تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر ، لا يدرى مبلغها من الصحّة. ومحملها ، إنّ صحّت ، على أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) على أنّه نهي غير جازم. ولم يطل ذلك بينهم.

قيل : إنّ قدامة بن مظعون ، ممّن شهد بدرا ، ولّاه عمر عنى البحرين ، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر ، وأنكر الجارود ، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة. فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة : لو شربتها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر : لم ، قال : لأنّ الله يقول : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [المائدة : ٩٣] ، ـ فقال عمر ـ : أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّم عليك». ويروى أنّ وحشيا كان يشرب الخمر بعد إسلامه ، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر ، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) [المائدة : ٩٣] ، وأنّ عمر استشار عليّا في شأنهم ، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلّا قتلوا. وفي صحة هذا نظر أيضا. وفي كتب الأخبار أنّ عيينة بن حصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زبيد بالكوفة فقدّم له عمرو خمرا ، فقال عيينة : أو ليس قد حرّمها الله. قال عمرو : أنت أكبر سنّا أم أنا ، قال عيينة : أنت. قال : أنت أقدم إسلاما أم أنا ، قال : أنت. قال : فإنّي قد قرأت ما بين الدفتين ، فو الله ما وجدت لها تحريما إلّا أنّ الله قال: فهل أنتم منتهون ، فقلنا : لا». فبات عنده وشربا وتنادما ، فلمّا أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن :

جزيت أبا ثور جزاء كرامة

فنعم الفتى المزدار والمتضيّف

قريت فأكرمت القرى وأفدتنا

تحيّة علم (١) لم تكن قبل تعرف

وقلت : حلال أن ندير مدامة

كلون انعقاق البرق والليل مسدف

وقدّمت فيها حجّة عربيّة

تردّ إلى الإنصاف من ليس ينصف

وأنت لنا والله ذي العرش قدوة

إذا صدّنا عن شربها المتكلّف

نقول : أبو ثور أحلّ شرابها

وقول أبي ثور أسدّ وأعرف

وحذف متعلّق (مُنْتَهُونَ) لظهوره ، إذ التقدير : فهل أنتم منتهون عنهما ، أي عن

__________________

(١) كلمة (تحية) ثبتت في طبعة بولاق من «الأغاني» وفي نسخة مخطوطة منه ولعلها تحريف.

٢٠١

الخمر والميسر ، لأنّ تفريع هذا الاستفهام عن قوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) يعيّن أنّهما المقصود من الانتهاء.

واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد ، لأنّ إقلاع المسلمين عنهما قد تقرّر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنّهما من مآثر عقائد الشرك ، ولأنّه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإنّ ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوزاع الشرعي ، فلذلك أكّد النهي عنهما أشدّ ممّا أكّد النهي عن الأنصاب والأزلام.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))

عطفت جملة (وَأَطِيعُوا) على جملة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] ، وهي كالتذييل ، لأنّ طاعة الله ورسوله تعمّ ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وتعمّ غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب. وكرّر (وَأَطِيعُوا) اهتماما بالأمر بالطاعة. وعطف (وَاحْذَرُوا) على (أَطِيعُوا) أي وكونوا على حذر. وحذف مفعول (احْذَرُوا) لينزّل الفعل منزلة اللازم لأنّ القصد التلبّس بالحذر في أمور الدين ، أي الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله ، وذلك أبلغ من أن يقال واحذروهما ، لأنّ الفعل اللازم يقرب معناه من معنى أفعال السجايا ، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زنة فعل كفرح ونهم.

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) تفريع عن (أَطِيعُوا) ـ و (احْذَرُوا). والتولّي هنا استعارة للعصيان ، شبّه العصيان بالإعراض والرجوع عن الموضع الذي كان به العاصي ، بجامع المقاطعة والمفارقة ، وكذلك يطلق عليه الإدبار. ففي حديث ابن صياد «ولئن أدبرت ليعقرنّك الله» أي أعرضت عن الإسلام.

وقوله : (فَاعْلَمُوا) هو جواب الشرط باعتبار لازم معناه لأنّ المعنى : فإن تولّيتم عن طاعة الرسول فاعلموا أن لا يضرّ تولّيكم الرسول لأنّ عليه البلاغ فحسب ، أي وإنّما يضرّكم تولّيكم ، ولو لا لازم هذا الجواب لم ينتظم الربط بين التولّي وبين علمهم أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر إلّا بالتبليغ. وذكر فعل (فَاعْلَمُوا) للتنبيه على أهمية

٢٠٢

الخبر كما بيّنّاه عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣].

وكلمة (أَنَّما) بفتح الهمزة تقيّد الحصر ، مثل (إنّما) المكسورة الهمزة ، فكما أفادت المكسورة الحصر بالاتّفاق فالمفتوحتها تفيد الحصر لأنّها فرع عن المكسورة إذ هي أختها. ولا ينبغي بقاء خلاف من خالف في إفادتها الحصر ، والمعنى أنّ أمره محصور في التبليغ لا يتجاوزه إلى القدرة على هدي المبلّغ إليهم.

وفي إضافة الرسول إلى ضمير الجلالة تعظيم لجانب هذه الرسالة وإقامة لمعذرته في التبليغ بأنّه رسول من القادر على كلّ شيء ، فلو شاء مرسله لهدى المرسل إليهم فإذا لم يهتدوا فليس ذلك لتقصير من الرسول.

ووصف البلاغ ب (الْمُبِينُ) استقصاء في معذرة الرسول وفي الإعذار للمعرضين عن الامتثال بعد وضوح البلاغ وكفايته وكونه مؤيّدا بالحجّة الساطعة.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها ، إذ ظنّ بعض المسلمين أنّ شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبّس بإثم لأنّ الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنّها رجس من عمل الشيطان. فقد كان سبب نزول هذه الآية ما في «الصحيحين» وغيرهما عن أنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وابن عبّاس ، أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ـ أو قال ـ وهي في بطونهم وأكلوا الميسر. فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية. وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصمّ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يطعمونها. فأنزل الله هذه الآيات.

وقد يلوح ببادئ الرأي أنّ حال الذين توفّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقا بأن يسأل عنه الصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحدا بعمل لم يكن محرّما من قبل فعله ، وأنّه لا يؤاخذ أحدا على ارتكابه إلّا بعد أن يعلم بالتحريم ، فالجواب أنّ أصحاب

٢٠٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان خشوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتوفّوا قبل الإقلاع عن ذلك أو ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم ، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم. كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٥] فقال : يا رسول الله ، فكيف وأنا أعمى لا أبصر فأنزل الله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ١٤٣]. وكذلك ما وقع لمّا غيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس ، فأنزل الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ، أي صلاتكم فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه وأن لا يتجاوزوا التلقّي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمور دينهم.

ونفي الجناح نفي الإثم والعصيان. و (ما) موصولة. و (طَعِمُوا) صلة. وعائد الصلة محذوف. وليست (ما) مصدرية لأنّ المقصود العفو عن شيء طعموه معلوم من السؤال ، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجناح هو على تقدير : في طعم ما طعموه.

وأصل معنى (طَعِمُوا) أنّه بمعنى أكلوا ، قال تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب : ٢٥٩]. وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طعام. وليس الشراب من الطعام بل هو غيره ، ولذلك عطف في قوله تعالى (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : ٢٥٩]. ويدلّ لذلك استثناء المأكولات منه في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥]. ويقال : طعم بمعنى أذاق ومصدره الطّعم ـ بضمّ الطاء ـ اعتبروه مشتقّا من الطّعم الذي هو حاسّة الذوق. وتقدّم قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] ، أي ومن لم يذقه ، بقرينة قوله (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) [البقرة : ٢٤٩]. ويقال : وجدت في الماء طعم التراب. ويقال تغيّر طعم الماء ، أي أسن. فمن فصاحة القرآن إيراد فعل (طَعِمُوا) هنا لأنّ المراد نفي التّبعة عمّن شربوا الخمر وأكلوا لحم الميسر قبل نزول آية تحريمهما. واستعمل اللفظ في معنييه ، أي في حقيقته ومجازه ، أو هو من أسلوب التغليب.

وإذ قد عبّر بصيغة المضي في قوله (طَعِمُوا) تعيّن أن يكون (إِذا) ظرفا للماضي ،

٢٠٤

وذلك على أصحّ القولين للنحاة ، وإن كان المشهور أنّ (إذا) ظرف للمستقبل ، والحقّ أنّ (إذا) تقع ظرفا للماضي. وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في «معني اللبيب». وشاهده قوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) [التوبة : ٩٢] ، وقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] ، وآيات كثيرة. فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتّقوا ، ويؤوّل معنى الكلام : ليس عليهم جناح لأنّهم آمنوا واتّقوا فيما كان محرّما يومئذ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلّا قبل تحريمهما.

هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسّرين جاريا على ما ورد في من سبّب نزولها في الأحاديث الصحيحة.

ومن المفسّرين من جعل معنى الآية غير متّصل بآية تحريم الخمر والميسر. وأحسب أنّهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنّهم رأوا أنّ سبب نزولها لا يقصرها على قضيّة السبب بل يعمل بعموم لفظها على ما هو الحقّ في أنّ عموم اللفظ لا يخصّص بخصوص السبب ، فقالوا : رفع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذّات المطاعم وحلالها ، إذا ما اتّقوا ما حرّم الله عليهم ، أي ليس من البرّ حرمان النفس بتحريم الطيّبات بل البرّ هو التقوى ، فيكون من قبيل قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) [البقرة : ١٨٩]. وفسّر به في «الكشاف» مبتدئا به. وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متّصلا بآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ، فتكون استئنافا ابتدائيا لمناسبة ما تقدّم من النهي عن أن يحرّموا على أنفسهم طيّبات ما أحلّ الله لهم بنذر أو يمين على الامتناع.

وادّعى بعضهم أنّ هذه الآية نزلت في القوم الذين حرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهّب. ومنهم عثمان بن مظعون ، ولم يصحّ أنّ هذا سبب نزولها. وعلى هذا التفسير يكون (طَعِمُوا) مستعملا في المعنى المشهور وهو الأكل ، وتكون كلمة (إذا) مستعملة في المستقبل ، وفعل (طَعِمُوا) من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة (إذا) ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].

ويعكّر على هذا التفسير أنّ الذين حرّموا الطيّبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم.

٢٠٥

وقال الفخر : زعم بعض الجهّال أنّ الله تعالى لمّا جعل الخمر محرّمة عند ما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادّة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد ، بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق ، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنّه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا ، كما ذكر في آية تحويل القبلة ، فقال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ولا شكّ أنّ (إذا) للمستقبل لا للماضي. قال الفخر : وهذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة. وأمّا قولهم (إذا) للمستقبل ، فجوابه أنّ الحلّ للمستقبل عن وقت نزول الآية في حقّ الغائبين.

والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ولذلك فعطف (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على (اتَّقَوْا) من عطل الخاصّ على العامّ ، للاهتمام به ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) ، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ.

وأمّا عطف (وَآمَنُوا) على (اتَّقَوْا) فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى ، كقوله تعالى (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ ـ إلى قوله ـ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجرد التنويه بالتقوى والإيمان والعمل الصالح ، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات ، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثرا على فعله أو على تركه ، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبل ، وكان الإيمان عقدا عقليا لا يقبل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله : (وَآمَنُوا) معنى وداموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.

وجملة (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) تأكيد لفظي لجملة (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقرن بحرف (ثُمَ) الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماء إلى الازدياد في التقوى وآثار الإيمان ، كالتأكيد في قوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبإ : ٤ ، ٥] ولذلك لم يكرّر قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى.

وأمّا جملة (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) فتفيد تأكيدا لفظيا لجملة (ثُمَّ اتَّقَوْا) وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف (ثُمَ) على التراخي الرتبي. مع زيادة صفة الإحسان. وقد فسّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإحسان بقوله : «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك». وهذا يتضمّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة (وَآمَنُوا) هنا. ويشمل فعل

٢٠٦

(وَأَحْسَنُوا) الإحسان إلى المسلمين ، وهو زائد على التقوى ، لأنّ منه إحسانا غير واجب وهو ممّا يجلب مرضاة الله ، ولذلك ذيّله بقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وقد ذهب المفسّرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية ، ومرجعها جعل التكرير في قوله : (ثُمَّ اتَّقَوْا) على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال. وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى : (إِذا مَا اتَّقَوْا) وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط. وفي جلبها طول.

وقد تقدّم أنّ بعضا من السلف تأوّل هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتّقى الله فيما عدّ ، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرّمات ، ولا إلى إضرار الناس. وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون ، كما تقدّم في تفسير آية تحريم الخمر : وأنّ عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب لم يقبلاه منه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤))

لا أحسب هذه الآية إلّا تبيينا لقوله في صدر السورة (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] ، وتخلّصا لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام ، وتمهيدا لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] جرّت إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما ؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصهم ، حذرهم وشهوتهم تقواهم. وهي حالة ابتلاء وتمحيص ، يظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى ، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية ، لأنّ قوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) ظاهر في الاستقبال ، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلّا وهو بمعنى المستقبل. والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّرا بمثل هذا. وقد روي عن مقاتل : أنّ المسلمين في عمرة الحديبية غشيهم صيد كثير في طريقهم ، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم ، فمنهم المحلّ ومنهم المحرم ، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي ، وصيد بعضه بالرماح. ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط ، فاختلفت أحوالهم في الإقدام على إمساكه. فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه. فنزلت هذه الآية اه. فلعلّ هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقا ، لتكون

٢٠٧

تذكرة لهم في عام حجّة الوداع ليحذروا مثل ما حلّ بهم يوم الحديبية. وكانوا في حجّة الوداع أحوج إلى التحذير والبيان ، لكثرة عدد المسلمين عام حجّة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب ، فذلك يبيّن معنى قوله (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) لإشعار قوله (تَنالُهُ) بأنّ ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ.

والخطاب للمؤمنين ، وهو مجمل بيّنه قوله عقبه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥]. قال أبو بكر بن العربي : اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين : أحدهما : أنّهم المحلّون ، قاله مالك ، الثاني : أنّهم المحرمون ، قاله ابن عباس وغيره اه. وقال في «القبس» : توهّم بعض الناس أنّ المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام ، وهذه عضلة ، إنّما المراد به الابتلاء في حالتي الحلّ والحرمة اه.

ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج. قال ابن العربي في «الأحكام» : «إنّ قوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) الذي يقتضي أنّ التكليف يتحقّق في المحلّ بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد. والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في القلّة والكثرة وتباين في الضعف والشدّة». يريد أنّ قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) لا يراد به الإصابة ببلوى ، أي مصيبة قتل الصيد المحرّم بل يراد ليكلفنّكم الله ببعض أحوال الصيد. وهذا ينظر إلى أنّ قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] شامل لحالة الإحرام والحلول في الحرم.

وقوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) هو ابتلاء تكليف ونهي ، كما دلّ عليه تعلّقه بأمر ممّا يفعل ، فهو ليس كالابتلاء في قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥] وإنّما أخبرهم بهذا على وجه التحذير. فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه ، وهو التحذير. ويتعيّن أن يكون هذا الخطاب وجّه إليهم في حين تردّدهم بين إمساك الصيد وأكله ، وبين مراعاة حرمة الإحرام ، إذ كانوا محرمين بعمرة في الحديبية وقد تردّدوا فيما يفعلون ، أي أنّ ما كان عليه الناس من حرمة إصابة الصيد للمحرم معتدّ به في الإسلام أو غير معتدّ به. فالابتلاء مستقبل لأنّه لا يتحقّق معنى الابتلاء إلّا من بعد النهي والتحذير. ووجود نون التوكيد يعيّن المضارع للاستقبال ، فالمستقبل هو الابتلاء. وأمّا الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حاضر.

والصيد : المصيد ، لأنّ قوله من الصيد وقع بيانا لقوله (بِشَيْءٍ). ويغني عن الكلام

٢٠٨

فيه وفي لفظ (شيء) ما تقدّم من الكلام على نظيره في قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) في سورة البقرة [١٥٥]. وتنكير (بِشَيْءٍ) هنا للتنويع لا للتحقير ، خلافا للزمخشري ومن تابعه.

وأشار بقوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره. فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحبالات وجوارح ، لأنّ جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد. وكانوا يعدون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحمر الوحشية وبقر الوحش ، كما في حديث أبي قتادة أنّه : رأى عام الحديبية حمارا وحشيا ، وهو غير محرم ، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشدّ وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به .. إلخ. وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيّهم ، كما في حديث «الموطأ» «عن زيد البهزي أنّه خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد مكّة فإذا ظبي حاقف فيه سهم» الحديث. فقد كان بعض الصائدين يختبئ في قترة ويمسك قوسه فإذا مرّ به الصيد رماه بسهم. قال ابن عطية : وخصّ الرماح بالذكر لأنّها أعظم ما يجرح به الصيد.

وقد يقال : حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط.

وجملة (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) صفة للصيد أو حال منه. والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلّا يتوهّم أنّ التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه.

وقوله : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) علّة لقوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) [المائدة : ٩٤] لأنّ الابتلاء اختبار ، فعلّته أن يعلم الله منه من يخافه. وجعل علم الله علّة للابتلاء إنّما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كلّ من علم الله أنّه يخافه ، فأطلق علم الله على لازمه ، وهو ظهور ذلك وتميّزه ، لأنّ علم الله يلازمه التحقّق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلّا موافقا لما في نفس الأمر ، كما بينّاه غير مرّة ؛ أو أريد بقوله : (لِيَعْلَمَ اللهُ) التعلّق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلّفين ، بناء على إثبات تعلّق تنجيزي لصفة العلم ، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في «الرسالة الخاقانية». وقيل : أطلق العلم على تعلّقه بالمعلوم في الخارج ، ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أنّ هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين. وقال ابن العربي في القبس : «ليعلم الله مشاهدة ما علمه غيبا من امتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنّه ، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيب أوّلا ، ثم يخلق المعدوم فيعلمه مشاهدة ، يتغيّر المعلوم ولا يتغيّر العلم». والباء إمّا للملابسة أو

٢٠٩

للظرفية ، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في (يَخافُهُ).

والغيب ضدّ الحضور وضدّ المشاهدة ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] على أحد وجهين هنالك ، فتعلّق المجرور هنا بقوله (يَخافُهُ) الأظهر أنّه تعلّق لمجرّة الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز ، كقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) [البقرة : ٦١]. أي من يخاف الله وهو غائب عن الله ، أي غير مشاهد له. وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخالفة بالغيب. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك : ١٢].

وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنوّر البصيرة ، فإنّهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنّهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال. وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي : «إنّهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني». ومن المفسرين من فسّر الغيب بالدنيا. وقال ابن عطية : الظاهر أنّ المعنى بالغيب عن الناس ، أي في الخلوة. فمن خاف الله انتهى عن الصيد في ذات نفسه ، يعني أنّ المجرور للتقييد ، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتّقى إنكارهم عليه أو صدّهم إيّاه وأخذهم على يده أو التسميع به ، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أنّ الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم ، أي كانوا متمكّنين من أخذه بدون رقيب ، أو يكون الصيد المحذّر من صيده مماثلا لذلك الصيد.

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) ، إذ قد أشعر قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) أنّ في هذا الخبر تحذيرا من عمل قد تسبق النفس إليه. والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) ، أي بعد ما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه ، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع. والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد ، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم.

وقوله : (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما ، وبما خالف إنذار الله تعالى ، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة ، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام ، والكفارة هي جزاء الصيد ، لأنّ الظاهر أنّ الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : العذاب الأليم أنّه يوسع بطنه وظهره جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية». فالعذاب هو الأذى الدنيوي ، وهو يقتضي أنّ هذه الآية قرّرت ما كان يفعله

٢١٠

أهل الجاهلية ، فتكون الآية الموالية لها نسخا لها. ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدلّ ذلك على أنّه أبطل بما في الآية الموالية ، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها. ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم. فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلّا التوبة ، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديبا ، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام ، والظاهر أنّ سلبه كان يأخذه فقراء مكة مثل جلال البدن ونعالها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥))

استئناف لبيان آية : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) [المائدة : ٩٤] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكما لم يبق به عمل. وتقدّم القول في معنى (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في طالع هذه السورة [المائدة : ١].

واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين : حال كون الصائد محرما ، وحال كون الصيد من صيد الحرم ، ولو كان الصائد حلالا ؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأمره بأن يتّخذ لها حرما كما كان الملوك يتّخذون الحمى ، فكانت بيت الله وحماه ، وهو حرم البيت محترما بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيما فلذلك شرع الله حرما للبيت واسعا وجعل الله البيت أمنا للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلّا أمنا للعائذ به وبحرمه. قال النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكّة بين الغيل فالسّند

فالتحريم لصيد حيوان البرّ ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر. ثم حرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة ، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة. وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان ، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلّا عند الوصول إلى الحرم ، فالغالب أنّه لا يصيد إلّا

٢١١

حيوان الحرم.

والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه. ويلحق بالصيد الوحوش كلّها. قال ابن الفرس : والوحوش تسمّى صيدا وإن لم تصد بعد ، كما يقال : بئس الرميّة الأرنب ، وإن لم ترم بعد. وخصّ من عمومه ما هو مضرّ ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير. ودليل التخصيص السنّة. وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام ، وهذا مورد الآية ، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد ، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد. ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم.

وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حرم جمع حرام ، بمعنى محرم ، مثل جمع قذال على قذل ، والمحرم أصله المتلبّس بالإحرام بحجّ أو عمرة. ويطلق المحرم على الكائن في الحرم.

قال الراعي :

قتلوا ابن عفّان الخليفة محرما

أي كائنا في حرم المدينة. فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم ، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة. وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده. فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق. وفي صيده الجزاء. وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه ، ومثله الطائف عند الشافعي.

وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام ، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب. وأمّا حرم المدينة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة حرم من ما بين عير أو عائر (جبل) إلى ثور». قيل : هو جبل ولا يعرف ثور إلّا في مكة. قال النووي : أكثر الرواة في كتاب «البخاري» ذكروا عيرا ، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال : من عير إلى كذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ. وقيل : إنّ الصواب إلى أحد كما عند أحمد والطبراني. وقيل : ثور جبل صغير وراء جبل أحد.

وقوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ) إلخ ، (من) اسم شرط مبتدأ ، و (قَتَلَهُ) فعل الشرط ، و (مِنْكُمْ) صفة لاسم الشرط ، أي من الذين آمنوا. وفائدة إيراد قوله (مِنْكُمْ) أعرض عن بيانها المفسّرون. والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل

٢١٢

الجاهلية ، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه ، كما تقدّم آنفا.

وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلّا إذا قتل الصيد ، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء ، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل.

وقوله (مُتَعَمِّداً) قيد أخرج المخطئ ، أي في صيده. ولم تبيّن له الآية حكما لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة. قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطئ أنّهما يكفّران. ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة. وليس في ذلك أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وجمهور فقهاء الأمصار : إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء ، وقد غلّب مالك فيه معنى الغرم ، أي قاسه على الغرم. والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما. ومضى بذلك عمل الصحابة.

وقال أحمد بن حنبل ، وابن عبد الحكم من المالكية ، وداود الظاهري ، وابن جبير وطاوس ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء ، ومجاهد : لا شيء على الناسي. وروي مثله عن ابن عباس.

وقال مجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وابن جريج : إن كان متعمّدا للقتل ناسيا إحرامه فهو مورد الآية ، فعليه الجزاء. وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه ، وصيده جيفة لا يؤكل.

والجزاء العوض عن عمل ، فسمّى الله ذلك جزاء ، لأنّه تأديب وعقوبة إلّا أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار. وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرم قاتله ليجبر ما أفاته عليه. وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام ، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء. وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده.

وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قوله عقبه (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ). وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة ، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء ، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦].

٢١٣

وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد ، وذلك المثل من النعم ، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير ، وأكثر صيد العرب من الدوابّ ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز ، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده ، لأنّه لا يصاد إلّا بالمعراض ، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها ، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة. وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة ؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة ، والإوز يقارب السخلة ، وهكذا. وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة. وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد. والقيمة عند مالك طعام. وقال أبو حنيفة : دارهم. فإذا كان المصير إلى القيمة ؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به ، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوما ، ولكسر المدّ يوما كاملا. وقال أبو حنيفة : يشتري بالقيمة هديا إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاما ، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوما.

وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزئ في الضحايا والهدايا. فقال مالك : لا يجزئ أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ). فما لا يجزئ أن يكون هديا من الأنعام لا يكون جزاء ، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّرا بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاما ولا يعطي من صغار الأنعام.

وقال مالك في «الموطأ» : وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره. وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة. وقال الشافعي وبعض علماء المدينة : إذا كان الصيد صغيرا كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في «الموطأ» عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة. قال الحفيد ابن رشد في كتاب «بداية المجتهد» : وذلك ما روي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود اه.

وأقول : لم يصحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك شيء ، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكا رآه اجتهادا من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ). فإنّ ذلك من دلالة الإشارة ، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة ، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام ، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزئ في الهدايا. فمن العجب قول ابن العربي :

٢١٤

إنّ قول الشافعي هو الصحيح ، وهو اختيار علمائنا. ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفا لمالك في هذا. والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام. ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلا للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها ، خلافا لداود الظاهري ، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع ، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلا لجميع ما قتله.

وقرأ جمهور القرّاء (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) بإضافة (فَجَزاءٌ) إلى (مِثْلُ) ؛ فيكون (فَجَزاءٌ) مصدرا بدلا عن الفعل ، ويكون (مِثْلُ ما قَتَلَ) فاعل المصدر أضيف إليه مصدره. و (مِنَ النَّعَمِ) بيان المثل لا ل (ما قَتَلَ). والتقدير : فمثل ما قتل من النعم يجزئ جزاء ما قتله ، أي يكافئ ويعوّض ما قتله. وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي. ولك أن تجعل الإضافة بيانية ، أي فجزاء هو مثل ما قتل ، والإضافة تكون لأدنى ملابسة. ونظيره قوله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) [سبأ : ٣٧]. وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] ، أي فليحرّر رقبة. وجعله صاحب «الكشاف» من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي فليجز مثل ما قتل. وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل (جزى) بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه. تقول : جزيت ما أتلفته بكذا درهما ، ولا تقول : جزيت كذا درهما بما أتلفته ، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ (مثل) مقحما. ونظّروه بقولهم : «مثلك لا يبخل» ، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري. وسكت صاحب «الكشاف» عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام «الكشاف» على لزوم جعل لفظ (مِثْلُ) مقحما وأنّ الكلام على وجه الكناية ، يعني نظير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وكذلك ألزمه إياه التفتازانيّ ، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل. وهو اعتذار ضعيف. فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله. وقد اجترأ الطبري فقال : أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي.

وقرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب ، والكسائي ، وخلف (فَجَزاءٌ مِثْلُ) بتنوين (جزاء). ورفع (مثل) على تقدير : فالجزاء هو مثل ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم

٢١٥

المفعول ، أي فالمجزي به المقتول مثل ما قتله الصائد.

وقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) جملة في موضع الصفة لجزاء أو استئناف بياني ، أي يحكم بالجزاء ، أي بتعيينه. والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين. وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما. ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام ، ويقدّران له ما هو قدر الطعام إن اختاره.

وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمن بن عوف ، وحكم مع كعب بن مالك ، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمن بن عوف ، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان. ووصف (ذَوا عَدْلٍ) بقوله : (مِنْكُمْ) أي من المسلمين ، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء.

وقوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) حال من (مِثْلُ ما قَتَلَ) ، أو من الضمير في (به). والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة. والمنحر : منى والمروة. ولما سمّاه الله تعالى (هَدْياً) فله سائر أحكام الهدي المعروفة. ومعنى (بالِغَ الْكَعْبَةِ) أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة ، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة.

وقوله : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) عطف على (فَجَزاءٌ) وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء ، إذ الجزاء هو العوض ، وهو مأخوذ فيه المماثلة. وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة. وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين. فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين ، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد ، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين. وهو قول الأكثر من العلماء. وعن ابن عباس : تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاما. وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد. قال مالك : أحسن ما سمحت إليّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام ، فيطعم مدّا لكلّ مسكين. ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلا من الطعام. فعن ابن عباس : تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين ، والأيل بإطعام عشرين مسكينا ، وحمار الوحش بثلاثين ، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين.

٢١٦

و (أَوْ) في قوله (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) وقوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ) تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة. وكذلك كل أمر وقع ب «أو» في القرآن فهو من الواجب المخيّر. والقول بالتخيير هو قول الجمهور ، ثم قيل : الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين. وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير ، وقيل : الخيار للحكمين. وقال به الثوري ، وابن أبي ليلى ، والحسن. ومن العلماء من قال : إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلّا عند العجز عن الجزاء ، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلّا عند العجز عن الإطعام ، فهي عندهم على الترتيب. ونسب لابن عباس.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر (كَفَّارَةٌ) ـ بالرفع بدون تنوين مضافا إلى طعام ـ كما قرأ (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ). والوجه فيه إمّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) فنجعل (كَفَّارَةٌ) اسم مصدر عوضا عن الفعل وأضيف إلى فاعله ، أي يكفّره طعام مساكين ؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية ، أي كفّارة من طعام ، كما يقال : ثوب خزّ ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفّر به لتصحّ إضافة البيان ، فالكفّارة بيّنها الطعام ، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارة تقع بأنواع. وجزم بهذا الوجه في «الكشاف» ، وفيه تكلّف. وقرأه الباقون ـ بتنوين (كَفَّارَةٌ) ورفع (طَعامُ) على أنّه بدل من (كَفَّارَةٌ).

وقوله (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) عطف على (كَفَّارَةٌ) والإشارة إلى الطعام. والعدل ـ بفتح العين ـ ما عادل الشيء من غير جنسه. وأصل معنى العدل المساواة. وقال الراغب : إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا. وأما العدل ـ بكسر العين ـ ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات ، وقيل : هما مترادفان. والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى (طَعامُ مَساكِينَ). وانتصب (صِياماً) على التمييز لأنّ في لفظ العدل معنى التقدير.

وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام ، وهو موكول إلى حكم الحكمين. وقال مالك والشافعي : يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوما. وقال أبو حنيفة : عن كلّ مدّين يوما ، واختلفوا في أقصى ما يصام ؛ فقال مالك والجمهور : لا ينقص عن أعداد الأمداد أياما ولو تجاوز شهرين ، وقال بعض أهل العلم : لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات. وعن ابن عباس : يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.

وقوله (لِيَذُوقَ) متعلّق بقوله (فَجَزاءٌ) ، واللّام للتعليل ، أي جعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره.

والذوق مستعار للإحساس بالكدر. شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم

٢١٧

راعوا فيه سرعة اتّصال ألمه بالإدراك ، ولذلك لم نجعله مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة ، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك. وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم ، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات. ففي القرآن (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) [الدخان : ٥٦]. وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطبا جثّة حمزة «ذق عقق». وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة ، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل : ١١٢].

والوبال السوء وما يكره إذا اشتدّ ، والوبيل القوي في السوء (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦]. وطعام وبيل : سيّئ الهضم ، وكلأ وبيل ومستوبل ، تستوبله الإبل ، أي تستوخمه. قال زهير :

إلى كلإ مستوبل متوخّم

والأمر : الشأن والفعل ، أي أمر من قتل الصيد متعمّدا. والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب.

وأعقب الله التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) ، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه.

والانتقام هو الذي عبّر عنه بالوبال من قبل ، وهو الخسارة أو التعب ، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم ، وهذا قول الجمهور. وعن ابن عباس ، وشريح ، والنخعي ، ومجاهد ، وجابر بن زيد : أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلّا مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء. وهذا شذوذ.

ودخلت الفاء في قوله : (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلا أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي ، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب ، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديرا فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جعل الفعل خبرا عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي ، فالتقدير : فهو ينتقم الله منه ، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره ، أو لقصد التقوّي ، أي تأكيد حصول هذا الانتقام. ونظيره

٢١٨

(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن : ١٣] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز. هذا قول المحقّقين مع توجيهه ، ومن النحاة من قال : إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء ، وإنّه جاء على خلاف الغالب.

وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) تذييل. والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر ، ولذلك وصف بأنّه ذو انتقام ، أي لأنّ من صفاته الحكمة ، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

استئناف بياني نشأ عن قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] فإنّه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدي مثل ما قتل من النعم ، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر لأنّ أخذه لا يسمّى في العرف قتلا ، وليس لما يصاد منه مثل من النعم ولكنّه قد يشكّ لعلّ الله أراد القتل بمعنى التسبّب في الموت ، وأراد بالمثل من النعم المقارب في الحجم والمقدار ، فبيّن الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة ، لأنّ صيد البحر ليس من حيوان الحرم ، إذ ليس في شيء من أرض الحرم بحر. وقد بيّنا عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] أنّ أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها.

ومعنى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) إبقاء حلّيّته لأنّه حلال من قبل الإحرام. والخطاب في (لَكُمْ) للذين آمنوا. والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحد في مواقعه في هذه الآيات ، أي أحلّ لكم قتله ، أي إمساكه من البحر.

والبحر يشمل الأنهار والأودية لأنّ جميعها يسمّى بحرا في لسان العرب. وقد قال الله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) الآية. وليس العذب إلّا الأنهار كدجلة والفرات. وصيد البحر : كلّ دوابّ الماء التي تصاد فيه ، فيكون إخراجها منه سبب موتها قريبا أو بعيدا. فأمّا ما يعيش في البرّ وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة ، ولا خلاف في هذا. أمّا الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه ، عند من يرى أنّ منه ما لا يؤكل ، فليس هذا موضع ذكره ، لأنّ الآية ليست بمثبتة لتحليل

٢١٩

أكل صيد البحر ولكنّها منبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام.

وقوله : (وَطَعامُهُ) عطف على (صَيْدُ الْبَحْرِ). والضمير عائد إلى (الْبَحْرِ) ، أي وطعام البحر ، وعطفه اقتضى مغايرته للصيد. والمعنى : والتقاط طعامه أو وإمساك طعامه. وقد اختلف في المراد من «طعامه». والذي روي عن جلّة الصحابة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ : أنّ طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له. ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا ممّا لا يلائم سياق الآية. وهؤلاء هم الذين حرّموا أكل ما يخرجه البحر ميّتا ، ويردّ قولهم ما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال في البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته». وحديث جابر في الحوت المسمّى العنبر ، حين وجدوه ميّتا ، وهم في غزوة ، وأكلوا منه ، وأخبروا رسول الله ، وأكل منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وانتصب (مَتاعاً) على الحال. والمتاع : ما يتمتّع به. والتمتّع : انتفاع بما يلذّ ويسرّ. والخطاب في قوله : (مَتاعاً لَكُمْ) للمخاطبين بقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) باعتبار كونهم متناولين الصيد ، أي متاعا للصائدين وللسيّارة.

والسيّارة : الجماعة السائرة في الأرض للسفر والتجارة ، مؤنث سيّار ، والتأنيث باعتبار الجماعة. قال تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) [يوسف : ١٩]. والمعنى أحلّ لكم صيد البحر تتمتّعون بأكله ويتمتّع به المسافرون ، أي تبيعونه لمن يتّجرون ويجلبونه إلى الأمصار.

وقوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) زيادة تأكيد لتحريم الصيد ، تصريحا بمفهوم قوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] ، ولبيان أنّ مدّة التحريم مدّة كونهم حرما ، أي محرمين أو مارّين بحرم مكة. وهذا إيماء لتقليل مدّة التحريم استئناسا بتخفيف ، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدّة ، ولو شاء الله لحرّمه أبدا. وفي «الموطأ» : أنّ عائشة قالت لعروة بن الزبير : يا بن أختي إنّما هي عشر ليال (أي مدّة الإحرام) فإن تخلّج في نفسك شيء فدعه. تعني أكل لحم الصيد.

وذيّل ذلك بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). وفي إجراء الوصف بالموصول وتلك الصلة تذكير بأنّ المرجع إلى الله ليعدّ الناس ما استطاعوا من الطاعة لذلك اللقاء.

والحشر : جمع الناس في مكان. والصيد مراد به المصيد ، كما تقدّم.

والتحريم متعلّق بقتله لقوله قبله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] فلا يقتضي قوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) تحريم أكل صيد البرّ على المحرم إذا

٢٢٠