تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٥ ـ سورة المائدة

هذه السورة سمّيت في كتب التفسير ، وكتب السنّة ، بسورة المائدة : لأنّ فيها قصّة المائدة التي سألها الحواريون من عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، وقد اختصّت بذكرها. وفي «مسند» أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبد الله بن عمر ، وعائشة أمّ المؤمنين ، وأسماء بنت يزيد ، وغيرهم. فهذا أشهر أسمائها.

وتسمّى أيضا سورة العقود : إذ وقع هذا اللفظ في أوّلها. وتسمّى أيضا المنقذة. ففي «أحكام ابن الفرس» : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة المائدة تدعى في ملكوت السموات المنقذة». قال : أي أنّها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.

وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني (١) «يقال : فلان لا يقرأ سورة الأخيار ، أي لا يفي بالعهد ، وذلك أنّ الصحابة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ كانوا يسمّون سورة المائدة سورة الأخبار. قال جرير :

إنّ البعيث وعبد آل مقاعس

لا يقرآن بسورة الأخيار

وهي مدنيّة باتّفاق ، روي أنّها نزلت منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، بعد سورة الممتحنة ، فيكون نزولها بعد الحديبية بمدّة ؛ لأنّ سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة من صلح الحديبية ، وقد جاءته المؤمنات مهاجرات ، وطلب منه المشركون إرجاعهنّ إليهم عملا بشروط الصلح ، فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهنّ بعد امتحانهنّ.

روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أنّ آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ

__________________

(١) صفحة (١٢١) من «المنتخب من كنايات الأدباء» طبع السعادة بمصر سنة ١٣٢٦.

٥

ـ إلى ـ (عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٩٤] نزلت عام الحديبية فلعلّ ذلك الباعث للذين قالوا : إنّ سورة العقود نزلت عام الحديبية. وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتض أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخّرة عنها.

وفي «الإتقان» : إنّها نزلت قبل سورة النساء ، ولكن صحّ أنّ آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] نزلت يوم عرفة في عام حجّة الوداع. ولذلك اختلفوا في أنّ هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرّقة ، ولا ينبغي التردّد في أنّها نزلت منجّمة.

وقد روي عن عبد الله بن عمرو وعائشة أنّها آخر سورة نزلت ، وقد قيل : إنّها نزلت بعد النساء ، وما نزل بعدها إلّا سورة براءة ، بناء على أنّ براءة آخر سورة نزلت ، وهو قول البراء بن عازب في «صحيح البخاري». وفي «مسند أحمد» عن عبد الله بن عمرو ، وأسماء بنت يزيد : أنّها نزلت ورسول الله في سفر ، وهو على ناقته العضباء ، وأنّها نزلت عليه كلّها. قال الربيع بن أنس : نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حجّة الوداع.

وفي «شعب الإيمان» ، عن أسماء بنت يزيد : أنّها نزلت بمنى. وعن محمد بن كعب: أنّها نزلت في حجّة الوداع بين مكة والمدينة. وعن أبي هريرة : نزلت مرجع رسول الله من حجّة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة. وضعّف هذا الحديث. وقد قيل : إنّ قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [المائدة : ٢] أنزل يوم فتح مكة.

ومن الناس من روى عن عمر بن الخطاب : أنّ سورة المائدة نزلت بالمدينة في يوم اثنين. وهنالك روايات كثيرة أنّها نزلت عام حجّة الوداع ؛ فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجّة الوداع. وقد روي عن مجاهد : أنّه قال : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ـ إلى ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣] نزل يوم فتح مكة. ومثله عن الضحّاك ، فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده.

وعن محمد بن كعب القرظيّ : أن أوّل ما نزل من هذه السورة قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ ـ إلى قوله ـ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : ١٥ ، ١٦] ثم نزلت بقيّة السورة في عرفة في حجّة الوداع.

ويظهر عندي أنّ هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء ، وفي ذلك ما يدلّ على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام

٦

إلّا اليهود والنصارى. أمّا اليهود فلأنّهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها ، وأمّا النصارى فلأنّ فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام. وفي حديث عمر في «صحيح البخاري» : وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلّا ملك غسان بالشام كنّا نخاف أن يأتينا.

وقد امتازت هذه السورة باتّساع نطاق المجادلة مع النصارى ، واختصار المجادلة مع اليهود ، عمّا في سورة النساء ، ممّا يدلّ على أنّ أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن ، وأنّ الاختلاط مع النصارى أصبح أشدّ منه من ذي قبل.

وفي سورة النساء تحريم السّكر عند الصلوات خاصّة ، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا ، فهذا متأخّر عن بعض سورة النساء لا محالة. وليس يلزم أنّ لا تنزل سورة حتّى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدّة واحدة. وهي ، أيضا ، متأخّرة عن سورة براءة : لأنّ براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلّا مرّة ، وذلك يؤذن بأنّ النفاق حين نزولها قد انقطع ، أو خضّدت شوكة أصحابه ، وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حجّ أبي بكر بالناس ، أعني سنة تسع من الهجرة.

فلا جرم أنّ بعض سورة المائدة نزلت في عام حجّة الوداع ، وحسبك دليلا اشتمالها على آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] التي اتّفق أهل الأثر على أنّها نزلت يوم عرفة ، عام حجّة الوداع ، كما في خبر عن عمر بن الخطاب. وفي سورة المائدة [٣] قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ). وفي خطبة حجّة الوداع يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنّه قد رضي بما دون ذلك ممّا تحقرون من أعمالكم».

وقد عدّت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول. عن جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة. وعدد آيها : مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور ، ومائة وثلاث وعشرون في عدّ البصريين ، ومائة وعشرون عند الكوفيين.

وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أنّ سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات : لعلّ ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض.

٧

وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنّها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام ، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود ، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به ، فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكلّ مسلم ، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح. وأخذ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة ، كما روى عبادة بن الصامت. ووقع في أوّلها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) [المائدة : ١]. فكانت طالعتها براعة استهلال.

وذكر القرطبي أنّ فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي سبع في قوله:(وَالْمُنْخَنِقَةُ ، وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ. وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ... (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) [المائدة : ٣] ، (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) [المائدة : ٤] ، (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ... (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة : ٥] ، وتمام الطهور (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ، (أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة : ٣٨]. و (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ـ إلى قوله ـ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [المائدة : ٩٥] ، و (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة : ١٠٣] ، وقوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [المائدة : ١٠٦] الآية وقوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٥٨] ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلّا في هذه السورة. اه.

وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات ، وعلى حفظ شعائر الله في الحجّ والشهر الحرام ، والنهي عن بعض المحرّمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام ، وفيها شرائع الوضوء ، والغسل ، والتيمّم ، والأمر بالعدل في الحكم ، والأمر بالصدق في الشهادة ، وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء ، وأحكام الحرابة ، وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفاق المنافقين ، وتحريم الخمر والميسر ، والأيمان وكفارتها ، والحكم بين أهل الكتاب ، وأصول المعاملة بين المسلمين ، وبين أهل الكتاب ، وبين المشركين والمنافقين ، والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه ، وإبطال العقائد الضالّة لأهل الكتابين ، وذكر مساو من أعمال اليهود ، وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنّهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه ، وأحوال المنافقين ، والأمر بتخلّق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالّين في تحريم ما أحل لهم ، والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس ، وما تخلّل ذلك أو تقدّمه من العبر ، والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى ، والتعريض

٨

بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه. واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به.

وختمت بالتذكير بيوم القيامة ، وشهادة الرسل على أممهم ، وشهادة عيسى على النصارى ، وتمجيد الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سترد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالا وتفصيلا ، ذكّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه. وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة : هذا ظهير كريم يتقبل بالطاعة والامتثال. وذلك براعة استهلال.

فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق ، فشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها ربّهم وهو الامتثال لشريعته ، وذلك كقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) [المائدة : ٧] ، ومثل ما كان يبايع عليه الرسول المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ، ويقول لهم : فمن وفى منكم فأجره على الله.

وشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين ، مثل قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] ، وقوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢]. ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم.

والإيفاء هو إعطاء الشيء وافيا ، أي غير منقوص ، ولمّا كان تحقّق ترك النقص لا يحصل في العرف إلّا بالزيادة على القدر الواجب ، صار الإيفاء مرادا منه عرفا العدل ، وتقدّم عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) في سورة النساء [١٧٣].

والعقود جمع عقد ـ بفتح العين ـ ، وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل ما. وحقيقته أنّ العقد هو ربط الحبل بالعروة ونحوها ، وشدّ الحبل في نفسه أيضا عقد. ثم استعمل مجازا في الالتزام ، فغلب استعماله حتّى صار حقيقة عرفية ، قال الحطيئة :

٩

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا

فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة ، وذكر الكرب وهو حبل آخر للقربة : فرجع بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتخيّل معه عناجا وكربا ، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة. فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد ، وأطلق مجازا على التزام من جانبين لشيء ومقابله ، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عقدة. وأطلق العقد أيضا على الشيء المعقود إطلاقا للمصدر على المفعول ، فالعهود عقود ، والتحالف من العقود ، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود ، وهي المراد هنا. ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود ، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنا ، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به.

ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على «إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين» ؛ فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض ؛ وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض ، وكالسلم والقراض ؛ وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح ، إذ المهر لم يعتبر عوضا وإنّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقا للآخر. والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول.

والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك ، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه ، فلذلك يقضي به عليه ، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ ، فيكون إتمامها حاجيّا ؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمّله : إن ضروريّا ، أو حاجيا ، أو تحسينا. وفي الحديث «المسلمون على شروطهم إلّا شرطا أحلّ حراما أو حرّم حلالا».

فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرّد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها ، كالنكاح والبيع. والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم ، ونحو المعاطاة في البيوع. والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع ، كالجعل والقراض. وتمييز جزئيّات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد.

وقال القرافيّ في الفرق التاسع والمائتين : إنّ أصل العقود من حيث هي اللزوم ، وإنّ ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنّه مبنيّ على عدم اللزوم بالقول فإنّما ذلك لأنّ في بعض العقود خفاء الحقّ الملتزم به فيخشى تطرّق الغرر إليه ، فوسّع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلّا بالشروع في العمل ، لأنّ الشروع فرع التأمّل والتدبّر. ولذلك اختلف

١٠

المالكيّة في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول ، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع. وقد احتجّ في الفرق السادس والتسعين والمائة على أنّ أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وذكر أنّ المالكيّة احتجّوا بهذه الآية على إبطال حديث : خيار المجلس ؛ يعني بناء على أنّ هذه الآية قرّرت أصلا من أصول الشريعة ، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود تمامها ، وبذلك صار ما قرّرته مقدّما عند مالك على خبر الآحاد ، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا».

واعلم أنّ العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم ، كبيع الخيار ، فضبطه الفقهاء بمدّة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه.

ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب ، والتعاقد على نصر المظلوم ، وكلّ تعاقد وقع على غير أمر حرام ، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد ، فبقي الأمر متعلّقا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه : كحلف الفضول. وفي الحديث : «أوفوا بعقود الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام». وبقي أيضا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحديبية بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش. وقد روي أنّ فرات بن حيّان العجلي سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حلف الجاهلية فقال : «لعلّك تسأل عن حلف لجيم وتيم ، قال : نعم ، قال : لا يزيده الإسلام إلّا شدّة». قلت : وهذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه. وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية ، كما تقدّم في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) في سورة آل عمران [١٧٣].

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ).

أشعر كلام بعض المفسّرين بالتّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) بقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). ففي «تلخيص الكواشي» ، عن ابن عباس : المراد بالعقود ما بعد قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) اه. ويتعيّن أن يكون مراد ابن عباس ما مبدؤه قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) الآيات.

وأمّا قول الزمخشري (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) تفصيل لمجمل قوله : (أَوْفُوا

١١

بِالْعُقُودِ) فتأويله أنّ مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ؛ فإنّ إباحة الأنعام ليست عقدا يجب الوفاء به إلّا باعتبار ما بعده من قوله : «إلّا ما يتلى عليكم». وباعتبار إبطال ما حرّم أهل الجاهلية باطلا ممّا شمله قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) [المائدة : ١٠٣] الآيات.

والقول عندي أنّ جملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) تمهيد لما سيرد بعدها من المنهيات : كقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) وقوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢] التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتنانا وتأنيسا للمسلمين ، ليتلقّوا التكاليف بنفوس مطمئنّة ؛ فالمعنى : إن حرّمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها ، وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها ، ليعلموا أنّ الله ما يريد منهم إلّا صلاحهم واستقامتهم. فجملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنّها تصدير للكلام بعد عنوانه.

والبهيمة : الحيوان البرّي من ذوي الأربع إنسيّها ووحشيّها ، عدا السباع ، فتشمل بقر الوحش والظباء. وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العامّ للخاصّ ، وهي بيانية كقولهم : ذباب النحل ومدينة بغداد. فالمراد الأنعام خاصّة ، لأنّها غالب طعام الناس ، وأمّا الوحش فداخل في قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، وهي هنا لدفع توهّم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها ، فذكرت (بهيمة) لشمول أصناف الأنعام الأربعة : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والمعز.

والإضافة البيانيّة على معنى (من) التي للبيان ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من عموم الذوات والأحوال ، وما يتلى هو ما سيفصّل عند قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، وكذلك قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، الواقع حالا من ضمير الخطاب في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ، وهو حال مقيّد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة ، لأنّ الحرم جمع حرام مثل رداح على ردح. وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) في هذه السورة [٩٧].

والحرام وصف لمن أحرم بحجّ أو عمرة ، أي نواهما. ووصف أيضا لمن كان حالا في الحرم ، ومن إطلاق المحرم على الحالّ بالحرم قول الراعي :

١٢

قتلوا ابن عفّان الخليفة محرما

أي حالا بحرم المدينة.

والحرم : هو المكان المحدود المحيط بمكة من جهاتها على حدود معروفة ، وهو الذي لا يصاد صيده ، ولا يعضد شجره ولا تحلّ لقطته ، وهو المعروف الذي حدّده إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ونصب أنصابا تعرف بها حدوده ، فاحترمه العرب ، وكان قصّي قد جدّدها ، واستمرّت إلى أن بدا لقريش أن ينزعوها ، وذلك في مدّة إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، واشتدّ ذلك على رسول الله ، ثم إنّ قريشا لم يلبثوا أن أعادوها كما كانت. ولمّا كان عام فتح مكة بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تميما بن أسد الخزاعي فجدّدها. ثم أحياها وأوضحها عمر بن الخطاب في خلافته سنة سبع عشرة ، فبعث التجديد حدود الحرم أربعة من قريش كانوا يتبدّون في بوادي مكة ، وهم: مخرمة بن نوفل الزهري ، وسعيد بن يربوع المخزومي ، وحويطب بن عبد العزّى العامري ، وأزهر بن عوف الزهري ، فأقاموا أنصابا جعلت علامات على تخطيط الحرم على حسب الحدود التي حدّدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبتدئ من الكعبة فتذهب للماشي إلى المدينة نحو أربعة أميال إلى التنعيم ، والتنعيم ليس من الحرم ، وتمتدّ في طريق الذاهب إلى العراق ثمانية أميال فتنتهي إلى موضع يقال له : المقطع ، وتذهب في طريق الطائف تسعة (بتقديم المثناة) أميال فتنتهي إلى الجعرانة ، ومن جهة اليمن سبعة (بتقديم السين) فينتهي إلى أضاة لبن ، ومن طريق جدّة عشرة أميال فينتهي إلى آخر الحديبية ، والحديبية داخلة في الحرم. فهذا الحرم يحرم صيده ، كما يحرم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة.

فقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يجوز أن يراد به محرمون ، فيكون تحريما للصيد على المحرم : سواء كان في الحرم أم في غيره ، ويكون تحريم صيد الحرم لغير المحرم ثابتا بالسنّة ، ويجوز أن يكون المراد به : محرمون وحالّون في الحرم ، ويكون من استعمال اللفظ في معنيين يجمعهما قدر مشترك بينهما وهو الحرمة ، فلا يكون من استعمال المشترك في معنييه إن قلنا بعدم صحّة استعماله فيهما ، أو يكون من استعماله فيهما ، على رأي من يصحّح ذلك ، وهو الصحيح ، كما قدّمناه في المقدّمة التاسعة.

وقد تفنّن الاستثناء في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) ، فجيء بالأول بأداة الاستثناء ، وبالثاني بالحالين الدالّين على مغايرة الحالة المأذون فيها ، والمعنى : إلّا الصيد في حالة كونكم محرمين ، أو في حالة الإحرام. وإنّما تعرّض لحكم

١٣

الصيد للمحرم هنا لمناسبة كونه مستثنى من بهيمة الأنعام في حال خاصّ ، فذكر هنا لأنّه تحريم عارض غير ذاتيّ ، ولو لا ذلك لكان موضع ذكره مع الممنوعات المتعلّقة بحكم الحرم والإحرام عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] الآية.

والصيد يجوز أن يكون هنا مصدرا على أصله ، وأن يكون مطلقا على اسم المفعول : كالخلق على المخلوق ، وهو إطلاق شائع أشهر من إطلاقه على معناه الأصليّ ، وهو الأنسب هنا لتكون مواقعه في القرآن على وتيرة واحدة ، فيكون التقدير : غير محلي إصابة لصيد. والصيد بمعنى المصدر : إمساك الحيوان الذي لا يألف ، باليد أو بوسيلة ممسكة ، أو جارحة : كالشباك ، والحبائل ، والرماح ، والسهام ، والكلاب ، والبزاة ؛ وبمعنى المفعول هو المصيد. وانتصب (غَيْرَ) على الحال من الضمير المجرور في قوله : (لَكُمْ). وجملة (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في موضع الحال من ضمير (محلّي) ، وهذا نسج بديع في نظم الكلام استفيد منه إباحة وتحريم : فالإباحة في حال عدم الإحرام ، والتحريم له في حال الإحرام.

وجملة (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) تعليل لقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، أي لا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم ، لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان ، وعلى السمع والطاعة لله ، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم. والمعنى أنّ الله أعلم بصالحكم منكم.

وذكر ابن عطية : أنّ النقّاش حكى : أنّ أصحاب الكندي قالوا له : «أيّها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، قال : نعم أعمل لكم مثل بعضه ، فاحتجب عنهم أيّاما ثمّ خرج فقال : والله ما أقدر عليه. ولا يطيق هذا أحد ، إنّي فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلّل تحليلا عامّا ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلّا في أجلاد» ـ جمع جلد أي أسفار ـ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ

١٤

الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً).

اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا). ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات ، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون.

ومعنى (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس ، بقرينة قوله : (لا تُحِلُّوا) ، فالتقدير : لا تحلّوا محرّم شعائر الله ، كما قال تعالى : في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) [التوبة : ٣٧] ؛ وإلّا فمن شعائر الله ما هو حلال كالحلق ، ومنها ما هو واجب. والمحرّمات معلومة.

والشعائر : جمع شعيرة. وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨]. وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم ، فلذلك عدل عن عدّها هنا. وهي أمكنة ، وأزمنة ، وذوات ؛ فالصفا ، والمروة ، والمشعر الحرام ، من الأمكنة. وقد مضت في سورة البقرة. والشهر الحرام من الشعائر الزمانية ، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات. فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به ، والمراد به جنس الشهر الحرام ، لأنّه في سياق النفي ، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ... (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦]. فالتعريف تعريف الجنس ، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع. وقال ابن عطيّة : الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، فإنّما خصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه ، فلذلك كان يعرف برجب مضر ؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه. وكان يقال له : شهر بني أميّة أيضا ، لأنّ قريشا حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص :

وشهر بني أميّة والهدايا

إذا حبست مضرّجها الدقاء

وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ. والأظهر أنّ التعريف للجنس ، كما قدّمناه.

والهدي : هو ما يهدي إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من منى ، أو بالمروة ، من الأنعام.

١٥

والقلائد : جمع قلادة وهي ظفائر من صوف أو وبر ، يربط فيها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر ، أي قشره ، وتوضع في أعناق الهدايا مشبّهة بقلائد النساء ، والمقصود منها أن يعرف الهدي فلا يتعرّض له بغارة أو نحوها. وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحرم ، وأراد أن يرجع إلى وطنه ، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يتعرّض له بسوء.

ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته ، وهذا كقول أبي بكر : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. على أنّ القلائد ممّا ينتفع به ، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالا لفقرائهم ، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن ، وهي شقق من ثياب توضع على كفل البدنة ؛ فيتّخذون منها قمصا لهم وأزرا ، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) [إبراهيم : ٣٧] قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) [المائدة : ٩٧].

وقوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف على (شَعائِرَ اللهِ) : أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج ، فالمراد قاصدوه لحجّه ، لأنّ البيت لا يقصد إلّا للحجّ ، ولذلك لم يقل : ولا آمّين مكة ، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه ، لأنّ من جملة حرمة البيت حرمة قاصده. ولا شك أنّ المراد آمّين البيت من المشركين ؛ لأنّ آمّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال. وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول : وهو أن خيلا من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضبيعة الملقّب بالحطم (بوزن زفر) ، والمكنّى أيضا بابن هند. نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عمرو بن مرثد ، وكان الحطم هذا من بكر بن وائل ، من نزلاء اليمامة ، فترك خيله خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إلام تدعو» فقال رسول الله : «إلى شهاد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة». فقال : «حسن ما تدعو إليه وسأنظر ولعلّي أن أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من ورائي من لا أقطع أمرا دونهم» وخرج فمرّ بسرح المدينة فاستاق إبلا كثيرة ولحقه المسلمون لمّا أعلموا به فلم يلحقوه ، وقال في ذلك رجزا ، وقيل : الرجز لأحد أصحابه ، وهو رشيد بن رميض العنزي وهو :

١٦

هذا أوان الشّدّ فاشتدّي زيم

قد لفّها الليل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزّلم

خدلّج الساقين خفّاق القدم

ثم أقبل الحطم في العام القابل وهو عام القضية فسمعوا تلبية حجّاج اليمامة فقالوا : هذا الحطم وأصحابه ومعهم هدي هو ممّا نهبه من إبل المسلمين ، فاستأذنوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نهيهم ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك. فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية ، وكان النهي عن التعرّض لبدن الحطم مشمولا لما اشتملت عليه هذه الآية.

والبيت الحرام هو الكعبة. وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧] في هذه السورة. وجملة (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) صفة ل (آمِّينَ) من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمّي البيت الحرام.

وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه ، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك ، قال النابغة :

حيّاك ربّي فإنّا لا يحلّ لنا

لهو النساء وإنّ الدّين قد عزما

مشمّرين على خوص مزمّمة

نرجو الإله ونرجو البرّ والطعما

ويتنزّهون عن فحش الكلام ، قال العجّاج :

وربّ أسراب حجيج كظّم

عن اللّغا ورفث التكلّم

ويظهرون الزهد والخشوع ، قال النابغة :

بمصطحبات من لصاف وثبرة

يزرن إلالا سيرهنّ التّدافع

عليهنّ شعث عامدون لربّهم

فهنّ كأطراف الحنيّ خواشع

ووجه النّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين : أنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام ، حالة خير وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه ، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويدا ، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك ، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى).

١٧

والفضل : خير الدنيا ، وهو صلاح العمل. والرضوان : رضي الله تعالى عنهم ، وهو ثواب الآخرة ، وقيل : أراد بالفضل الربح في التجارة ، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلّا إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكّة.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

تصريح بمفهوم قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] لقصد تأكيد الإباحة. فالأمر فيه للإباحة ، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي ، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهيا مستمرّا ، ثم الأمر به كذلك ، وما هنا : إنّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات ، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر : أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب. فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة ، وقد حرّم في حالة الإحرام ، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته.

و (فَاصْطادُوا) صيغة افتعال ، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل ، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد. ونظيره : اضطرّه إلى كذا. وقد نزّل (فَاصْطادُوا) منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا).

عطف على قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) لزيادة تقرير مضمونه ، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدءوكم بحرب.

ومعنى (يَجْرِمَنَّكُمْ) يكسبنّكم ، يقال : جرمه يجرمه ، مثل ضرب. وأصله كسب ، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها ، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرم بمعنى كسب ، قالوا : جرم فلان لنفسه كذا ، أي كسب.

وعدّي إلى مفعول ثان وهو (أَنْ تَعْتَدُوا) ، والتقدير : يكسبكم الشنآن الاعتداء. وأمّا تعديته بعلى في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) [المائدة : ٨] فلتضمينه معنى يحملنّكم.

والشنآن ـ بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر ، وقد تسكّن النون إمّا أصالة وإمّا تخفيفا ـ هو البغض. وقيل : شدّة البغض ، وهو المناسب ، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص :

١٨

أنمي على البغضاء والشنآن

وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب ، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس ، فهو مثل الغليان والنزوان.

وقرأ الجمهور : (شَنَآنُ) ـ بفتح النون ـ. وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ـ بسكون النون ـ. وقد قيل : إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان ، أي عدوّ ، فالمعنى : لا يجرمنّكم عدوّ قوم ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. وإضافة شنآن إذا كان مصدرا من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بغضكم قوما ، بقرينة قوله : (أَنْ صَدُّوكُمْ) ، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه.

وقرأ الجمهور : (أَنْ صَدُّوكُمْ) ـ بفتح همزة (أن) ـ. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : ـ بكسر الهمزة ـ على أنّها (إن) الشرطية ، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط.

والمسجد الحرام اسم جعل علما بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب ، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يدعى بذلك في الجاهليّة ، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في سورة البقرة [١٤٤] ، وسيأتي عند قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١].

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

تعليل للنهي الذي في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ). وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة ، ولكنّها عطفت : ترجيحا لما تضمّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل ، يعني : أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى ، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم ، كان الشأن أن يعينوا على البرّ والتقوى ، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها ، فيصير تحصيلها رغبة لهم ، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها ، ولو كان عدوّا ، والحجّ برّ فأعينوا عليه وعلى التقوى ، فهم وإن كانوا كفّارا يعاونون على ما هو برّ : لأنّ البرّ يهدي للتقوى ، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام. ولمّا كان الاعتداء على العدوّ إنّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّا عن المسجد

١٩

الحرام ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفا ؛ فالضمير والمفاعلة في (تَعاوَنُوا) للمسلمين ، أي ليعن بعضكم بعضا على البرّ والتقوى. وفائدة التعاون تيسير العمل ، وتوفير المصالح ، وإظهار الاتّحاد والتناصر ، حتّى يصبح ذلك خلقا للأمّة. وهذا قبل نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

وقوله : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) تأكيد لمضمون (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) لأنّ الأمر بالشيء ، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه ، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه. والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضا عن ظلم قوم لكم نحوهم شنآن.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) الآية تذييل. وقوله : (شَدِيدُ الْعِقابِ) تعريض بالتهديد.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

استئناف بيانيّ ناشئ عن قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١] ، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام.

ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها ، لأنّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا. وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها. وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير ، لاستيعاب محرّمات الحيوان. وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك ، إلّا ما ورد في السنّة من تحريم الحمر الأهلية ، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها ، والظاهر أنّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف. وألحق مالك بها الخيل والبغال قياسا ، وهو من قياس الأدون ، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨].

٢٠