تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

فالتّصدير بذكر الّذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة ، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم (كما بشّر بذلك النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله : «إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد من دون الله في أرضكم هذه») فكان المسلمون ، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح ، أوّلين في هذا الفضل.

وأمّا معنى الآية فافتتاحها بحرف (إِنْ) هنا للاهتمام بالخبر لعروّ المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد.

وقد تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، إذ من جملة المذكورين المؤمنون ، وهل الإيمان إلّا بالله واليوم الآخر؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب : فقيل : أريد بالّذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، وهم المنافقون ، وقيل : أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد. وقيل : غير ذلك.

والوجه عندي أنّ المراد بالّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون ، ولا يكون إلّا بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى ، فهو راجع إلى علم الله ، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نفاقا.

فالّذي أراه أن يجعل خبر (إنّ) محذوفا. وحذف خبر (إنّ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل ، كما ذكر سيبويه في «كتابه». وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)(١) إلخ. ويكون قوله : (وَالَّذِينَ هادُوا) عطف جملة على جملة ، فيجعل (الَّذِينَ هادُوا) مبتدأ ، ولذلك حقّ رفع ما عطف عليه ، وهو (وَالصَّابِئُونَ). وهذا أولى من جعل (وَالصَّابِئُونَ) مبدأ الجملة وتقدير خبر له ، أي والصابون كذلك ، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك ، ويكون قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) مبتدأ ثانيا ، وتكون (من) موصولة ، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفا ، أي من آمن منهم ، وجملة (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)(٢) خبرا عن (من) الموصولة ، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط. وذلك كثير في الكلام ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] الآية ، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبرا عن (من) الموصولة وليس خبر ـ إنّ ـ

__________________

(١) في المطبوعة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ* الموافقة ل [البقرة : ٦٢] والمثبت هو المقصود والله أعلم.

١٦١

على عكس قول ضابي بن الحارث :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

فإنّ وجود لام الابتداء في قوله : «لغريب» عيّن أنّه خبر (إنّ) وتقدير خبر عن قيّار ، فلا ينظّر به قوله تعالى : (وَالصَّابِئُونَ).

ومعنى (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) من آمن ودام ، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكار البعث ؛ فإنّ كثيرا من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة. ومنهم من جعل عزيرا ابنا لله ، وإنّ النّصارى ألّهوا عيسى وعبدوه ، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب. وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة [٦٢].

ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] ، وقول النّصارى : إنّ عيسى قد كفّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل ، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر ، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قدّر البعث لتحقيقها.

وجمهور المفسّرين جعلوا قوله (وَالصَّابِئُونَ) مبتدأ وجعلوه مقدّما من وتأخير وقدّروا له خبرا محذوفا لدلالة خبر (إنّ) عليه ، وأنّ أصل النظم : أنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى لهم أجرهم إلخ ، والصابون كذلك ، جعلوه كقول ضابي بن الحارث :

فإنّي وقيّار بها لغريب

وبعض المفسّرين قدّروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة. والّذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النّظم وأليق بمعنى هذه الآية.

وبعد فممّا يجب أن يوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل ، وكذلك نطق به النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرءوه ، وكتب في المصاحف ، وهم عرب خلّص ، فكان لنا أصلا نتعرّف منه أسلوبا من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالا غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان ، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف (إنّ) وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفا هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعا ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا

١٦٢

عطف الجمل لا عطف المفردات ، فيقدّر السامع خبرا يقدّره بحسب سياق الكلام. ومن ذلك قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] ، أي ورسوله كذلك ، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر ، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام ، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب ، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا ، كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلّا بعد أن تستوفي (إنّ) خبرها ، إنّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّرا ، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاصر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه ، ولكن هذا أيضا استعمال عزيز ، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين ، وهما للدّلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم. والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم ، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع ، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار ، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم (إنّ) فلم يكن عطفه عطف جملة. ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله : (وَعَمِلَ صالِحاً) ، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن ، به ، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم ، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن ، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ـ إلى قوله ـ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٢ ـ ١٧].

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠))

استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله. وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأنّ ما قابلوا به دعوته ليس بدعا منهم بل ذلك دأبهم جيلا بعد جيل.

وقد تقدّم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرّة. أولاها في سورة البقرة [٨٣].

١٦٣

والرسل الّذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرميا وحزقيال وداود وعيسى. فالمراد بالرّسل هنا الأنبياء : من جاء منهم بشرع وكتاب ، مثل موسى وداود وعيسى ، ومن جاء معزّزا للشّرع مبيّنا له ، مثل يوشع وأشعيا وأرميا. وإطلاق الرّسول على النّبيء الّذي لم يجىء بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدّم ، لأنّه لمّا ذكر أنّهم قتلوا فريقا من الرسل تعيّن تأويل الرسل بالأنبياء فإنّهم ما قتلوا إلّا أنبياء لا رسلا.

وقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا) إلخ انتصب (كُلَّما) على الظرفيّة ، لأنّه دالّ على استغراق أزمنة مجيء الرسل إليهم فيدلّ على استغراق الرسل تبعا لاستغراق أزمنة مجيئهم ، إذ استغراق أزمنة وجود شيء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء ، فما ظرفية مصدريّة دالّة على الزّمان.

وانتصب (كلّ) على النّيابة عن الزّمان لإضافته إلى اسم الزّمان المبهم ، وهو (ما) الظرفية المصدرية. والتقدير : في كلّ أوقات مجيء الرّسل إليهم كذّبوا ويقتلون. وانتصب (كُلَّما) بالفعلين وهو (كَذَّبُوا) و (يَقْتُلُونَ) على التّنازع.

وتقديم (كُلَّما) على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلّف ، لأنّهم يريدون بتقديمه الاهتمام به ، ليظهر أنّه هو محلّ الغرض المسوقة له جملته ، فإنّ استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرّسل في جميع الأوقات دليل على أنّ التّكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلّفان ، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر ، وذلك أظهر في فظاعة حالهم ، وهي المقصود هنا.

وبهذا التّقديم يشرب ظرف (كُلَّما) معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له ، كما تصير أسماء الشّرط متقدّمة على أفعالها وأجوبتها في نحو (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨]. إلّا أنّ (كُلَّما) لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعدّ في أسماء الشرط لأنّ (كلّ) بعيد عن معنى الشرطية. والحقّ أنّ إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النّحاة تسامح. وقد أطلقه صاحب «الكشاف» في هذه الآية ، لأنّه لم يجد لها سببا لفظيا يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) في سورة البقرة : [٨٧] ، وفي قوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [١٠٠] في تلك السورة ، فإنّ التّقديم فيهما تبع لوقوعهما متّصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك ، وإن كان قد سكت عليهما في «الكشاف» لظهور أمرهما في تينك الآيتين.

١٦٤

فالأحسن أن تكون جملة (فَرِيقاً كَذَّبُوا) حالا من ضمير (إِلَيْهِمْ) لاقترانها بضمير موافق لصاحب الحال ، ولأنّ المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم ، وذلك لا يحصل إلّا باعتبار كون المرسل إليهم هذه حالهم مع رسلهم. وليست جملة (فَرِيقاً كَذَّبُوا) وما تقدّمها من متعلّقها استئنافا ، إذ ليس المقصود الإخبار بأنّ الله أرسل إليهم رسلا بل بمدلول هذا الحال.

وبهذا يظهر لك أنّ التّقسيم في قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ليس لرسول من قوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) بل ل (رُسُلاً) ، لأنّنا اعتبرنا قوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) مقدّما من تأخير. والتقدير : وأرسلنا إليهم رسلا كذّبوا منهم فريقا وقتلوا فريقا كلّما جاءهم رسول من الرسل. وبهذا نستغني عن تكلّفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني.

وقوله : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي بما لا تحبّه. يقال : هوي يهوى بمعنى أحبّ ومالت نفسه إلى ملابسة شيء. إنّ بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلا والخسران آجلا ، ولو لا ذلك لترك النّاس وما يهوون ، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النّفوس من هواها. ولمّا وصفت بنو إسرائيل بأنّهم يكذّبون الرسل ويقتلونهم إذا جاءوهم بما يخالف هواهم علمنا أنّه لم يخل رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما : وهما التّكذيب والقتل. وذلك مستفاد من (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) ، فلم يبق لقوله : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) فائدة إلّا الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنّهم يكذّبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عذرا من تكليف بمشقّة فادحة ، أو من حدوث حادث ثائرة ، أو من أجل التّمسّك بدين يأبون مفارقته ، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام ، بل لمجرّد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطّل بتمرّدهم فائدة التّشريع وفائدة طاعة الأمّة لهداتها.

وهذا تعليم عظيم من القرآن بأنّ من حقّ الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها ، وأنّها إذا رامت حمل علمائها وهداتها على مسايرة أهوائها ، بحيث يعصون إذا دعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حقّ عليهم الخسران كما حقّ على بني إسرائيل ، لأنّ في ذلك قلبا للحقائق ومحاولة انقلاب التّابع متبوعا والقائد مقودا ، وأنّ قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخلق كانوا غاشّين لهم ، وزالت

١٦٥

فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المرعيّ بالهمل والحابل بالنابل ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استرعاه الله رعيّة فغشّها لم يشمّ رائحة الجنّة». فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنّهم قابلوا الرسول من أوّل وهلة بقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، وقال قوم شعيب (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) [هود : ٨٧] ، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثمّ انتقضوا عليهم بالتّكذيب والتّقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم ممّا لا يهوونه.

وتقديم المفعول في قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) لمجرّد الاهتمام بالتفصيل لأنّ الكلام مسوق مساق التّفصيل لأحوال رسل بني إسرائيل باعتبار ما لاقوه من قومهم ، ولأنّ في تقديم مفعول (يَقْتُلُونَ) رعاية على فاصلة الآي ، فقدّم مفعول (كَذَّبُوا) ليكون المفعولان على وتيرة واحدة. وجيء في قوله : (يَقْتُلُونَ) بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعة إبلاغا في التعجيب من شناعة فاعليها.

والضّمائر كلّها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّهم أمّة يخلف بعض أجيالها بعضا ، وأنّها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائد متّبعة بحيث يكون الخلف منهم فيها على ما كان عليه السلف ؛ فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعلين ، فإنّ الّذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الّذين اقتصروا على التكذيب.

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))

عطف على قوله : (كَذَّبُوا) [المائدة : ٧٠] و (يَقْتُلُونَ) [المائدة : ٧٠] لبيان فساد اعتقادهم النّاشئ عنه فاسد أعمالهم ، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور ، لا عن فلتة أو ثائرة نفس حتّى ينيبوا ويتوبوا. والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله (كَذَّبُوا) و (يَقْتُلُونَ). وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة.

والفتنة مرج أحوال النّاس واضطراب نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متوالية ، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) في سورة البقرة [١٠٢]. وهي قد تكون عقابا من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصا لصادق إيمانهم لتعلو بذلك درجاتهم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] الآية. وسمّى القرآن هاروت وماروت فتنة ، وسمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجّال فتنة ، وسمّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ)

١٦٦

[الأعراف : ٢٧]. فكان معنى الابتلاء ملازما لها.

والمعنى : وظنّوا أنّ الله لا يصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم ، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق ، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة ، وتوهّموا أنّهم ناجون منه ، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلّا أياما معدودة.

فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهريا وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح ، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين.

ودلّ قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا ، لأنّهم كانوا أحرص على سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم. وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصورا على تدبير عاجلتهم ، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة ، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها ، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساءوا العمل فأصابهم العذابان العاجل بالفتنة والآجل.

واستعير (عَمُوا وَصَمُّوا) للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع. فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضل نافع ، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس ، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة ، فتجنّبه محتاج إلى الوازع ، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل ، ولذلك كان قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) مرادا منه معناه الكنائي أيضا ، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا ، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ). وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

وقوله : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي بعد ذلك الضّلال والإعراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض. وقد استفيد من قوله : (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقوله: (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم ، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة ، (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم ، لأنّهم مصرّون على حسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة

١٦٧

أخرى.

وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يذكر أنّ الله تاب عليهم بعده ، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحقّ إعراضا شديدا مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.

ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى ـ عليه‌السلام ، والأظهر أنّهما حادث الأسر البابلي إذ سلّط الله عليهم (بختنصر) ملك (أشور) فدخل بيت المقدّس مرات سنة ٦٠٦ وسنة ٥٩٨ وسنة ٥٨٨ قبل المسيح. وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحمل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى ، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب (كورش) ملك (فارس) على الأشوريين واستولى على بابل سنة ٥٣٠ قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم.

وحادث الخراب الواقع في زمن (تيطس) القائد الرّوماني (وهو ابن الإنبراطور الرّوماني (وسبسيانوس) فإنّه حاصر (أورشليم) حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضهم بعضا من الجوع ، وقتل منهم ألف ألف رجل ، وسبى سبعة وتسعين ألفا ، على ما في ذلك من مبالغة ، وذلك سنة ٦٩ للمسيح. ثمّ قفّاه الإنبراطور (أدريان) الرّوماني من سنة ١١٧ إلى سنة ١٣٨ للمسيح فهدم المدينة وجعلها أرضا وخلط ترابها بالملح. فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقهم في الأرض.

وقد أشار القرآن إلى هذين الحديثين بقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)(١)(وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً)(٢)(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) [الإسراء : ٤ ـ ٨] وهذا هو الّذي اختاره القفّال. وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر.

__________________

(١) أي على البابليين بانتصار الفرس عليهم وكنتم موالين للفرس.

(٢) الضّمائر راجعة إلى عباد من قوله عِباداً لَنا ، وأصحاب الضمير هم غير العباد الأوّلين.

١٦٨

وقد دلّت م على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأنّ هنالك عميين وصممين في زمنين سابق ولا حق ، ومع ذلك كانت الضّمائر المتّصلة بالفعلين المعطوفين عين الضمائر المتّصلة بالفعلين المعطوف عليهما ، والّذي سوّغ ذلك أنّ المراد بيان تكرّر الأفعال في العصور وادّعاء أنّ الفاعل واحد ؛ لأنّ ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجّل بها عليهم توارث السجايا فيهم من حسن أو قبيح ، وقد علم أنّ الّذين عموا وصمّوا ثانية غير الّذين عموا وصمّوا أوّل مرّة ، ولكنّهم لمّا كانوا خلفا عن سلف ، وكانوا قد أورثوا أخلاقهم أبناءهم اعتبروا كالشيء الواحد ، كقولهم : بنو فلان لهم ترات مع بني فلان.

وقوله : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضّمير في قوله : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصّلاح منهم في كلّ عصر بأنّهم برآء ممّا كان عليه دهماؤهم صدعا بالحق وثناء على الفضل.

وإذ قد كان مرجع الضّميرين الأخيرين في قوله : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) هو عين مرجع الضميرين الأوّلين في قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيد تخصيصا من عمومهما ، مفيدا تخصيصا من عموم الضميرين الّذين قبلهما بحكم المساواة بين الضّمائر ، إذ قد اعتبرت ضمائر أمّة واحدة ، فإنّ مرجع تلك الضّمائر هو قوله (بَنِي إِسْرائِيلَ) [المائدة : ٧٠]. ومن الضّروري أنّه لا تخلوا أمّة ضالّة في كلّ جيل من وجود صالحين فيها ، فقد كان في المتأخّرين منهم أمثال عبد الله بن سلام ، وكان في المتقدّمين يوشع وكالب اللّذين قال الله في شأنها (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) [المائدة : ٢٣].

وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) تذييل. والبصير مبالغة في المبصر ، كالحكيم بمعنى المحكم ، وهو هنا بمعنى العليم بكلّ ما يقع في أفعالهم الّتي من شأنها أن يبصرها النّاس سواء ما أبصره النّاس منها أم ما لم يبصروه ، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه ، وهو الإنذار والتّذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء ، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر (أَلَّا تَكُونَ) ـ بفتح نون تكون على اعتبار (أن) حرف مصدر ناصب للفعل. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف ـ بضم النّون ـ على اعتبار (أن) مخفّفة من (أنّ) أخت (إنّ) المكسورة الهمزة ، وأنّ

١٦٩

إذا خفّفت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة. وزعم بعض النّحاة أنّها مع ذلك عاملة ، وأنّ اسمها ملتزم الحذف ، وأنّ خبرها ملتزم كونه جملة. وهذا توهّم لا دليل عليه. وزاد بعضهم فزعم أنّ اسمها المحذوف ضمير الشأن. وهذا أيضا توهّم على توهّم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون محذوفا لأنّه مجتلب للتّأكيد ، على أنّ عدم ظهوره في أي استعمال يفنّد دعوى تقديره.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢))

استئناف ابتدائي لإبطال ما عليه النّصارى ، يناسب الانتهاء من إبطال ما عليه اليهود.

وقد مضى القول آنفا في نظير قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ١٧] ومن نسب إليه هذا القول من طوائف النّصارى.

والواو في قوله (وَقالَ الْمَسِيحُ) واو الحال. والجملة حال من (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) ، أي قالوا ذلك في حال نداء المسيح لبني إسرائيل بأنّ الله ربّه وربّهم ، أي لا شبهة لهم ، فهم قالوا : إنّ الله اتّحد بالمسيح ؛ في حال أنّ المسيح الّذي يزعمون أنّهم آمنوا به والّذي نسبوه إليه قد كذّبهم ، لأنّ قوله : (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، يناقض قولهم : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) ، لأنّه لا يكون إلّا مربوبا ، وذلك مفاد قوله : (رَبِّي) ، ولأنّه لا يكون مع الله إله آخر ، وذلك مفاد قوله (وَرَبَّكُمْ) ، وذلك عقّب بجملة (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). فيجوز أن تكون هذه الجملة حكاية لكلام صدر من عيسى ـ عليه‌السلام ـ فتكون تعليلا للأمر بعبادة الله. ووقوع (إنّ) في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التّفريع وتفيد التّعليل. وفي حكايته تعريض بأنّ قولهم ذلك قد أوقعهم في الشرك وإن كانوا يظنّون أنّهم اجتنبوه حذرا من الوقوع فيما حذّر منه المسيح ، لأنّ الّذين قالوا : إنّ الله هو المسيح. أرادوا الاتّحاد بالله وأنّه هو هو. وهذا قول اليعاقبة كما تقدّم آنفا ، وفي سورة النّساء.

وذلك شرك لا محالة ، بل هو أشدّ ، لأنّهم أشركوا مع الله غيره ومزجوه به فوقعوا في الشّرك وإن راموا تجنّب تعدّد الآلهة ، فقد أبطل الله قولهم بشهادة كلام من نسبوا إليه الإلهية إبطالا تامّا.

وإن كانت الجملة من كلام الله تعالى فهو تذييل لإثبات كفرهم وزيادة تنبيه على

١٧٠

بطلان معتقدهم وتعريض بهم بأنّهم قد أشركوا بالله من حيث أرادوا التّوحيد. والضّمير المقترن بإنّ ضمير الشأن يدلّ على العناية بالخبر الوارد بعده. ومعنى (حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) منعها منه ، أي من الكون فيها.

والمأوى : المكان الّذي يأوى إليه الشيء ، أي يرجع إليه.

وجملة (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) يحتمل أيضا أن تكون من كلام المسيح ـ عليه‌السلام ـ على احتمال أن يكون قوله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) من كلامه ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تذييلا لكلام المسيح على ذلك الاحتمال ، أو تذييلا لكلام الله تعالى على الاحتمال الآخر. والمراد بالظّالمين المشركون (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، أي ما للمشركين من أنصار ينصرونهم لينقذوهم من عذاب النّار.

فالتّقدير : ومأواه النّار لا محالة ولا طمع له في التّخلّص منه بواسطة نصير ، فبالأحرى أن لا يتخلّص بدون نصير.

[٧٣ ، ٧٤] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤))

استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النّصارى ، وهي مقالة (الملكانيّة المسمّين بالجعاثليقيّة) ، وعليها معظم طوائف النّصارى في جميع الأرض. وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) من سورة النّساء [١٧١] ، وأنّ قوله فيها (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) يجمع الردّ على طوائف النّصارى كلّهم. والمراد ب (قالُوا) اعتقدوا فقالوا ، لأنّ شأن القول أن يكون صادرا على اعتقاد ، وقد تقدّم بيان ذلك.

ومعنى قولهم : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أنّ ما يعرفه النّاس أنّه الله هو مجموع ثلاثة أشياء ، وأنّ المستحقّ للاسم هو أحد تلك الثّلاثة الأشياء. وهذه الثّلاثة قد عبّروا عنها بالأقانيم وهي : أقنوم الوجود ، وهو الذات المسمّى الله ، وسمّوه أيضا الأب ؛ وأقنوم العلم ، وسمّوه أيضا الابن ، وهو الّذي اتّحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلها ؛ وأقنوم الحياة وسمّوه الرّوح القدس. وصار جمهورهم ، ومنهم الرّكوسية طائفة من نصارى العرب ، يقولون : إنّه لمّا اتّحد بمريم حين حملها بالكلمة تألّهت مريم أيضا ، ولذلك اختلفوا هل

١٧١

هي أمّ الكلمة أم هي أمّ الله.

فقوله : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) معناه واحد من تلك الثّلاثة ، لأنّ العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة ، صيغة فاعل مضافا إلى اسم العدد المشتقّ هو منه لإرادة أنّه جزء من ذلك العدد نحو (ثانِيَ اثْنَيْنِ) [التوبة : ٤٠] ، فإن أرادوا أنّ المشتقّ له وزن فاعل هو الّذي أكمل العدد أضافوا وزن فاعل إلى اسم العدد الّذي هو أرقى منه فقالوا : رابع ثلاثة ، أي جاعل الثلاثة أربعة.

وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) عطف على جملة (لَقَدْ كَفَرَ) لبيان الحقّ في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل.

ويجوز جعل الجملة حالا من ضمير (قالُوا) ، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفا للواقع ، فيكون كالتّعليل لكفرهم في قولهم ذلك ، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحقّ أن يكون غير واحد فإنّ (من) لتأكيد عموم النّفي فصار النّفي ب (ما) المقترنة بها مساويا للنّفي ب (لا) النّافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصّا.

وعدل هنا عن النّفي بلا التبرئة فلم يقل (ولا إله إلّا إله واحد) إلى قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) اهتماما بإبراز حرف (من) الدالّ بعد النّفي على تحقيق النّفي ، فإنّ النّفي بحرف (لا) ما أفاد نفي الجنس إلّا بتقدير حرف (من) ، فلمّا قصدت زيادة الاهتمام بالنّفي هنا جيء بحرف (ما) النّافية وأظهر بعده حرف (من). وهذا ممّا لم يتعرّض إليه أحد من المفسّرين.

وقوله : (إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) يفيد حصر وصف الإلهيّة في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم. وأمّا تعيين هذا الواحد من هو ، فليس مقصودا تعيينه هنا لأنّ القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث ، وثبتت الوحدانيّة تعيّن أنّ هذا الواحد هو الله تعالى لأنّه متّفق على إلهيّته ، فلمّا بطلت إلهيّة غيره معه تمحّضت الإلهيّة له فيكون قوله هنا (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) مساويا لقوله في سورة آل عمران [٦٢](وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ، إلّا أنّ ذكر اسم الله تقدّم هنا وتقدّم قول المبطلين (إنّه ثالث ثلاثة) فاستغني بإثبات الوحدانيّة عن تعيينه. ولهذا صرّح بتعيين الإله الواحد في سورة آل عمران [٦٢] في قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) إذ المقام اقتضى تعيين انحصار الإلهيّة في الله تعالى دون عيسى ولم يجر فيه ذكر لتعدّد الآلهة.

١٧٢

وقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عطف على جملة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ، أي لقد كفروا كفرا إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم. ومعنى (عَمَّا يَقُولُونَ) أي عن قولهم المذكور آنفا وهو (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). وقد جاء بالمضارع لأنّه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنّما يكون عن شيء مستمرّ كما ناسب قوله (قالُوا) قوله (لَقَدْ كَفَرَ) ، لأنّ الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزّمن الماضي. ومعنى (عَمَّا يَقُولُونَ) عمّا يعتقدون ، لأنّهم لو انتهوا عن القول باللّسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك ، فلمّا كان شأن القول لا يصدر إلّا عن اعتقاد كان صالحا لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصّريح. وأكّد الوعيد بلام القسم في قوله (لَيَمَسَّنَ) ردّا لاعتقادهم أنّهم لا تمسّهم النّار ، لأنّ صلب عيسى كان كفّارة عن خطايا بني آدم.

والمسّ مجاز في الإصابة ، لأنّ حقيقة المسّ وضع اليد على الجسم ، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتّصال ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأنعام : ٤٩] ، فهو دالّ على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدّة أو ضعف ، وإنّما يرجع في الشدّة أو الضعف إلى القرينة ، مثل (أَلِيمٌ) هنا ، ومثل قوله (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأنعام : ٤٩] في الآية الأخرى ، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة :

مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا

إلى حسب في قومه غير واضع

أي تتبّعنا أصول آبائنا.

والمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) عين المراد ب (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) فعدل عن التّعبير عنهم بضميرهم إلى الصّلة المقرّرة لمعنى كفرهم المذكور آنفا بقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) إلخ ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئا إلى سبب الحكم المخبر به عنه. وعلى هذا يكون قوله (مِنْهُمْ) بيانا للّذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهّم السامع أنّ هذا وعيد لكفّار آخرين.

ولمّا توعّدهم الله أعقب الوعيد بالترغيب في الهداية فقال : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ). فالتّوبة هي الإقلاع عمّا هو عليه في المستقبل والرجوع إلى الاعتقاد الحقّ. والاستغفار طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي والنّدم عمّا فرط منهم من سوء الاعتقاد.

١٧٣

وقوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل بثناء على الله بأنّه يغفر لمن تاب واستغفر ما سلف منه ، لأنّ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) من أمثلة المبالغة يدلّان على شدّة الغفران وشدّة الرّحمة ، فهو وعد بأنّهم إن تابوا واستغفروه رفع عنهم العذاب برحمته وصفح عمّا سلف منهم بغفرانه.

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥))

استئناف لتبيان وصف المسيح في نفس الأمر ووصف أمّه زيادة في إبطال معتقد النّصارى إلهيّة المسيح وإلهيّة أمّه ، إذ قد علم أنّ قولهم (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] أرادوا به إلهيّة المسيح. وذلك معتقد جميع النّصارى. وفرّعت طائفة من النّصارى يلقّبون (بالرّكوسيّة) (وهم أهل ملّة نصرانيّة صابئة) على إلهية عيسى إلهيّة أمّه ولو لا أنّ ذلك معتقدهم لما وقع التّعرض لوصف مريم ولا للاستدلال على بشريّتها بأنّهما كانا يأكلان الطّعام.

فقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي المسيح مقصور على صفة الرّسالة لا يتجاوزها إلى غيرها ، وهي الإلهيّة. فالقصر قصر قلب لردّ اعتقاد النّصارى أنّه الله.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول أريد بها أنّه مساو للرّسل الآخرين الّذين مضوا قبله ، وأنّه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختصّ فيه بخصوصيّة لم تكن لغيره في وصف الرّسالة ، فلا شبهة للّذين ادّعوا له الإلهيّة ، إذ لم يجىء بشيء زائد على ما جاءت به الرسل ، وما جرت على يديه إلّا معجزات كما جرت على أيدي رسل قبله ، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنّها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض ، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيّته. وفي هذا نداء على غباوة القوم الّذين استدلّوا على إلهيّته بأنّه أحيا الموتى من الحيوان فإنّ موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حيّة.

وجملة (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) معطوفة على جملة (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ). والقصد من وصفها بأنّها صدّيقة نفي أن يكون لها وصف أعلى من ذلك ، وهو وصف الإلهيّة ، لأنّ المقام لإبطال قول الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ، إذ جعلوا مريم الأقنوم الثالث. وهذا هو الّذي أشار إليه قول صاحب «الكشاف» إذ قال «أي وما أمّه إلّا صديقة»

١٧٤

مع أنّ الجملة لا تشتمل على صيغة حصر. وقد وجّهه العلامة التفتازانيّ في «شرح الكشّاف» بقوله : «الحصر الّذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف» (أي من مجموع الأمرين). وفي قول التفتازانيّ : والعطف ، نظر.

والصدّيقة صيغة مبالغة ، مثل شرّيب ومسّيك ، مبالغة في الشّرب والمسك ، ولقب امرئ القيس بالملك الضّلّيل ، لأنّه لم يهتد إلى ما يسترجع به ملك أبيه. والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقّة من المجرّد الثّلاثي. فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق ، أي صدق وعد ربّها ، وهو ميثاق الإيمان وصدق وعد النّاس. كما وصف إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ بذلك في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤]. وقد لقّب يوسف بالصدّيق ، لأنّه صدق وعد ربّه في الكفّ عن المحرّمات مع توفر أسبابها. وقيل : أريد هنا وصفها بالمبالغة في التّصديق لقوله تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) [التحريم : ١٢] ، كما لقّب أبو بكر بالصدّيق لأنّه أوّل من صدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣] ، فيكون مشتقّا من المزيد.

وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الّذي هو نفي إلهيّة المسيح وأمّه ، ولذلك فصلت عن الّتي قبلها لأن الدّليل بمنزلة البيان ، وقد استدلّ على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر ، وهي أكل الطّعام. وإنّما اختيرت هذه الصّفة من بين صفات كثيرة لأنّها ظاهرة واضحة للنّاس ، ولأنّها أثبتتها الأناجيل ؛ فقد أثبتت أنّ مريم أكلت ثمر النخلة حين مخاضها ، وأنّ عيسى أكل مع الحواريين يوم الفصح خبزا وشرب خمرا ، وفي إنجيل لوقا إصحاح ٢٢ «وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألّم لأنّي لا آكل منه بعد ، وفي الصبح إذ كان راجعا في المدينة جاع».

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) استئناف للتعجيب من حال الّذين ادّعوا الإلهيّة لعيسى. والخطاب مراد به غير معيّن ، وهو كلّ من سمع الحجج السابقة. واستعمل الأمر بالنّظر في الأمر بالعلم لتشبيه العالم بالرأي والعلم بالرؤية في الوضوح والجلاء ، وقد تقدّمت نظائره. وقد أفاد ذلك معنى التعجيب. ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول ـ عليه‌السلام ـ. والمراد هو وأهل القرآن. و (كَيْفَ) اسم استفهام معلّق لفعل (انْظُرْ) عن العمل في مفعولين ، وهي موضع المفعول به ل (انْظُرْ) ، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام. وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية ، أي انظر ذلك تجد جوابك أنّه بيان عظيم الجلاء يتعجّب النّاظر من وضوحه. والآيات جمع آية ، وهي العلامة على وجود

١٧٥

المطلوب ، استعيرت للحجّة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريق المكنية ، وإثبات الآيات له تخييل ، شبّهت بآيات الطّريق الدّالة على المكان المطلوب.

وقوله : (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (ثمّ) فيه للترتيب الرتبي والمقصود أنّ التأمّل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحقّ مع وضوحه. و (يُؤْفَكُونَ) يصرفون ، يقال : أفكه من باب ضرب ، صرفه عن الشّيء.

و (أَنَّى) اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين ، ويستعمل بمعنى كيف. وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيف (كما) في «الكشاف» ، وعليه فإنّما عدل عن إعادة (كَيْفَ) تفنّنا. ويجوز أن تكون بمعنى من أين ، والمعنى التعجيب من أين يتطرّق إليهم الصّرف عن الاعتقاد الحقّ بعد ذلك البيان المبالغ غاية الوضوح حتّى كان بمحلّ التّعجيب من وضوحه. وقد علّق ب (أَنَّى) فعل (انْظُرْ) الثّاني عن العمل وحذف متعلّق (يُؤْفَكُونَ) اختصارا ، لظهور أنّهم يصرفون عن الحقّ الّذي بيّنته لهم الآيات.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦))

لمّا كان الكلام السابق جاريا على طريقة خطاب غير المعيّن كانت جملة (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلخ مستأنفة ، أمر الرّسول بأن يبلّغهم ما عنوا به.

والظاهر أنّ (أَتَعْبُدُونَ) خطاب لجميع من يعبد شيئا من دون الله من المشركين والنّصارى. والاستفهام للتّوبيخ والتّغليط مجازا.

ومعنى (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله. فمن للتّوكيد ، و (دون) اسم للمغاير ، فهو مرادف لسوى ، أي أتعبدون معبودا هو غير الله ، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهيّة. وليس المعنى أتعبدون معبودا وتتركون عبادة الله. وانظر ما فسّرنا به عند قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في سورة الأنعام [١٠٨] ، فالمخاطبون كلّهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتّى الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلّا لزعمهم أنّ الله حلّ فيه فقد عبدوا الله فيه ، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلّهم.

١٧٦

ولذلك جيء ب (ما) الموصولة دون (من) لأنّ معظم ما عبد من دون الله أشياء لا تعقل ، وقد غلب (ما) لما لا يعقل. ولو أريد ب (ما لا يَمْلِكُ) عيسى وأمّه كما في «الكشاف» وغيره وجعل الخطاب خاصّا بالنّصارى كان التّعبير عنه ب (ما) صحيحا لأنّها تستعمل استعمال (من) ، وكثير في الكلام بحيث يكثر على التّأويل. ولكن قد يكون التّعبير بمن أظهر.

ومعنى (لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) لا يقدر عليه ، وحقيقة معنى الملك التمكّن من التّصرف بدون معارض ، ثم أطلق على استطاعة التّصرّف في الأشياء بدون عجز ، كما قال قيس بن الخطيم :

ملكت بها كفّي فأنهر فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

فإنّ كفّه مملوكة له لا محالة ، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من كفّه تمام التّمكن فدفع به الرّمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفّه. ومن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القويّة الثّابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرها (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان : ٣](قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [يونس : ٤٩](إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) [العنكبوت : ١٧]. فقد تعلّق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات ، وذلك لا يكون إلّا على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القويّة ألا ترى إلى عطف نفي على نفي الملك على وجه التّرقّي في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) في سورة النّحل [٧٣]. وقد تقدّم آنفا استعمال آخر في قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١٧].

وقدّم الضرّ على النّفع لأنّ النّفوس أشدّ تطلّعا إلى دفعه من تطلّعها إلى جلب النّفع ، فكان أعظم ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أنّ يستدفعوا بها الأضرار بالنّصر على الأعداء وبتجنّبها إلحاق الإضرار بعابديها.

ووجه الاستدلال على أنّ معبوداتهم لا تملك ضرّا ولا نفعا ، وقوع الأضرار بهم وتخلّف النّفع عنهم.

فجملة (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في موضع الحال ، قصر بواسطة تعريف الجزأين وضمير الفصل ، سبب النّجدة والإغاثة في حالي السؤال وظهور الحالة ، على الله تعالى

١٧٧

قصر ادّعاء بمعنى الكمال ، أي ولا يسمع كلّ دعاء ويعلم كلّ احتياج إلّا الله تعالى ، أي لا عيسى ولا غيره ممّا عبد من دون الله.

فالواو في قوله (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) واو الحال. وفي موقع هذه الجملة تحقيق لإبطال عبادتهم عيسى ومريم من ثلاثة طرق : طريق القصر وطريق ضمير الفصل وطريق جملة الحال باعتبار ما تفيده من مفهوم مخالفه.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧))

الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء. والغلوّ مصدر غلا في الأمر : إذا جاوز حدّه المعروف. فالغلوّ الزّيادة في عمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع.

وقوله : (غَيْرَ الْحَقِ) منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل (تَغْلُوا) أي غلوّا غير الحقّ ، وغير الحقّ هو الباطل. وعدل عن أن يقال باطلا إلى (غَيْرَ الْحَقِ) لما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف. والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم ؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم. وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازا عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه ، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) في سورة النّساء [١٧١]. فمن غلوّ اليهود تجاوزهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ. ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن الغلوّ الّذي ليس باطلا ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) عطف على النّهي عن الغلوّ ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه ؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغلاة من أحبارهم ورهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل. فلذلك سمّي تغاليهم أهواء ، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيرا مثل (قيافا) حبر اليهود الّذي كفّر عيسى ـ عليه

١٧٨

السّلام ـ وحكم بأنّه يقتل ، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث.

وقوله (مِنْ قَبْلُ) معناه من قبلكم. وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبل وبعد وغير وحسب ودون ، وأسماء الجهات ، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذ ، ويندر أن تكون معربة إلّا إذا نكّرت. وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة ، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة.

وقوله : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) مقابل لقوله : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) فهذا ضلال آخر ، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام. والسواء المستقيم ، وقد استعير للحقّ الواضح ، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعد ذلك عن الإسلام.

وقيل : الخطاب بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) للنّصارى خاصّة ، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث ، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود.

ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم ؛ فيكون الكلام تنفيرا للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود ، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال.

[٧٨ ، ٧٩] (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩))

جملة (لُعِنَ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا فيها تخلّص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النّصارى. وهي خبريّة مناسبة لجملة (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٧٧] ، تتنزّل منها منزلة الدّليل ، لأنّ فيها استدلالا على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النّصارى. والمقصود إثبات أنّ الضّلال مستمرّ فيهم فإنّ ما بين داود وعيسى أكثر من ألف سنة.

و (عَلى) في قوله : (عَلى لِسانِ داوُدَ) للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكّن الملابسة ، فهي استعارة تبعيّة لمعنى باء الملابسة مثل قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ، قصد منها المبالغة في الملابسة ، أي لعنوا بلسان داود ، أي بكلامه

١٧٩

الملابس للسانه. وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المزامير أنّ داود لعن الّذين يبدّلون الدّين ، وجاء في المزمور الثّالث والخمسين «الله من السّماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله كلّهم قد ارتدّوا معا فسدوا ـ ثم قال ـ أخزيتهم لأنّ الله قد وفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل» وفي المزمور ١٠٩ «قد انفتح عليّ فم الشرّير وتكلّموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب ـ ثمّ قال ـ ينظرون إليّ وينغضون رءوسهم ـ ثمّ قال ـ أمّا هم فيلعنون وأمّا أنت فتبارك ، قاموا وخزوا أمّا عبدك فيفرح» ذلك أنّ بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داود مع ابنه ابشلوم. وكذلك لعنهم على لسان عيسى متكرّر في الأناجيل. و «ذلك» إشارة إلى اللّعن المأخوذ من لعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ كأنّ سائلا يسأل عن موجب هذا اللّعن فأجيب بأنّه بسبب عصيانهم وعدوانهم ، أي لم يكن بلا سبب. وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السّببيّة ومع وقوعه في جواب سؤال مقدّر أفاد مجموع ذلك مفاد القصر ، أي ليس لعنهم إلّا بسبب عصيانهم كما أشار إليه في «الكشاف» وليس في الكلام صيغة قصر ، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثّلاثة. وهذه النّكتة من غرر صاحب «الكشاف». والمقصود من الحصر أن لا يضلّ النّاس في تعليل سبب اللّعن فربّما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضّلّال في العناية بالسفاسف والتّفريط في المهمّات ، لأنّ التفطّن لأسباب العقوبة أوّل درجات التّوفيق. ومثل ذلك مثل البله من النّاس تصيبهم الأمراض المعضلة فيحسبونها من مسّ الجنّ أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائها.

و (ما) في قوله (بِما عَصَوْا) مصدريّة ، أي بعصيانهم وكونهم معتدين ، فعدل عن التّعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفعلين مع (ما) المصدرية ليفيد الفعلان معنى تجدّد العصيان واستمرار الاعتداء منهم ، ولتفيد صيغة المضي أنّ ذلك أمر قديم فيهم ، وصيغة المضارع أنّه متكرّر الحدوث. فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى. والاعتداء هو إضرار الأنبياء. وإنّما عبّر في جانب العصيان بالماضي لأنّه تقرّر فلم يقبل الزّيادة ، وعبّر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنّه مستمرّ ، فإنّهم اعتدوا على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد.

وجملة (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن قوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) ، وهو أن يقال كيف تكون أمّة كلّها متمالئة على العصيان

١٨٠