تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

والاعتداء ، فقال : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغيّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبع فيها الدّهماء بعضهم بعضا حتّى تعمّ وينسى كونها مناكر فلا يهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبة منها فتصيبهم لعنة الله. وقد روى التّرمذي وأبو داود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتّق الله ودع ما تصنع ، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وخليطه وشريكه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ثمّ قرأ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله : (فاسِقُونَ) [المائدة : ٧٨ ـ ٨١] ثمّ قال : والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظّالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم».

وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضا باعتبار مجموع الأمّة وأنّ ناهي فاعل المنكر منهم هو بصدد أن ينهاه المنهيّ عند ما يرتكب هو منكرا فيحصل بذلك التّناهي. فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيّة ، والقرينة عموم الضّمير في قوله (فَعَلُوهُ) ، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكت عليه البعض الآخر ؛ وربّما فعل البعض الآخر منكرا آخر وسكت عليه البعض الّذي كان فعل منكرا قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم.

والمراد ب (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) تركهم التناهي.

وأطلق على ترك التناهي لفظ الفعل في قوله (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) مع أنّه ترك ، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه.

وفي هذا دليل للقائلين من أئمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلّا بفعل ، وأنّ المكلّف به في النّهي فعل ، وهو الانتهاء ، أي الكفّ ، والكفّ فعل ، وقد سمّى الله الترك هنا فعلا. وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّة.

[٨٠ ، ٨١] (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

استئناف ابتدائي ذكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأظهروا

١٨١

الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دلّ على ذلك قوله : (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، لأنّه لا يستغرب إلّا لكونه صادرا ممّن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين. والرؤية في قوله (تَرى) بصريّة ، والخطاب للرّسول. والمراد ب (كَثِيراً مِنْهُمْ) كثير من يهود المدينة ، بقرينة قوله (تَرى) ، وذلك أنّ كثيرا من اليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقا ، نظرا لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها ، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عينا ليهود خيبر وقريظة والنضير. ومعنى (يَتَوَلَّوْنَ) يتّخذونهم أولياء. والمراد بالّذين كفروا مشركو مكّة ومن حول المدينة من الأعراب الذين بقوا على الشرك. ومن هؤلاء اليهود كعب بن الأشرف رئيس اليهود فإنّه كان مواليا لأهل مكّة وكان يغريهم بغزو المدينة. وقد تقدّم أنّهم المراد في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١].

وقوله (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (أن) فيه مصدريّة دخلت على الفعل الماضي وهو جائز ، كما في «الكشاف» كقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) [الإسراء : ٧٤] ، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذمّ. والتّقدير : لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سخط الله عليهم ، فسخط الله مذموم. وقد أفاد هذا المخصوص أنّ الله قد غضب عليهم غضبا خاصّا لموالاتهم الّذين كفروا ، وذلك غير مصرّح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف. ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللّعنة الّتي في قوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [المائدة : ٧٨]. وكون ذلك ممّا قدّمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق.

وقوله : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) إلخ الواو للحال من قوله : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) باعتبار كون المراد بهم المتظاهرين بالإسلام بقرينة ما تقدّم ، فالمعنى : ولو كانوا يؤمنون إيمانا صادقا ما اتّخذوا المشركين أولياء. والمراد بالنّبيء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما أنزل إليه القرآن ، وذلك لأنّ النّبيء نهى المؤمنين عن موالاة المشركين ، والقرآن نهى عن ذلك في غير ما آية. وقد تقدّم في قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٢٨]. وقد جعل موالاتهم للمشركين علامة على عدم إيمانهم بطريقة القياس الاستثنائي ، لأنّ المشركين أعداء الرّسول فموالاتهم لهم علامة على عدم الإيمان به. وقد تقدّم ذلك في سورة آل عمران.

وقوله : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) هو استثناء القياس ، أي ولكنّ كثيرا من بني

١٨٢

إسرائيل (فاسِقُونَ). فالضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) و (فاسِقُونَ) كافرون ، فلا عجب في موالاتهم المشركين لاتّحادهم في مناواة الإسلام. فالمراد بالكثير في قوله : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) عين المراد من قوله (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد أعيدت النكرة نكرة وهي عين الأولى إذ ليس يلزم إعادتها معرفة. ألا ترى قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ، ٦]. وليس ضمير (مِنْهُمْ) عائدا إلى (كَثِيراً) إذ ليس المراد أنّ الكثير من الكثير فاسقون بل المراد كلّهم.

[٨٢ ـ ٨٤] (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤))

فذلكة لما تقدّم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين ؛ فإنّ الله شنّع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [المائدة : ٦٤] ، فكرّرها مرّتين وقال : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [المائدة : ٨٠] وقال : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) [المائدة : ٦١] فعلم تلوّنهم في مضارّة المسلمين وأذاهم. وذكر من أحوال النصارى ما شنّع به عقيدتهم ولكنّه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتّخاذ الفريقين أولياء في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] الآية. فجاء قوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً) الآية فذلكة لحاصل ما تكنّه ضمائر الفريقين نحو المسلمين ، ولذلك فصلت ولم تعطف. واللام في (لَتَجِدَنَ) لام القسم يقصد منها التأكيد ، وزادته نون التوكيد تأكيدا. والوجدان هنا وجدان قلبي ، وهو من أفعال العلم ، ولذلك يعدّى إلى مفعولين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) في سورة البقرة [٩٦]. وانتصب (عَداوَةً) على تمييز نسبة (أَشَدَّ) إلى النّاس ، ومثله انتصاب (مَوَدَّةً).

وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين ، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بغض الإسلام ؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوءة من غيرهم ،

١٨٣

والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحقّ ونبذ الباطل.

وقوله : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) أي أقرب النّاس مودّة للذين آمنوا ، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام. وهذان طرفان في معاملة المسلمين. وبين الطرفين فرق متفاوتة في بغض المسلمين ، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطّلة.

والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة ، لقوله : (أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا). فأمّا من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين.

وقد تقدّم الكلام على نظير قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) في قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) [المائدة : ١٤] ، المقصود منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصار الله (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [الصف : ١٤] ، كما تقدّم في تفسير نظيره. فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام.

وقوله : (ذلِكَ) الإشارة إلى الكلام المتقدّم ، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا. والباء في قوله : (بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) باء السببية ، وهي تفيد معنى لام التعليل. والضمير في قوله (مِنْهُمْ) راجع إلى النصارى.

والقسّيسون جمع سلامة لقسّيس بوزن سجّين. ويقال قسّ ـ بفتح القاف وتشديد السين ـ وهو عالم دين النصرانية. وقال قطرب : هي بلغة الروم. وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين.

والرهبان هنا جمع راهب ، مثل ركبان جمع راكب ، وفرسان جمع فارس ، وهو غير مقيس في وصف على فاعل. والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة.

وقال الراغب : الرهبان يكون واحدا وجمعا ، فمن جعله واحدا جمعه على رهابين ورهابنة. وهذا مروي عن الفرّاء. ولم يحك الزمخشري في الأساس أنّ رهبان يكون مفردا. وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي :

لو أبصرت رهبان دير بالجبل

لانحدر الرّهبان يسعى ويزل

وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سببا في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم. وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصوامع والبيع ، وأكثرهم من

١٨٤

عرب الشام الذين بلغتهم دعوة النصرانية على طريق الروم ، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم. قال النابغة :

لو أنّها برزت لأشمط راهب

عبد الإله صرورة متعبّد

لرنا لطلعتها وحسن حديثها

ولخاله رشدا وإن لم يرشد

فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سببا في صلاح أخلاق أهل ملّتهم. والاستكبار : السين والتاء فيه للمبالغة. وهو يطلق على التكبّر والتعاظم ، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ ، وهما متلازمان. فالمراد من قوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أنّهم متواضعون منصفون. وضمير (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (بِأَنَّ مِنْهُمْ) ، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون ، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر. وقد كان نصارى العرب متحلّين بمكارم من الأخلاق. قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين :

مجلّتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده

ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب

وظاهر قوله (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أنّ هذا الخلق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العرفي ، وهم نصارى العرب ، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارم أخلاق دينية ، كما كان عليه زهير ولبيد وورقة بن نوفل وأضرابهم.

وضمير (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عائد إلى (قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) لأنّه أقرب في الذكر ، وهذا تشعر به إعادة قوله (وَأَنَّهُمْ) ، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير ، وتكون ضمائر الجمع من قوله (وَإِذا سَمِعُوا ـ إلى قوله ـ فَأَثابَهُمُ اللهُ) [المائدة : ٨٣ ـ ٨٥] تابعة لضمير (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى معادين هي سياق الكلام. ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم : ٩]. فضمير الرفع في (عَمَرُوها) الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في (عَمَرُوها) الثاني. وكقول عبّاس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

١٨٥

يريد بضمير (أحرزوا) جماعة المشركين ، وبضمير (جمّعوا) جماعة المسلمين.

ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما : أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهبا من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا. وهم : بحيرا الراهب ، وإدريس ، وأشرف ، وأبرهة ، وثمامة ، وقثم ، ودريد ، وأيمن ، أي ممّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه. وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة ، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيرا بفضلهم. وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولعلّ الله أعلم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قلوبهم ولم يتمكّنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلّا شيء قليل تمسّكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمّى بالإسلام ، وهؤلاء يشبه حالهم حال من لم تبلغه الدعوة ، لأنّ بلوغ الدعوة متفاوت المراتب. ولعلّ هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن. ولا شكّ أنّ النجاشي (أصحمة) منهم. وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود أنّ الأمّة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودّة المسلمين.

والرسول هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن. وما أنزل إليه هو القرآن. والخطاب في قوله (تَرى أَعْيُنَهُمْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إن كان قد رأى منهم من هذه صفته ، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يرى. فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب.

وقوله : (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) معناه يفيض منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حاويه فيسيل خارجا عنه. يقال : فاض الماء ، إذا تجاوز ظرفه. وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين. وقد يسند الفيض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي ، فيقال : فاض الوادي ، أي فاض ماؤه ، كما يقال : جرى الوادي ، أي جرى ماؤه. وفي الحديث : «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه». وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسناد المجازي فيقولون : فاضت عينه دمعا ، بتحويل الإسناد المسمّى تمييز النسبة ، أي قرينة النسبة المجازية. فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون (من) الداخلة على الدمع هي البيانية التي يجرّ بها اسم التمييز ، لأنّ ذلك عندهم

١٨٦

ممتنع في تمييز النسبة ، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة ، قلب قول الناس المتعارف : فاض الدمع من عين فلان ، فقيل : (أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ، فحرف (من) حرف ابتداء. وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت (من) بيانية جارّة لاسم التمييز.

وتعريف الدمع تعريف الجنس ، مثل : طبت النّفس. و (من) في قوله (مِمَّا عَرَفُوا) تعليلية ، أي سبب فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به. فمن قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) [التوبة : ٩٢] ، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بشّر به ، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين. و (من) في قوله (مِنَ الْحَقِ) بيانية. أي ممّا عرفوا ، وهو الحقّ الخاصّ. أو تبعيضية ، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله.

وجملة (يَقُولُونَ) حال ، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا. وهذا القول يجوز أن يكون علنا ، ويجوز أن يكون في خويصتهم.

والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم. وهذه فضيلة عظيمة لم تحصل إلّا في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة. وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسل عند بعثتهم حين يكذبهم الناس بادئ الأمر. كما قال ورقة : يا ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك. أي تكذيبا منهم. أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى ـ عليه‌السلام ـ ببعثة الرسول الذي يجيء بعده ، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى. ففي إنجيل متّى عدد ٢٤ من قول عيسى «ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلّون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادة لجميع الأمم». وفي إنجيل يوحنّا عدد ١٥ من قول عيسى «ومتى جاء المعزّى روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنّكم معي من الابتداء». وإنّ لكلمة (الْحَقِ) وكلمة (الشَّاهِدِينَ) في هذه الآية موقعا لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) ، هو من قولهم ، فيحتمل أنّهم يقولونه في أنفسهم عند ما يخامرهم التردّد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام. وذلك التردّد يعرض للمعتقد عند الهمّ بالرجوع في اعتقاده وهو المسمّى بالنظر ؛

١٨٧

ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعارضهم من أهل ملّتهم أو من إخوانهم ويشكّكهم فيما عزموا عليه ، ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعيّرهم من اليهود أو غيرهم بأنّهم لم يتصلّبوا في دينهم. فقد قيل : إنّ اليهود عيّروا النفر الذين أسلموا ، إذا صحّ خبر إسلامهم. وتقدّم القول في تركيب «ما لنا لا نفعل» عند قوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في سورة النساء [٧٥].

وجملة (وَنَطْمَعُ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة (ما لَنا لا نُؤْمِنُ). ويحتمل أن تكون الواو للحال ، أي كيف نترك الإيمان بالحقّ وقد كنّا من قبل طامعين أن يجعلنا ربّنا مع القوم الصالحين مثل الحواريّين ، فكيف نفلت ما عنّ لنا من وسائل الحصول على هذه المنقبة الجليلة. ولا يصحّ جعلها معطوفة على جملة (نُؤْمِنُ) لئلا تكون معمولة للنفي ، إذ ليس المعنى على ما لنا لا نطمع ، لأنّ الطمع في الخير لا يتردّد فيه ولا يلام عليه حتّى يحتاج صاحبه إلى الاحتجاج لنفسه ب (ما لنا لا نفعل).

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥))

تفريع على قوله (يَقُولُونَ : رَبَّنا آمَنَّا ...) [المائدة : ٨٣] إلى آخر الآية. ومعنى (أثابهم) أعطاهم الثواب. وقد تقدّم القول فيه عند تفسير قوله تعالى : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) في سورة البقرة [١٠٣].

والباء في قوله (بِما قالُوا) للسببية. والمراد بالقول قول الصادق وهو المطابق للواقع ، فهو القول المطابق لاعتقاد القلب ، وما قالوه هو ما حكي بقوله تعالى : (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ...) [المائدة : ٨٣] الآية. وأثاب يتعدّى إلى مفعولين على طريقة باب أعطى ، ف (جَنَّاتٍ) مفعوله الثاني ، وهو المعطى لهم. والإشارة في قوله (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) إلى الثواب المأخوذ من (فَأَثابَهُمُ) ولك أن تجعل الإشارة إلى المذكور وهو الجنّات وما بها من الأنهار وخلودهم فيها. وقد تقدّم نظير ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة [٦٨](عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

هذا تتميم واحتراس ، أي والذين كفروا من النصارى وكذّبوا بالقرآن هم بضدّ الذين أثابهم الله جنّات تجري من تحتها الأنهار.

١٨٨

وأصحاب الجحيم ملازموه. والجحيم جهنّم. وأصل الجحيم النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها. يقال : نار جحمة ، أي شديدة اللهب. قال بعض الطائيين من الجاهلية من شعراء الحماسة :

نحن حبسنا بني جديلة في

نار من الحرب جحمة الضرم

[٧٨ ، ٨٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية ، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان. وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهّن وترفيه الحالة وحسن اللباس ، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة. وصادف أن كان بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد طمحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيّد الزاهدين صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى الطبري والواحدي أنّ نفرا تنافسوا في الزهد. فقال أحدهم : أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال الآخر : أمّا أنا فأصوم النهار ، وقال آخر : أمّا أنا فلا آتي النساء ، فبلغ خبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث إليهم ، فقال : «ألم أنبّأ أنّكم قلتم كذا. قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلّا الخير ، قال : لكنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» فنزلت هذه الآية. ومعنى هذا في «صحيحي البخاري ومسلم» عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية.

وروي أنّ ناسا منهم ، وهم : أبو بكر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو ذرّ ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفضوا أشغال الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهّبوا. فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة ، ثم قال : «إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع». فنزلت فيهم هذه الآية .. وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار أمّ العلاء

١٨٩

الأنصارية التي قيل : إنّها زوجة زيد بن ثابت ، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة. وفي رواية : أنّ ناسا قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم ، وبعضهم النوم ، وبعضهم النساء ؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه. فنزلت هذه الآية.

وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المبالغة في الزهد وارادة في الصحيح ، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي. قال : قال لي رسول الله : «ألم أخبر أنّك تقوم الليل وتصوم النهار ، قلت : إنّي أفعل ذلك. قال : فإنّك إذا فعلت هجمت عينك ونفهت نفسك. وإنّ لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقّا ، فصم وأفطر وقم ونم». وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاما فقال لسلمان : كل فإنّي صائم ، فلمّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فنام. فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان : قم الآن ، وقال سلمان : إنّ لربّك عليك حقّا ولنفسك عليك حقّا ولأهلك عليك حقّا فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «صدق سلمان». وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».

والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس. أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحرمان عند عدم الوجدان ، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس. وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد ، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاصّة من أصحابه ، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس ، فالتطلّع إليها تعسير ، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع. وفي تناولها شكر لله تعالى ، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حلّ رسول الله وأبو بكر وعمر في حائطه وأطعمهم وسقاهم. وعن الحسن البصري : أنّه دعي إلى طعام ومعه فرقد السبخي (١) وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمّن

__________________

(١) فرقد بن يعقوب الأرميني من أصحاب الحسن توفي سنة ١٣١ نزيل السبخة ، موضع بالبصرة.

١٩٠

وفالوذ فاعتزل فرقد ناحية. فسأله الحسن : أصائم أنت ، قال : لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره ، فقال له : الحسن : أفتشرب الماء البارد ، قال : نعم ، قال : إنّ نعمة الله في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ.

وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديدا على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به. ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغوا في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلا إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة. ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئا من الحلال أو عمّم فقال : الحلال عليّ حرام ، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلّا الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم ، على حكم الاستثناء في اليمين. ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعا في بعض الأحوال ، فكان التزام التحريم لازما فيها خاصّة ، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت ، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ. ووافقه الشافعي. وقال أبو حنيفة : من حرّم على نفسه شيئا من الحلال حرم عليه تناوله ما لم يكفّر كفارة يمين ، فإن كفّر حلّ له إلّا الزوجة. وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها.

وفي قوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه ، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية.

ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام ، وقد أبطلها الله بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، وقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ) [الأنعام : ١٤٠] ، وقوله : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ـ إلى قوله ـ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٣ ، ١٤٤] ، وغير ذلك من الآيات. وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله : (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) [النصر : ٢]. وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم ، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة ، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما

١٩١

تأخّر عنها.

وجملة (وَلا تَعْتَدُوا) معترضة ، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله ، فالواو اعتراضية. وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلا.

والاعتداء افتعال العدو ، أي الظلم. وذكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذن المشروع ، كما قال (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩]. فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس ، وهو أشدّ الاعتداء ، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس ، كتناول الخنزير أو الميتة. ويعمّ الاعتداء في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان ، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأد ، وأكل مال اليتيم ، وعضل الأيامى ، وغير ذلك.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء.

وقوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) تأكيد للنهي عن تحريم الطّيبات وهو معطوف على قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي أنّ الله وسّع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتعرضوا عن النعمة.

واقتصر على الأكل لأنّ معظم ما حرّمه الناس على أنفسهم هو المآكل. وكأنّ الله يعرّض بهم بأنّ الاعتناء بالمهمّات خير من التهمّم بالأكل ، كما قال (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) [المائدة : ٩٣] الآية. وبذلك أبطل ما في الشرائع السابقة من شدّة العناية بأحكام المأكولات. وفي ذلك تنبيه لهذه الأمّة.

وقوله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) جاء بالموصول للإيماء إلى علّة الأمر بالتقوى ، أي لأنّ شأن الإيمان أن يقتضي التقوى ، فلمّا آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكمّلوه بالتقوى. روي أنّ الحسن البصري لقي الفرزدق في جنازة ، وكانا عند القبر ، فقال الحسن للفرزدق : ما أعددت لهذا. يعني القبر. قال الفرزدق : شهادة أن لا إله إلّا الله كذا كذا سنة. فقال الحسن : هذا العمود ، فأين الأطناب.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ

١٩٢

فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيمان معزومة ، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام ، كأن يقول : والله لا آكل كذا ، أو تجري بسبب غضب. وقيل : إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله. روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] ونهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا عزموا عليه من ذلك ، كما تقدّم آنفا ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها ، فأنزل الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) الآية. فشرع الله الكفّارة. وتقدّم القول في نظير صدر هذه الآية في سورة البقرة. وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين. وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] ، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين. فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم.

وقوله : (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ، أي ما قصدتم به الحلف. وهو يبيّن مجمل قوله في سورة البقرة [٢٢٥](بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

وقرأ الجمهور (عَقَّدْتُمُ) ـ بتشديد القاف ـ. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بتخفيف القاف ـ. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر عاقدتم بألف بعد العين من باب المفاعلة. فأمّا (عَقَّدْتُمُ) بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عقد ، وكذلك قراءة عاقدتم لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها ، فالمقصود منها المبالغة ، مثل عافاه الله. وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت. والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين ، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب : عقد المخفّف ، وعقّد المشدّد ، وعاقد.

وقوله : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) إشارة إلى المذكور ، زيادة في الإيضاح. والكفّارة مبالغة في كفر بمعنى ستر وأزال. وأصل الكفر ـ بفتح الكاف ـ الستر. وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة ، كتاء نسّابة وعلّامة. والعرب يجمعون

١٩٣

بينهما غالبا.

وقوله : (إِذا حَلَفْتُمْ) أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم ، وذلك هو إثم الحنث.

وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله : (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث ، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة (كَفَّارَةُ) إلى (أَيْمانِكُمْ) ، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض ، ولا بأس به. ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك. وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة. وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة. وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث. ولم يستدلّ بالآية. فاستدلّ بها الشافعي تأييدا للسنّة. والتكفير بعد الحنث أولى.

وعقّب الترخيص الذي رخّصه الله للنّاس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ). فأمر بتوخّي البرّ إذا لم يكن فيه حرج ولا ضرّ بالغير ، لأنّ في البرّ تعظيم اسم الله تعالى. فقد ذكرنا في سورة البقرة أنّهم جرى معتادهم بأنّ يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر ، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلّا يندموا عن عزمهم ، فكان في قوله (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) زجر لهم عن تلك العادة السخيفة. وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلّا يعرّض الحالف نفسه للحنث. والكفّارة ما هي إلّا خروج من الإثم. وقد قال تعالى لأيّوب ـ عليه‌السلام ـ : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤]. فنزّهه عن الحنث بفتوى خصّه بها.

وجملة (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) تذييل. ومعنى (كَذلِكَ) كهذا البيان يبيّن الله ، فتلك عادة شرعه أن يكون بيّنا ، وقد تقدّم القول في نظيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وتقدّم القول في معنى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) في سورة البقرة [٢١].

[٩٠ ، ٩١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ

١٩٤

الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١))

استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله لينظم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق ، وهو قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) [المائدة : ٨٧] المشير إلى أنّ الله ، كما نهى عن تحريم المباح ، نهى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد ، فإنّ الخمر كان طيّبا عند الناس ، وقد قال الله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧]. والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه. فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يساء تأويله من قوله (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [الأنعام : ٨٧].

وقد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النهي عن الخمر وقع مدرّجا ثلاث مرات : الأولى حين نزلت آية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، وذلك يتضمّن نهيا غير جازم ، فترك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى. فقال عمر : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. ثم نزلت آية سورة النساء [٤٣](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات التي يظنّ بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة ؛ فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. ثم نزلت الآية هذه. فقال عمر : انتهينا.

والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد ، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا. وروي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار. روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال : أتيت على نفر من الأنصار ، فقالوا : تعال نطعمك ونسقك خمرا ـ وذلك قبل أن تحرّم الخمر ـ فأتيتهم في حشّ ، وإذا رأس جزور مشوي وزقّ من خمر ، فأكلت وشربت معهم ، فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم ، فقلت : المهاجرون خير من الأنصار ، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته ، فأنزل الله تعالى فيّ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ). وروى أبو داود عن ابن عبّاس قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ

١٩٥

وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة : ٢١٩] نسختهما في المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ).

فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّما للأمّة في إيضاح أسبابه رفقا بهم واستئناسا لأنفسهم ، فابتدأهم بآية سورة البقرة ، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك ، بل أنبأهم بعذرهم في قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، ثم بآية سورة النساء ، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ). ثم قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه.

وصيغة : هل أنت فاعل كذا. تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء ، نبّه عليه في «الكشاف» عند قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) في سورة الشعراء [٣٩] ، قال : ومنه قول تأبّط شرّا :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق

(دينار اسم رجل ، وكذا عبد ربّ. وقوله : أخا عون أو عوف نداء ، أي يا أخا عون). فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السورة ، فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان ، فكان ممّا أوصاهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا ينتبذوا في الحنتم والنقير والمزفّت والدّبّاء ، لأنّها يسرع الاختمار إلى نبيذها.

والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب. والمراد بالأزلام الاستقسام بها ، لأنّ عطفها على الميسر يقتضي أنّها أزلام غير الميسر. قال في «الكشاف» : ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر. وتقدّم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة ، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، والكلام على الأزلام عند قوله : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) في أول هذه السورة [٣]. وأكّد في هذه الآية تحريم ما ذبح على النصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أوّل السورة والمقرّر في الإسلام من أوّل البعثة.

والمراد بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها ، كلّ بما يتعاطى به من شرب ولعب وذبح

١٩٦

واستقسام. والقصر المستفاد من (إِنَّما) قصر موصوف على صفة ، أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره ، وهو ادّعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة. ألا ترى أنّ الله قال في سورة البقرة [٢١٩] في الخمر والميسر (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، فأثبت لهما الإثم ، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة ، لأنّ الإثم يقتضي التباعد عن التلبّس بهما مثل الرجس. وأثبت لهما المنفعة ، وهي صفة تساوي نقيض الرجس ، في نظر الشريعة ، لأنّ المنفعة تستلزم حرص الناس على تعاطيهما ، فصحّ أنّ للخمر والميسر صفتين. وقد قصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس ، فما هو إلّا قصر ادّعائي يشير إلى ما في سورة البقرة [٢١٩] من قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قبالة ما فيهما من الإثم حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف ب (فِيهِما إِثْمٌ) [البقرة : ٢١٩] ، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم ، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣] ، أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي ، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف. وذلك هو ما عبّر عنه بعبارة الرجس.

والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة ، ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ، وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣]. والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبار الشريعة. وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر ، فأفاد المبالغة في الاتّصاف به حتّى كأنّ هذا الموصوف عين الرجس. ولذلك أيضا أفرد (رجس) مع كونه خبرا عن متعدّد لأنّه كالخبر بالمصدر.

ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيها بما تتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها ، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها ، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان ، فهو شيطان ، وذلك ممّا تأباه النفوس.

والفاء في (فَاجْتَنِبُوهُ) للتفريع وقد ظهر حسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها. والضمير المنصوب في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) عائد إلى الرجس الجامع للأربعة. و (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم

١٩٧

يكونوا قد استمرّوا على غيرها من المنهيات. وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١]. وقد بيّنت ما اخترته في محل (لعلّ) وهو المطّرد في جميع مواقعها ، وأمّا المحامل التي تأوّلوا بها (لعلّ) في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتّى في هذه الآية فتأمّله.

واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها ؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها ؛ والميسر اجتناب التقامر به ، والأنصاب اجتناب الذبح عليها ؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها. ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسّها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه ، أو لمعرفة صورها ، أو حفظها كآثار من التاريخ ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لمن عصر العنب لاتّخاذه خلا ، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه.

فأمّا اجتناب مماسّة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطّخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو ممّا اختلف فيه أهل العلم ؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي ، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة ، حملا للفظ الرجس على جميع ما يحتمله. وهو قول مالك. ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر. وليس في الأثر ما يحتجّ به لنجاسة الخمر. ولعلّ كون الخمر مائعة هو الذي قرّب شبهها بالأعيان النجسة ، فلمّا وصفت بأنّها رجس حمل في خصوصها على معنييه. وأمّا ما ورد في حديث أنس أنّ كثيرا من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها لذلك من المبالغة في التبرّي منها وإزالة أثرها قبل التمكّن من النظر فيما سوى ذلك ، ألا ترى أنّ بعضهم كسر جرارها ، ولم يقل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس. على أنّهم فعلوا ذلك ولم يؤمروا به من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذهب بعض أهل العلم إلى عدم نجاسة عين الخمر. وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، والليث بن سعد ، والمزني من أصحاب الشافعي ، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين ؛ منهم سعيد بن الحدّاد القيرواني. وقد استدلّ سعيد بن الحدّاد (١) على طهارتها بأنّها سفكت في طرق المدينة ، ولو كانت نجسا لنهوا عنه ، إذ قد ورد النهي

__________________

(١) أخذ عن سحنون ولد سنة ٣١٩ وتوفي سنة ٣٣٠.

١٩٨

عن إراقة النجاسة في الطرق. وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنّه أقام قولا بطهارة عين الخمر من المذهب.

وأقول : الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليست نجس العين ، وأنّ مساق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها ، إنّما القصد أنّها رجس معنوي ، ولذلك وصفه بأنّه من عمل الشيطان ، وبيّنه بعد بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ) ، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك ، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس.

وجملة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) بيان لكونها من عمل الشيطان. ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) في سورة النساء [٤٤].

وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) في هذه السورة [٦٤].

وقوله : (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي في تعاطيهما ، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات ، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم ، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر ، والغيظ والحسرة للخاسر ، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب. على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة ، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمر أمّة بين أفرادها البغضاء. وفي الحديث : «لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا».

و (في) من قوله (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) للسببية أو الظرفية المجازية ، أي في مجالس تعاطيهما.

وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلما في الخمر من غيبوبة العقل ، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح.

وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم ، فلا جرم أن كان اجتماعها مقتضيا تغليظ التحريم. ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قمار كالشطرنج دون قمار ، فذلك دون الميسر ، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ،

١٩٩

ولأنّه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالبا ، فتدخل أحكامه تحت أدلّة أخرى.

والذّكر المقصود في قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) يحتمل أنّه من الذكر اللسان فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي فيه نفعهم وإرشادهم ، لأنّه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماع خطبه ، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقّوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئا كثيرا فيه ما يجب على المكلّف معرفته. فالسيئ الذي يصدّ عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحقّ أن يحرّم تعاطيه ، ويحتمل أنّ المراد به الذكر القلبي وهو تذكّر ما أمر الله به ونهى عنه فإنّ ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب : أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه. فالشيء الذي يصدّ عن تذكّر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي. وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنّه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله: (وَعَنِ الصَّلاةِ).

وقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الفاء تفريع عن قوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) الآية ، فإنّ ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما ، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعا بهم إلى مقام الفطن الخبير ، ولو كان بعد هذا البيان كلّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي ، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز.

ولذلك اختير الاستفهام بهل التي أصل معناها (قد). وكثر وقوعها في حيّز همزة الاستفهام ، فاستغنوا بهل عن ذكر الهمزة ، فهي لاستفهام مضمّن تحقيق الإسناد المستفهم عنه وهو (أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، دون الهمزة إذ لم يقل : أتنتهون ، بخلاف مقام قوله (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان : ٢٠]. وجعلت الجملة بعد هل اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه ، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته ، وأريد معها معناه الكنائي ، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه. ولذلك روي أنّ عمر لمّا سمع الآية قال : «انتهينا! انتهينا!». ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّدا عن الكناية. فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله «إلّا أنّ الله تعالى قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقلنا : لا» إن صحّ عنه ذلك. ولي في صحته شكّ ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل. وقد شذّ نفر من السلف نقلت

٢٠٠