشتقّ من الكعب ، وهو النتوء والبروز ، وذلك محتمل. ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة ، تشبيها بالبيت الحرام ، إذ كان أول بيت عندهم ، وكانوا من قبله أهل خيام ، فصار البيت مثلا يمثّل به كلّ بارز. وأمّا إطلاق الكعبة على (القليس) الذي بناه الحبشة في صنعاء ، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية ، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله :

فكعبة نجران حتم عليك

حتى تناخي بأبوابها

فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه ، كما سمّى بنو حنيفة مسليمة رحمان.

وقوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) بيان للكعبة. قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم ، إذ شأن البيان أن يكون موضّحا للمبيّن بأن يكون أشهر من المبيّن. ولمّا كان اسم الكعبة مساويا للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبّر به عن الكعبة في قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] فتعيّن أنّ ذكر البيان للتعظيم ، فإنّ البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك. ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب. وذكر البيت هنا لأنّ هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علما بالغلبة على الكعبة.

والحرام في الأصل مصدر حرم إذا منع ، ومصدره الحرام ، كالصلاح من صلح ، فوصف شيء بحرام مبالغة في كونه ممنوعا. ومعنى وصف البيت بالحرام أنّه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة. وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه ، وقد تقدّم أنّه يقال رجل حرام عند قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في هذه السورة [١] ، وأنّه يقال : شهر حرام ، عند قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] فيها أيضا ، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه ،

٢٢٢

وهو في كلّ موصوف يدلّ على أنّه ممّا يتجنّب جانبه ، فيكون تجنّبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك ، فيكون وصف مدح ، ويكون تجنّبه للتنزّه عنه فيكون وصف ذمّ ، كما تقول : الخمر حرام.

وقرأ الجمهور (قِياماً) ـ بألف بعد الياء ـ. وقرأه ابن عامر قيما ـ بدون ألف بعد الياء ـ.

والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقلّ على رجليه ، ويستعار للنشاط ، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح ، لأنّ شأن من يعمل عملا مهمّا أن ينهض له ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في سورة البقرة [٣]. ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره : هو قيّم عليه أو قائم عليه ، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع. وأمّا قراءة ابن عامر قيما فهو مصدر (قام) على وزن فعل ـ بكسر ففتح ـ مثل شبع. وقد تقدّم أنّه أحد تأويلين في قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) في سورة النساء. وإنّما أعلّت واوه فصارت ياء لشدّة مناسبة الياء للكسرة. وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فعل من الواوي العين. وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، وهو إسناد مجازي ، لأنّ الكعبة لمّا جعلها الله سببا في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم ، جعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنّها سبب القيام لهم.

والناس هنا ناس معهودون ، فالتعريف للعهد. والمراد بهم العرب ، لأنّهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم. وأمّا ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السّكان لا لكون البيت حراما ، إلّا إذا أريد التسبّب البعيد ، وهو أنّه لو لا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحجّ لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك.

وإنّما كانت الكعبة قياما للناس لأنّ الله لمّا أمر إبراهيم بأن ينزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل ، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة (وهم ذرية إسماعيل) في ذلك المكان لينشئوا أمّة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب ، لأنّه قدّر أن تكون تلك الأمّة هي أول من يتلقّى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها ، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحقّ والأخلاق الفاضلة. فأقام لهم بلدا بعيدا عن التعلّق بزخارف الحياة ؛ فنشئوا على إباء الضيم ، وتلقّوا سيرة صالحة نشئوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه ؛ وأقام

٢٢٣

لهم فيه الكعبة معلما لتوحيد الله تعالى ، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه حرمته. ودعا مجاوريهم إلى حجّه ما استطاعوا ، وسخّر الناس لإجابة تلك الدعوة ، فصار وجود الكعبة عائدا على سكان بلدها بفوائد التأنّس بالوافدين ، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق ، وبما يجلب التجّار في أوقات وفود الناس إليه ؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء. وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفانا. وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم : ٣٧]. فكانت الكعبة قياما لهم يقوم به أود معاشهم. وهذا قيام خاصّ بأهله.

ثم انتشرت ذرّية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهلت بلاد العرب. وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم ؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يحدث بين الأمّة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني ، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة ، وهو رجب الذي سنّته مضر (وهم معظم ذرية إسماعيل) وتبعهم معظم العرب. وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إيّاهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائدا بينهم مدة ثلث العام ، يصلحون فيها شئونهم ، ويستبقون نفوسهم ، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم ، فيما نجم من ترات وإحن. فهذا من قيام الكعبة لهم ، لأنّ الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة.

وقد جعل إبراهيم للكعبة مكانا متّسعا شاسعا يحيط بها من جوانبها أميالا كثيرة ، وهو الحرم ، فكان الداخل فيه آمنا. قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧]. فكان ذلك أمنا مستمرا لسكّان مكة وحرمها ، وأمنا يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذا ، ولتحقيق أمنه أمّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس ، فكانت الكعبة قياما لكلّ عربي إذا طرقه ضيم.

وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء ، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب ، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه ، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد ، فلتعطّلت التجارة والمنافع. ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار ، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللّتين قال الله تعالى فيهما : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ

٢٢٤

الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) [قريش : ١ ، ٢]. وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها ، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحملها إلى الأمم ، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده.

وإذا شئت أن تعدو هذا فقل : إنّ الكعبة كانت قياما للناس وهم العرب ، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية ، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها. فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال ، وبه تكفّر الذنوب ، فكانت الكعبة من هذا قياما للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياما.

وعطف (الشَّهْرَ الْحَرامَ) على (الْكَعْبَةَ) شبه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها ، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلّا من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت. فالتعريف في (الشَّهْرَ) للجنس كما تقدّم في قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢]. ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر. وكذلك عطف (الْهَدْيَ) و (الْقَلائِدَ). وكون الهدي قياما للناس ظاهر ، لأنّه ينتفع ببيعه للحاج أصحاب المواشي من العرب ، وينتفع بلحومه من الحاج فقراء العرب ، فهو قيام لهم.

وكذلك القلائد فإنّهم ينتفعون بها ؛ فيتّخذون من ظفائرها مادّة عظيمة للغزل والنسج ، فتلك قيام لفقرائهم ، ووجه تخصيصها بالذكر هنا ، وإن كانت هي من أقلّ آثار الحج ، التنبيه على أنّ جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس ، حتى أدنى العلائق ، وهو القلائد ، فكيف بما عداها من جلال البدن ونعالها وكسوة الكعبة ، ولأنّ القلائد أيضا لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجلال والنعال. ونظير هذا قول أبي بكر «والله لو منعوني عقالا» إلخ ...

وقوله : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية ، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله (لِتَعْلَمُوا). وتوسّط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار إليه ، وهو الجعل المأخوذ من قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) ، فتوسّط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسّط ضمير الفصل ، فلذلك كان الكلام شبيها بالمستأنف وما هو بمستأنف ، لأنّ ما صدق اسم الإشارة هو الكلام السابق ، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق ، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غير التعليل،

٢٢٥

والتعليل اتّصال وليس باستئناف ، لأنّ الاستئناف انفصال. وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلّق به لام التعليل إلّا قوله (جَعَلَ). وليست الإشارة إلّا للجعل المأخوذ من قوله (جَعَلَ).

والمعنى : جعل الله الكعبة قياما للناس لتعلموا أن الله يعلم إلخ .. ، أي أنّ من الحكمة التي جعل الكعبة قياما للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم. فجعل الكعبة قياما مقصود منه صلاح الناس بادئ ذي بدء لأنّه المجعولة عليه ، ثم مقصود منه علم الناس بأنّه تعالى عليم. وقد تكون فيه حكم أخرى لأنّ لام العلّة لا تدلّ على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدّد العلل للفعل الواحد ، لأنّ هذه علل جعلية لا إيجادية ، وإنّما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدّة الاهتمام بها ، لأنّها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمّة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك. فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياما لأجلها.

والمقصود أنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض قبل وقوعه لأنّه جعل التعليل متعلّقا بجعل الكعبة وما تبعها قياما للناس. وقد كان قيامها للناس حاصلا بعد وقت جعلها بمدّة ، وقد حصل بعضه يتلو بعضا في أزمنة متراخية كما هو واضح. وأمّا كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنّه أولى ، ولأنّ كثيرا من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها.

ووجه دلالة جعل الكعبة قياما للناس وما عطف عليها ، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، أنّه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم ، فلم يدر أحد يومئذ إلّا أنّ إبراهيم اتّخذها مسجدا ، ومكة يومئذ قليلة السكّان ، ثم إنّ الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين إليها ، ووقّت للناس أشهرا القصد فيها ، وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضارّ كثيرة بالعرب لو لا إيجاد الكعبة ، كما بيّنّاه آنفا. فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام. فلا شك أنّ الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمّة كبيرة ، وأن ستحمد تلك الأمّة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها. وكان ذلك تمهيدا لما علمه من بعثة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيهم ، وجعلهم حملة شريعته إلى الأمم ، وما عقب ذلك من عظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام. ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة ، أو بالترفّع عن

٢٢٦

النقص فلا جرم أن يكون عالما بما في السماوات ، لأنّ السموات إمّا أن تكون مساوية للأرض في أنّه تعالى ليس بمستقرّ فيها ، ولا هي أقرب إليه من الأرض ، كما هو الاعتقاد الخاصّ ، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة ؛ وإمّا أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم ، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض ، لأنّها أقرب إليه وهو بها أعني ، فيتمّ الاستدلال للفريقين.

وأمّا دلالة ذلك على أنّه بكلّ شيء عليم فلأنّ فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرّر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعا من المعلومات جليلة ودقيقة ؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة ، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها ، فيكون ذلك الجهل معطّلا لعلمه بكثير ممّا يتوقّف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياما وما نشأ عن ذلك إلّا عن عموم علمه بالأشياء ولو لا عمومه ما تمّ تدبير ذلك المقدّر.

[٩٨ ، ٩٩] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))

استئناف ابتدائي وتذييل لما سبق من حظر الصيد للمحرم وإباحة صيد البحر والامتنان بما جعل للكعبة من النعم عليهم ليطمئنّوا لما في تشريع تلك الأحكام من تضييق على تصرّفاتهم ليعلموا أنّ ذلك في صلاحهم ، فذيل بالتذكير بأنّ الله منهم بالمرصاد يجازي كل صانع بما صنع من خير أو شر. وافتتاح الجملة ب (اعْلَمُوا) للاهتمام بمضمونها كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣]. وقد استوفى قوله : (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أقسام معاملته تعالى فهو شديد العقاب لمن خالف أحكامه وغفور لمن تاب وعمل صالحا. وافتتاح الجملة بلفظ (اعْلَمُوا) للاهتمام بالخبر كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣].

وجملة (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) معترضة ذيل بها التعريض بالوعيد والوعد. ومضمونها إعذار الناس لأن الرسول قد بلّغ إليهم ما أراد الله منهم فلا عذر لهم في التقصير ، والمنّة لله ولرسوله فيما أرشدهم إليه من خير.

والقصر ليس بحقيقي لأنّ على الرسول أمورا أخر غير البلاغ مثل التعبّد لله تعالى ،

٢٢٧

والخروج إلى الجهاد ، والتكاليف التي كلّفه الله بها مثل قيام الليل ، فتعيّن أنّ معنى القصر : ما عليه إلّا البلاغ ، أي دون إلجائكم إلى الإيمان ، فالقصر إضافي فلا ينافي أنّ على الرسول أشياء كثيرة. والإتيان بحرف (على) دون (اللام) ونحوها مؤذن بأنّ المردود شيء يتوهّم أنّه لازم للرسول من حيث إنّه يدّعي الرسالة عن الله تعالى.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) عطف على جملة (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وهي تتميم للتعريض بالوعيد والوعد تذكيرا بأنّه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوّي الحكم وليس لإفادة التخصيص لنبوّ المقام عن ذلك.

وذكر (ما تُبْدُونَ) مقصود منه التعميم والشمول مع (ما تَكْتُمُونَ) وإلّا فالغرض هو تعليمهم أنّ الله يعلم ما يسرّونه أمّا ما يبدونه ، فلا يظنّ أنّ الله لا يعلمه.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

لما آذن قوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٩٨] وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) [المائدة : ٩٩] بأنّ الناس فريقان : مطيعون وعصاة ، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا ، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين ، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنّهم جمع كثير ، وأنّ مثلهم لا يكون على خطأ ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجّة ضالّة يموّه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين. فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة ، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها. قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي :

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا

وقد تعجّب العنبري إذ لام قومه فقال :

٢٢٨

لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا

قال السديّ : كثرة الخبيث هم المشركون ، والطيّب هم المؤمنون. وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عددا من المسلمين ؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذ إلى تلك الأصقاع ، وقيل : أريد منها الحرام والحلال من المال ، ونقل عن الحسن.

ومعنى (لا يَسْتَوِي) نفي المساواة ، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة. والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية ، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول ، فإنّ جعل أحدهما خبيثا والآخر طيّبا يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب. وتقدّم عند قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) في سورة آل عمران [١١٣]. ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد ، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر ، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثا قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين ، ولذلك قال (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ). فكان الخبيث المقصود في الآية شيئا تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته ، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته.

فقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) من جملة المقول المأمور به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي قل لهم هذا كلّه ، فالكاف في قوله : (أَعْجَبَكَ) للخطاب ، والمخاطب بها غير معيّن بل كلّ من يصلح للخطاب ، مثل (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٢٧] ، أي ولو أعجب معجبا كثرة الخبيث. وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية.

وليس قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيرا ولا أن يكون أكثر من الطيّب من جنسه ، فإنّ طيّب التمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها ، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيرا فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدوكم إلى متابعته لكثرته ، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها ، أو كثرة الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة. والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) في سورة براءة [٥٥].

وفي «تفسير ابن عرفة» قال : «وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له : هذه تدلّ

٢٢٩

على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنّهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضدّه ، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين ، وهما متكاملان. وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة. فقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يدلّ على أنّ الكثرة لها اعتبار بحيث إنّها ما أسقطت هنا إلّا للخبث ، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه. ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه» اه.

والواو في قوله (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) واو الحال ، و (لَوْ) اتّصالية ، وقد تقدّم بيان معناهما عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

وتفريع قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) على ذلك مؤذن بأنّ الله يريد منّا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيّب ، والبحث عن الحقائق ، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة ، فإنّ الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يعرف ما هو تقوى دون غيره.

ونظير هذا الاستدلال استدلال العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، لأنّ ممّا يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهّل إليه الثابت له اكتساب أداته. ولذلك قال هنا : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) فخاطب الناس بصفة ليؤمئ إلى أنّ خلق العقول فيهم يمكّنهم من التمييز بين الخبيث والطيّب لاتّباع الطيّب ونبذ الخبيث. ومن أهمّ ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلّب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآية ، وأن يميّز بين حال الرسول وحال السحرة والكهّان وإن كان عددهم كثيرا.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتّقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيّب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلّة الطيّب في هذا.

[١٠١ ، ١٠٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

استئناف ابتدائي للنهي عن العودة إلى مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

٢٣٠

ليست في شئون الدين ولكنّها في شئون ذاتية خاصّة بهم ، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثالها بعد أن قدّم لهم بيان مهمّة الرسول بقوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩] الصالح لأن يكون مقدّمة لمضمون هذه الآية ولمضمون الآية السابقة ، وهي قوله : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠] فالآيتان كلتاهما مرتبطتان بآية (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩] ، وليست إحدى هاتين الآيتين بمرتبطة بالأخرى.

وقد اختلفت الروايات في بيان نوع هذه الأشياء المسئول عنها والصحيح من ذلك حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه في «الصحيحين» قال : سأل الناس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى أحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر ذات يوم فقال : «لا تسألونني عن شيء إلّا بيّنت لكم» ، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي قال: أبوك حذافة (أي فدعاه لأبيه الذي يعرف به) ، والسائل هو عبد الله بن حذافة السّهمي ، كما ورد في بعض روايات الحديث. وفي رواية لمسلم عن أبي موسى : فقام رجل آخر فقال من أبي ، قال : أبوك سالم مولى شيبة. وفي بعض روايات هذا الخبر في غير الصحيح عن أبي هريرة أنّ رجلا آخر قام فقال : أين أبي. وفي رواية : أين أنا؟ فقال : في النار.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عبّاس قال : كان قوم ، أي من المنافقين ، يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل تضلّ ناقته : أين ناقتي ، ويقول الرجل : من أبي ، ويقول المسافر : ما ذا ألقى في سفري ، فأنزل الله فيهم هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). قال الأئمّة : وقد انفرد به البخاري. ومحمله أنّه رأي من ابن عباس ، وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا اللهمّ إلّا أن يكون المراد تحذير المؤمنين من نحو تلك المسائل عن غفلة من مقاصد المستهزئين ، كما في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤] ، أو أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان ، على أنّ لهجة الخطاب في الآية خالية عن الإيماء إلى قصد المستهزئين ، بخلاف قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤] فقد عقّب بقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٠٤].

وروى الترمذي والدار قطني عن علي بن أبي طالب لمّا نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] قالوا : يا رسول الله في كلّ عام ، فسكت ، فأعادوا. فقال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبت ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)

٢٣١

قال : هذا حديث حسن غريب. وروى الطبري قريبا منه عن أبي أمامة وعن ابن عباس. وتأويل هذه الأسانيد أنّ الآية تليت عند وقوع هذا السؤال وإنّما كان نزولها قبل حدوثه فظنّها الراوون نزلت حينئذ. وتأويل المعنى على هذا أنّ الأمّة تكون في سعة إذا لم يشرع لها حكم ، فيكون الناس في سعة الاجتهاد عند نزول الحادثة بهم بعد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فإذا سألوا وأجيبوا من قبل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تعيّن عليهم العمل بما أجيبوا به. وقد تختلف الأحوال والأعصار فيكونون في حرج إن راموا تغييره ؛ فيكون معنى (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) على هذا الوجه أنّها تسوء بعضهم أو تسوؤهم في بعض الأحوال إذا شقّت عليهم. وروى مجاهد عن ابن عباس : نزلت في قوم سألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. وقال مثله سعيد بن جبير والحسن.

وقوله : (أَشْياءَ) تكثير شيء ، والشيء هو الموجود ، فيصدق بالذات وبحال الذات ، وقد سألوا عن أحوال بعض المجهولات أو الضّوالّ أو عن أحكام بعض الأشياء. و (أشياء) كلمة تدلّ على جمع (شيء) ، والظاهر أنّه صيغة جمع لأنّ زنة شيء (فعل) ، و (فعل) إذا كان معتلّ العين قياس جمعه (أفعال) مثل بيت وشيخ. فالجاري على متعارف التصريف أن يكون (أشياء) جمعا وأنّ همزته الأولى همزة مزيدة للجمع. إلّا أنّ (أشياء) ورد في القرآن هنا ممنوعا من الصرف ، فتردّد أئمّة اللغة في تأويل ذلك ، وأمثل أقوالهم في ذلك قول الكسائي : إنّه لما كثر استعماله في الكلام أشبه (فعلاء) ، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه ، كما منعوا سراويل من الصرف وهو مفرد لأنّه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح.

وقال الخليل وسيبويه : (أشياء) اسم جمع (شيء) وليس جمعا ، فهو مثل طرفاء وحلفاء فأصله شيئاء ، فالمدّة في آخره مدّة تأنيث ، فلذلك منع من الصرف ، وادّعى أنّهم صيّروه أشياء بقلب مكاني. وحقّه أن يقال : شيئاء بوزن (فعلاء) فصار بوزن (لفعاء).

وقوله (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) صفة (أَشْياءَ) ، أي إن تظهر لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسوءكم ، ولمّا كانت الأشياء المسئول عنها منها ما إذا ظهر ساء من سأل عنه ومنها ما ليس كذلك ، وكانت قبل إظهارها غير متميّزة كان السؤال عن مجموعها معرّضا للجواب بما بعضه يسوء ، فلمّا كان هذا البعض غير معيّن للسائلين كان سؤالهم عنها سؤالا عن ما إذا ظهر يسوءهم ، فإنّهم سألوا في موطن واحد أسئلة منها : ما سرّهم جوابه ، وهو سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه فأجيب بالذي يصدّق نسبه ، ومنها ما ساءهم جوابه ، وهو سؤال من سأل أين أبي ، أو أين أنا فقيل له : في النار ، فهذا يسوءه لا

٢٣٢

محالة. فتبيّن بهذا أنّ قوله : (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) روعي فيه النهي عن المجموع لكراهية بعض ذلك المجموع. والمقصود من هذا استئناسهم للإعراض عن نحو هذه المسائل ، وإلّا فإنّ النهي غير مقيّد بحال ما يسوءهم جوابه ، بدليل قوله بعده (عَفَا اللهُ عَنْها). لأنّ العفو لا يكون إلّا عن ذنب وبذلك تعلم أنّه لا مفهوم للصفة هنا لتعذّر تمييز ما يسوء عمّا لا يسوء.

وجملة (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) عطف على جملة (لا تَسْئَلُوا) ، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا) فجعلهم مخيّرين في السؤال عن أمثالها ، وأنّ ترك السؤال هو الأولى لهم ، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة ، وجاء ب (إِنْ) للدلالة على أنّ الأولى ترك السؤال عنها لأنّ الأصل في (إن) أن تدلّ على أنّ الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه.

وقوله : (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) ظرف يجوز تعلّقه بفعل الشرط وهو (تَسْئَلُوا) ، ويجوز تعلّقه بفعل الجواب وهو (تُبْدَ لَكُمْ) ، وهو أظهر إذ الظاهر أنّ حين نزول القرآن لم يجعل وقتا لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتا للجواب عن الأسئلة. وتقديمه على عامله للاهتمام ، والمعنى أنّهم لا ينتظرون الجواب عمّا يسألون عنه إلّا بعد نزول القرآن ، لقوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ـ إلى قوله ـ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] فنبّههم الله بهذا على أنّ النبي يتلقّى الوحي من علّام الغيوب. فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن ، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقب سؤاله. ووقت نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإنّ له حالة خاصّة تعتري الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعرفها الناس ، كما ورد يعلى بن أمية في حكم العمرة. ومما يدلّ لهذا ما وقع في حديث أنس من رواية ابن شهاب في «صحيح مسلم» أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلّى لهم صلاة الظهر فلما سلّم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أنّ قبلها أمورا عظاما ثم قال : من أحبّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فو الله لا تسألونني عن شيء إلّا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا. ثم قال : «لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر» الحديث ، فدلّ ذلك على أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان ذلك الحين في حال نزول وحي عليه. وقد جاء في رواية موسى بن أنس عن أبيه أنس أنّه أنزل عليه حينئذ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) الآية. فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتّصال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعالم

٢٣٣

الوحي.

وقوله : (عَفَا اللهُ عَنْها) يحتمل أنّه تقرير لمضمون قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) ، أي أنّ الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزّل القرآن. وهذا أظهر لعود الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ). ويحتمل أن يكون إخبارا عن عفوه عمّا سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيها لأنّ ذلك لا يناسب ما يجب من توقيره.

وقوله : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن ، أن يقول سائل : إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأنّ بعض الأسئلة يسوء جوابه قوما ، فهل الأولى ترك السؤال أو إلقاؤه. فأجيب بتفصيل أمرها بأنّ أمثالها قد كانت سببا في كفر قوم قبل المسلمين.

وضمير (سَأَلَها) جوّز أن يكون عائدا إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دلّ عليه فعل (تَسْئَلُوا) ، أي سأل المسألة ، فيكون الضمير منصوبا على المفعولية المطلقة. وجرى جمهور المفسّرين على تقدير مضاف ، أي سأل أمثالها. والمماثلة في ضآلة الجدوى. والأحسن عندي أن يكون ضمير (سَأَلَها) عائدا إلى (أَشْياءَ) ، أي إلى لفظه دون مدلوله. فالتقدير : قد سأل أشياء قوم من قبلكم ، وعدّي فعل (سَأَلَ) إلى الضمير على حذف حرف الجرّ ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحقّ من الاستخدام ، فإنّ أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله ، نحو قولك : لك درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه. والاستخدام أشدّ من ذلك لأنّه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر.

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنّها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنّما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصوّر المتكلّم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها ، فتدلّ على أنّ الجملة المعطوفة لم يكن يترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم. وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) في سورة البقرة [٨٥].

والباء في قوله (بِها) يجوز أن تكون للسببية ، فتتعلّق ب (أَصْبَحُوا) ، أي كانت تلك المسائل سببا في كفرهم ، أي باعتبار ما حصل من جوابها ، ويحتمل أن تكون «للتعدية»

٢٣٤

فتتعلّق ب (كافِرِينَ) ، أي كفروا بها ، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به ، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص ، أي ما كفروا إلّا بسببها ، أي كانوا في منعة من الكفر لو لا تلك المسائل ، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه ، فهو تخصيص ادّعائي ، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها. وفعل (أَصْبَحُوا) مستعمل بمعنى صاروا ، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريّث فيه لأنّ الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال.

والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام ، سألوا مثل هذه المسائل ، فلمّا أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا ، مثل ثمود ، سألوا صالحا آية ، فلمّا أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها ، وهذا شأن أهل الضلالة متابعة الهوى فكلّ ما يأتيهم ممّا لا يوافق أهواءهم كذّبوا به ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور : ٤٨ ، ٤٩] ، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سلام. وقريب ممّا في هذه الآية ما قدّمناه عند تفسير قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) في سورة البقرة [٩٧]. فإنّ اليهود أبغضوا جبريل لأنّه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم ، وتعطيل بيت القدس ، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال. وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى ، وكانا مقدّسين عند اليهود ، فلمّا شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى والإصحاح الثالث من مرقس.

والمقصود من هذا ذمّ أمثال هذه المسائل بأنّها لا تخلو من أن تكون سببا في غمّ النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يكره ممّن يحبّه. ولو لا أنّ إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قوم من قبلهم لكانت هذه المسائل محرّمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر.

فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها ، فالحمد لله الذي منّ باستضوائها.

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

استئناف ابتدائي جاء فارقا بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما

٢٣٥

نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج ، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياما للناس وجعل الهدي والقلائد قياما لهم ، بيّن هنا أنّ أمورا ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب ، فيكون كالبيان لآية (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠] ، فإنّ البحيرة وما عطف عليها هنا تشبه الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة ، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا ، ولذلك قال الله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) وقال في هذه الآية : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ). فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما ، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] كما تقدّم هنالك. وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس : أنّ ناسا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية.

وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله : (ما جَعَلَ اللهُ) لتكون مقابلا لقوله في الآية الأخرى (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) [المائدة : ٩٧]. ولو لا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلّا أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه.

والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع ، لأنّ أصل (جعل) إذا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين ، ثم يستعار إلى التقدير والكتب كما في قولهم : فرض عليه جعالة ، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧]. فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع. فنفي جعلها متعيّن لأن يكون المراد منه نفي الأمر والتشريع ، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضب على من جعله ، كما يقول الرجل لمن فعل شيئا : ما أمرتك بهذا. فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام ، وذلك مثل قوله : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [الأنعام : ١٥٠] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه ، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه.

وأدخلت (من) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة ، فقد ساوى أن يقال : لا بحيرة ولا سائبة مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يرضى به فهو حرام.

٢٣٦

والبحيرة ـ بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة ـ فعيلة بمعنى مفعولة ، أي مبحورة ، والبحر الشقّ. يقال : بحر شقّ. وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بحرها بحرا ، أي شقّها ووسّعها. فالبحيرة هي الناقة ، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولا علامة على تخليتها ، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم ، أي أصنامهم ، ولا يشرب لبنها إلّا ضيف ، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه ، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم. وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر. وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نتجت (١) عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة. وقيل : إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكرا. وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء.

والسائبة : البعير أو الناقة يجعل نذرا عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر ، فيقول : أجعله لله سائبة. فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة ، ولذلك يقال : عبد سائبة ، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال ، وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، أي مسيّب.

وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع ، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليطعموا من ألبانها أبناء السبيل. وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فقار الظهر ، فيقال لها : صريم وجمعه صرم ، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضا فهي سائبة ، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم. والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة.

والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى ، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى ، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه ، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها ، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهرا. وقال الجمهور : الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة (على اختلاف مصطلح القبائل) فالأخير إذا كان ذكرا ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها ، أي للطواغيت ، وإن أتأمت استحيوهما جميعا وقالوا : وصلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح ، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم ، وهي التي أبطلها الله تعالى ، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة. والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثا ، جمعا بين تفسير مالك

__________________

(١) نتجت مبني للمفعول وهو يتعدى إلى مفعولين ؛ فأولهما جعل نائب فاعل وثانيهما هو المنصوب.

٢٣٧

وتفسير غيره ، فالشاة تسيّب للطواغيت ، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها. وعن ابن إسحاق : الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلّا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء.

وفي «صحيح البخاري» عن سعيد بن المسيّب : أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم. وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في «فتح الباري». وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة.

والحامي هو فحل الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعى ولا ماء. ويقولون : إنّه حمى ظهره ، أي كان سببا في حمايته ، فهو حام. قال ابن وهب عن مالك ، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه ، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام.

وقوله : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون. والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعا يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع. والكذب هو الخبر المخالف للواقع.

والكفّار فريقان خاصّة وعامّة : فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله ، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عمرو بن عامر بن لحيّ ـ بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشدّدة ـ الخزاعي ، ففي الصحيح قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجرّ قصبه ـ بضم القاف وسكون الصاد المهملة ـ أي أمعاءه في النار ، وكان أول من سيّب السوائب. ومنهم جنادة بن عوف (١). وعن مالك أنّ منهم رجلا من بني مدلج هو أول من بحّر البحيرة وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رأيته مع عمرو في النار. رواه ابن العربي. وفي رواية أنّ عمرو بن لحي أول من بحّر البحيرة وسيّب

__________________

(١) هو جنادة بن أمية بن عوف من بني مالك بن كنانة وهم نسأة الشهور. وجنادة هذا أدركه الإسلام وهو القائم بالنسيء.

٢٣٨

السائبة. وأصحّ الروايات وأشهرها عن رسول الله : أنّ عمرو بن لحي أول من سيّب السوائب ولم يذكر البحيرة.

وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة ، وهم الذين أريدوا بقول : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس.

والافتراء : الكذب. وتقدّم عند قوله تعالى : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) في سورة آل عمران [٩٤].

وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذبا ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمت إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين : إحداهما : أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام ، وذلك إشراك وكفر عظيم. الثانية : أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه ، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى ، وربما عدت عليه السباع ، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه. وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

الواو للحال. والجملة حال من قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) [المائدة : ١٠٣] ، أي أنّهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذبا ، وإذا دعوا إلى اتّباع ما أمر الله به حقّا أو التدبّر فيه أعرضوا وتمسّكوا بما كان عليه آباؤهم. فحالهم عجيبة في أنّهم يقبلون ادّعاء آبائهم أنّ الله أمرهم بما اختلقوا لهم من الضلالات ، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما ، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجّة لهم في الأولى ، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها.

والأمر في قوله (تَعالَوْا) مستعمل في طلب الإقبال ، وفي إصغاء السمع ، ونظر الفكر ، وحضور مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدم الصدّ عنه ، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه. وتقدّم الكلام على فعل (تعال) عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء.

٢٣٩

و (ما أَنْزَلَ اللهُ) : هو القرآن. وعطف (وَإِلَى الرَّسُولِ) لأنّه يرشدهم إلى فهم القرآن. وأعيد حرف (إلى) لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلّقي (تَعالَوْا) فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي (تَعالَوْا) الحقيقي والمجازي.

وقوله (قالُوا حَسْبُنا) أي كافينا ، إذا جعلت (حسب) اسما صريحا و (ما وَجَدْنا) هو الخبر ، أو كفانا إذا جعلت (حسب) اسم فعل و (ما وَجَدْنا) هو الفاعل. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في سورة آل عمران [١٧٣].

و (على) في قوله : (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) مجاز في تمكّن التلبّس ، وتقدّم في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إلخ ، تقدّم القول على نظيره في سورة البقرة [١٧٠] عند قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) الآية.

وليس لهذه الآية تعلّق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهّمه جمع من المفسّرين ، لأنّ هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله ، فأمّا الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كلّه من اتّباع ما أنزل الله. فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسئولين عنه ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦].

و (عَلَيْكُمْ) اسم فعل بمعنى الزموا ، وذلك أنّ أصله أن يقال : عليك أن تفعل كذا ، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر ، وتكون (على) دالّة على استعلاء مجازي ، كأنّهم

٢٤٠