جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

فكان التصدّي لهؤلاء ، وفضح دسائسهم ، وإبطال استدلالاتهم ، والكشف عن سوء نيّاتهم ، من واجب الأئمة والمصلحين الإلهيين.

وقد قام الإمام السجاد عليه‌السلام في عصره بأداء دور مهمّ في هذا الميدان الشائك بعد أن استلهم العلوم من مصادرها الأمينة الموثوقة وصار الدور إليه في قيادة الأمة ودلالتها الى الحق والخير.

فكان معلّما للحقّ ، يبثّ الفضيلة ، ويدعوا الى الإسلام المحمّدي الاصيل ، الذي توارثه عن آبائه ، والموصول بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوثق السبل ، وأقرب الطرق.

وأصبح ـ لكونه حاملا أمينا للتعاليم الإسلامية الرصينة ، وقائما مخلصا بالشؤون الدينية الحقّة ـ سدّا منيعا في مواجهة كلّ انحراف وتزوير كان يبديه علماء السوء من وعّاظ السلاطين.

ولا ريب في أنّ مواجهة الإمام السجاد عليه‌السلام للدولة في هذا النضال ، لابدّ أنّ تعدّ في قمّة أعماله السياسية ، ومن أخطر أوجه النضال السياسي في حياته الكريمة.

وقد اخترنا مجالات ثلاثة عمل فيها الإمام عليه‌السلام ، لنقف على أوجه نشاطه فيه ، وهي :

٨١

أوّلا : مجال القرآن والحديث

عاش الإمام السجاد عليه‌السلام ، فترة نشاطه إماما للشيعة ، من سنة ( ٦١ ـ ٩٥ ) مدّة الثلث الأخير من القرن الأول.

والقرن الأول بالذات هو فترة المنع الحكومي من رواية الحديث ونقله وكتابته وتدوينه ، قبل أن يرفع هذا المنع بقرار من قبل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.

وكانت عملية منع الحديث ـ تدوينا ورواية ـ بدأت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، واستمرّ عليها الحكّام الذين تسنّموا أرائك الخلافة بدءا بأبي بكر ، ثم عمر الذي كان أكثر تشديدا ونكيرا على من كتب شيئا من الحديث أو نقله ورواه ، بحيث استعمل كل أساليب القمع من أجل الوقوف دون تسرّب شيء منه ، فحبس جمعا من الصحابة من أجل روايتهم الحديث ، وهدّد آخرين بالضرب والنفي ، وأحرق مجموعة من الكتب التي جمعت حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والتزم الحكّام من بعد عمر ، سنّة عمر وسياسته في منع تدوين الحديث وروايته ، وقد أعلن عثمان ومعاوية عن اتّباعهما لعمر في منع الحديث النبوي « إلاّ حديثا كان على عهد عمر » (١).

وقد ظلّت سياسة عمر بمنع الحديث سارية المفعول ، حتى بلغ الأمر الى أن الحجّاج الثقفي ـ سفّاك العراق ـ قام بالاعتداء على كبار صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فختم على أيديهم وأعناقهم ، حذرا من أن يحدّثوا الناس ، أو يسمع الناس حديثهم (٢).

فلم يكن القيام بأمر رواية الحديث في مثل هذه الفترة بالذات ، وفي مثل هذه الاجواء أمرا سهلا ، ولا هيّنا.

ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم هذه السياسة المخرّبة ضدّ أهمّ مصادر الفكر الإسلامي ، فكانوا الى جانب كتابتهم للحديث ، وإيداعه المؤلّفات يبادرون

__________________

(١) لقد تحدثنا عن منع الخلفاء من كتابة الحديث وتدوينه ، ومن نقله وروايته ، بتفصيل في كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) المطبوع في قم سنة ١٤١٣ هـ.

(٢) اُسد الغاية ، لابن الأثير ( ٢ : ٤٧٢ ) ترجمة سهل الساعدي.

٨٢

بحزم الى رواية الحديث ونشره وبثّه ، على طول تلك الفترة!

وقد عرفنا أنّ الإمام السجاد ـ كما قال ابن سعد ـ : كان « ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا » (١) وقد أكثر من نقل الحديث وروايته حتى أفاد علما جمّا ، كما قال النسّابة العمري (٢).

ولا ريب في أن تصدي الإمام السجاد عليه‌السلام للوقوف في وجه المنع السلطوي ، وقيامه بأمر رواية الحديث ونقله ، ليس إلاّ تحديا صارخا لأوامر الدولة وسياستها!

ثم إنه عليه‌السلام كان يطبّق السنة ويدعو الى تطبيقها والعمل بها فقد روي عنه أنه قال : إن أفضل الإعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ (٣).

وكان يندّد بمن يستهزيء بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو عليه ويقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس؟! إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا لم يسعنا ، ثم ندّد بمن هزأ من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

وقد رويت عن الإمام السجاد عليه‌السلام مجموعة كبيرة من الأحاديث المسندة المرفوعة ، وأخرى موقوفة على آبائه عليهم‌السلام.

وأمّا ما صدر منه من الحديث الذي يعتبر من عيون الحديث الذي يعتزّ به التراث الشيعي فكثير جدا ، ولذلك عدّ الحافظ الذهبي ، الإمام السجاد عليه‌السلام من الحفاظ الكبار وترجم له في طبقات الحفّاظ الكبار (٥).

ومع كل هذا ، فأين موقع كلمة قالها بعض النواصب أن الإمام عليه‌السلام كان « قليل الحديث »!؟

__________________

(١) تهذيب التهذيب ( ٧ / ٣٠٥ ).

(٢) المجدي في الأنساب (ص ٩٢) وتدوين السنة الشريفة ( ص ١٤٩ ـ ١٥٢ ).

(٣) المحاسن ، للبرقي (ص ٢٢١) ح (١٣٣).

(٤) الكافي ( ٣ / ٢٣٤ ) الحديث ٤ ، وبحار الأنوار ( ٤٦ / ١٤٢ ) وعوالم العلوم ( ص ٨٥ وص ٢٩٠ ).

(٥) تذكرة الحفاظ ( ١ / ٧٤ ـ ٧٥ ).

(٦) قال ذلك الزهري ، كما في تهذيب التهذيب ( ٧ / ٣٠٥ ) وقد كذّب الزهريّ قومه ، كما أنه متهم

٨٣

ثم إن محتوى الأحاديث المرويّة عن طريق الإمام السجاد عليه‌السلام ، وتلك المنقولة عنه تشكّل مجموعة من النصوص الموثوقة ، التي يطمئنّ بها المسلم ، فقد تمّ نقلها من مصدر أمين ، متصل بينابيع الوحي والرسالة ، وفيها ما يسترشد به المسلم ، ويعرف من خلاله مصالحه ، ويحدّد واجباته ، ويدفع عنه اليأس (١) ، مثل روايته المرفوعة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انتظار الفرج عبادة » (٢).

فقد يكون الإنسان في مثل تلك الظروف الحرجة المأساوية معرضا للقنوط ولكن بانتظار الفرج وتوقع كشف الغّم ، المستتبع للعمل من أجل ذلك والكون على استعداد له ، والإعداد لحصوله ، هو افضل وسيلة للنجاة من مأزق الياس ، وموت الخمول.

ومع القرآن :

إن القرآن الكريم ، باعتباره الوحي الإلهي المباشر ، والمصدر الأساسي المقدّس بنصّه وفصّه ، والذي اتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه ، فهو الحجّة عند الجميع ، والفيصل الذي لا يردّ حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا.

ولذلك كانت دعوة أهل البيت عليهم‌السلام إلى الالتزام به ، والاسترشاد به وقراءته والحفاظ عليه ، دعوة صريحة مؤكدة.

وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره وأصوله ومنها القرآن ، بقتل أعمدته وحفظته ومفسّريه (٣).

__________________

في ما يقوله في أهل البيت ، لما سيأتي من عمالته للأمويين ، لكنّ أمثال هذا المخذول قد حرموا أنفسهم من الاستمتاع بعلم أهل البيت عليهم‌السلام حيث تركوهم وصاروا الى أصحاب الرأي والاجتهاد في مقابل النصّ ، فخسروا خسرانا مبينا.

(١) إن كتابنا هذا يحتوي على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي رويت عن الإمام السجّاد عليه‌السلام والتي استشهدنا بها ، تجدها مجموعة في فهرس الأحاديث في آخر الكتاب.

(٢) كشف الغمة ( ٢ : ١٠١ ) ولاحظ الجامع الصغير ( ١ : ١٠٨ ).

(٣) مثل سعيد بن جبير ، ويحيى بن أم الطويل ، وميثم التمار ، وغيرهم من شهداء الفضيلة ، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة.

٨٤

فكانت الدعوة الى القرآن من أوجب الواجبات على الأئمة عليهم‌السلام مضافا الى ما ذكرنا من قدسيّة القرآن عند الجميع ، فلم يتمكّن الحكّام من منع تعظيمه وقرائته والدعوة إليه.

فقام الإمام زين العابدين عليه‌السلام بجهد وافر في هذا المجال :

ففي الحديث أنه قال : عليك القرآن ، فإن الله خلق الجنة بيده ، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ، فمن قرأ منها قال له : « إقرأ وارق » ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ، ما خلا النبيين والصديقين (١).

واسند عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : آيات القرآن خزائن العلم. فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها (٢).

وقال عليه‌السلام : من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرى منزله في الجنة (٣).

وكان يعبّر عن كفاية القرآن ، بتعاليمه الروحانية القيّمة ، بكونه مؤنسا للانسان المسلم ، يعني : أنّ الوحشة إنّما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتى لو عاش الإنسان بين الناس ، فكان يقول : لو مات مَنْ ما بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي(٤).

وهكذا يجدّ الإمام عليه‌السلام في تعظيم القرآن ، وتخليده في أعماق نفوس الأمة ، كما يسعى في التمجيد له عمليا وبأشكال من التصرفات :

فمّما يؤثر عنه عليه‌السلام : أنه كان أحسن الناس صوتا بالقرآن ، حتى : أن السقّائين كانوا يمرّون ببابه ، فيقفون لاستماع صوته ، يقرأ ... (٥).

وقال سعيد بن المسيب : إن قرّاء القرآن لم يذهبوا الى الحج إلاّ إذا ذهب علي بن

__________________

(١) تفسير البرهان ( ٣ : ١٥٦ ).

(٢) اصول الكافي ( ٢ : ٦٠٩ ) المحجة البيضاء ( ٢ : ٢١٥ ).

(٣) المحجة البيضاء ( ٢ : ٢١٥ ).

(٤) الكافي ـ الأصول ـ ( ٢ : ٦٠٢ ) وانظر المحجة البيضاء ( ٢ : ٢١٥ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ : ١٠٧ ).

(٥) الكافي ( ٢ / ٦١٦ ) بحار الأنوار ( ٤٦ : ٧٠ ) ب ٥ ح ٤٥. ولاحظ عوالم العلوم (ص ١٣٥).

٨٥

الحسين عليه‌السلام ، ولم يخرج الناس من مكة حتى يخرج علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

وفي بعض الاسفار بلغ عدد القراء حسب بعض المصادر : ألف راكب (٢).

وقد كان الامام السجاد عليه‌السلام مرجعا في علوم القرآن ومعارفه ، يسأله كبار العلماء عن القرآن :

قال الزهري : سألت علي بن الحسين : عن القرآن؟

فقال : كتاب الله ، وكلامه (٣).

وقد كان الإمام زين العابدين عليه‌السلام يستفيد من تفسير القرآن في إرشاد الامة الى ما يحييهم ، ويطبق مفاهيمه على حياتهم ، ويحاول تنبيههم الى ما يدور حولهم من قضايا ، وإليك بعض النصوص :

روي أنه عليه‌السلام قال في تفسير قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) : [ سورة البقرة « ٢ » الآية « ١٧٩ » ] ( وَلَكُمْ ) يا أمة محمد ( فِي الْقِصَاصِ حَيَاة ٌ) لأن من هم بالقتل ، فعرف أنه يقتصّ منه ، فكفّ لذلك من القتل ، كان حياة للذي همّ بقتله ، وحياة لهذا الجافي الذي أراد أن يقتل ، وحياة لغيرهما من الناس : إذا علموا أن القصاص واجب ، ولا يجسرون على القتل مخافة القصاص ( يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) أول العقول ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).

ثم قال عليه‌السلام : عباد الله ، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا ، وتفنون روحه!

أفلا أنبئكم بأعظم من هذا القتل؟ وما يوجبه الله على قاتله ممّا هو أعظم من هذا القصاص؟

قالوا : بلى ، يابن رسول الله.

قال : أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا يجبر ، ولا يحيى بعده أبدا!

قالوا : ما هو؟

قال : أن يضلّه عن نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويسلك به غير سبيل الله ، ويغيّر باتباع طريق أعداء عليّ والقول بإمامتهم ، ودفع عليّ عن حقّه ، وجحد

__________________

(١) رجال الكشي ( ص ١١٧ ) رقم ١٨٧.

(٢) عوالم العلوم ( ص ٣٠٣ ).

(٣) تاريخ دمشق ، ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٤٠ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٦ ).

٨٦

فضله ، وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه ، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم ، مخلدا أبدا ، فجزاء هذا القتل مثل ذلك : الخلود في نار جهنم (١).

وكان الإمام زين العابدين عليه‌السلام كثيرا ما يستشهد بآيات من القرآن ويستدل بها ، وعندما يجد مناسبة يعرّج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردّية التي كان يعيشها المسلمون.

ففي الخبر : إنه عليه‌السلام كان يذكر حال من مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ، ويحكي قصتهم ( المذكورة في القرآن ) فلما بلغ آخرها ، قال : إن الله تعالى مسخ أولئك القوم ، لاصطيادهم السمك!

فكيف ترى ـ عند الله عز وجل ـ يكون حال من قتل أولاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهتك حريمه؟

إن الله تعالى ، وإن لم يمسخهم في الدنيا ، فإن المعدّ لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ (٢).

إن تصدّي الإمام زين العابدين عليه‌السلام لهذه القضايا ، لاشك أنه أكثر من مجرد تعليم وتفسير للقرآن ، بل هو تطبيق له على الحياة المعاصرة ، وتحريك للأفكار ضدّ الوضع الفاسد الذي تعيشه الأمة ، ولا ريب أن ذلك يعتبره الحكام تحديا سياسيا يحاسبون عليه.

ومن فلتات التاريخ أنه خلّد لنا من التراث صفحة من القرآن الكريم ، منسوبة كتابتها الى خط الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

والعجيب أن هذه الصفحة تبدأ بقوله تعالى : ( الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) ، وتنتهي بآيات الجهاد : قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ ) (٣) [ سورة الأنفال (٨) الآيات ٤١ ـ ٤٥ ].

__________________

(١) الاحتجاج ( ص ٣١٩ ).

(٢) الاحتجاج ( ص ٣١٢ ).

(٣) دائرة المعارف الشيعية ( ج ٢ ص ٦٦ ).

٨٧

ثانياً : في مجال الفكر والعقيدة

جاء الإسلام ليرسخ الحق بين الناس ، ومن أهمّ ما هدف الى تثبيت قواعده وتشييد أركانه هو « التوحيد الإلهي» فإلى جانب الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين ، سعى لمحو آثار الوثنية ، وكسر أصنام الجاهلية ، لما استتبعت من تحميق الناس ، وتعميق الجهل والذل في نفوسهم على حساب تضخم الثروة عند الطغاة ، وتوغّل الفساد في المجتمع الإنساني.

ولمّا كانت الوثنية والصنمية فكرة ناشئة من عقيدة تجسم الإله وتشبيهه بالخلق ، سعى الإسلام لنفي التجسيم والتشبيه ، ودعا الى التوحيد في الذات والصفات ، والتنزيه عن كل ما يمتّ الى المخلوقات ، كل ذلك بالدلائل والبراهين والآيات البينات.

لكن الاتجاه الرجعي تسلّط على المسلمين في فترة مظلمة من تاريخ الإسلام ، بدأت بتسنّم الحزب الأموي أريكة الخلافة ، وسيطرته من خلالها على ربوع البلاد ورقاب العباد ، أولئك الذين كانوا آخر الناس إسلاما ، وهم مسلمة الفتح ، ولم تنمح من أذهانهم صور الأصنام ، ولم يزل من قلوبهم حبّ الجاهلية وعباداتها ، فكما كانوا في الجاهلية من أشدّ الناس تمسّكا بالصنمية ورسوم الجاهلية الجهلاء ودعاة الشرك والفجور ، ورعاة الدعارة والعهارة والخمور ، فكذلك وبتلك الشدّة أمسوا في الإسلام أعداء التوحيد والتنزيه ومحاربي العفاف والإنصاف.

وعندما بلي المسلمون بولاة من هؤلاء ، بدأوا تشويه الصبغة الإسلامية بانتهاك الإعراض والحرمات ، وامتهان الشخصيات والكرامات ، وتشويش الأفكار والمعتقدات ، وتزييف الوجدان وإثارة الأضغان ، وتعميق العداء والبغضاء ، وتعميم الجور والعدوان.

عقيدة الجبر :

وكان من أخطر ما روّجوه بين الاُمة وأكّدوا على إشاعته هو فكرة « الجبر الإلهي » بهدف التمكّن من السلطة التامة على مصير الناس ، والهيمنة على الأفكار بعد الأجسام.

٨٨

فإن الأمة إذا اعتقدت بالجبر ، فذلك يعني : أن كل ما يجري عليها فهو من الله وبإذنه ، فما يقوم به الخليفة من فساد وظلم وجور وقتل ونهب وغصب ، فهو من الله ـ تعالى عن ذلك ـ استكانت الأمة للظالم ولتعدياته ، ولم تحاول أن تتخلص من سيطرته ، ولا دفع عدوانه ، بل لم تفكّر في الخلاص منه ، لأن ذلك يكون مخالفة لإرادة الله ومشيئته ، فالخليفة والأمير والحاكم والوالي إنّما ينفذون إرادة الله ، وهم يد الله على عباده!

فكيف يرجى من أمة كهذه أن تقوم بوجه سلطة الظالم واعتداءاته وتجاوزاته (١).

لقد أظهر الأمويون عنادهم للإسلام حتى في مسائل الدين ، ومن عندهم ظهرت الفتاوي في الشام بخلاف ما في العراق ، كما ظهر القول بالجبر في اصول الدين.

وأول ما انتحله معاوية من التفرقة ـ بين المسلمين ـ هو القول بالجبر ، فقد كان هو أوّل من أظهره.

قال القاضي عبدالجبار في ( المغني في أبواب العدل والتوحيد ) : أظهر معاوية ان ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذرا في ما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه ، وأن الله جعله إماما وولاّه الأمر ، وفشا ذلك في ملوك بني أمية (٢).

وكان الأمويّون يقولون بالجبر (٣).

ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فكرة الجبر بكل قوّة ووضوح منذ زمان أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤).

ولكن لمّا استفحل أمر بني أمية ، وملكوا أنفاس الناس ، وتمكّنوا من عقولهم وأفكارهم ، انفرد معاوية في الساحة ، وغسل الأدمغة بفعل علماء الزور ووعّاظ السلاطين.

فكان معاوية يقول في خطبه : « لو لم يرني الله أهلا لهذا الأمر ما تركني وإيّاه ولو

__________________

(١) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( ص ٨٥ ـ ٨٦ ).

(٢) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( ٢ ـ ٤٦ ).

(٣) تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام ، لابي ريّان ( ص ١٤٨ ـ ١٥٠ ).

(٤) لاحظ الاحتجاج ( ص ٢٠٨ ) في احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٨٩

كره الله تعالى ما نحن فيه لغيّره ».

وقال معاوية في بعض خطبه : « أنا عامل من عمّال الله اُعطي من أعطاه الله وأمنع من منعه الله ولو كره الله أمرا لغيّره ».

فأنكر عليه عُبادة بن الصامت وغيره من الصحابة. نقله ابن المرتضى وقال : هذا صريح الجبر (١).

وهذا هو الذي شدّد قبضة الامويين على البلاد والعباد ، ومكّنهم من قتل ابي عبدالله الحسين سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل جرأة ، ومن دون نكير!

وقد أظهر يزيد ، أن الحسين عليه‌السلام إنما قتله الله! فأعلن ذلك في مجلسه وأمام الناس.

لكن الإمام السجاد عليه‌السلام لم يترك ذلك يمرّ بلا ردّ ، فانبرى له وقال ليزيد : قتل أبي الناس (٢).

وقبل ذلك في الكوفة قال عبيدالله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟

فقال الإمام عليه‌السلام ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ). [ سورة الزمر (٣٩) الآية (٤٢) ]

فغضب عبيدالله وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقية للردّ عليّ ، اذهبوا به فاضربوا عنقه.

ثم صعد المنبر ، وقال : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وحِزبه (٣).

إن الموقف كان خطرا جدا ، فالطاغية في عتوّه ، ونشوة الانتصار تغمره ، فالردّ عليه في مثل هذه الحالة يعني منازعته سلطانه.

ولكن الإمام السجاد عليه‌السلام وهو أسير ، يعاني آلام الجرح والمرض ، لم يتركه يلحد في دين الله ، ويمرّر فكرة الجبر أمامه ، على الناس البسطاء ، الفارغين من المعارف ، التي نصّ عليها القرآن بوضوح.

وليس غرضنا من سرد هذه الأخبار إلاّ نقل ردّ الإمام عليه‌السلام على مزاعم الحكّام

__________________

(١) المنية والأمل (ص ٨٦).

(٢) الاحتجاج (٣١١).

(٣) الارشاد للمفيد (ص ٢٤٤) ولاحظ صدره في تاريخ دمشق ( الحديث ٢٥ ).

٩٠

بنسبة القتل الى الله ، بينما هو من فعل الناس ، والتذكير بالفرق بين الوفاة للأنفس واسترجاعها الذي نسب في القرآن الى الله حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ، وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قِبَل القاتل قبل حلول الموت المذكور.

إن تحدّي الحكام وفي مجالسهم ، وبهذه الصراحة ينبىء عن شجاعة وبطولة ، وهو تحدّ للسلطة أكثر من أن يكون ردا على انحراف في العقيدة فقط.

وفي حديث رواه الزهري ـ من كبار علماء البلاط الأموي ـ أجاب الإمام زين العابدين عليه‌السلام عن هذا السؤال : أبِقَدَرٍ يصيب الناس ما اصابهم ، أم بعمل؟

أجاب عليه‌السلام بقوله : إنّ القدَرَ والعمل بمنزلة الروح والجسد ... ولله فيه العون لعباده الصالحين.

ثم قال عليه‌السلام : ألا ، من أجور الناس مَنْ رأى جوره عدلا ، وعدل المهتدي جورا (١).

وعقيدة التشبيه والتجسيم :

وقد تجرأ أعداء الأسلام ـ بعد سيطرتهم على الحكم ـ على المساس بأساس العقيدة الإسلامية ، وهو التوحيد الإلهي ، وذلك بإدخال شبه التجسيم والتشبيه في أذهان العامة ، لإبعادهم عن الحق ، وجرّهم الى صنمية الجاهلية.

ولقد استغلّ الإعداء جهل الناس ، وبعدهم عن المعارف ، حتى اللغة العربية! فموّهوا عليهم النصوص المحتوية على ألفاظ الأعضاء ، كاليد والعين ، مضافة في ظاهرها الى الله تعالى ، وتفسيرها بمعانيها المعروفة عند البشر ، بينما هي مجازات مألوفة عند فصحاء العرب في شعرهم ونثرهم ، يعبّرون باليد عن القوة والقدرة ، وبالعين عن البصيرة والتدبير ، وهكذا ...

وقد قاوم الإسلام منذ البداية هذه الأفكار المنافية للتوحيد والتنزيه ، وقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار بمقاومتها وإبطال شبهها ، وفضح أغراض ناشريها ودعاتها.

وفي عهد الإمام السجاد عليه‌السلام ، وبعد أن استشرى الوباء الاموي بالسيطرة التامة ،

__________________

(١) التوحيد للصدوق (ص ٣٦٦).

٩١

كان أمر هؤلاء الملحدين قد استفحل ، وتجاسروا على الإعلان عن هذه الأفكار بكلّ وقاحة ، في المجالس العامة ، حتى في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت مهمة الإمام السجاد عليه‌السلام حسّاسة جدا ، لكونه ممثّلا لأهل البيت عليهم‌السلام ، بل الرجل الوحيد ذا الارتباط الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية بأقرب الطرق وأوثقها ، وبأصحّ الأسانيد ، مصحوبا بالإخلاص لهذا الدين وأهله ، وعمق التفكير وقوته ، وبالشكل الذي ليس لأحد إنكار ذلك أو معارضته.

ومع ما كان عليه الإمام السجاد عليه‌السلام من قلة الناصر ، فقد وقف أمام هذا التيار الإلحادي الهدّام ، وأقام بأدلته وبياناته سدا منيعا في وجه إحياء الوثنية من جديد!

فقام الإمام بعرض النصوص الواضحة التعبير عن الحق ، والناصعة الدلالة على التوحيد والتنزيه ، مدعومة بقوة الاستدلال العقلي ، وكشف عن التصوّر الإسلامي الصحيح ، وشهر سيف الحق والعلم والعقل على تلك الشبه الباطلة :

ولنقرأ أمثلة من تلك النصوص :

جاء في الحديث أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم ، إذ سمع قوما يشبّهون الله بخلقه ، ففزع لذلك ، وارتاع له ، ونهض حتى أتى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوقف عنده ، ورفع صوته يدعو ربّه ، فقال في دعائه :

« إلهي بدت قدرتك ، ولم تبد هيبة جلالك ، فجهولك ، وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به مشبّهوك.

وأنا بريء ـ يا الهي ـ من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء ـ يا إلهي ـ ولن يدركوك.

فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ، لو عرفوك. وفي خلقك ـ يا إلهي ـ مندوحة عن أن يتأوّلوك. بل ساووك بخلقك ، فمن ثمّ لم يعرفوك.

واتخذوا بعض آياتك ربّا ، فبذلك وصفوك. فتعاليت ـ يا إلهي ـ عمّا به المشبّهون نعتوك » (١).

__________________

(١) كشف الغمة ( ٢ : ٨٩ ) وانظر بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام (ص ١٧) وقد رواه الصدوق في أماليه ( ص ٤٨٧ ) المجلس (٨٩) موقوفا على الرضا عليه‌السلام ، فلاحظ.

٩٢

فوجود الإمام عليه‌السلام في المسجد النبوي ، وإظهاره الفزع من ذلك التشبيه ، وارتياعه لذلك الكفر المعلن ، ونهوضه ، والتجاؤه الى القبر الشريف ، ورفعه صوته بالدعاء ...

كل ذلك ، الذي جلب انتباه الراوي ، ولابدّ أنه كان واضحا للجميع ، إعلان منه عليه‌السلام للاستنكار على ذلك القول ، وأولئك القوم الذين تعمّدوا الحضور في المسجد والتجرؤ على إعلان ذلك الإلحاد والكفر.

وهو تحدّ صارخ من الإمام عليه‌السلام للسياسة التي انتهجتها الدولة وكانت وراءها بلا ريب ، وإلاّ ، فمن يجرؤ على إعلان هذه الفكرة المنافية للتوحيد لولا دعم الحكومة ، ولو بالسكوت!

إن قيام الإمام السجاد عليه‌السلام بهذه المعارضة الصريحة وبهذا الوضوح يعطي للمواجهة بعدا آخر ، أكثر من مجرد البحث العلمي ، والنقاش العقيدي والفكري.

إنّه بعد التحدّي للدولة التي كانت تروّج لفكرة التجسيم والتشبيه ، وتفسح المجال للإعلان بها في مكان مقدّس مثل الحرم النبوي الشريف ، في قاعدة الإسلام وعاصمته العلمية ، المدينة المنورة!!

ومهزلة الإرجاء :

الإرجاء ، بمعنى عدم الحكم باسم « الكفر » على من آمن بالله ، في ما لو أذنب ما يوجب ذلك ، وأن حكما مثل هذا موكول الى الله تعالى ، ومرجأ الى يوم القيامة ، وأن الذنوب ـ مهما كانت ـ والمباديء السياسية مهما كانت ، لا تخرج المسلم عن اسم الإيمان ، ولا تمنع من دخوله الجنة.

وكان الملتزمون بالإرجاء ، يتغاضون عمّا يقوم به الحكّام والسلاطين مهما كانت أفعالهم مخالفة لأحكام الإسلام في آيات قرآنه ونصوص كتابه وسنّة رسوله.

بل كان منهم من يقول : إن الإيمان هو مجرد القول باللسان ، وإن عُلِمَ من القائل الاعتقاد بقلبه بالكفر ، فلا يسمّى كافرا.

ومنهم من يقول : إن الإيمان هو عقد القلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه فلا يسمّى كافرا (١).

__________________

(١) لاحظ الفصل لابن حزم ( ٤ : ٢٠٤ ).

٩٣

وهذه المباديء ـ مهما كان منشؤها ـ كانت ولا زالت تخدم الحكّام الجائرين المبتعدين عن الإسلام في كل أعمالهم وتصرّفاتهم ، لأن أصحاب هذه المباديء كانوا ـ ولا يزالون ـ يرون أن مهادنه هؤلاء الحكّام صحيحة وغير منافية للشرع والتديّن بالإسلام.

فكانت ـ كما يقول أحمد أمين ـ هذه المباديء تخدم بني امية ـ ولو بطريق غير مباشر ـ وأصحابها كانوا يرون أن مهادنة بني امية صحيحة ، وأن خلفاءهم مؤمنون ، لا يصحّ الخروج عليهم.

فكان أن الأمويين لم يتعرّضوا لهم بسوء ، كما تعرّضوا للمعتزلة والخوراج والشيعة (١).

بل أصبح الإرجاء ـ كما نقل الجاحظ عن المأمون : ـ دين الملوك (٢).

وهذه المزعومة ـ الإرجاء ـ باطلة أساسا ، لدلالة النصوص الواضحة على أنّ العمل ـ فعلا وتركا ـ له أثر مباشر في صدق أسماء « الإيمان والكفر » ولذلك أعلن أئمة المسلمين بصراحة : أن الإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان.

فمن خالف ما ثبت أنه من الدين ضرورة فهو محكوم باسم الكفر ، وتجري عليه أحكام هذا الاسم ، سواء أنكره بلسانه ، أو بقلبه ، أو بعمله ، كقاتل النفس المحترمة وتارك الصلاة ، مثلا.

وفي قبال مخالافات الحكّام الظالمين ، المعلنة والمخفية ، قاوم المسلمون بكل شدّة ، وحاسبوهم بكل صرامة ، حتى قتل عثمان ـ وهو خليفة ـ من أجل بعض مخالفاته الواضحة.

لكن ، لمّا تربّع بنو أمية على الحكم ، بدأوا يحرّفون عقيدة الناس بترويج كفرهم ، وقتل المؤمنين العارفين بالحقائق ، وإجراء سياسة التطميع والتجويع ، وغسل الأدمغة والتحميق ، مستمدّين بوعّاظ السلاطين من أمثال الزهري :

فقد ورد في الأثر أن هشام بن عبدالملك سأل الزهري قال : حدثنا بحديث

__________________

(١) ضحى الإسلام ( ٣ : ٣٢٤ ).

(٢) الاعتبار وسلوة العارفين (ص ١٤١).

٩٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة ، وإن زنا وإن سرق (١).

فهشام حافظ للحديث ، لكنه يريد من الزهري تقريرا عليه وتصديقا به ، وكأنّه يقول له : إنّ مثل هذا الحديث يعجبنا ويفيدنا فاروه لنا.

ولم يكذّب الزهري هذا الحديث المجعول من قبل المرجئة ، وإنما قال لهشام : أين يذهب بك ، يا أمير المؤمنين! كان هذا قبل الأمر والنهي.

لكن إذا كان قبل الأمر والنهي فلماذا يذكر الزنا والسرقة ، أو هما كانتا محرّمتين!؟

فعاد أمر الأمة الى أن لم ير المضحّون والمخلصون ، وفي طليعتهم أهل البيت عليهم‌السلام إلا أن ينهضوا في طلب الإصلاح.

وقام الإمام الحسين عليه‌السلام بالتضحية الكبرى في كربلاء ، لإنقاذ الإسلام مما ابتلي به من تدابير خطرة ، ومؤمرات لئيمة دبّرها بنو امية.

وقد أدّت تلك التضحية العظيمة ، الى فضح حكّام بني امية ، حيث إن عملهم الظالم ذلك ، الذي لم يجدوا في الامة منكرا له ولا نكيرا عليه ، هوّن عليهم الإقدام على أعمال فظيعة اخرى بعلانية ووقاحة ، بشكل لم يبق مبرّر لإطلاق اسم الإسلام والإيمان عليهم ، ولذلك نجد أن الذين أعلنوا عن ثورة المدينة قبيل وقعة الحرّة ، كانت دعواهم : « أن يزيد لرجل ليس له دين » (٢).

والأمويون تأكيدا على كفرهم وخروجهم على كل المقدّسات ، استباحوا مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرمه ، وقتلوا آلاف الناس ، وفيهم جمع من أبناء صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهتكوا الأعراض وانتهبوا الأموال (٣).

وعقّبوا ذلك بالهجوم على الكعبة والمسجد الحرام وحرم الله الآمن ، فأحرقوها وهتكوا حرمتها ، وسفكوا الدماء فيها ، ولم يرقبوا في شيء عملوه أيام حكمهم الدموي كرامة لأحد ، ولا حرمة لشيء مقدّس.

__________________

(١) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص ١٤١ ).

(٢) أيام العرب في الإسلام ( ص ٤٢٠ ).

(٣) انظر كتب التاريخ في حوادث سنة ( ٦٣ هـ ) وتاريخ المدينة المنورة وترجمة مسلم بن عقبة وعبدالله بن الغسيل.

٩٥

والمرجئة ـ مع ذلك ـ يقولون في الأمويين إنهم الحكّام الذين تجب طاعتهم ، وإنهم مؤمنون لا يجوز الحكم عليهم بالكفر ، ولا لعنهم ، ولا التعرّض لهم ولا الخروج عليهم!

إن هذا الانحراف الذي عرض لامة الإسلام ، كان ردّة خفيّة تمرّر باسم الإسلام وعلى يد الخليفة والمجرمين الممالئين له.

فكانت جهود الإمام السجاد عليه‌السلام هي التي اعقبت إحياء الروح الإسلامية واستتبعت الصحوة للمسلمين ، فرصّ الصفوف ، فتمكّن ابنه المجاهد العظيم زيد بن علي عليه‌السلام من إطلاق الثورة ضدهم.

وتلك التعاليم السجادية هي التي جعلت أمر كفر الأمويّين وبطلان حكمهم ، أوضح من الشمس ، وألجأت أبا حنيفة المتّهم بالإرجاء (١) أن يرى ولاة بني امية مخالفين لتعاليم الدين وأعلن وأظهر البغض والكراهية لدولتهم ، وساهم في حركة زيد الشهيد ، وناصر أهل البيت بالمال والعدّة ، وكان يفتي ـ سرّا ـ بوجوب نصرة زيد وحمل المال إليه والخروج معه على اللصّ المتغلّب المتسمّي بـ « الإمام والخليفة » (٢).

وفي الإمامة والولاية :

كانت الإمامة في نظام الدولة الإسلامية ، أعلى المناصب الحكومية ، ولذا كان الحكّام يسمّون أنفسهم أئمة للناس ، واُمراء للمؤمنين ، بلا منازع.

ولا يدّعي أحد غير الحاكم ، لنفسه منصب الإمامة إلاّ إذا لم يعترف بالحاكم ولا حكومته : ومعنى هذا الادّعاء معارضته للنظام ولمقام الخليفة نفسه.

والإمام السجاد عليه‌السلام قد أعلن عن إمامة نفسه بكل وضوح وصراحة ومن دون أيّة تقيّة وخفاء.

ولعلّ لجوءه عليه‌السلام الى هذا الاسلوب المكشوف كان من أجل أنّ بني أمية بلغ أمر فسادهم وخروجهم عن الإسلام ، وعدم صلاحيتهم للحكم على المسلمين وإدارة

__________________

(١) لاحظ تاريخ بغداد (ج ١٣) وانظر الكنى والألقاب ( ١ / ٥٢ ).

(٢) لاحظ ضحى الإسلام ، لأحمد أمين ( ٣ ـ ٢٧٤ ).

٩٦

البلاد ، فضلا عن الإمامة ، حدّا من الوضوح لم يمكن ستره على أحد.

فكان من اللازم الإعلان عن إمامة السجاد عليه‌السلام كي لا يبقى هذا المنصب شاغرا ، وأن لم تكن الإمامة الحقّة حاكمة ظاهرا.

ومهما يكن ، فإنّ خطورة إعلان الإمام السجاد عليه‌السلام عن إمامة نفسه وأهل بيته ، لا تخفى على أحد ممن عرف جور بني أمية وطغيانهم وقسوتهم في مواجهة المعارضين.

وقد تعدّدت الأحاديث الناقلة لهذا الإعلان ، حسب تعدّد المناسبات ، والظروف :

١ ـ ففي الحديث الذي أورده ابن عساكر : قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي : رأيت علي بن الحسين ، وله شعرٌ طويل ، فقال : إلى من يذهب الناس؟

قال : قلت : يذهبون ههنا وههنا!

قال : قل لهم : يجيئون إليّ (١).

٢ ـ قال له أبو خالد الكابلي : يا مولاي! أخبرني كم يكون الأئمة بعدك؟

فقال : ثمانية ، لأن الأئمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر إماما ، عدد الأسباط ، ثلاثة من الماضين ، وأنا الرابع ، وثمانية من ولدي ، أئمة أبرار ، من أحبّنا وعمل بأمرنا كان في السنام الأعلى ، ومن أبغضنا أو ردّ واحدا منّا فهو كافر بالله وبآياته(٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : نحن أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان أهل الأرض ، كما أنّ النجوم أمانٌ لأهل السماء ... ولو ما في الأرض منّا لساخت بأهلها ، ولم تخلُ الأرض ـ منذ خلق الله آدم ـ من حجّة لله فيها ، ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو ، الى أن تقوم الساعة ، من حجّة لله فيها ، ولولا ذلك لم يعبد الله (٣).

٤ـ وقال عليه‌السلام : نحن أفراط الأنبياء ، وأبناء الأوصياء ، ونحن خلفاء

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٢١ ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ / ٥٣١ ).

(٢) كفاية الأثر للخزّاز ( ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ).

(٣) أمالي الصدوق (ص ١١٢) الاحتجاج (ص ٣١٧).

٩٧

الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن أولى الناس بدين الله (١).

٥ ـ وكان يقول في دعائه يوم عرفة :

اللهمّ!

إنّك ايّدت دينك في كلّ أوان بإمام اقمته علما لعبادك ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة الى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذّرت معصيته ، وامرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدّم ، ولا يتأخّر عنه متأخّر ، فهو عمصة اللائذين ، وكهف المؤمنين ، وعرْوة المتمسّكين ، وبهاء العالمين.

اللهم

فأوْزع لوليّك شكر ما أنعمت به عليه ، وأوزعنا مثله فيه ، وآته من لدنك سلطانا نصيرا ، وافتح له فتحا يسيرا ، وأعنه بركنك الأعزّ ... واقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك صلواتك ـ اللهمّ ـ عليه وآله.

وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، وأجل به صدأ الجور عن طريقتك ، وأبن به الضرّاء من سبيلك ، وأزل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عوجا ، وألن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك (٢).

ففي يوم عرفة ، وفي موقف عرفات ، حيث تتّجه القلوب الى الله بلهفة ، وحيث الأنظار شاخصة الى ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآذان صاغية الى بقية العترة ، لتسمع دعاءه في ذلك اليوم الشريف ، وذلك الموقف المنيف ، يدعو بهذه الكلمات ليعرّف المسلمين بما يجب أن يكون عليه الإمام الحقّ من صفات ، وما عليه وله من حقوق وواجبات.

ولا يرتاب المتأمل : أن في عرض مثل هذه الأوصاف والواجبات ـ التي يبتعد عنها الحكّام المدّعون للإمامة أشواطا ومسافات طويلة ـ يعدّ تعريضا بهم ، وتحدّيا لوجودهم.

وأن الإمام السجاد عليه‌السلام لمّا كان يعرّف الإمامة بهذا الشكل ، فهو ـ بلا ريب ـ

__________________

(١) بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام (ص ٦٠).

(٢) الصحيفة السجادية ، الدعاء رقم (٤٧).

٩٨

يستبعد عنها كلّ أدعياء الإمامة من غير ما لياقة ، فضلا عن الاستحقاق.

فأين أولئك المغمورون في الرذيلة والظلم والجهل بالدين ، بل المعارضون له عقائديا وعمليا ، أين هم من هذه الإمامة المقدّسة!؟

٦ ـ وكان يقول في دعائه ليوم الجمعة ، والأضحى:

اللهمّ :

إنّ هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزّوها ، وانت المقدّر لذلك لا يغالب أمرك.

حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزّين ، يرون حكمك مبدّلا ، وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرّفة عن جهة إشراعك ، وسنن نبيّك متروكة.

اللهمّ : العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين ، ومن رضي بفعالهم واشياعهم ، وأتباعهم (١).

ويوصي الإمام الى ولده محمّد الباقر فيقول :

بُنيّ :

إنّي جعلتك خليفتي من بعدي ، لا يدّعيها في ما بيني وبينك أحدٌ إلاّ قلّده الله يوم القيامة طوقا من النار (٢).

بل ، أعلن خلافة ولده الباقر وإمامته ، للزهري ، وهو من علماء البلاط الأموي ، في ما روي عنه ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليهم‌السلام في مرضه الذي توفي فيه : فقلت : يابن رسول الله ، إن كان أمر الله ، ما لابدّ لنا منه ، فإلى من نختلف بعدك؟

فقال عليه‌السلام : يا أبا عبدالله ، الى ابني هذا ـ وأشار الى محمّد الباقر عليه‌السلام ـ فإنه وصيّي ، ووارثي ، وعيبة علمي وهو معدن العلم وباقره.

قال الزهري : قلت : هلاّ أوصيت الى أكبر ولدك؟

قال عليه‌السلام : يا أبا عبدالله ، ليست الإمامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهكذا وجدناه مكتوبا في اللوح والصحيفة.

__________________

(١) الصحيفة السجادية الدعاء رقم (٤٨).

(٢) كفاية الأثر للخزّاز ( ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ ).

٩٩

قال الزهريّ : قلت : يابن رسول الله ، كم عهد إليكم نبيّكم أن يكون الأوصياء بعده؟

قال عليه‌السلام : وجدناه في الصحيفة واللوح « اثنا عشر اسما » مكتوبة إمامتهم.

ثم قال عليه‌السلام : يخرج من صلب محمّد ابني سبعة من الأوصياء فيهم « المهديّ » (١).

الى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب.

والمهمّ في الأمر أنّ الإمام السجّاد عليه‌السلام بصراحته هذه ، وإعلانه عن أهمّ ما يرتبط باستمرار العقيدة ودوامها ، تمكّن من تثبيت الإمامة بعد أن تعرّض التشيّع لأوحش الحملات في ذلك التأريخ ، فأدّت بالعقيدة الى تضعضع لم يسبق له مثيل! كما أدّت الى يأس في النفوس ، وتمزّق بين صفوف الشيعة بما لا يتصوّر!

فكانت مواقف الإمام السجاد عليه‌السلام هذه ، الواضحة ، والجريئة ، والمكرّرة ، سببا للملمة الكوادر من جديد ، ورصّ الصفوف ثانية ، وتكريس الجهود المكثّفة ، واستعادة القوى المهدورة ، والتركيز على ترسيخ القواعد الأصلية من أن تحرّف أو يشوبها التشويه لتكوين الأرضيّة الصالحة لبذر علوم آل محمد على أيدي الأئمة لاسيما الباقر والصادق عليهما‌السلام.

إثارة خلافة الشيخين :

إنّ بني أمية ، الذين أحدثوا مذبحة كربلاء ، ومجزرة الحرّة ، ومأساة عين الوردة ، لم يقنعوا بتصفية التشيّع جسديا ، بقتل الإعداد الكبيرة من أنصار أهل البيت عليهم‌السلام ، ومعهم الأعيان والرؤساء ، بمن فيهم الإمام الحسين عليه‌السلام ، وإنّما حاولوا ـ أيضا ـ القضاء على التشيع فكريا وحضاريا ، وأتّبعوا سبل الدعاية المغرضة ، وإثارة الناس الغوغاء على كلّ ما يمتّ الى أهل البيت عليهم‌السلام من فكر وتراث وشعار ، حتى حاربوا أسماءهم ، فكان من يتسمى بها مهدّدا.

ومن أخبث أساليبهم بثّ بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين ، ليتمكّنوا من القضاء على الإسلام كلّه ، ومن خلال ضرب المذاهب بعضها ببعض ، وممّا ركّزوا عليه في هذه

__________________

(١) كفاية الأثر للخزّاز (ص ٢٤٣).

١٠٠