تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] والقائل (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦] إلّا بعد معرفة سبب نزول هذه الآية ، فيعلم أنّهم قد ظلموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين. فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عبّاس قال : جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازر ، وزيد ، وخالد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، إلى النّبيء فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل ، فلمّا ذكر عيسى ابن مريم قالوا : لا نؤمن بمن آمن بعيسى ولا نعلم دينا شرّا من دينكم وما نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدنيا والآخرة منكم ، فأنزل الله (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ـ إلى قوله ـ وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). فخصّ بهذه المجادلة أهل الكتاب لأنّ الكفّار لا تنهض عليهم حجّتها ، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما ينبئ به الموصول وصلته في قوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية. وكانت هذه المجادلة لهم بأنّ ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأمّلوا لا يجدون إلّا الإيمان بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والاستفهام إنكاري وتعجّبي. فالإنكار دلّ عليه الاستثناء ، والتعجّب دلّ عليه أنّ مفعولات (تَنْقِمُونَ) كلّها محامد لا يحقّ نقمها ، أي لا تجدون شيئا تنقمونه غير ما ذكر.

وكلّ ذلك ليس حقيقا بأن ينقم. فأمّا الإيمان بالله وما أنزل من قبل فظاهر أنّهم رضوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثلهم فيه ، وأمّا الإيمان بما أنزل إلى محمّد فكذلك ، لأنّ ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهمّ أهل الكتاب ، ودعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فما وجه النقم منه. وعدّي فعل (تَنْقِمُونَ) إلى متعلّقه بحرف (من) ، وهي ابتدائية. وقد يعدّى بحرف (على).

وأمّا عطف قوله تعالى : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) فقرأه جميع القرّاء ـ بفتح همزة (أنّ) ـ على أنّه معطوف على (أَنْ آمَنَّا بِاللهِ).

وقد تحيّر في تأويلها المفسّرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أنّ ذلك لا يعترف به أهله ، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس ممّا ينقم على المؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه ، وعلى تقدير أن يكون ممّا ينقم على المؤمنين فليس نقمه عليهم بمحلّ للإنكار والتعجّب الّذي هو سياق الكلام.

فذهب المفسّرون في تأويل موقع هذا المعطوف مذاهب شتّى ؛ فقيل : هو عطف على متعلّق (آمَنَّا) أي آمنّا بالله ، وبفسق أكثركم ، أي تنقمون منّا مجموع هذين الأمرين. وهذا

١٤١

يفيت معنى الإنكار التعجّبي لأنّ اعتقاد المؤمنين كون أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقمه فلا يتعجّب منه ولا ينكر عليهم نقمه ، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه فلا يلتئم مع المعطوف عليه ، فالجمع بين المتعاطفين حينئذ كالجمع بين الضبّ والنّون ، فهذا وجه بعيد.

وقيل : هو معطوف على المستثنى ، أي ما تنقمون منّا إلّا إيماننا وفسق أكثركم ، أي تنقمون تخالف حالينا ، فهو نقم حسد ، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجّبي. وهذا الوجه ذكره في «الكشاف» وقدّمه وهو يحسن لو لم تكن كلمة (مِنَّا) لأنّ اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين ، إذ ليس من فعلهم ولكن من مصادفة الزّمان.

وقيل : حذف مجرور دلّ عليه المذكور ، والتّقدير : هل تنقمون منّا إلّا الإيمان لأنّكم جائرون وأكثركم فاسقون ، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود ، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا. وذكر وجهان آخران غير مرضيين.

والّذي يظهر لي أن يكون قوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) معطوفا على (أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكّما ، أي تنقمون منّا أنّنا آمنّا كإيمانكم وصدّقنا رسلكم وكتبكم ، وذلك نقمه عجيب وأنّنا آمنّا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمّكم. وتنقمون منّا أنّ أكثركم فاسقون ، أي ونحن صالحون ، أي هذا نقم حسد ، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين. فظهرت قرينة التهكّم فصار في الاستفهام إنكار فتعجّب فتهكّم ، تولّد بعضها عن بعض وكلّها متولّدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية ، وبهذا يكمل الوجه الّذي قدّمه صاحب «الكشاف».

ثمّ اطّرد في التهكّم بهم والعجب من أفن رأيهم مع تذكيرهم بمساويهم فقال : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) إلخ. وشرّ اسم تفضيل ، أصله أشرّ ، وهو للزيادة في الصفة ، حذفت همزته تخفيفا لكثرة الاستعمال ، والزّيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أنّ المسلمين لهم حظّ من الشرّ ، وإنّما جرى هذا تهكّما باليهود لأنّهم قالوا للمسلمين : لا دين شرّ من دينكم ، وهو ممّا عبّر عنه بفعل (تَنْقِمُونَ). وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال : «قلت فأوجبت».

والإشارة في قوله (مِنْ ذلِكَ) إلى الإيمان في قوله : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) إلخ باعتبار أنّه منقوم على سبيل الفرض. والتّقدير : ولمّا كان شأن المنقوم أن يكون شرّا بني عليه التهكّم في قوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) ، أي ممّا هو أشدّ شرّا.

١٤٢

والمثوبة مشتقّة من ثاب يثوب ، أي رجع ، فهي بوزن مفعولة ، سمّي بها الشيء الّذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عمل عمله أو سعي سعاه ، وأصلها مثوب بها ، اعتبروا فيها التّأنيث على تأويلها بالعطيّة أو الجائزة ثمّ حذف المتعلّق لكثرة الاستعمال.

وأصلها مؤذن بأنّها لا تطلق إلّا على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه ، فلا تطلق على الضّرب والشتم لأنّ ذلك ليس ممّا يثوب به المرء إلى منزله ، ولأنّ العرب إنّما يبنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم ، فلا يريدون بالمثوبة إلّا عطية نافعة. ويصحّ إطلاقها على الشيء النّفيس وعلى الشيء الحقير من كلّ ما يثوب به المعطى. فجعلها في هذه الآية تمييزا لاسم الزيادة في الشرّ تهكّم لأنّ اللّغة والغضب والمسخ ليست مثوبات ، وذلك كقول عمرو بن كلثوم :

قريناكم فعجّلنا قراكم

قبيل الصبح مرداة طحونا

وقول عمرو بن معد يكرب :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحيّة بينهم ضرب وجيع

وقوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) مبتدأ ، أريد به بيان من هو شرّ مثوبة. وفيه مضاف مقدّر دلّ عليه السياق. وتقديره : مثوبة من لعنه الله. والعدول عن أن يقال : أنتم أو اليهود ، إلى الإتيان بالموصول للعلم بالمعنيّ من الصلة ، لأنّ اليهود يعلمون أنّ أسلافا منهم وقعت عليهم اللّعنة والغضب من عهد أنبيائهم ، ودلائله ثابتة في التّوراة وكتب أنبيائهم ، فالموصول كناية عنهم.

وأمّا جعلهم قردة وخنازير فقد تقدّم القول في حقيقته في سورة البقرة. وأمّا كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العجل.

والطاغوت : الأصنام ، وتقدّم عند قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) في سورة النّساء [٥١].

وقرأ الجمهور (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بصيغة فعل المضيّ في (عَبَدَ) وبفتح التّاء من (الطَّاغُوتَ) على أنّه مفعول (عَبَدَ) ، وهو معطوف على الصّلة في قوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ، أي ومن عبدوا الطاغوت. وقرأه حمزة وحده ـ بفتح العين وضمّ الموحّدة وفتح الدّال وبكسر الفوقيّة من كلمة الطاغوت ـ على أن «عبد» جمع عبد ، وهو جمع سماعي قليل ، وهو على هذه القراءة معطوف على (الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ).

١٤٣

والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتا لهم عن التطاول. على أنّه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمان قيام الرسل والنبيئين بين ظهرانيهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالا وأجدر بكونهم شرّا ، فيكون الكلام من ذمّ القبيل كلّه. على أنّ كثيرا من موجبات اللّعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف ، على أنّهم شتموا المسلمين بما زعموا أنّه دينهم فيحقّ شتمهم بما نعتقده فيهم.

[٦١ ـ ٦٣] (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

عطف (وَإِذا جاؤُكُمْ) على قوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً) [المائدة : ٥٨] الآية ، وخصّ بهذه الصّفات المنافقون من اليهود من جملة الّذين اتّخذوا الدّين هزوءا ولعبا ، فاستكمل بذلك التّحذير ممّن هذه صفتهم المعلنين منهم والمنافقين. ولا يصحّ عطفه على صفات أهل الكتاب في قوله : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) [المائدة : ٦٠] لعدم استقامة المعنى ، وبذلك يستغني عن تكلّف وجه لهذا العطف.

ومعنى قوله : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أنّ الإيمان لم يخالط قلوبهم طرفة عين ، أي هم دخلوا كافرين وخرجوا كذلك ، لشدّة قسوة قلوبهم ، فالمقصود استغراق الزمنين وما بينهما ، لأنّ ذلك هو المتعارف ، إذ الحالة إذا تبدّلت استمرّ تبدّلها ، ففي ذلك تسجيل الكذب في قولهم : آمنّا ، والعرب تقول : خرج بغير الوجه الذي دخل به.

والرؤية في قوله : (وَتَرى) بصرية ، أي أنّ حالهم في ذلك بحيث لا يخفى على أحد. والخطاب لكلّ من يسمع.

وتقدّم معنى (يُسارِعُونَ) عند قوله : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [النساء : ٤١].

والإثم : المفاسد من قول وعمل ، أريد به هنا الكذب ، كما دلّ عليه قوله : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ). والعدوان : الظلم ، والمراد به الاعتداء علي المسلمين إن استطاعوه.

والسحت تقدّم في قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة : ٤٢].

١٤٤

و (لَوْ لا) تحضيض أريد منه التّوبيخ.

و (الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) تقدّم بيان معناهما في قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) [المائدة : ٤٤] الآية.

واقتصر في توبيخ الربّانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت ، ولم يذكر العدوان إيماء إلى أنّ العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم ، لأنّ الاعتماد في النصرة على غير المجني عليه ، ضعف.

وجملة (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) مستأنفة ، ذمّ لصنيع الربّانيين والأحبار في سكوتهم عن تغيير المنكر ، و (يَصْنَعُونَ) بمعنى يعلمون ، وإنّما خولف هنا ما تقدّم فيّ الآية قبلها للتّفنن ، وقيل : لأنّ (يَصْنَعُونَ) أدلّ على التمكّن في العمل من (يَعْمَلُونَ).

واللام للقسم.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤))

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ).

عطف على جملة (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) [المائدة : ٦١] ، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام ، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم (اليهود).

ومعنى (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) الوصف بالبخل في العطاء لأنّ العرب يجعلون العطاء معبّرا عنه باليد ، ويجعلون بسط اليد استعارة للبذل والكرم ، ويجعلون ضدّ البسط استعارة للبخل فيقولون : أمسك يده وقبض يده ، ولم نسمع منهم : غلّ يده ، إلّا في القرآن كما هنا ، وقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) في سورة الإسراء [٢٩] ، وهي استعارة قويّة لأنّ مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقلّ الأزمان ، فلا جرم أن تكون استعارة لأشدّ البخل والشحّ.

١٤٥

واليهود أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ. فقولهم هذا : إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاما لهذا القول الفاسد لهم ، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة ، وفرض الرسول عليهم الصدقات ، وربّما استعان باليهود في الديات. وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] فقالوا : إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل. وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [البقرة : ١٨١]. ويؤيّد هذا قوله عقبه (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس ؛ فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجهد ، فقال فنحاص بن عازورا هذه المقالة ، فإمّا تلقّفوها منه على عادة جهل العامّة ، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به.

وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين ، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضا ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات ، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم ، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله ، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم. وذلك ذمّ على طريقة العرب.

وجملة (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) معترضة بين جملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ) وبين جملة (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). وهي إنشاء سبّ لهم. وأخذ لهم من الغلّ المجازي مقابله الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه ، كقول النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عصيّة عصت الله ورسوله ، وأسلم سلّمها الله ، وغفار غفر الله لها».

وجملة (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم ، ويجوز أن تكون إخبارا بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا ، نظير ما في قوله تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ) في سورة النّساء [١١٧ ، ١١٨].

وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى. وبسط اليدين تمثيل للعطاء ، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين.

وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجود ، وإلّا فاليد في حال الاستعارة للجود أو للبخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد ، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير ، كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ، وقولهم : «لبّيك وسعديك». وقال الشّاعر

١٤٦

(أنشده في «الكشاف» ولم يعزه هو ولا شارحوه) :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

وجملة (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) بيان لاستعارة (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). و (كَيْفَ) اسم دالّ على الحالة وهو مبني في محلّ نصب على الحال. وفي قوله : (كَيْفَ يَشاءُ) زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة ، مثل العقاب على كفران النعمة ، قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧].

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً).

عطف على جملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). وقع معترضا بين الردّ عليهم بجملة (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وبين جملة (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) ، وهذا بيان للسبب الّذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة ، أي أعماهم الحسد فزادهم طغيانا وكفرا ، وفي هذا إعداد للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأخذ الحذر منهم ، وتسلية له بأنّ فرط حنقهم هو الّذي أنطقهم بذلك القول الفظيع.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

عطف على جملة (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) عطف الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه. وفي هذا الخبر الإيماء إلى أنّ الله عاقبهم في الدّنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقى البغضاء بين بعضهم وبعض ، فهو جزاء من جنس العمل ، وهو تسلية للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يهمّه أمر عداوتهم له ، فإنّ البغضاء سجيتهم حتّى بين أقوامهم وأنّ هذا الوصف دائم لهم شأن الأوصاف الّتي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلّق الحسن. وتقدّم القول في نظيره آنفا.

(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

تركيب (أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) تمثيل ، شبّه به حال التهيّؤ للحرب والاستعداد لها والحزامة في أمرها ، بحال من يوقد النّار لحاجة بها فتنطفئ ، فإنّه شاعت استعارات معاني التسعير والحمي والنّار ونحوها للحرب ، ومنه حمي الوطيس ، وفلان مسعر حرب ، ومحشّ حرب ، فقوله : (أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) كذلك ، ولا نار في الحقيقة ، إذ لم يؤثر عن العرب أنّ لهم نارا تختصّ بالحرب تعدّ في نيران العرب الّتي يوقدونها لأغراض. وقد وهم من ظنّها حقيقة ، ونبّه المحقّقون على وهمه.

١٤٧

وشبّه حال انحلال عزمهم أو انهزامهم وسرعة ارتدادهم عنها ، وإحجامهم عن مصاحبة أعدائهم ، بحال من انطفأت ناره الّتي أوقدها.

ومن بداعة هذا التمثيل أنّه صالح لأن يعتبر فيه جمعه وتفريقه ، بأن يجعل تمثيلا واحدا لحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين ، وقبول التمثيل للتفريق أتمّ بلاغة. والمعنى أنّهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدوّ ، ولو حاربوا أو حوربوا انهزموا ، فيكون معنى الآية على هذا كقوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) [آل عمران : ١١٢].

وأمّا ما يروى أنّ معدّا كلّها لمّا حاربوا مذبح يوم (خزازى) ، وسيادتهم لتغلب وقائدهم كليب ، أمر كليب أن يوقدوا نارا على جبل خزازى ليهتدي بها الجيش لكثرته ، وجعلوا العلامة بينهم أنّهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على (خزازى) ، فلمّا دهمتهم مذحج أوقدوا النّار فتجمّعت معدّ كلّها إلى ساحة القتال وانهزمت مذحج. وهذا الّذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله :

ونحن غداة أوقد في خزازى

رفدنا فوق رفد الرافدينا

فتلك شعار خاصّ تواضعوا عليه يومئذ فلا يعدّ عادة في جميع الحروب. وحيث لا تعرف نار للحرب تعيّن الحمل على التمثيل ، ولذلك أجمع عليه المفسّرون في هذه الآية فليس الكلام بحقيقة ولا كناية.

وقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفا عند قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٣٣].

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥))

عقّب نهيهم وذمّهم بدعوتهم للخير بطريقة التّعريض إذ جاء بحرف الامتناع فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) ، والمراد اليهود. والمراد بقوله : (آمَنُوا) الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الحديث : «اثنان يؤتون أجرهم مرّتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثمّ آمن بي (أي عند ما بلغته الدّعوة المحمّديّة) فله أجران ، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن تأديبها وعلّمها ثمّ أعتقها فتزوّجها فله أجران.

١٤٨

واللام في قوله : (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ ـ وقوله ـ وَلَأَدْخَلْناهُمْ) لام تأكيد يكثر وقوعها في جواب (لو) إذا كان فعلا ماضيا مثبتا لتأكيد تحقيق التلازم بين شرط (لو) وجوابها ، ويكثر أن يجرّد جواب ـ لو ـ عن اللام ، كما سيأتي عند قوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) في سورة الواقعة [٧٠].

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).

إقامة الشيء جعله قائما ، كما تقدّم في أول سورة البقرة. واستعيرت الإقامة لعدم الإضاعة لأنّ الشيء المضاع يكون ملقى ، ولذلك يقال له : شيء لقى ، ولأنّ الإنسان يكون في حال قيامه أقدر على الأشياء ، فلذا قالوا : قامت السوق. فيجوز أن يكون معنى إقامة التّوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام ، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غضبه فلأغدق عليهم نعمه ، فاليهود آمنوا بالتّوراة ولم يقيموا أحكامها كما تقدّم آنفا ، وكفروا بالإنجيل ورفضوه ، وذلك أشدّ في عدم إقامته ، وبالقرآن. وقد أومأت الآية إلى أنّ سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التّوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن ، أي فتحتّمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن.

ويحتمل أن يكون المراد : لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام ، أي بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبشير ببعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى يؤمنوا به وبما جاء به ، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة. ويؤيّده ما روي في سبب نزول قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] كما تقدّم.

ومعنى (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) تعميم جهات الرزق ، أي لرزقوا من كلّ سبيل ، فأكلوا بمعنى رزقوا ، كقوله : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) [الفجر : ١٩]. وقيل : المراد بالمأكول من فوق ثمار الشجر ، ومن تحت الحبوب والمقاثي ، فيكون الأكل على حقيقته ، أي لاستمرّ الخصب فيهم.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ

١٤٩

بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) في سورة الأعراف [٩٦].

واللام في قوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) إلخ مثل اللام في الآية قبلها.

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ).

إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذامّ على أكثرهم.

والمقصد يطلق على المطيع ، أي غير مسرف بارتكاب الذنوب ، واقف عند حدود كتابهم ، لأنّه يقتصد في سرف نفسه ، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر (ساءَ ما يَعْمَلُونَ). وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب ، قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] ، ولذلك يقابل بالاقتصاد ، أي الحذر من الذنوب ، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر : ٣٢].

فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّئ العمل ، وهو من لم يسلم ؛ وسابق في الخيرات ، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام ومخيريق. وقيل : المراد بالمقتصد غير المفرطين في بغض المسلمين ، وهم الّذين لا آمنوا معهم ولا آذوهم ، وضدّهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف. فالأوّلون بغضهم قلبي ، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيّئ. ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر ، لأنّه مشتقّ من القصد ، وهو الاعتدال وعدم الإفراط. والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكّر للمسلمين المأخوذ من قوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [المائدة : ٦٨].

والأظهر أن يكون قوله : (ساءَ) فعلا بمعنى كان سيّئا ، و (ما يَعْمَلُونَ) فاعله ، كما قدّره ابن عطية. وجعله في «الكشاف» بمعنى بئس ، فقدّر قولا محذوفا ليصحّ الإخبار به عن قوله : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) ، بناء على التزام عدم صحّة عطف الإنشاء على الإخبار ، وهو محلّ جدال ، ويكون (ما يَعْمَلُونَ) مخصوصا بالذمّ ، والّذي دعاه إلى ذلك أنّه رأى حمله على معنى إنشاء الذمّ أبلغ في ذمّهم ، أي يقول فيهم ذلك كل قائل.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ

١٥٠

وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))

إنّ موضع هذه الآية في هذه السورة معضل ، فإنّ سورة المائدة من آخر السور نزولا إن لم تكن آخرها نزولا ، وقد بلّغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشريعة وجميع ما أنزل إليه إلى يوم نزولها ، فلو أنّ هذه الآية نزلت في أوّل مدّة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه ، كما أنزل قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجرات : ٩٤ ، ٩٥] وقوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ـ إلى قوله ـ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ٥ ـ ١٠] الآيات ، فأمّا وهذه السورة من آخر السور نزولا وقد أدّى رسول الله الرسالة وأكمل الدّين فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ ، فنحن إذن بين احتمالين :

أحدهما : أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاصّ اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء ممّا يثقل عليه تبليغه.

وثانيهما : أن تكون هذه الآية نزلت من قبل نزول هذه السورة ، وهو الّذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها.

فأمّا هذا الاحتمال الثّاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة ، ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها ، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول الّتي تذكر حوادث كلّها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة. وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك ، وذكر الطبري خبرين آخرين ، فصارت اثني عشر قولا.

وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال : إنّ هذه الروايات وإن كثرت فإنّ الأولى حمل الآية على أنّ الله آمنه مكر اليهود والنّصارى ، لأنّ ما قبلها وما بعدها كان كلاما مع اليهود والنّصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكون أجنبية عمّا قبلها وما بعدها اه. وأمّا ما ورد في الصّحيح أنّ رسول الله كان يحرس حتّى نزل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلا يدلّ على أنّ جميع هذه الآية نزلت يومئذ ، بل اقتصر الراوي على جزء منها ، وهو قوله: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلعلّ الّذي حدّثت به عائشة أنّ الله أخبر رسوله بأنّه عصمه من النّاس فلمّا حكاه الراوي حكاه باللّفظ الواقع في هذه الآية.

فتعيّن التعويل على الاحتمال الأوّل : فإمّا أن يكون سبب نزولها قضية ممّا جرى

١٥١

ذكره في هذه السورة ، فهي على وتيرة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) [المائدة : ٤٩] فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليت بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب. والفريقان متظاهران على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم : فريق مجاهر ، وفريق متستر ، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفّار ، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدّة النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّ الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الّذين هوّن أمرهم في قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] فهم المعنيّون من (النَّاسِ) في هذه الآية ، فالمأمور بتبليغه بعض خاصّ من القرآن.

وقد علم من خلق النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه يحبّ الرفق في الأمور ويقول : إنّ الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كلّه (كما جاء في حديث عائشة حين سلّم اليهود عليه فقالوا : السام عليكم ، وقالت عائشة لهم : السام عليكم واللّعنة) ، فلمّا أمره الله أن يقول لأهل الكتاب (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة : ٥٩ ، ٦٠] الآية ، وكان ذلك القول مجاهرة لهم بسوء أعلمه الله بأنّ هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالّتي هي أحسن ، فتكون هذه الآية مخصّصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الّذي في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨].

ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعر بمنتهى شرفه ، إذ كان واسطة بين الله وخلقه ، والمذكّر له بالإعراض عمّن سوى من أرسله.

ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثّاني موقع زائد على موقعه في الخطاب الأول ، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده ، وهو قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، كما قال تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩].

فكما ثبّت جنانه بالخطاب الأوّل أن لا يهتمّ بمكائد أعدائه ، حذّر بالخطاب الثّاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن ، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم ، إذ لعلّه يزيدهم عنادا وكفرا ، كما دلّ عليه قوله في آخر هذه الآية (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨].

ثم عقّب ذلك أيضا بتثبيت جنانه بأن لا يهتمّ بكيدهم بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

١٥٢

النَّاسِ) وأنّ كيدهم مصروف عنه بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ). فحصل بآخر هذا الخطاب ردّ العجز على الصدر في الخطاب الأوّل الّتي تضمّنه قوله : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] فإنّهم هم القوم الكافرون والّذين يسارعون في الكفر. فالتّبليغ المأمور به على هذا الوجه تبليغ ما أنزل من القرآن في تقريع أهل الكتاب. وما صدق (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) شيء معهود من آي القرآن ، وهي الآي المتقدّمة على هذه الآية. وما صدق (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو كلّ ما نزل من القرآن قبل ذلك اليوم.

والتّبليغ جعل الشيء بالغا. والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله ، وهو هنا مجاز في حكاية الرّسالة للمرسل بها إليه من قولهم : بلغ الخبر وبلغت الحاجة. والأمر بالتّبليغ مستعمل في طلب الدّوام ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]. ولمّا كان نزول الشريعة مقصودا به عمل الأمّة بها (سواء كان النّازل متعلّقا بعمل أم كان بغير عمل ، كالّذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها ، لأنّ ذلك كلّه إنّما نزل لفوائد يتعيّن العلم بها لحصول الأغراض الّتي نزلت لأجلها ، على أنّ للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز ، وأنّه متعبّد بتلاوته ، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النّظر عمّا يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر) ، كان معنى الرّسالة إبلاغ ما أنزل إلى من يراد علمه به وهو الأمّة كلّها ، ولأجل هذا حذف متعلّق (بَلِّغْ) لقصد العموم ، أي بلّغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته ، وهو جميع الأمّة ، إذ لا يدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمّة إلى بعض الأحكام ، على أنّ كثيرا من الأحكام يحتاجها جميع الأمّة.

والتّبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكم تمكّنه من معرفته في وقت الحاجة أو قبله ، لذلك كان الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يقرأ القرآن على النّاس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها ، ويأمر النّاس بقراءته وبالاستماع إليه. وقد أرسل مصعبا بن عمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلّم الأنصار القرآن. وكان أيضا يأمر السامع مقالته بإبلاغها من لم يسمعها ، ممّا يكفل ببلوغ الشّريعة كلّها للأجيال من الأمّة. ومن أجل ذلك كان الخلفاء من بعده يعطون النّاس العطاء على قدر ما معهم من القرآن. ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصّحابة ، وأكمل تلك المزيّة عثمان بن عفّان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام ، وقد كان رسول الله عيّن لأهل الصّفّة الانقطاع لحفظ القرآن.

١٥٣

والّذي ظهر من تتبّع سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله ، فإذا نزل عليه ليلا أخبر به عند صلاة الصّبح. وفي حديث عمر ، قال رسول الله : «لقد أنزلت عليّ اللّيلة سورة لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشّمس» ثمّ قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١]. وفي حديث كعب بن مالك في تخلّفه عن غزوة تبوك «فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلث الآخر من اللّيل ورسول الله عند أمّ سلمة ، فقال: يا أمّ سلمة تيب على كعب بن مالك ، قالت : أفلا أرسل إليه فأبشّره ، قال : «إذا يحطمكم النّاس فيمنعونكم النّوم سائر اللّيلة. حتّى إذا صلّى رسول الله صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا». وفي حديث ابن عبّاس : أنّ رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكّة ودعا رسول الله الكتّاب فكتبوها من ليلتهم.

وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله : (إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والنّاس ، إذ جعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم ، كما قال في آية آل عمران [١٩٩](وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ، وقوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤]. وفي تعليق الإنزال بأنّه من الرّب تشريف للمنزّل.

والإتيان بلفظ الرّب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنّه ربّه من معنى كرامته ، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه ، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحثّ على تناوله والعمل بما فيه.

وعلى جميع الوجوه المتقدّمة دلّت الآية على أنّ الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه كلّه ، بحيث لا يتوهّم أحد أنّ رسول الله قد أبقى شيئا من الوحي لم يبلّغه. لأنّه لو ترك شيئا منه لم يبلّغه لكان ذلك ممّا أنزل إليه ولم يقع تبليغه ، وإذ قد كانت هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن علمنا أنّ من أهمّ مقاصدها أنّ الله أراد قطع تخرّص من قد يزعمون أنّ الرسول قد استبقى شيئا لم يبلّغه ، أو أنّه قد خصّ بعض النّاس بإبلاغ شيء من الوحي لم يبلّغه للنّاس عامّة. فهي أقطع آية لإبطال قول الرافضة بأنّ القرآن أكثر ممّا هو في المصحف الّذي جمعه أبو بكر ونسخه عثمان ، وأنّ رسول الله اختصّ بكثير من القرآن عليّا بن أبي طالب وأنّه أورثه أبناءه وأنّه يبلغ وقر بعير ، وأنّه اليوم مختزن عند الإمام المعصوم الّذي يلقّبه بعض الشيعة بالمهدي المنتظر وبالوصيّ.

وكانت هذه الأوهام ألمّت بأنفس بعض المتشيّعين إلى عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ في مدّة

١٥٤

حياته ، فدعا ذلك بعض النّاس إلى سؤاله عن ذلك. روى البخاري أنّ أبا جحيفة سأل عليّا : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن وما ليس عند النّاس ، فقال : «لا والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما عندنا إلّا ما في القرآن إلّا فهما يعطى رجل في كتاب الله وما في الصحيفة ، قلت : وما في الصّحيفة ، قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر». وحديث مسروق عن عائشة الّذي سنذكره ينبئ بأنّ هذا الهاجس قد ظهر بين العامّة في زمانها. وقد يخصّ الرّسول بعض النّاس ببيان شيء من الأحكام ليس من القرآن المنزّل إليه لحاجة دعت إلى تخصيصه ، كما كتب إلى عليّ ببيان العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ، لأنّه كان يومئذ قاضيا باليمن ، وكما كتب إلى عمرو بن حزم كتاب نصاب الزّكاة لأنّه كان بعثه لذلك ، فذلك لا ينافي الأمر بالتّبليغ لأنّ ذلك بيان لما أنزل وليس عين ما أنزل ، ولأنّه لم يقصد منه تخصيصه بعلمه ، بل قد يخبر به من تدعو الحاجة إلى علمه به ، ولأنّه لمّا أمر من سمع مقالته بأن يعيها ويؤيّديها كما سمعها ، وأمر أن يبلّغ الشّاهد الغائب ، حصل المقصود من التّبليغ ؛ فأمّا أن يدع شيئا من الوحي خاصّا بأحد وأن يكتمه المودع عنده عن النّاس فمعاذ الله من ذلك.

وقد يخصّ أحدا بعلم ليس ممّا يرجع إلى أمور التّشريع ، من سرّ يلقيه إلى بعض أصحابه ، كما أسرّ إلى فاطمة ـ رضي‌الله‌عنها ـ بأنّه يموت يومئذ وبأنّها أوّل أهله لحاقا به. وأسرّ إلى أبي بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ بأنّ الله أذن له في الهجرة. وأسرّ إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان ، كما حدّث حذيفة بذلك عمر بن الخطّاب. وما روي عن أبي هريرة أنّه قال : حفظت من رسول الله وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع منّي هذا البلعوم.

ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الّذي همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابته للنّاس ، وهو في مرض وفاته ، ثمّ أعرض عنه ، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنّه لو كان كذلك لما أعرض عنه والله يقول له : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). روى البخاري عن عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ أنّها قالت لمسروق : «ثلاث من حدّثك بهن فقد كذب ، من حدّثك أنّ محمّدا كتم شيئا ممّا أنزل عليه فقد كذب ، والله يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الحديث.

وقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) جاء الشّرط بإن الّتي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط ، لأنّ عدم التّبليغ غير مظنون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنّما فرض هذا

١٥٥

الشّرط ليبني عليه الجواب ، وهو قوله : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين ، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون ، فيزعمون أنّ قرآنا كثيرا لم يبلّغه رسول الله الأمّة.

ومعنى (لَمْ تَفْعَلْ) لم تفعل ذلك ، وهو تبليغ ما أنزل إليك. وهذا حذف شائع في كلامهم ، فيقولون : فإن فعلت ، أو فإن لم تفعل. قال تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس : ١٠٦] أي إن دعوت ما لا ينفعك ، يحذفون مفعول فعلت ولم تفعل لدلالة ما تقدّم عليه ، وقال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) في سورة البقرة [٢٤]. وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلّا قليلا ولم يتعرّض له أئمّة الاستعمال.

ومعنى ترتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إن لم تبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة ، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه ، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط ، إذ تقدير الشّرط : إن لم تبلّغ ما أنزل ، والجزاء ، لم تبلّغ الرّسالة ، وذلك كاف في صحّة بناء الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في «الكشاف» وغيره. ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل ، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئا ممّا أرسل به. وتظهر فائدة افتتاح الخطاب ب (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده ، وفائدة اختتامه بقوله : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وأبو جعفر (رِسالاتِهِ) ـ بصيغة الجمع. وقرأه الباقون (رِسالَتَهُ) بالإفراد. والمقصود الجنس فهو في سياق النّفي سواء مفرده وجمعه. ولا صحّة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ، وأنّ نحو : لا رجال في الدار ، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد ، بخلاف نحو لا رجل في الدّار. ويظهر أنّ قراءة الجمع أصرح لأنّ لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنّه يحتمل الجنس والعهد ، ولا شكّ أن نفي اللّفظ الّذي لا يحتمل العهد أنصّ في عموم النّفي لكن القرينة بيّنت المراد.

وقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأنّ المخاطب والسّامعين يترقّبون عقب الأمر بتبليغ كلّ ما أنزل إليه ، أن يلاقي عنتا وتكالبا عليه من

١٥٦

أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله ، لأنّ المعنى أنّ هذا ما عليك. فأمّا ما علينا فالله يعصمك ، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأمّا. على أنّ الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التّقديم من «دلائل الإعجاز» أنّ ممّا يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثر ؛ الوعد والضّمان ، لأنّ ذلك ينفي أن يشكّ من يوعد في تمام الوعد والوفاء به فهو من أحوج النّاس إلى التّأكيد ، كقول الرّجل : أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر انتهى. ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢]. فقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فيه هذا المعنى أيضا. والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه.

و (النَّاسِ) في الآية مراد به الكفّار من اليهود والمنافقين والمشركين ، لأنّ العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه ، وإنّما يخاف عليه أعداءه لا أحبّاءه ، وليس في المؤمنين عدوّ لرسوله. فالمراد العصمة من اغتيال المشركين ، لأنّ ذلك هو الّذي كان يهمّ النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو حصل ذلك لتعطّل الهدي الّذي كان يحبّه النّبيء للنّاس ، إذ كان حريصا على هدايتهم ، ولذلك كان رسول الله ، لمّا عرض نفسه على القبائل في أوّل بعثته ، يقول لهم «أن تمنعوني حتّى أبيّن عن الله ما بعثني به ـ أو ـ حتّى أبلّغ رسالات ربّي». فأمّا ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك ممّا نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون ممّن أوذي في الله : فقد رماه المشركون بالحجارة حتّى أدموه وقد شجّ وجهه. وهذه العصمة الّتي وعد بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تكرّر وعده بها في القرآن كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧]. وفي غير القرآن ، فقد جاء في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر وهو بمكّة أنّ الله عصمه من المشركين. وجاء في الصّحيح عن عائشة أنّ رسول الله كان يحرس في المدينة ، وأنّه حرسه ذات ليلة سعد بن أبي وقّاص وحذيفة وأنّ رسول الله أخرج رأسه من قبّة وقال لهم : «الحقوا بملاحقكم فإنّ الله عصمني» ، وأنّه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ستّ للأعرابي غورث بن الحارث الّذي وجد رسول الله نائما في ظلّ شجرة ووجد سيفه معلّقا فاخترطه وقال للرسول : من يمنعك منّي ، فقال : الله ، فسقط السيف من يد الأعرابي. وكلّ ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية. والّذين جعلوا بعض ذلك سببا لنزول هذه الآية قد خلطوا. فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنّه لا يتغيّر مع تغيّر صنوف الأعداء.

ثمّ أعقبه بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ليتبيّن أنّ المراد بالنّاس كفّارهم ، وليؤمي إلى أنّ سبب عدم هدايتهم هو كفرهم. والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم ، فهو وعد لرسوله بأنّ أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلا لكيد الرّسول

١٥٧

والمؤمنين لطفا منه تعالى ، وليس المراد الهداية في الدّين لأنّ السياق غير صالح له.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨))

هذا الّذي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لأهل الكتاب هو من جملة ما ثبّته الله على تبليغه بقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ، فقد كان رسول الله يحبّ تألّف أهل الكتاب وربّما كان يثقل عليه أن يجابههم بمثل هذا ولكن الله يقول الحقّ.

فيجوز أن تكون جملة (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) بيانا لجملة (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧] ، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا بمناسبة قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧].

والمقصود بأهل الكتاب اليهود والنّصارى جميعا ؛ فأمّا اليهود فلأنّهم مأمورون بإقامة الأحكام الّتي لم تنسخ من التوراة ، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمّديّة ، وبإقامة أحكام القرآن المهيمن على الكتاب كلّه ؛ وأمّا النّصارى فلأنّهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى ـ عليهما‌السلام ـ.

ومعنى (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) نفي أن يكونوا متّصفين بشيء من التّدين والتّقوى لأنّ خوض الرّسول لا يكون إلّا في أمر الدّين والهدى والتّقوى ، فوقع هنا حذف صفة (شَيْءٍ) يدلّ عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] ، أي كلّ سفينة صالحة ، أو غير معيبة.

والشيء اسم لكلّ موجود ، فهو اسم متوغّل في التنكير صادق بالقليل والكثير ، ويبيّنه السّياق أو القرائن. فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب ، ولمّا وقع في سياق النّفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقلّ حظّ من الدّين والتّقوى ما داموا لم يبلغوا الغاية الّتي ذكرت ، وهي أن يقيموا التّوراة والإنجيل والقرآن. والمقصود نفي أن يكون لهم حظّ معتدّ به عند الله ، ومثل هذا النّفي على تقدير الاعتداد شائع في الكلام ، قال عبّاس بن مرداس :

وقد كنت في الحرب ذا تدرإ

فلم أعط شيئا ولم أمنع

أي لم أعط شيئا كافيا ، بقرينة قوله : ولم أمنع. ويقولون : هذا ليس بشيء ، مع أنّه

١٥٨

شيء لا محالة ومشار إليه ولكنّهم يريدون أنّه غير معتدّ به. ومنه ما وقع في الحديث الصّحيح أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الكهّان ، فقال : «ليسوا بشيء». وقد شاكل هذا النّفي على معنى الاعتداد النّفي المتقدّم في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، أي فما بلّغت تبليغا معتدّا به عند الله.

والمقصود من الآية إنما هو إقامة التّوراة والإنجيل عند مجيء القرآن بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى يؤمنوا به وبما أنزل عليه. وقد أومأت هذه الآية إلى توغّل اليهود في مجانبة الهدى لأنّهم قد عطّلوا إقامة التّوراة منذ عصور قبل عيسى ، وعطّلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه ، وأنكروا من جاء به ، ثمّ أنكروا نبوءة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربّهم. والكلام على إقامة التّوراة والإنجيل مضى عند قوله آنفا : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٦٦] إلخ.

وقد فنّدت هذه الآية مزاعم اليهود أنّهم على التمسّك بالتّوراة ، وكانوا يزعمون أنّهم على هدى ما تمسّكوا بالتّوراة ولا يتمسّكون بغيرها. وعن ابن عبّاس أنّهم جاءوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ألست تقرّ أنّ التّوراة حقّ ، قال : «بلى» ، قالوا : فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها. فنزلت هذه الآية. وليس له سند قوي. وقد قال بعض النّصارى للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن تمسّكهم بالإنجيل مثل قول بعض اليهود ، كما في قصة إسلام عدي بن حاتم ، وكما في مجادلة بعض وفد نجران.

وقوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) ، أي من أهل الكتاب ، وذلك إمّا بباعث الحسد على مجيء هذا الدّين ونزول القرآن ناسخا لدينهم ، وإمّا بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم. ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتّى في المباحث التّاريخيّة والمدنيّة يحتدّون على مدنيّة الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميّزون غيظا ومكابرة حتّى ترى العالم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفّل إلى دركات التبال والتّجاهل ، إلّا قليلا ممّن اتّخذ الإنصاف شعارا ، وتباعد عن أن يرمى بسوء الفهم تجنّبا وحذارا.

وقد سمّى الله ما يعترضهم من الشجا في حلوقهم بهذا الدّين (طُغْياناً) لأنّ الطغيان هو الغلوّ في الظلم واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللّائمين من أهل اليقين.

وسلّى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) ؛ فالفاء للفصيحة لتتمّ التّسلية ، لأنّ رحمة الرسول بالخلق تحزنه ممّا بلغ منهم من زيادة الطّغيان والكفر ، فنبّهت

١٥٩

فاء الفصيحة على أنّهم ما بلغوا إلّا من جرّاء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم. والأسى الحزن والأسف ، وفعله كفرح.

وذكر لفظ (الْقَوْمِ) وأتبع بوصف (الْكافِرِينَ) ليدلّ على أنّ المراد بالكافرين هم الّذين صار الكفر لهم سجيّة وصفة تتقوّم بها قوميتهم. ولو لم يذكر القوم وقال : (فلا تأس على الكافرين) لكان بمنزلة اللّقب لهم فلا يشعر بالتّوصيف ، فكان صادقا بمن كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردّد ، فذلك مرجوّ إيمانه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

موقع هذه الآية دقيق ، ومعناها أدقّ ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة [٦٢] ، فلم يكن ما تقدّم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختصّ بموقع هذه. ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعا لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله : (وَالصَّابِئُونَ) بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم (إِنَ) في ظاهر الكلام.

فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنّه معقد معناها :

فاعلم أنّ هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٦٨] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام : هل هم على شيء أو ليسوا على شيء ، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذ ؛ فوقع قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية جوابا لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هادوا والصابون والنّصارى ، وأمّا التعرّض لذكر الّذين آمنوا فلاهتمام بهم سنبيّنه قريبا.

ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكّدة لجملة (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) [المائدة : ٦٥] إلخ ، فبعد أن أتبعت تلك الجملة بما أتبعت به من الجمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيدا للوعد ، ووصلا لربط الكلام ، وليلحق بأهل الكتاب الصابئون ، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.

١٦٠