تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

عطف على جملة (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] انتقالا إلى أحوال النّصارى لقوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام الّتي كتبها الله عليهم ، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التّوراة : أحدهما : ما حرّفوه وتردّدوا فيه بعد أن حرّفوه فشكّوا في آخر الأمر والتجئوا إلى تحكيم الرّسول ؛ وثانيهما : ما حرّفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرّجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص. وهذا نوع ثالث : وهو إعراضهم عن حكم الله بالكليّة ، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

والتقفية مصدر قفّاه إذا جعله يقفوه ، أي يأتي بعده. وفعله المجرّد قفا ـ بتخفيف الفاء ـ ومعنى قفاه سار نحو قفاه ، والقفا الظهر ، أي سار وراءه. فالتقفية الاتباع مشتقّة من القفا ، ونظيره : توجّه مشتقّا من الوجه ، وتعقّب من العقب. وفعل قفّى المشدّد مضاعف قفا المخفّف ، والأصل في التضعيف أن يفيد تعدية الفعل إلى مفعول لم يكن متعدّيا إليه ، فإذا جعل تضعيف (قَفَّيْنا) هنا معدّيا للفعل اقتضى مفعولين : أوّلهما : الّذي كان مفعولا قبل التّضعيف ، وثانيهما : الّذي عدّي إليه الفعل ، وذلك على طريقة باب كسا ؛ فيكون حقّ التّركيب : وقفّيناهم عيسى ابن مريم ، ويكون إدخال الباء في (بِعِيسَى) للتّأكيد ، مثل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ، وإذا جعل التّضعيف لغير التّعدية بل لمجرّد تكرير وقوع الفعل ، مثل جوّلت وطوّفت كان حقّ التّركيب : وقفّيناهم بعيسى ابن مريم. وعلى الوجه الثّاني جرى كلام «الكشاف» فجعل باء (بِعِيسَى) للتعدية. وعلى كلا الوجهين يكون مفعول (قَفَّيْنا) محذوفا يدلّ عليه قوله (عَلى آثارِهِمْ) لأنّ فيه ضمير المفعول المحذوف ، هذا تحقيق كلامه وسلّمه أصحاب حواشيه.

وقوله (عَلى آثارِهِمْ) تأكيد لمدلول فعل (قَفَّيْنا) وإفادة سرعة التقفية. وضمير (آثارِهِمْ) للنّبيين والرّبانيين والأحبار. وقد أرسل عيسى على عقب زكرياء كافل أمّه مريم ووالد يحيى. ويجوز أن يكون معنى (عَلى آثارِهِمْ) على طريقتهم وهديهم. والمصدّق : المخبر بتصديق مخبر ، وأريد به هنا المؤيّد المقرّر للتّوراة.

وجعلها (بَيْنَ يَدَيْهِ) لأنّها تقدّمته ، والمتقدّم يقال : هو بين يدي من تقدّم. و (مِنَ التَّوْراةِ) بيان (لِما). وتقدّم الكلام على معنى التّوراة والإنجيل في أوّل سورة آل عمران.

١٢١

وجملة (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) حال. وتقدّم معنى الهدى والنّور.

و (مُصَدِّقاً) حال أيضا من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً) لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التّصديق ؛ فتصديق عيسى التّوراة أمره بإحياء أحكامها ، وهو تصديق حقيقي ؛ وتصديق الإنجيل التّوراة اشتماله على ما وافق أحكامها فهو تصديق مجازي. وهذا التّصديق لا ينافي أنّه نسخ بعض أحكام التّوراة كما حكى الله عنه (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٥٠] ، لأنّ الفعل المثبت لا عموم له.

والموعظة : الكلام الّذي يلين القلب ويزجر عن فعل المنهيات.

وجملة (وَلْيَحْكُمْ) معطوفة على (آتَيْناهُ). وقرأ الجمهور (وَلْيَحْكُمْ) ـ بسكون اللّام وبجزم الفعل ـ على أنّ اللام لام الأمر. ولا شكّ أنّ هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام ، فهو ممّا أمر الله به الّذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنّصارى ، فعلم أنّ في الجملة قولا مقدّرا هو المعطوف على جملة (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) ، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصّفات العظيمة ، وقلنا : ليحكم أهل الإنجيل ، فيتمّ التّمهيد لقوله بعده (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، فقرائن تقدير القول متظافرة من أمور عدّة.

وقرأ حمزة ـ بكسر لام ـ (لْيَحْكُمْ) ونصب الميم ـ على أنّ اللام لام كي للتّعليل ، فجملة (لْيَحْكُمْ) على هذه القراءة معطوفة على قوله (فِيهِ هُدىً) إلخ ، الّذي هو حال ، عطفت العلّة على الحال عطفا ذكريا لا يشرّك في الحكم لأنّ التّصريح بلام التّعليل قرينة على عدم استقامة تشريك الحكم بالعطف فيكون عطفه كعطف الجمل المختلفة المعنى.

وصاحب «الكشاف» قدّر في هذه القراءة فعلا محذوفا بعد الواو ، أي وآتيناه الإنجيل ، دلّ عليه قوله قبله (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) ، وهو تقدير معنى وليس تقدير نظم الكلام.

والمراد بالفاسقين الكافرون ، إذ الفسق يطلق على الكفر ، فتكون على نحو ما في الآية الأولى. ويحتمل أنّ المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنّهم يخالفونه فيكون ذمّا للنصارى في التّهاون بأحكام كتابهم أضعف من ذمّ اليهود.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ

١٢٢

شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨))

جالت الآيات المتقدّمة جولة في ذكر إنزال التّوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن ؛ فكان كردّ العجز على الصّدر لقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] ليبيّن أنّ القرآن جاء نسخا لما قبله ، وأنّ مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتّوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام ، وليعلمهم أنّهم لا يطمعون من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام ، فوقع قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) إتماما لترتيب نزول الكتب السماويّة ، وتمهيدا لقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ). ووقع قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) موقع التّخلّص المقصود ، فجاءت الآيات كلّها منتظمة متناسقة على أبدع وجه.

والكتاب الأوّل القرآن ، فتعريفه للعهد. والكتاب الثّاني جنس يشمل الكتب المتقدّمة ، فتعريفه للجنس. والمصدّق تقدّم بيانه.

والمهيمن الأظهر أنّ هاءه أصلية وأنّ فعله بوزن فيعل كسيطر ، ولكن لم يسمع له فعل مجرّد فلم يسمع همن.

قال أهل اللّغة لا نظير لهذا الفعل إلّا هينم إذا دعا أو قرأ ، وبيقر إذا خرج من الحجاز إلى الشّام ، وسيطر إذا قهر. وليس له نظير في وزن مفيعل إلّا اسم فاعل هذه الأفعال ، وزادوا مبيطر اسم طبيب الدّواب ، ولم يسمع بيطر ولكن بطر ، ومجيمر اسم جبل ، ذكره امرؤ القيس في قوله :

كأنّ ذرى رأس المجيمر غدوة

من السيل والغثاء فلكة مغزل

وفسّر المهيمن بالعالي والرقيب ، ومن أسمائه تعالى المهيمن.

وقيل : المهيمن مشتقّ من أمن ، وأصله اسم فاعل من آمنه عليه بمعنى استحفظه به ، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة ، فأصله مؤأمن ، فكأنّهم راموا أن يفرّقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه ، لأنّ هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلّة فقلبوا الهمزة الثّانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا في أراق هراق ، فقالوا : هيمن.

وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب ، فهو مؤيّد لبعض ما

١٢٣

في الشّرائع مقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان ، وهو بهذا الوصف مصدّق ، أي محقّق ومقرّر ، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة.

وقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزل الله إليك في القرآن ، أو بما أوحاه إليك ، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه الله بحكم جديد ، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لمن قبلنا. فحكم النّبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التّوراة ، فيحتمل أنّه كان مؤيّدا بالقرآن إذا كان حينئذ قد جاء قوله : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما». ويحتمل أنّه لم يؤيّد ولكن الله أوحى إلى رسوله أنّ حكم التّوراة في مثلهما الرجم ، فحكم به ، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم. وقد اتّصل معنى قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) بمعنى قوله : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٤٢] ؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] ، ولكنه بيان سمّاه بعض السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحيّة.

والنّهي عن اتّباع أهوائهم ، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يحكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم ، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه ، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة ، لأنّ نزول القرآن مهيمنا أبطل ما خالفه ، ونزوله مصدّقا أيّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه.

والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله ، فالمقصود من هذا النّهي : إمّا إعلانذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون ، فخطاب النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٩] مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس ، مثل قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. وإمّا تبيين الله لرسوله وجه ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرقا للترجيح ، وذلك أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لشدّة رغبته في هدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم ، لأنّهم وعدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به. فقد يقال : إنّهم لمّا تراضوا عليه لم لا يحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام ، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها ، وأنّ مصلحة احترام الشّريعة بين أهلها أرجح من

١٢٤

مصلحة دخول فريق في الإسلام ، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفا لمريديه ، قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧].

وقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) كالتعليل للنّهي ، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسّكوا بشرعكم.

والشرعة والشريعة : الماء الكثير من نهر أو واد. يقال : شريعة الفرات. وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه ، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتها. والعرب تشبّه بالماء وأحواله كثيرا ، كما قدمناه في قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) في سورة النساء [٨٣].

والمنهاج : الطريق الواسع ، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء ، كقول قيس بن الخطيم :

وأتبعت دلوي في السماح رشاءها

فذكر الرشاء مجرّد تخييل. ويصحّ أن يجعل له رديف في المشبّه بأن تشبّه العوائد المنتزعة من الشّريعة ، أو دلائل التّفريع عن الشريعة ، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصّل إلى السماء. فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتّصال بالإسلام ، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء ، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم ، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم ، فذلك كالمنهاج الموصّل إلى غير المورود. وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرق بين حاليهما وبالتّأمّل يظهر لهم.

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). الجعل : التقدير ، وإلّا فإنّ الله أمر النّاس أن يكونوا أمّة واحدة على دين الإسلام ، ولكنّه رتّب نواميس وجبلّات ، وسبّب اهتداء فريق وضلال فريق ، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبّر عنه بالتّوفيق أو الخذلان ، والميل أو الانصراف ، والعزم أو المكابرة. ولا عذر لأحد في ذلك ، لأنّ علم الله غير معروف عندنا وإنّما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات.

والأمّة : الجماعة العظيمة الّذين دينهم ومعتقدهم واحد ، هذا بحسب اصطلاح الشّريعة. وأصل الأمّة في كلام العرب : القوم الكثيرون الّذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلّمون بلسان واحد ، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد ، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزّيادة ولا للتطوّر من أنفسها.

١٢٥

ومعنى (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه. والبلاء:الخبرة. والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس ، والمراد لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :

وأقبلت والخطي يخطر بيننا

لأعلم من جبانها من شجاعها

لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللنّاس. ومعناه أنّ الله وكل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علما وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح. وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد ، وذلك من الاختبار. ولذلك قال (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر. فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يبلغ بعضها درجات عالية ، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدار عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل.

وفرّع على (لِيَبْلُوَكُمْ) قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضح وأجلى.

والاستباق : التسابق ، وهو هنا مجاز في المنافسة ، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر ، فشابه التّسابق. ولتضمين فعل استبقوا بمعنى خذوا ، أو ابتدروا ، عدّي الفعل إلى (الْخَيْراتِ) بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى ، كقوله (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١]. وقوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي من الاختلاف في قبول الدّين.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩))

يجوز أن يكون قوله (وَأَنِ احْكُمْ) معطوفا عطف جملة على جملة ، بأن يجعل معطوفا على جملة (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٨] ، فيكون رجوعا إلى ذلك الأمر لتأكيده ، وليبنى عليه قوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) كما بني على نظيره قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨]

١٢٦

وتكون (أن) تفسيرية. و (أن) التفسيريّة تفيد تقويّة ارتباط التّفسير بالمفسّر ، لأنّها يمكن الاستغناء عنها ، لصحّة أن تقول : أرسلت إليه افعل كذا ، كما تقول : أرسلت إليه أن افعل كذا. فلمّا ذكر الله تعالى أنّه أنزل الكتاب إلى رسوله رتّب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) [المائدة : ٤٨] ، فدلّ على أنّ الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله. وعطف عليه ما يدلّ على أنّ الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلّت عليه (أن) التفسيرية في قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، فتأكّد الغرض بذكره مرّتين مع تفنّن الأسلوب وبداعته ، فصار التّقدير : وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ أن احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به. وممّا حسّن عطف التّفسير هنا طول الكلام الفاصل بين الفعل المفسّر وبين تفسيره. وجعله صاحب «الكشاف» من عطف المفردات. فقال : عطف (أَنِ احْكُمْ) على (الْكِتابَ) في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨] كأنّه قيل : وأنزلنا إليك أن احكم. فجعل (أن) مصدريّة داخلة على فعل الأمر ، أي فيكون المعنى : وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح : ١] ، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار ، وبيّن في سورة يونس [١٠٥] عند قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أنّ هذا قول سيبويه إذ سوّغ أن توصل (أن) المصدريّة بفعل الأمر والنّهي لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر ، والأمر والنّهي يدلّان على معنى المصدر ، وعلّله هنا بقوله : «لأنّ الأمر فعل كسائر الأفعال». والحمل على التفسيرية أولى وأعرب ، وتكون (أن) مقحمة بين الجملتين مفسّرة لفعل (أَنْزَلَ) من قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ؛ فإنّ (أَنْزَلَ) يتضمّن معنى القول فكان لحرف التّفسير موقع.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) هو كقوله قبله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) [المائدة : ٤٤].

وقوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم ممّا أمّلوه ، لأنّ حذر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله.

ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صحّ ما روي من أنّ بعض أحبارهم وعدوا النّبيء بأنّه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتّبعتهم اليهود اقتداء بهم ، فأراه الله أنّ مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بين غير أتباعه مقدّمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود ، لأجل ذلك

١٢٧

فإنّ شأن الإيمان أن لا يقاول النّاس على اتّباعه كما قدّمناه آنفا. والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهّم ذلك.

ولذلك فرّع عليه قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) ، أي فإن حكمت بينهم بما أنزل الله ولم تتّبع أهواءهم وتولّوا فاعلم ، أي فتلك أمارة أنّ الله أراد بهم الشّقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في تولّيهم حرج. وأراد ببعض الذنوب بعضا غير معين ، أي أنّ بعض ذنوبهم كافية في إصابتهم وأنّ تولّيهم عن حكمك أمارة خذلان الله إيّاهم.

وقد ذيّله بقوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) ليهون عنده بقاؤهم على ضلالهم إذ هو شنشنة أكثر النّاس ، أي وهؤلاء منهم فالكلام كناية عن كونهم فاسقين.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

فرّعت الفاء على مضمون قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ) [المائدة : ٤٩] إلخ استفهاما عن مرادهم من ذلك التولّي ، والاستفهام إنكاري ، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة. وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب ، وهم أهل جاهلية ، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم ؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية ، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة.

وقرأ الجمهور (يَبْغُونَ) ـ بياء الغائب ـ ، والضمير عائد ل (مَنْ) من قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٧]. وقرأ ابن عامر ـ بتاء الخطاب ـ على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات.

والواو في قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) واو الحال ، وهو اعتراض ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، أي لا أحسن منه حكما. وهو خطاب للمسلمين ، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا.

وقوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اللام فيه ليست متعلّقة ب (حُكْماً) إذ ليس المراد بمدخولها المحكوم لهم ، ولا هي لام التّقوية لأنّ (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ليس مفعولا ل (حُكْماً) في المعنى. فهذه اللام تسمّى لام البيان ولام التبيين ، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبرا أم إنشاء ، وهي الواقعة في نحو قولهم : سقيا لك ، وجدعا له ، وفي الحديث «تبّا وسحقا لمن بدّل بعدي» ، وقوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) [المؤمنون : ٣٦](حاشَ لِلَّهِ) [يوسف : ٥١]. وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام.

١٢٨

ومنه قول تعالى عن زليخا (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] لأنّ تهيّؤها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] ، إذا كان (هيت) اسم فعل مضي بمعنى تهيّأت ، ومثل قوله تعالى هنا : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). وقد يكون المقصود معلوما فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو (حاشَ لِلَّهِ) [يوسف : ٥١] ، وهي حينئذ جديرة باسم لام التبيين ، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم : سقيا لك ورعيا ، ونحوهما ، وفي قوله : (هَيْتَ) [يوسف : ٢٣] اسم فعل أمر بمعنى تعال. وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية ، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها ، وفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلّا معها.

[٥١ ـ ٥٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

تهيّأت نفوس المؤمنين لقبول النّهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليب الأمور للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى) الآية ، لأنّ الولاية تنبني على الوفاق والوئام والصّلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبعد ما بين الأخلاق الدّينيّة ، ولإضمارهم الكيد للمسلمين. وجرّد النّهي هنا عن التّعليل والتّوجيه اكتفاء بما تقدّم.

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وسبب النّهي هو ما وقع من اليهود ، ولكن لمّا أريد النّهي لم يقتصر عليهم لكيلا يحسب المسلمون أنّهم مأذونون في موالاة النّصارى ، فلدفع ذلك عطف النّصارى على اليهود هنا ، لأنّ السبب الدّاعي لعدم الموالاة واحد في الفريقين ، وهو اختلاف الدّين والنفرة الناشئة عن تكذيبهم رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالنّصارى وإن لم تجىء منهم يومئذ أذاة مثل اليهود فيوشك أن تجيء منهم إذا وجد داعيها.

وفي هذا ما ينبّه على وجه الجمع بين النّهي هنا عن موالاة النّصارى وبين قوله فيما

١٢٩

سيأتي (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ٨٢]. ولا شكّ أنّ الآية نزلت بعد غزوة تبوك أو قربها ، وقد أصبح المسلمون مجاورين تخوم بلاد نصارى العرب. وعن السدّي أنّ بعض المسلمين بعد يوم أحد عزم أن يوالي يهوديا ، وأنّ آخر عزم أن يوالي نصرانيا كما سيأتي ، فيكون ذكر النّصارى غير إدماج.

وعقّبه بقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أنّهم أجدر بولاية بعضهم بعضا ، أي بولاية كلّ فريق منهم بعض أهل فريقه ، لأنّ كلّ فريق منهم تتقارب أفراده في الأخلاق والأعمال فيسهل الوفاق بينهم ، وليس المعنى أنّ اليهود أولياء النّصارى. وتنوين (بَعْضٍ) تنوين عوض ، أي أولياء بعضهم. وهذا كناية عن نفي موالاتهم المؤمنين وعن نهي المؤمنين عن موالاة فريق منهما.

والولاية هنا ولاية المودّة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث ، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النّصراني والعكس أخذا بقول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملّتين. وقال الشّافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل الملل من بعض ورأيا الكفر ملّة واحدة أخذا بظاهر هذه الآية ، وهو مذهب داود.

وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، (من) شرطيّة تقتضي أنّ كلّ من يتولّاهم يصير واحدا منهم. جعل ولايتهم موجبة كون المتولّي منهم ، وهذا بظاهره يقتضي أنّ ولايتهم دخول في ملّتهم ، لأنّ معنى البعضية هنا لا يستقيم إلّا بالكون في دينهم. ولمّا كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتّبع الرسول ولم ينافق كان مسلما لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل ، وقد تأوّلها المفسّرون بأحد تأويلين : إمّا بحمل الولاية في قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) على الولاية الكاملة الّتي هي الرّضى بدينهم والطعن في دين الإسلام ، ولذلك قال ابن عطيّة : ومن تولّاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النّار.

وأمّا بتأويل قوله : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) على التشبيه البليغ ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب. قال ابن عطيّة : من تولّاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم اه. وهذا الإجمال في قوله : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) مبالغة في التّحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية ، فالله لم يرض من المسلمين يومئذ بأن يتولّوا اليهود والنّصارى ، لأنّ ذلك يلبسهم بالمنافقين ، وقد كان أمر المسلمين يومئذ في حيرة إذ كان حولهم المنافقون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعيّن لحفظ الجامعة التّجرّد عن كلّ ما تتطرّق منه الرّيبة إليهم.

١٣٠

وقد اتّفق علماء السنّة على أنّ ما دون الرّضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة ولكنّه ضلال عظيم ، وهو مراتب في القوّة بحسب قوّة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين.

وأعظم هذه المراتب القضية الّتي حدثت في بعض المسلمين من أهل غرناطة الّتي سئل عنها فقهاء غرناطة : محمد الموّاق ، ومحمد بن الأرزق ، وعليّ بن داود ، ومحمد الجعدالة ، ومحمد الفخار ، وعليّ القلصادي ، وأبو حامد بن الحسن ، ومحمد بن سرحونة ، ومحمد المشذّالي ، وعبد الله الزليجي ، ومحمد الحذام ، وأحمد بن عبد الجليل ، ومحمد بن فتح ، ومحمد بن عبد البرّ ، وأحمد البقني ، عن عصابة من قواد الأندلس ، وفرسانهم لجئوا إلى صاحب قشتالة (بلاد النصارى) بعد كائنة (اللّسانة) ـ كذا ـ واستنصروا به على المسلمين واعتصموا بحبل جواره وسكنوا أرض النّصارى فهل يحلّ لأحد من المسلمين مساعدتهم ولأهل مدينة أو حصن أن يأووهم. فأجابوا بأنّ ركونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم قد دخلوا به في وعيد قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فمن أعانهم فهو معين على معصية الله ورسوله ، هذا ما داموا مصرّين على فعلهم فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم (١).

فاستدلالهم في جوابهم بهذه الآية يدلّ على أنّهم تأوّلوها على معنى أنّه منهم في استحقاق المقت والمذمة ، وهذا الّذي فعلوه ، وأجاب عنه الفقهاء هو أعظم أنواع الموالاة بعد موالاة الكفر. وأدنى درجات الموالاة المخالطة والملابسة في التّجارة ونحوها. ودون ذلك ما ليس بموالاة أصلا ، وهو المعاملة. وقد عامل النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود خيبر مساقاة على نخل خيبر ، وقد بيّنّا شيئا من تفصيل هذا عند قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة آل عمران [٢٨].

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل للنّهي ، وعموم القوم الظّالمين شمل اليهود والنّصارى ، وموقع الجملة التذييلية يقتضي أنّ اليهود والنّصارى من القوم الظّالمين بطريق الكناية. والمراد بالظّالمين الكافرون.

وقوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّها وقعت في حضرته. والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدّم

__________________

(١) انظر «جامع المعيار».

١٣١

في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في سورة البقرة [١٠]. أطلق عليه مرض لأنّه كفر مفسد للإيمان. والمسارعة تقدّم شرحها في قوله تعالى : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١]. وفي المجرور مضاف محذوف دلّت عليه القرينة ، لأنّ المسارعة لا تكون في الذوات ، فالمعنى : يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم.

والقول الواقع في (يَقُولُونَ نَخْشى) قول لسان لأنّ عبد الله بن أبيّ بن سلول قال ذلك ، حسبما روي عن عطيّة الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أنّ الآية نزلت بعد وقعة بدر أو بعد وقعة أحد وأنّها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع. وكان بنو قينقاع أحلافا لعبد الله بن أبي بن سلول ولعبادة بن الصامت ، فلمّا رأى عبادة منزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فقال : يا رسول الله إنّي أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أوالي إلّا الله ورسوله ، وكان عبد الله بن أبيّ حاضرا فقال : أمّا أنا فلا أبرأ من حلفهم فإنّي لا بدّ لي منهم إنّي رجل أخاف الدّوائر.

ويحتمل أن يكون قولهم : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) ، قولا نفسيا ، أي يقولون في أنفسهم. فالدّائرة المخشيّة هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين ، فيكون هذا القول من المرض الّذي في قلوبهم ، وعن السديّ : أنّه لمّا وقع انهزام يوم أحد فزع المسلمون وقال بعضهم : نأخذ من اليهود حلفا ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش. وقال رجل : إنّي ذاهب إلى اليهود فلان فآوي إليه وأتهوّد معه. وقال آخر : إنّي ذاهب إلى فلان النّصراني بالشّام فآوي إليه وأتنصّر معه ، فنزلت الآية. فيكون المرض هنا ضعف الإيمان وقلّة الثّقة بنصر الله ، وعلى هذا فهذه الآية تقدّم نزولها قبل نزول هذه السورة ، فإمّا أعيد نزولها ، وإمّا أمر بوضعها في هذا الموضع.

والظاهر أنّ قوله (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) يؤيّد الرواية الأولى ، ويؤيّد محملنا فيها : أنّ القول قول نفسيّ.

والدائرة اسم فاعل من دار إذا عكس سيره ، فالدائرة تغيّر الحال ، وغلب إطلاقها على تغيّر الحال من خير إلى شرّ ، ودوائر الدّهر : نوبه ودوله ، قال تعالى : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) [التوبة : ٩٨] أي تبدّل حالكم من نصر إلى هزيمة. وقد قالوا في قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [الفتح : ٦] إنّ إضافة (دائرة) إلى (السّوء) إضافة بيان. قال أبو عليّ الفارسي : لو لم تضف الدائرة إلى السّوء عرف منها معناه. وأصل تأنيثها للمرّة ثمّ غلبت على التغيّر ملازمة لصبغة التّأنيث.

١٣٢

وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأه الجمهور (يَقُولُ) بدون واو في أوّله على أنّه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل : ما ذا يقول الّذين آمنوا حينئذ. أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهن اليهود يقول الّذين آمنوا

وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف (وَيَقُولُ) بالواو ـ وبرفع (يَقُولُ) عطفا على (فَعَسَى اللهُ) ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ـ بالواو ـ أيضا وبنصب (يَقُولُ) عطفا على (أَنْ يَأْتِيَ). والاستفهام في (أَهؤُلاءِ) مستعمل في التعجّب من نفاقهم.

و (هؤُلاءِ) إشارة إلى طائفة مقدّرة الحصول يوم حصول الفتح ، وهي طائفة الّذين في قلوبهم مرض. والظاهر أنّ (الَّذِينَ) هو الخبر عن (هؤُلاءِ) لأنّ الاستفهام للتّعجب ، ومحلّ العجب هو قسمهم أنّهم معهم ، وقد دلّ هذا التعجّب على أنّ المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين.

وجهد الأيمان ـ بفتح الجيم ـ أقواها وأغلظها ، وحقيقة الجهد التعب والمشقّة ومنتهى الطاقة ، وفعله كمنع. ثم أطلق على أشدّ الفعل ونهاية قوّته لما بين الشدّة والمشقّة من الملازمة ، وشاع ذلك في كلامهم ثمّ استعمل في الآية في معنى أوكد الأيمان وأغلظها ، أي أقسموا أقوى قسم ، وذلك بالتّوكيد والتّكرير ونحو ذلك ممّا يغلّظ به اليمين عرفا. ولم أر إطلاق الجهد على هذا المعنى فيما قبل القرآن. وانتصب (جَهْدَ) على المفعولية المطلقة لأنّه بإضافته إلى «الأيمان» صار من نوع اليمين فكان مفعولا مطلقا مبيّنا للنّوع. وفي «الكشاف» في سورة النّور جعله مصدرا بدلا من فعله وجعل التّقدير : أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدا ، فلمّا حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضا عنه قدّم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه.

وجملة (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) استئناف ، سواء كانت من كلام الّذين آمنوا فتكون من المحكي بالقول ، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه. وحبطت معناه تلفت وفسدت ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في سورة البقرة [٢١٧].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ

١٣٣

مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

تقضّى تحذيرهم من أعدائهم في الدّين ، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه ، فأقبل على تنبيههم إلى أنّ ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدّين والذبّ عنه ، وأنّ الله لا يناله نفع من ذلك ، وأنّهم لو ارتدّ منهم فريق أو نفر لم يضرّ الله شيئا ، وسيكون لهذا الدّين أتباع وأنصار وإن صدّ عنه من صدّ ، وهذا كقوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وقوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧].

فجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) إلخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) [المائدة : ٥٥] ، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١]. فتعقيبها بهذا الاعتراض إشارة إلى أنّ اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء ذريعة للارتداد ، لأنّ استمرار فريق على موالاة اليهود والنّصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسلّ عن الإيمان فريق. وأنبأ المتردّدين ضعفاء الإيمان بأنّ الإسلام غنيّ عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر (مَنْ يَرْتَدِدْ) ـ بدالين ـ على فكّ الإدغام ، وهو أحد وجهين في مثله ، وهو لغة أهل الحجاز ، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام. وقرأ الباقون ـ بدال واحدة مشدّدة بالإدغام ـ ، وهو لغة تميم. ـ وبفتح على الدال ـ فتحة تخلّص من التقاء الساكنين لخفّة الفتح ، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكّة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة.

والارتداد مطاوع الردّ ، والردّ هو الإرجاع إلى مكان أو حالة ، قال تعالى : (رُدُّوها عَلَيَ) [ص : ٣٣]. وقد يطلق الردّ بمعنى التّصيير (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [النحل : ٧٠]. وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره ، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتدّ عنه اتّخاذ دين قبله.

وجملة (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) إلخ جواب الشرط ، وقد حذف منها العائد على الشرط الاسمي ، وهو وعد بأنّ هذا الدّين لا يعدم أتباعا بررة مخلصين. ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الّذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلّة الاكتراث بهم ، كقوله

١٣٤

تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) وتطمين الرسول والمؤمنين الحقّ بأنّ الله يعوّضهم بالمرتدّين خيرا منهم. فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمّنه حتّى كان للشرط جوابان.

وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسود العنسي باليمن ، وأصحاب طلحة بن خويلد في بني أسد ، وأصحاب مسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة. ثمّ إلى ما كان بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ارتداد قبائل كثيرة مثل فزارة وغطفان وبني تميم وكندة ونحوهم. قيل : لم يبق إلا أهل ثلاثة مساجد : مسجد المدينة ومسجد مكّة ومسجد (جؤاثى) في البحرين (أي من أهل المدن الإسلاميّة يومئذ). وقد صدق الله وعده ونصر الإسلام فأخلفه أجيالا متأصّلة فيه قائمة بنصرته.

وقوله : (يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) ، الإتيان هنا الإيجاد ، أي يوجد أقواما لاتّباع هذا الدّين بقلوب تحبّه وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم ، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الّذين ارتدّوا إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم ممّا كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الّذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردّة زمن أبي بكر ، فإنّ مجموعهم غير مجموع الذين ارتدّوا ، فصحّ أن يكونوا ممّن شمله لفظ (بِقَوْمٍ) ، وتحقّق فيهم الوصف وهو محبّة الله إيّاهم ومحبّتهم ربّهم ودينه ، فإنّ المحبّتين تتبعان تغيّر أحوال القلوب لا تغيّر الأشخاص فإنّ عمرو بن معد يكرب الّذي كان من أكبر عصاة الردّة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسيّة ، وهكذا.

ودخل في قوله (بِقَوْمٍ) الأقوام الّذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة ، وعرب العراق ونبطهم ، وأهل فارس ، والقبط ، والبربر ، وفرنجة إسبانية ، وصقلّية ، وسردانية ، وتخوم فرانسا ، ومثل الترك والمغول ، والتتار ، والهند ، والصّين ، والإغريق ، والرّوم ، من الأمم الّتي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حضارته بين الأمم العظيمة ، فكلّ أمّة أو فريق أو قوم تحقّق فيهم وصف : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فهم من القوم المنوّه بهم ؛ أمّا المؤمنون الّذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأنا وأقوى إيمانا فأتاهم المؤيّدون زرافات ووحدانا.

ومحبّة الله عبده رضاه عنه وتيسير الخير له ، ومحبّة العبد ربّه انفعال النّفس نحو

١٣٥

تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدّفاع عن دينه. فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصوّر عظمة الله تعالى ونعمه حتّى تتمكّن من قلبه ، فمنشؤها السمع والتّصوّر. وليست هي كمحبّة استحسان الذّات ، ألا ترى أنّا نحبّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدّنيا والآخرة ، وتقوى هذه المحبّة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرّفاته وهديه ، وكذلك نحبّ الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسمع من حبّهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين ، وكذلك نحبّ حاتما لما نسمع من كرمه. وقد قالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما كان أهل خباء أحبّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما أهل خباء أحبّ إلي من أن يعزّوا من أهل خبائك.

والأذلّة والأعزّة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلّق بهما ، فالأذلّة جمع الذليل وهو الموصوف بالذلّ. والذلّ ـ بضمّ الذال وبكسرها ـ الهوان والطاعة ، فهو ضدّ العزّ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران : ١٢٣]. وفي بعض التّفاسير : الذلّ ـ بضم الذال ـ ضد العزّ ـ وبكسر الذال ـ ضدّ الصعوبة ، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة. والذليل جمعه الأذلّة ، والصفة الذلّ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء : ٢٤]. ويطلق الذلّ على لين الجانب والتّواضع ، وهو مجاز ، ومنه ما في هذه الآية. فالمراد هنا الذلّ بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف ، وهو شدّة الرّحمة والسّعي للنفع ، ولذلك علّق به قوله : (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). ولتضمين (أَذِلَّةٍ) معنى مشفقين حانين عدّي بعلى دون اللام ، أو لمشاكلة (على) الثّانية في قوله : (عَلَى الْكافِرِينَ).

والأعزّة جمع العزيز فهو المتّصف بالعزّ ، وهو القوّة والاستقلال» ، ولأجل ما في طباع العرب من القوّة صار العزّ في كلامهم يدلّ على معنى الاعتداء ، ففي المثل (من عزّ بزّ). وقد أصبح الوصفان متقابلين ، فلذلك قال السموأل أو الحارثي :

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربيّة بديعية ، وهي المسماة الطباق ، وبلغاء العرب يغربون بها ، وهي عزيزة في كلامهم ، وقد جاء كثير منها في القرآن. وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تسيّرها آراؤهم الحصيفة فليسوا مندفعين إلى فعل ما إلّا عن بصيرة ، وليسوا ممّن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون ليّنا في كلّ حال ، وهذا هو معنى الخلق الأقوم ، وهو الّذي يكون في كلّ حال بما يلائم ذلك الحال ، قال :

١٣٦

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله

مع الحلم في عين العدوّ مهيب

وقال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩].

وقوله : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفة ثالثة ، وهي من أكبر العلامات الدالّة على صدق الإيمان. والجهاد : إظهار الجهد ، أي الطاقة في دفاع العدوّ ، ونهاية الجهد التّعرّض للقتل ، ولذلك جيء به على صيغة مصدر فاعل لأنّه يظهر جهده لمن يظهر له مثله. وقوله: (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) صفة رابعة ، وهي عدم الخوف من الملامة ، أي في أمر الدّين ، كما هو السياق.

واللومة الواحدة من اللّوم. وأريد بها هنا مطلق المصدر ، كاللّوم لأنّها لمّا وقعت في سياق النّفي فعمّت زال منها معنى الواحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمّم بدخول ال الجنسية لأنّ (لا) في عموم النّفي مثل (ال) في عموم الإثبات ، أي لا يخافون جميع أنواع اللّوم من جميع اللّائمين إذ اللّوم منه : شديد ، كالتقريع ، وخفيف ؛ واللائمون : منهم اللّائم المخيف ، والحبيب ؛ فنفى عنهم خوف جميع أنواع اللّوم. ففي الجملة ثلاثة عمومات : عموم الفعل في سياق النّفي ، وعموم المفعول ، وعموم المضاف إليه. وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتّى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأنّ الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة.

ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثّقة بالنّفس وأصالة الرأي. وقد عدّ فقهاؤنا في وصف القاضي أن يكون مستخفّا باللّائمة على أحد تأويلين في عبارة المتقدّمين ، واحتمال التّأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعا.

وجملة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) تذييل. واسم الاشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة.

و (واسِعٌ) وصف بالسعة ، أي عدم نهاية التّعلّق بصفاته ذات التّعلق ، وتقدّم بيانه عند قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) في سورة آل عمران [٧٣].

[٥٥ ، ٥٦] (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

١٣٧

جملة (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) إلى آخرها متّصلة بجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [المائدة : ٥١] وما تفرّع عليها من قوله (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ـ إلى قوله ـ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) [المائدة : ٥٢ ، ٥٣]. وقعت جملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [المائدة : ٥٤] بين الآيات معترضة ، ثمّ اتّصل الكلام بجملة (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ). فموقع هذه الجملة موقع التّعليل للنّهي ، لأنّ ولايتهم لله ورسوله مقرّرة عندهم فمن كان الله وليّه لا تكون أعداء الله أولياءه. وتفيد هذه الجملة تأكيدا للنّهي عن ولاية اليهود والنّصارى. وفيه تنويه بالمؤمنين بأنّهم أولياء الله ورسوله بطريقة تأكيد النّفي أو النّهي بالأمر بضدّه ، لأنّ قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) يتضمّن أمرا بتقرير هذه الولاية ودوامها ، فهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، والقصر المستفاد من (إنّما) قصر صفة على موصوف قصرا حقيقيا.

ومعنى كون الّذين آمنوا أولياء للّذين آمنوا أنّ المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، كقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١]. وإجراء صفتي (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) على الذين آمنوا للثناء عليهم ، وكذلك جملة (وَهُمْ راكِعُونَ).

وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) معطوف على الصفة. وظاهر معنى هذه الجملة أنّها عين معنى قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، إذ المراد ب (راكِعُونَ) مصلّون لا آتون بالجزء من الصلاة المسمّى بالركوع. فوجه هذا العطف : إمّا بأنّ المراد بالركوع ركوع النّوافل ، أي الّذين يقيمون الصّلوات الخمس المفروضة ويتقرّبون بالنوافل ؛ وإمّا المراد به ما تدلّ عليه الجملة الاسميّة من الدوام والثّبات ، أي الّذين يديمون إقامة الصّلاة. وعقّبه بأنّهم يؤتون الزّكاة مبادرة بالتنويه بالزّكاة ، كما هو دأب القرآن. وهو الّذي استنبطه أبو بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ إذ قال : «لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة». ثم أثنى الله عليهم بأنّهم لا يتخلّفون عن أداء الصّلاة ؛ فالواو عاطفة صفة على صفة ، ويجوز أن تجعل الجملة حالا. ويراد بالركوع الخشوع.

ومن المفسّرين من جعل (وَهُمْ راكِعُونَ) حالا من ضمير (يُؤْتُونَ الزَّكاةَ). وليس فيه معنى ، إذ تؤتى الزّكاة في حالة الركوع ، وركّبوا هذا المعنى على خبر تعدّدت رواياته وكلّها ضعيفة. قال ابن كثير : وليس يصحّ شيء منها بالكلّية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. وقال ابن عطيّة : وفي هذا القول ، أي الرواية ، نظر ، قال : روى الحاكم وابن مردويه : جاء ابن سلام (أي عبد الله) ونفر من قومه الّذين آمنوا (أي من اليهود) فشكوا

١٣٨

للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد منازلهم ومنابذة اليهود لهم فنزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ثمّ إنّ الرسول خرج إلى المسجد فبصر بسائل ، فقال له : هل أعطاك أحد شيئا ، فقال : نعم خاتم فضّة أعطانيه ذلك القائم يصلّي ، وأشار إلى عليّ ، فكبّر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت هذه الآية ، فتلاها رسول الله. وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق. وقيل : نزلت في المهاجرين والأنصار.

وقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) دليل على جواب الشرط بذكر علّة الجواب كأنّه قيل : فهم الغالبون لأنّهم حزب الله.

[٥٧ ، ٥٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨))

استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الّذي قبله ، فإنّ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميّز المسلمين. وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الّذين بالمدينة ، ولا مدخل للنصارى فيها ، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزءوا بالدّين. وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً) إلخ لما في الصلة من الإيمان إلى تعليل موجب النّهي.

والدّين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة ، فهو عنوان عقل المتديّن وروائد آماله وباعث أعماله ، فالذي يتخذ دين امرئ هزؤا فقد اتّخذ ذلك المتديّن هزؤا ورمقه بعين الاحتقار ، إذ عدّ أعظم شيء عنده سخرية ، فما دون ذلك أولى. والّذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديرا بالموالاة ، لأنّ شرط الموالاة التماثل في التّفكير ، ولأنّ الاستهزاء والاستخفاف احتقار ، والمودّة تستدعي تعظيم الودود.

وأريد بالكفار في قوله : (وَالْكُفَّارَ) المشركون ، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفّار ، والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الّذين أظهروا الإسلام نفاقا مثل رفاعة بن زيد ، وسويد بن الحارث ، فقد كان بعض المسلمين يوادّهما اغترارا بظاهر حالهما. روي عن ابن عبّاس : أنّ قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم. وقال الكلبي : كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا : صياح مثل صياح العير ،

١٣٩

وتضاحكوا ، فأنزل الله هذه الآية.

وقرأ الجمهور (وَالْكُفَّارَ) ـ بالنّصب ـ عطفا على (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) المبيّن بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب (وَالْكُفَّارَ) ـ بالخفض ـ عطفا على (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، ومآل القراءتين واحد.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه. وذكر هذا الشرط استنهاض للهمّة في الانتهاء ، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنّهم مؤمنون ، لأنّ شأن المؤمن الامتثال. وليس للشرط مفهوم هنا ، لأنّ الكلام إنشاء ولأنّ خبر كان لقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتّصديق ، ذلك لأنّ نفي التّقوى لا ينفي الإيمان عند من يعتدّ به من علماء الإسلام الّذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حقّ الفهم.

وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التّامة بمعنى الموافقة في الدّين فالأمر بالتّقوى ، أي الحذر من الوقوع فيما نهوا عنه معلّق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر. والحاصل أنّ الآية مفسّرة أو مؤوّلة على حسب ما تقدّم في سالفتها (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١].

والنّداء إلى الصّلاة هو الأذان ، وما عبّر عنه في القرآن إلّا بالنداء. وقد دلّت الآية على أنّ الأذان شيء معروف ، فهي مؤيّدة لمشروعية الأذان وليست مشرّعة له ، لأنّه شرع بالسنّة.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) تحقير لهم إذ ليس في النداء إلى الصّلاة ما يوجب الاستهزاء ؛ فجعله موجبا للاستهزاء سخافة لعقولهم.

[٥٩ ، ٦٠] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠))

هذه الجمل معترضة بين ما تقدّمها وبين قوله : (وَإِذا جاؤُكُمْ) [المائدة : ٦١]. ولا يتّضح معنى الآية أتمّ وضوح ويظهر الدّاعي إلى أمر الله ورسوله ـ عليه الصّلاة والسلام ـ بأن يواجههم بغليظ القول مع أنّه القائل (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ

١٤٠