تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

والثّوري ، وحمّاد بن سلمة. ويجب القضاء بقول أبي حنيفة ، فإنّ الحدود تدرأ بالشبهات وأيّ شبهة أعظم من اختلاف أئمّة الفقه المعتبرين.

والجزاء : المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العمل من خير أو شرّ ، قال تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ـ إلى قوله ـ جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) في سورة النبأ [٣١ ـ ٣٦] ، وقال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) في سورة الشورى [٤٠].

والنكال : العقاب الشّديد الّذي من شأنه أن يصدّ المعاقب عن العود إلى مثل عمله الّذي عوقب عليه ، وهو مشتقّ من النكول عن الشيء ، أي النكوص عنه والخوف منه. فالنكال ضرب من جزاء السّوء ، وهو أشدّه ، وتقدّم عند قوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً) الآية في سورة البقرة [٦٦].

وانتصب (جَزاءً) على الحال أو المفعول لأجله ، وانتصب (نَكالاً) على البدل من (جَزاءً) بدل اشتمال.

فحكمة مشروعيّة القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود ، أي جزاء ليس بانتقام ولكنّه استصلاح. وضلّ من حسب القطع تعويضا عن المسروق ، فقال من بيتين ينسبان إلى المعرّي (وليسا في «السقط» ولا في «اللّزوميات») :

يد بخمس مئين عسجدا وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

ونسب جوابه لعلم الدّين السّخاوي :

عزّ الأمانة أغلاها ؛ وأرخصها

ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري

وقوله : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليه ، أي قبلت توبته. وقد تقدّم معناه عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) في سورة البقرة [٣٧]. وليس في الآية ما يدلّ على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه ، لأنّ ظاهر (تاب ـ وتاب الله عليه) أنّه فيما بين العبد وبين ربّه في جزاء الآخرة ؛ فقوله : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) ترغيب لهؤلاء العصاة في التّوبة وبشارة لهم. ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض الأحوال كما في آية المحاربين ، فلذلك قال جمهور العلماء : توبة السارق لا تسقط القطع ولو جاء تائبا قبل القدرة عليه. ويدلّ لصحّة قولهم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع يد المخزومية ولا شكّ أنّها تائبة.

١٠١

قال ابن العربي : لأنّ المحارب مستبدّ بنفسه معتصم بقوّته لا يناله الإمام إلّا بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتّوبة استنزالا من تلك الحالة كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام. وأمّا السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين ، اه.

وقال عطاء : إن جاء السارق تائبا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع ، ونقل هذا عن الشّافعي ، وهو من حمل المطلق على المقيّد حملا على حكم المحارب ، وهذا يشبه أن يكون من متّحد السبب مختلف الحكم. والتّحقيق أنّ آية الحرابة ليست من المقيّد بل هي حكم مستفاد استقلالا وأنّ الحرابة والسرقة ليسا سببا واحدا فليست المسألة من متّحد السبب ولا من قبيل المطلق الّذي قابله مقيّد.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

استئناف بياني ، جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التّوبة مع عظم جرمه بأنّ الله هو المتصرّف في السماوات والأرض وما فيهما ، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو.

[٤١ ، ٤٢] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢))

استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوء طواياهم معه ، بشرح صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين. وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة

١٠٢

عن الله.

وسبب نزول هذه الآيات حدث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها. وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داود ، والواحدي في «أسباب النّزول» ، والطبري في «تفسيره» ما محصّله : أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني(حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فدك) ، بين أن يرجم وبين أن يجلد ويحمّم (١) اختلافا ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكّموا رسول الله في شأن ذلك ، وقالوا : إن حكم بالتّحميم قبلنا حكمه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه ، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة : «ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحصن» ، قالوا : يحمّم ويجلد ويطاف به ، وأنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصن ، فأنكروا ، فأمر بالتّوراة أن تنشر (أي تفتح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني) وجعل بعضهم يقرؤها ويضع يده على آية الرجم (أي يقرؤها للّذين يفهمونها) فقال له رسول الله : ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم ، فقال رسول الله : «لأكونن أوّل من أحيا حكم التّوراة». فحكم بأنّ يرجم الرجل والمرأة. وفي روايات أبي داود أنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) نزل في شأن ذلك ، وكذلك روى الواحدي والطبري.

ولم يذكروا شيئا يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية ، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذرا لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعدّون حكمه ترجيحا في اختلافهم ولكن لأنّهم يعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها. ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عليهم من غير أهل ملّتهم. فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم. فحكم رسول الله حكما جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خطئهم في العدول عن حكم كتابهم ، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط

__________________

(١) معنى يحمّم : يلطّخ وجهه بالسّواد تمثيلا به.

١٠٣

في قوله : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ).

ويحتمل أن يكون ناشئا عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول : إنّه رسول للأميّين خاصّة. وهؤلاء هم اليهود العيسوية ، فيكون حكمه مؤيّدا لهم ، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة ، ويؤيّده ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أنّ يهوديا زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمّد فإنّه بعث بالتّخفيف ، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبيء من أنبيائك ، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر. ويؤيّده ما رواه أبو داود والترمذي أنّهم قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفا عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم. ولعلّ ذلك مباح في شرعهم ، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جاء المدارس ـ وهو بيت تعليم اليهود ـ وحاجّهم في حكم الرّجم ، وأجابه حبران منهم يدعيان بابني صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم ، في التّوراة ؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم قصدا لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي ، وكان حكم الرجم عندهم مكتوما لا يعلمه إلّا خاصّة أحبارهم ، ومنسيا لا يذكر بين علمائهم ، فلمّا حكم عليهم به بهتوا ، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم. ففي «صحيح البخاري» أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء المدارس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنا صوريا بها. وأيّا ما كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذ وضعف ثقتهم بعلومهم.

ومعنى (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ) نهيه عن أن يحصل له إحزان مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر. والإحزان فعل الّذين يسارعون في الكفر ، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه ، أي لا تجعلهم يحزنونك ، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يدخل الحزن على نفسك. وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكنائي. ونظيره قولهم: لا أعرفنّك تفعل كذا ، أي لا تفعل حتّى أعرفه. وقولهم : لا ألفينّك هاهنا ، ولا أرينّك هنا.

وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان ، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في

١٠٤

العرف ؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة. وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز ؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازا عقليا ، وليس كذلك ، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي. ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في «دلائل الإعجاز» «اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك : أقدمني بلدك حقّ لي على فلان ، فاعلا سوى الحقّ» ، وكذلك في قوله :

وصيّرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل

وـ يزيدك وجهه حسنا.

أن تزعم أن له فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى وللوجه» اه. ولقد وهم الإمام الرازي (١) في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالا قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى ، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين. ويدلّ لذلك قوله : «إذا أنت نقلت الفعل إليه» أي أسندته إليه.

ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة ، فشبّه إظهاره المتكرّر بإسراع الماشي إلى الشيء ، كما يقال : أسرع إليه الشيب ، وقوله : إذا نهي السفيه جرى إليه. وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل ، فيكون (في) قرينة المجاز ، كقولهم : أسرع الفساد في الشيء ، وأسرع الشيب في رأس فلان. فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولانا بنشاط وسرعة. ونظيره قوله (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) [المائدة : ٦٢] ، وقوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٥٦] ، (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٦١]. فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب. وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) [المائدة : ٥٢].

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر. والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون.

__________________

(١) في كتابه «نهاية الإيجاز».

١٠٥

وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) معطوف على قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا) والوقف على قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا).

وقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم سمّاعون للكذب. والظاهر أنّ الضّمير المقدّر عائد على الفريقين : المنافقين واليهود ، بقرينة الحديث عن الفريقين.

وحذف المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتّبع فيه الاستعمال ، وذلك بعد أن يذكروا متحدّثا عنه أو بعد أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوف المبتدأ منها ، كقولهم للّذي يصيب بدون قصد «رمية من غير رام» ، وقول أبي الرقيش :

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندى بسريع

وقول بعض شعراء الحماسة (١) :

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النّعل زلّت

عقب قوله :

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

والسمّاع : الكثير السمع ، أي الاستماع لما يقال له. والسّمع مستعمل في حقيقته ، أي أنّهم يصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كذبا ، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه. وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق ، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول. والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميم.

وجملة (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) خبر ثان عن المبتدأ المحذوف. والمعنى أنّهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كتم غرضهم عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى إن حكم بما يهوون اتّبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصوه ، أي هم أتباع لقوم متستّرين هم القوم الآخرون ، وهم أهل خيبر وأهل فدك الّذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) قيل : هو عبد الله بن الزبير ـ بفتح الزاي وكسر الموحّدة ـ الأسدي ـ وقيل : إبراهيم الصولي ، وقيل : محمّد بن سعيد الكاتب.

١٠٦

واللام في (لِقَوْمٍ) للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول.

وجملة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) صفة ثانية (لِقَوْمٍ آخَرِينَ) أو حال ، ولك أن تجعلها حالا من (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ). وتقدّم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) في سورة النّساء [٤٦] ، وأنّ التّحريف الميل إلى حرف ، أي جانب ، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر.

وقال هنا (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) ، وفي سورة النساء [٤٦](عَنْ مَواضِعِهِ) ، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة. فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها. فكان إبعادا للكلام عن مواضعه ، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض. وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابت في التّوراة إذ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام ، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر ، فكان قوله : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أبلغ في تحريف الكلام ، لأنّ لفظ (بعد) يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة.

والإشارة الّتي في قوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) إلى الكلم المحرّف. والإيتاء هنا : الإفادة كقوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١].

والأخذ : القبول ، أي إن أجبتم بمثل ما تهوون فاقبلوه وإن لم تجابوه فاحذروا قبوله. وإنّما قالوا : فاحذروا ، لأنّه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم الّتي مضوا عليها وفي حكّامهم الحاكمين بها.

وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل ، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه. فذلك معنى قوله : (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة.

وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر ما. ومدلول مفرداته أنّك لا تملك ، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله ، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون ، لأنّ مادّة الملك تدلّ على تمام القدرة ، قال قيس بن الخطيم :

ملكت بها كفّي فأنهر فتقها

١٠٧

أي شددت بالطعنة كفّي ، أي ملكتها بكفّي ، وقال النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعيينة بن حصن «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة». وفي حديث دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشيرته «فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئا».

و (شَيْئاً) منصوب على المفعولية. وتنكير (شَيْئاً) للتقليل والتّحقير ، لأنّ الاستفهام لمّا كان بمعنى النّفي كان انتفاء ملك شيء قليل مقتضيا انتفاء ملك الشيء الكثير بطريق الأولى.

والقول في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) كالقول في قوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ). والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان.

والخزي تقدّم عند قوله تعالى : (إِلَّا خِزْيٌ) في سورة البقرة [٨٥] ، وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) في سورة آل عمران [١٩٢].

وأعاد (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) للتّأكيد وليرتّب عليه قوله (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

ومعنى (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أخّاذون له ، لأنّ الأكل استعارة لتمام الانتفاع. والسحت ـ بضمّ السين وسكون الحاء ـ الشيء المسحوت ، أي المستأصل. يقال : سحته إذا استأصله وأتلفه. سمّي به الحرام لأنّه لا يبارك فيه لصاحبه ، فهو مسحوت وممحوق ، أي مقدّر له ذلك ، كقوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٦] ، قال الفرزدق :

وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحت أو مجنّف

والسحت يشمل جميع المال الحرام ، كالربا والرّشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر ، وخلف «سحت» ـ بسكون الحاء ـ وقرأه الباقون ـ بضمّ الحاء ـ اتباعا لضمّ السّين.

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

تفريع على ما تضمّنه قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) وقوله : يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) ، فإنّ ذلك دلّ على حوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التّوراة فيه

١٠٨

بالتّأويل أو الكتمان ، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يعتضدون به. وظاهر الشرط يقتضي أنّ الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حدّ الزّنا ، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون. وقد قال بذلك بعض المفسّرين فتكون هذه الآية من دلائل النّبوءة. ويحتمل أنّ المراد : فإن جاءوك مرّة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.

وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم. ووجه التخيير تعارض السببين ؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم بينهم ، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلّا يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف. وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى. ويؤيّده قوله بعد (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي بالحقّ ، وهو حكم الإسلام بالحدّ. وأمّا قوله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) فذلك تطمين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلّا يقول في نفسه : كيف أعرض عنهم ، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا. يقولون : ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد. وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائهم دهماءهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة. ولعلّ في هذا التطمين إشعارا بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال. وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يخشاه منهم ، خلافا لما فسّر به المفسّرون هنا.

وتنكير (شَيْئاً) للتحقير كما هو في أمثاله ، مثل (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر ، أي شيئا من الضرّ ، فهو نائب عن المصدر. وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) في سورة البقرة [١٥٥].

والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم ؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول. واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين. وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم ، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم (وعلى هذا فالتخيير

١٠٩

الذي في الآية مخصوص بالإجماع). وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات.

فمن العلماء من قال : حكم هذا التخيير محكم غير منسوخ ، وقالوا : الآية نزلت في قصّة الرجم (الّتي رواها مالك في «الموطأ» والبخاري ومن بعده) وذلك أنّ يهوديا زنى بامرأة يهوديّة ، فقال جميعهم : لنسأل محمّدا عن ذلك. فتحاكموا إليه ، فخيّره الله تعالى. واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم : كان اليهود بالمدينة يومئذ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة ، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلا تحت ذمّة الإسلام ، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام ، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم. وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار ، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فدك وهما يومئذ من دار الحرب في موادعة.

وقال الجمهور : هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضا. وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي. قال مالك : الأعراض أولى. وقيل : لا يحكم بينهم في الحدود ، وهذا أحد قولي الشافعي. وقيل : التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] ، وهو قول أبي حنيفة ، وقاله ابن عبّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسديّ ، وعمر بن عبد العزيز ، والنخعي ، وعطاء ، الخراساني ، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخا لأوّلها.

وقوله : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل. والعدل : الحكم الموافق لشريعة الإسلام. وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام. وهذا الّذي رواه مالك. وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قصر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة ، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرع الإسلام ؛ فهو حكم على اليهود بأنّهم كتموا. ويكون ما وقع في حديث «الموطأ» والبخاري : أنّ الرجل والمرأة رجما ، إنّما هو بحكم أحبارهم. ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام ؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها. ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكّموه. وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي. وقائل هذا يقول : هذا نسخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] ، وهو قول جماعة من التّابعين. ولا داعي إلى دعوى النسخ ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان ، كما سنذكره عند قوله : (فَاحْكُمْ

١١٠

بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٨].

والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم : أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام ، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشئون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددت لهم شرائعهم. ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام :

القسم الأوّل : ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام. وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أئمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلّا إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس.

القسم الثّاني : ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام ، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام. وهذه أيضا يقرّون عليها ، قال مالك : لا يقام حدّ الزنا على الذميّين ، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية. قال ابن خويزمنداد : ولا يرسل الإمام إليهم رسولا ولا يحضر الخصم مجلسه.

القسم الثّالث : ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض. وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام ، لأنّا لم نعاهدهم على الفساد ، وقد قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] ، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات.

القسم الرّابع : ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض : كالجنايات ، والديون ، وتخاصم الزوجين. فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم ، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين. فقال مالك : يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبا ، لأنّ في الاعتداء ضربا من الظلم والفساد ، وكذلك قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمّد ، وزفر. وقال أبو حنيفة : لا يحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معا.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

١١١

وهذه الجملة عطف على جملة (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢]. والاستفهام للتعجيب ، ومحلّ العجب مضمون قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم. فالإشارة بقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إلى الحكم المستفاد من (يُحَكِّمُونَكَ) ، أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك. وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين ، كما وصف الله حال المنافقين في قوله : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور : ٤٨ ، ٤٩]. ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري ، أي هم لا يحكّمونك حقّا. ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادّا ، أي لا يكون تحكيمهم صادقا بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم ، لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم ما حكّموك فيه ، وهو حكم الله ، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم ، ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم ، فما هم بمحكّمين حقيقة. فيكون فعل (يُحَكِّمُونَكَ) مستعملا في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه ، كقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا) [التوبة : ٦٤] الآية. ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إلى مجموع ما ذكر ، وهو التّحكيم ، وكون التّوراة عندهم ، أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة ، وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة.

وجملة (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) في موضع الحال من ضمير الرفع في (يُحَكِّمُونَكَ). ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقا.

وضمير (فِيها) عائد إلى التّوراة ، فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتابا ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل موماة. وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) في سورة آل عمران [٣].

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤))

١١٢

لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها. ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيء من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عاليا ، كما تقدّم غير مرّة.

والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية. حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما. ولك أن تجعل النّور هنا مستعارا للإيمان والحكمة ، كقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ١٣٢] ، فيكون بينه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطف لأجل تلك المغايرة بالعموم.

والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياء الّذين جاءوا من بعده. فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء. ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] كما تقدّم هنالك. وقد قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ في دعائه : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١]. والمقصود من الوصف بقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء. ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيما له.

واللام في قوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) للأجل وليست لتعدية فعل (يَحْكُمُ) إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم. والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائيليين ، إلّا أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) الآية في سورة البقرة [٦٢].

والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى. فعلى هذا يكون الربّاني نسبا للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعر ، ولحياني لعظيم اللّحية. وقيل : الربّاني العالم المربي ، وهو الّذي يبتدئ النّاس بصغار العلم قبل كباره. ووقع هذا التّفسير في «صحيح البخاري». وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) في سورة آل عمران [٧٩].

والأحبار جمع حبر ، وهو العالم في الملّة الإسرائيليّة ، وهو ـ بفتح الحاء وكسرها ـ ،

١١٣

لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المداد الّذي يكتب به. وعطف (الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) على (النَّبِيُّونَ) لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين.

والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته. استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه.

فالباء في قوله (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) للملابسة ، أي حكما ملابسا للحقّ متّصلا به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلا لأجل الهوى. ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان. ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ما حكاه عياض في «المدارك» ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوما فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) فوكل الحفظ إليهم. وقال في القرآن : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩]. فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن. قال : فذكرت ذلك للمحاملي ، فقال : لا أحسن من هذا الكلام.

و (مِنْ) مبيّنة لإبهام (ما) في قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا). و (كِتابِ اللهِ) هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى.

وضمير (وَكانُوا) للنبيين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف (على) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو (على) الّذي يتعدّى به فعل شهد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل (حفظ ورقب) ونحوهما ، أي وكانوا حفظة على كتاب الله وحرّاسا له من سوء الفهم وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حقّ فهمه وحقّ العمل به.

ولذلك عقّبه بجملة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المتفرّعة بالفاء على قوله : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحدا في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه. فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز

١١٤

أن يكون الخطاب للنّبيين والربّانيّين والأحبار فهي على تقدير القول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس. والتّفريع ناشئ عن مضمون قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى.

وتقدّم الكلام في معنى (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) في سورة البقرة [٤١].

وقوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تخالف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا عقّبت به تلك العظات الجليلة. وعلى الوجهين فالمقصود اليهود وتحذير المسلمين من مثل صنعهم.

و (من) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومة عندهم. والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق. ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر. وقد اقتضى هذا قضيتين :

إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافرا ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافرا ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله.

فأمّا القضية الأولى : فالّذين يكفّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا. لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم. وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة. وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها. ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوص اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرجه مسلم في «صحيحه». فعلى هذا تكون (من) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد. والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تركا

١١٥

مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته. وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القصر ادّعائيا وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلا لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلا للخبر. وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إن سألت عن الكافرين فهم هم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع.

وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله من ترك الحكم به جحدا له ، أو استخفافا به ، أو طعنا في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمعه المكلّف بنفسه. وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، فمن شرطية وترك الحكم مجمل بيانه في أدلّة أخر. وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخل تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية. وأعظم منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمور ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله.

وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكفر ؛ فقيل عبّر بالكفر عن المعصية ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس «أكره الكفر في الإسلام» أي الزّنى ، أي قد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس. وقال طاوس «هو كفر دون كفر وليس كفرا ينقل عن الإيمان». وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصية ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعا في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير.

وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين. وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ـ إلى قوله ـ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) في سورة النّور [٤٨ ـ ٥٠].

وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم

١١٦

المعبّر عنه مجازا بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام.

واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله. وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلّا للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفر كلّ من ليس بحاكم. فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))

عطفت جملة (كَتَبْنا) على جملة (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) [المائدة : ٤٤]. ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى ، ففاضلوا بين القتلى والجرحى ، كما سيأتي ، فلذلك ذيّله بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤].

والكتب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف (على) ، أي أوجبنا عليهم فيها ، أي في التّوراة مضمون (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضا ، كما اقتضت تعدية فعل (كَتَبْنا) بحرف (في) فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته ، ومجازه.

وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقا ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) في سورة البقرة [٢٨٢] ، وقال الحارث بن حلّزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من (أنّ). والمصدر في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض ، أي كتبنا تعويض النّفس بالنّفس ، أي النّفس المقتولة

١١٧

بالنّفس القاتلة ، أي كتبنا عليهم مساواة القصاص. وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة (أنّ) هنا ، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها.

وقرأ الجمهور (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) وما عطف عليها ـ بالنصب ـ عطفا على اسم (أنّ). وقرأه الكسائي ـ بالرفع ـ. وذلك جائز إذا استكملت (أنّ) خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة.

والنّفس : الذات ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) في سورة البقرة [٤٤]. والأذن ـ بضمّ الهمزة وسكون الذال ، وبضمّ الذال أيضا ـ. والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدى عليه ، وكذلك في (وَالْعَيْنَ) إلخ.

والباء في قوله : (بِالنَّفْسِ) ونظائره الأربعة باء العوض ، ومدخولات الباء كلّها أخبار (أنّ) ، ومتعلّق الجار والمجرور في كلّ منها محذوف ، هو كون خاصّ يدلّ عليه سياق الكلام ؛ فيقدر : أنّ النّفس المقتولة تعوّض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوّض بعين المتلف ، أي بإتلافها وهكذا النفس متلفة بالنّفس ؛ والعين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ؛ والأذن مصلومة بالأذن.

ولام التّعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه ، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني. والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاء الجسد كاليد والرجل والإصبع لأنّ القطع يكون غالبا عند المضاربة بقصد قطع الرقبة ، فقد ينبو السيف عن قطع الرّأس فيصيب بعض الأعضاء المتّصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سنّ. وكذلك عند المصاولة لأنّ الوجه يقابل الصائل ، قال الحريش بن هلال :

نعرّض للسيوف إذا التقينا

وجوها لا تعرّض للطام

وقوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف ، أي ذات قصاص. وقصاص مصدر قاصّة الدّالّ على المفاعلة ، لأنّ المجنيّ عليه يقاصّ الجاني ، والجاني يقاصّ المجني عليه ، أي يقطع كلّ منهما التبعة عن الآخر بذلك. ويجوز أن يكون (قِصاصٌ) مصدرا بمعنى المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والنّصب بمعنى المنصوب ، أي مقصوص بعضها ببعض. والقصاص : المماثلة ، أي عقوبة الجاني بجراح أن يجرح مثل الجرح الّذي جنى به عمدا. والمعنى إذا أمكن ذلك ، أي أمن من الزيادة

١١٨

على المماثلة في العقوبة ، كما إذا جرحه مأمومة على رأسه فإنّه لا يدري حين يضرب رأس الجاني ما ذا يكون مدى الضّربة فلعلّها تقضي بموته ؛ فينتقل إلى الدية كلّها أو بعضها. وهذا كلّه في جنايات العمد ، فأمّا الخطأ فلم تتعرض له الآية لأنّ المقصود أنّهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية.

وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف (وَالْجُرُوحَ) ـ بالنّصب ـ عطفا على اسم (أنّ). وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب ـ بالرّفع ـ على الاستئناف ، لأنّه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصّل حكم قطع الأعضاء.

وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم ، وذلك أنّ اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حربا ، ثمّ تحاجزوا وانهزمت قريظة ، فشرطت النضير على قريظة أنّ دية النضيري على الضعف من دية القرظي وعلى أنّ القرظي يقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي ، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم. وهذا كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ـ إلى قوله ـ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٤ ، ٨٥]. ويجوز أن يقصد من ذلك أيضا تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايل في الدّماء الّذي كان في الجاهلية وعند اليهود. ولا شكّ أنّ تأييد الشّريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولا في النّفوس ، ويدلّ على أنّ ذلك الحكم مراد قديم لله تعالى ، وأنّ المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأقوام والأزمان ، لأنّ العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشّريف الضّعيف في القصاص ، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب :

فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له

بواء ولكن لا تكايل بالدّم (١)

تريد : رضينا بأن يقتل الرجل الذي اسمه (جبر) بالمرء العظيم الّذي ليس كفؤا له ، ولكن الإسلام أبطل تكايل الدّماء. والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النّفس بعدّة أنفس ، وقد قدّر شيوخ بني أسد دم حجر والد امرئ القيس بديات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التّقدير وقال لهم : «قد علمتم أن حجرا لم يكن ليبوء به شيء» ـ

__________________

(١) البيت لامرأة من طي وهو من شعر «الحماسة» ، يقال : إنّه لكبشة أخت عمرو بن معد يكرب بنت بهدل الطائي. وجبر هذا اسم قاتل أبيها.

١١٩

وقال مهلهل حين قتل بجيرا :

«بؤ بشسع نعل كليب»

والبواء : الكفاء. وقد عدّت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأنّ الرّأس قد حواها وإنّما يقصد القاتل الرأس ابتداء.

وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) هو من بقية ما أخبر به عن بني إسرائيل ، فالمراد ب (فَمَنْ تَصَدَّقَ) من تصدّق منهم ، وضمير (بِهِ) عائد إلى ما دلّت عليه باء العوض في قوله (بِالنَّفْسِ) إلخ ، أي من تصدّق بالحقّ الذي له ، أي تنازل عن العوض. وضمير (لَهُ) عائد إلى (فَمَنْ تَصَدَّقَ). والمراد من التصدّق العفو ، لأنّ العفو لمّا كان عن حقّ ثابت بيد مستحقّ الأخذ بالقصاص جعل إسقاطه كالعطيّة ليشير إلى فرط ثوابه ، وبذلك يتبيّن أن معنى (كَفَّارَةٌ لَهُ) أنّه يكفّر عنه ذنوبا عظيمة ، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمّة.

وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شرع لحكم عظيمة : منها الزجر ، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه ، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم. فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح ، وهو ظلم ، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو وليّه. وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس ، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو ، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو. ولم ينبّه عليه المفسّرون. وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه.

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم. والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّدا للّذي في الآية السابقة. ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون.

[٤٦ ، ٤٧] (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ

١٢٠