جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

قال ابن أبي قرّة في ( مزاره ) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، قال : كان أبي علي بن الحسين عليه‌السلام ، قد اتّخذ منزله ـ من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليه‌السلام ـ بيتا من شعر ، وأقام بالبادية ، فلبث بها عدّة سنين ، كراهية لمخالطة الناس (١) وملاقاتهم.

وكان يصير من البادية بمقامه الى العراق زائرا لأبيه وجدّه عليهما‌السلام ، ولا يشعر بذلك من فعله (٢).

إنه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة ، لم نجد له مثيلا ، لكنه ـ كما تكشف عنه الأحداث المتتالية ـ عمل عظيم ينمّ عن حنكة سياسية ، وتدبير دقيق للإمام عليه‌السلام.

فإذا كان الإمام عليه‌السلام يعيش خارج المدينة ، وكان ينزل البادية :

فإن الدولة لا تتمكّن من اتهامه بشيء يحدث في المدينة ، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته ، في محل مكشوف مثل البادية!

وأمّا هو عليه‌السلام : فخير له أن يتخذ منتجعا مؤقتا بعيدا عن الناس ، حتى تهدأ الأوضاع وتستقرّ ، وتعود المياه الى مجاريها.

وبعيدا عن الناس ، للاستجمام ، ولاستجماع قواه ، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب ، ليتمكّن من مداومة مسيره ـ بعد ذلك ـ بقوة وجدّ.

وهو عليه‌السلام بحاجة بعد ذلك العناء والضنى الى راحة جسدية ، وهدوء بال وخاطر ، حتى يبلّ من مرضه أو يداوي جراحاته.

ثم ، إن المدينة التي دخلها الإمام السجّاد عليه‌السلام وهو غلام ابن (٢٣) سنة ـ أو نحو ذلك ـ لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام ، وهو ـ بعد ـ لم يعاشرهم ، ولم يداخلهم ، وما تداولوا حديثه ، ولم تظهر لهم خصائصه ، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة!

ولعدم وجود العدد اللازم من الإعوان والأنصار ، بالقدر الكافي لإعداد حركة

__________________

(١) يلاحظ أن كلمة ( الناس ) في حديث أهل البيت عليهم‌السلام ـ خاصة ـ يطلق على غير المعتقدين بالإمامة ، في أغلب الأحيان.

(٢) فرحة الغري ، لابن طاوس (ص ٤٣) الإمام زين العبادين ، للمقرّم (ص ٤٢) ولاحظ الكافي للكليني ، قسم الروضة (ص ٢٥٥) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجّاد عليه‌السلام لقبر أمير المؤمنين عليه‌السلام ولقاء أبي حمزة الثمالي له ، فليلاحظ.

٦١

مستقلة يعلنها الإمام ، وحفاظا على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام.

فقد بنى الإمام زين العابدين عليه‌السلام سياسته ، في ابتداء إمامته على أساس الابتعاد عن الناس ، ودعوتهم الى الابتعاد عنه عليه‌السلام.

وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة ، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة ، عندما عرضوا عليه ولاءهم ، وقالوا له بأجمعهم : نحن كلنا يابن رسول الله ، سامعون ، مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك ، رحمك الله ، فإنّا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذنّ تِرَتك وتِرَتنا ممن ظلمك وظلمنا.

فقال عليه‌السلام : هيهات .. ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا (١).

إن الإمام عليه‌السلام أخذ عليهم ، سائلا ، أن يأخذوا في تلك الفترة ، جانب الحياد تجاه أهل البيت عليهم‌السلام ، لا لهم ، ولا عليهم.

إذ ، لو رأت السلطة أدنى تجمّع حول الإمام عليه‌السلام ، لاتّخذت ذلك مبررا لها أن تستأصل وجوده ومن معه ، فإنّ من الهيّن عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف ، بعد أن قتلت الحسين عليه‌السلام وهو اقوى موقعا في الأمة!

كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقت : أن لا يبقى الإمام عليه‌السلام داخل المدينة ، حتى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتى يبتعد عن طنونهم السيئة ، بل خرج الى فضاء البادية المفتوح ، وخارج البلد ، يسكن في بيت من ( شَعر ) ليرفع عن نفسه سهام الريب ، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة ، كوارث للشهداء.

ولقد طالت هذه الحالة « عدّة سنين » حسب النصّ ، ولعلّها بدأت من سنة (٦١) عندما رجع أهل البيت الى المدينة ، وحتى نهاية سنة (٦٣) عندما انتهت مجزرة الحرّة الرهيبة.

__________________

(١) الأحتجاج للطبرسي (ص ٣٠٦) وانظر اللهوف لابن طاوس (ص ٦ ـ ٦٧) ويبدو أن هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام عليه‌السلام من الشام الى الكوفة أو في بعض أسفاره السرية الى العراق!.

وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي (ص ٧٨).

٦٢

وأما بعد هذه الفترة ، فلم يعرف عن هذا البيت من الشَعر خبر في تاريخ الإمام عليه‌السلام ، ولا أثر!

وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة ، أنّ القائد الاموي السفّاك مسلم بن عقبة ، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها ، لم يمسّ الإمام بسوء ، وعدّه « خيرا لا شرّ فيه ».

وواضح ، أن المراد من « خير وشر » في منطق هذا الأموي السفاح ، ماهو؟! مع أنّ الإمام كان مستهدفا بالذات في ذلك الهجوم ، كما سنوضحه في ما بعد!

ولقد استنفد الإمام السجاد عليه‌السلام جلّ أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد ، فرجع الى المدينة ، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيئة ، الى حالة مألوفة ، وأصبح الإمام في نظرهم مواطنا ، يمكنه أن يسكن المدينة ، من دون أن تنصب له الدوائر ، ولا أن تجعل عليه العيون.

بل ، انقلب البغض الدفين ، الذي كان يكنّه الأمويون تجاه بني هاشم ، وركّزه معاوية في أهل بيت الرسول ، وصبّه على أمير المؤمنين علي وأولاده ، وجسّده يزيد في الفاجعة المروّعة بقتل شيخ العترة وسيّدها الحسين بن علي عليه‌السلام ، وقتل خيرة رجالات أهل بيته ، وأصحابه ، في مجزرة كربلاء.

انقلب كل ذلك ـ في نهاية المطاف ـ بفضل سياسة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، الى أن يكون علي بن الحسين أحبّ الناس الى حكّام بني أمية (١).

وبهذا يمكن أن نفسّر النصّ الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين عليه‌السلام المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبدالله الأنصاري حيث جاء فيه :

« أطرق ، واصمت ، والزم منزلك ، واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين » (٢).

فلابد أن تحدّد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد عليه‌السلام حين كان يواجه

__________________

(١) كان علي بن الحسين أحبّ الناس الى مروان وابنه عبدالملك. طبقات ابن سعد ( ٥ : ١٥٩ ) تاريخ دمشق ( الاحاديث ٣٨ ـ ٤٠ ) وابن كثير في البداية والنهاية ( ٩ : ١٠٦ ) وتذكرة الحفاظ ( ١ : ٧٥ ).

(٢) الإمامة والتبصرة من الحيرة ، لابن بابويه (ص ١٦٧) الحديث (٢٠) ، وانظر مصادر تخريجه. ولاحظ أمالي الطوسي ( ١ / ٢٩٧ ).

٦٣

تلك الأخطار والتهديدات.

و « الإطراق » و «الصمت » معبّران عن التزام السكون ، والهدوء ، والتخطيط للمستقبل ، والابتعاد عن لقاء الناس.

وهذا هو الذي عبّر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله :

وقتل الحسين عليه‌السلام وخلّف علي بن الحسين عليه‌السلام متقارب السنّ ـ كانت سنّة أقل من عشرين سنة! ـ ثم انقبض عن الناس ، فلم يلق أحدا ، ولا كان يلقاه إلاّ خواصّ أصحابه ، وكان في نهاية العبادة ، ولم يخرج عنه من العلم إلاّ يسير ، لصعوبة الزمان وجور بني أمية (١).

فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات.

وإلاّ ، فإنّ الفترة التالية من حياة الإمام السجّاد عليه‌السلام نراها مليئة بكلّ أغراض الكلام والخطب والأدعية والمواعظ.

فأين الصمت!؟

ونجد في حياته الأسفار المكرّرة الى الحجّ ، والنشاط العملي الجادّ في الإنفاق ، والإعتاق ، والحضور في المسجد النبوي ، والخطبة كلّ جمعة ، والمراسلات والمساجلات والاحتجاجات.

فأين الإطراق!؟

ولا يمكن لأحد أن يعبّر عن العلم الذي خرج عن الإمام عليه‌السلام بأنّه « يسير » وهو يجد أمامه : الصحيفة السجّادية ، ورسالة الحقوق ، ومناسك الحج ، مضافا الى الخطب والكلمات والرسائل التي احتوتها « بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام » وجمعتها كتب تراثيّة عديدة (٢).

__________________

(١) نقله الصدوق في إكمال الدين (ص ٩١) عن كتاب ( التنبيه ) للنوبختي.

(٢) لاحظ تدوين السنة الشريفة ( ص ١٥٠ ـ ١٥٢ ) وراجع معجم ما كتب .. للرفاعي بالأرقام : ٢٠٣٩٧ باسم ( التذكرة ) و ٢٠٤١٥ باسم التعقيبات ، و ٢٠٤٨٢ باسم الديوان ، و ٢٠٦٨٨ باسم المخمسّات. و ٢٠٧٣٣ ـ ٢٠٧٣٦ باسم ( الندبة ) و ٢٠٧٣٧ و ٢٠٧٣٨ باسم نسخة.

٦٤

وجمع أسماء من روى عنه في كتب أخرى (١) ومجموع من ذكرهم الشيخ الطوسي ـ فقط ـ من الرواة عن الإمام عليه‌السلام بلغوا (١٧٠) راويا (٢).

ولا ريب أنّ مجموع هذا العلم ليس يسيرا ، فلابدّ أن يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط.

إنّ كلّ تلك الفعاليات الكلامية ـ والعملية ـ لممّا يتيقّن معها بأن الإمام السجاد عليه‌السلام ـ بعد تلك الفترة ـ لم يسكن مطرقا ، ولم يسكت صامتا ، ولم ينعزل عن الناس ، بل زاول نشاطا واسعا في الحياة العامة ، بل ـ كما ذكره النسّابة ـ قد روى الحديث ، وروي عنه ، وأفاد علما جمّا (٣).

وستتكفل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله.

ومع وقعة الحرة :

ورجع الإمام السجاد عليه‌السلام الى المدينة :

ليستقبله أهلها ، بالبكاء والتعزية ، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كربلاء ، ويركّزها في الأذهان من طريق القلوب ، كي لا يطالها التشويش والإنكار ، بمرور الأعصار ، كما طال كثيرا من الوقائع والحوادث ، فأصبحت مغمورة أو مبتورة!

فأرسل بشر بن حذيم (٤) الى المدينة وأهلها ناعيا الحسين عليه‌السلام ومعرفا إيّاهم بمكان الإمام السجاد عليه‌السلام.

قال بشر : فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزن من خدورهن ، ... ، فلم

__________________

(١) لاحظ معجم ما كتب بالأرقام : ٢٠٤٨٣ باسم ذكر من روى عن الإمام عليه‌السلام للصدوق ، و ٢٠٧١٤ كتاب من روى عنه عليه‌السلام لابن عقدة.

(٢) رجال الطوسي ( ص ١٠٧ ـ ١٢٠ ) الارقام ( ١٠٥٨ ـ ١٢٢٨ ) وهم مائة وسبعون راويا ، لعلم الإمام عليه‌السلام.

(٣) المجدي في أنساب الطالبيّين (ص ٩٢).

(٤) كذا في بعض نسخ المصدر ، ويظهر من هذه الرواية أن أباه كان شاعرا وقد ترحّم عليه الإمام عليه‌السلام ، وفي أصحابه : حذيم بن شريك الأسدي ، وجاء في نسخ أخرى : بشير بن حذلم.

٦٥

أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوما أمرّ على المسلمين منه.

قال : فخرج علي بن الحسين ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسيّ ، فوضعه له وجلس عليه ، وهو لا يتمالك عن العَبرة ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، وحنين النسوان والجواري ، والناس يعزّونه من كل ناحية ، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة ، فأومأ بيده : أن اسكنوا ، فسكنت فورتهم ، فقال :

« الحمد لله ربّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارىء الخلق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلا ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظّة ، الفادحة الجائحة.

أيّها القوم! إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبدالله ، الحسين ، وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس! فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم اية عين منكم تحبس دمعها ، وتضنّ عن انهمالها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله! وبكت البحار بأمواجها! والسماوات بأركانها! والأرض بارجائها! والاشجار بأغصانها! والحيتان في لجج البحار! والملائكة المقرّبون! وأهل السماوات أجمعون!

أيّها الناس! أصبحنا مشرّدين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلاّ اختلاق.

والله! لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا ، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا.

فإنا لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وافجعها ، وأكظها ، وأفظعها ، وأمرّها ، وأفدحها!

٦٦

فعنده نحتسب ما اصابنا ، فإنّه عزيز ذو انتقام (١)

ولم تذكر المصادر شيئا عن رجالات المدينة المعروفين ، إلاّ أن صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه ، فترحّم الإمام على أبيه!

والظاهر أنّ رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجّاد عليه‌السلام بالعواطف الحارّة فقط ، وأنهم لم يتجاوزا ذلك ، إذ لم يجدوا مبرّرا في التورّط مع الحكومة ، ولو بعد قتل الحسين عليه‌السلام بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد عليه‌السلام.

ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحرّكهم ضدّ يزيد وحكومته أنهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما ينكر من فعل أو ترك ، حتى وفدوا عليه ، وحضروا بلاطه ، ورأوا بأمّ أعينهم ما رأوا ، فرجعوا ، وثاروا عليه.

وقد جاء في إعلانهم الأول ما نصّه : « إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، ويعزف بالطنابير ، وتضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الخرّاب ، والفتيان ، وإنّا نشهدكم أنا قد خلعناه ».

وأتوا عبدالله بن الغسيل ، فبايعوه وولّوه عليهم (٢).

فليس في بيانهم ذكر الحسين عليه‌السلام ، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت عليهم‌السلام وأما الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره ، فقد أعلنه الإمام الحسين عليه‌السلام قبل سنين في كتابه الى معاوية (٣).

فأين كان أهل المدينة يومذاك؟!

ولماذا لم يتحرّكوا من أجله حينذاك؟

ثم إن من يحرّكه شرب الخمر ، والفسق ، والفجور ، لماذا لا يتحرّك من أجل قتل الحسين عليه‌السلام والفجائع التي صبّت على أهل البيت عليهم‌السلام ، والتي أدّى علي بن الحسين عليهم‌السلام حق بلاغها في خطبته تلك؟

__________________

(١) اللهوف لابن طاوس ( ص ٤ ـ ٨٥ ) وانظر كامل الزيارات ( ص ١٠٠ ).

(٢) أيام العرب في الإسلام ( ص ٤٢٠ ) وانظر تاريخ الطبري ( ٤ : ٣٦٨ ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( ٥ : ٤٧ ).

(٣) الاحتجاج للطبرسي ( ٧ ـ ٢٩٨ ).

٦٧

بل ، إن المسعودي يذكر : ان حركة أهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد ، من المدينة ، كان عن إذن ابن الزبير (١).

فلم يكن لأهل البيت ، ولا للإمام السجاد عليه‌السلام ، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة ، وأصحاب الحرّة ، لماّ تحرّكوا ضد حكم يزيد!

بينما كان دخول الإمام عليه‌السلام معهم ـ في التحرك ـ توقيعا على شرعيّة حركتهم.

والحقّ أن أهل المدينة جفوا الإمام السجاد عليه‌السلام بعد كربلاء ، وهذه الحقيقة كانت واضحة ، حتى أعلنها الإمام في قوله : « ما بمكّة والمدينة عشرون رجلا يحبّنا » (٢)

ولعل علم الإمام عليه‌السلام بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلّة ، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة ، من دواعي حياده عليه‌السلام.

مضافا الى أن اتّخاذه القرار السابق ، بالابتعاد عن المدينة ، للأسباب والمبرّرات التي ذكرناها سابقا ، كان كافيا لعدم تورّطه في هذه الحركة.

ويظهر أن الدولة التي واجهت هذه المرّة حركة أهل المدينة ، كانت على علم بجفاء أهل المدينة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وبما أنها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت عليهم‌السلام ، أرادت أن تستفيد من الوضع ، بالتزلّف الى علي بن الحسين والتودّد إليه ، لامتصاص النقمة ، فلم تتحرّش به ، بل حاولت أن يتمثّل الناس به ، حسب نظر رجال الدولة!

ثم إن اختيار أهل الحرّة للمدينة بالذات مركزا للتحرّك ، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها ، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكّة ، والمسجد الحرام بالخصوص ، مركزا لتحركه ، حتى عرّضوا هذين المكانين الحرمين المقدّسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الأمويين الحاقدين على الإسلام ومقدّساته.

بينما أهل البيت عامة ، بدءا بالإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومرورا بالإمام

__________________

(١) مروج الذهب ( ٣ : ٧٨ ).

(٢) شرح نهج البلاغة ( ٤ : ١٠٤ ).

٦٨

الحسين عليه‌السلام ، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكّام ، إنما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين ، حفاظا على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم ، وتهتك لهما حرمة ، وإبعادا لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها ، ونقمة الجيوش وبطشها (١).

وهذه مأثرة لأهل البيت عليهم‌السلام لابد أن يذكرها لهم التاريخ! لكنّ أهل الحرّة ، لم يصلوا الى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق ، لبعدهم عن الإمام السجاد عليه‌السلام الذي كان في عمر (٢٦) سنة.

ولقد هيأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد عليه‌السلام أمرين كانا في صالح الإمام عليه‌السلام ، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل :

أحدهما : النجاة من اتّهام السلطات له بالتورّط في الحركة ، ولذلك لم تضعه في القائمة السوداء ، فإن الحكومة ـ وحسب بعض المصادر ـ كانت تعرف ابتعاده عنها.

الثاني : تمكّن الإمام عليه‌السلام من تخليص كثير من الرؤوس أن تقطع ، وكثير من الحرمات أن تهتك.

ومن يدري؟ فلعلّ اشتراك الإمام السجاد عليه‌السلام في تلك الحركة كان يؤدي الى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي ، إبادة شاملة ، تلك التي كانت من أماني آل أمية؟!

فتمكّن الإمام السجاد عليه‌السلام بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل.

ولقد كان الإمام عليه‌السلام ملجأ للكثير من العوائل الأخرى ، حتى من عوائل بني أمية نفسها.

ففي الخبر أنه عليه‌السلام ضمّ الى نفسه أربعماءة منافيّة يعولهن الى أن تفرّق الجيش (٢).

وكان في من آواهن عائلة مروان بن الحكم ، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفّان الأموي ، فكان مروان شاكرا لعلي بن الحسين ذلك (٣).

__________________

(١) علّق سماحة السيد بدرالدين الحوثي دام علاه هنا : « ولعلّ ما صدر من الإمام النفس الزكية كان اضطراريا ، لان قيامه أيضا كان اضطراريا » تمت.

(٢) كشف الغمة للاربلي ( ٢ / ٧ ) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري ( ١ : ٤٢٧ ).

(٣) أيام العرب في الإسلام (ص ٤٢٤) هامش (١).

٦٩

ويحاول بعض الكتّاب أن يجعل من حياد الإمام عليه‌السلام ، وتصرّفاته مع مروان ، وعدم تعرّضه من قبل الجيش بسوء ، دليلا على عدم تحرّكه عليه‌السلام ضدّ الحكم الأموي؟!

لكنّها محاولة مخالفة للحقيقة :

فإن الإمام عليه‌السلام إنّما ينطلق في تصرّفاته ، من منطلق الحكمة والتدبير ، وما ذكرناه من الشواهد كاف لأن نبرّر موقفه الحيادي من حركة الحرّة ، فكل من يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبيّن له أن التحرّز من عمل تكون عواقبه مرئية وواضحة ومكشوفة ، هو الواجب والمتعيّن ، فلو دخل في الحركة ، فإما أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم ، أو تنجح الحركة التي لم تبتن على الحق في دعواها ، وإنما تبنّاها من لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقا في الإمامة!

مع أن من النصوص ما يدلّ على أن الإمام كان مستهدفا :

قال الشيخ المفيد : قدم مسرف (١) بن عقبة المدينة ، وكان يقال : « إنه لايريد غير علي بن الحسين عليه‌السلام » (٢).

ولا ريب أن الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت عليهم‌السلام في كربلاء ، لم يكن يخاف الإمام السجاد عليه‌السلام ، لما هو معلوم من وحدته وغربته ، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه ، لأنه الوارث الوحيد لأهل البيت بما لهم من ثارات ودماء ، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين محبّيهم ، الذين يترقّبون فيهم من الإمامة!

فلا ريب أن الإمام السجاد عليه‌السلام كان مستهدفا!

وهذا النصّ قبل كل شيء يدل على أن الإمام السجاد عليه‌السلام كان في نظر الناس عنصرا معارضا للحكم والدولة ، ولم يكن مستسلما قط ، حتى كان الناس يرون أن

__________________

(١) هو المتسّمي باسم ( مسلم ) معدود من الصحابة ، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين ، سمّي لعنه الله بمجرم ومسرف ، لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد لعنهما الله وقد سمّى المدينة ( نتنة ) خلافا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي سماها طيّبة ، مروج الذهب ( ٣ : ٧٨ ) وقد انفضّ فيها ألف عذراء ، دلائل البيهقي ( ٦ : ٤٧٥ ).

(٢) الإرشاد للمفيد (ص ٢٩٢).

٧٠

الجيش الجرار إنما توجّه بقصده الى ( علي بن الحسين ) لا ليحترمه طبعا!

فعلي بن الحسين ، في نظر الناس ، لا يزال عدوّا للدولة ، رغم انعزاله ، وابتعاده ، وعدم تورّطه في الحركة!

كما يدلّ قول البلاذري أن علي بن الحسين عليه‌السلام استجار بمروان وابنه عبدالملك ، فأتيا به ليطلبا له الأمان (١) على أن الإمام عليه‌السلام كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة.

لكن الدولة ، التي لم تغفل عن الإمام السجاد عليه‌السلام كانت على علم بتصرفاته ، ولم يقع لها ما يبرّر اتهامه وصبّ جام الغضب عليه والفتك به.

ومن أجل امتصاص النقمة ، وخاصة بعد تحرّك أهل المدينة ، صار رجال الدولة الى النفاق ، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها ، فأخذوا يعلنون التزلّف الى الإمام عليه‌السلام بإظهار التودّد إليه ، ويكرمونه ، ويقرّبونه ، ويعبّرون عنه بـ « الخير الذي لا شرّ فيه ، مع موضعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومكانه منه » (٢).

وقال المسعودي : ونظر الناس الى علي بن الحسين السجاد ، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو ، فأتي به الى مسرف ، وهو مغتاظ عليه ، فتبرّأ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد ، وقام له ، وأقعده الى جانبه ، وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممن قدّم الى السيف ألاّ شفّعه فيه ، ثم انصرف عنه.

فقيل لعلي : رأيناك تحرّك شفتيك ، فما الذي قلت؟

قال : قلت : اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، والأرضين وما أقللن ، رب العرش العظيم ، رب محمد وآله الطاهرين ، أعوذ بك من شرّه ، وأدرأ بك في نحره ، أسألك أن تؤتيني خيره ، وتكفيني شرّه.

وقيل لمسلم : رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه ، فلّما اُتي به إليك رفعت منزلته

فقال : ما كان ذلك لرأي منّي ، لقد مليء قلبي منه رعبا (٣).

وهكذا يفرض عنصر ( الغيب ) نفسه في البحث ، ولا يمكن إبعاده لكونه واردا في المصادر المعتمدة.

__________________

(١) أنساب الأشراف ( ٤ : ٣٢٣ ) وانظر الأخبار الطوال للدينوري (ص ٢٦٦).

(٢) الارشاد للمفيد (ص ٢٦٠).

(٣) مروج الذهب ( ٣ : ٨ ).

٧١

ونحن وأن كنّا ابعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به ، إلاّ أن الذين يريدون أن يضفوا على حياة الإمام السجاد عليه‌السلام أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية ، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر!

مع أن خوف الإمام عليه‌السلام وفزعه ، من الجيش السفّاك ، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف ، وسبّ القائد الاموي له وتبرّءه منه ، أدلة كافية في إثبات أن الإمام عليه‌السلام كان مستهدفا ، الاّ أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها!

ومع أعباء القيادة :

ورجع الإمام عليه‌السلام الى المدينة :

ليواجه الخطر المحدق بالإسلام ، والذي انتشر في نفوس الامة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه ، بعدما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمثل هذا القتل ، وماتعرّض له أهله من التشريد والسبي ، في بلاد المسلمين.

فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى : أن قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين ، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه ، وعدل ينتظرونه (١).

هذا بالنسبة الى أصل الإسلام.

وأما بالنسبة الى الإمامة ، والى أهل البيت ، والى الإمام عليه‌السلام ، فقد تفرّق الناس عنهم ، وأعرضوا ، بحيث عبّر الإمام الصادق عليه‌السلام عن ذلك : بالارتداد.

قال عليه‌السلام : أرتدّ الناس بعد قتل الحسين عليه‌السلام إلاّ (٢).

وكان منشأ اليأس والردّة : أنهم وجدوا الآمال قد تبدّدت بقتل القائد ، وسبي أهله ، وظهور ضعف الحقّ وقلة أنصاره ، هذا من جهة.

__________________

(١) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين عليه‌السلام ) ( ٢ : ١٩٥ ).

(٢) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص ١٢٣ ) رقم (١٩٤).

٧٢

ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّيا الى الاتهام والمحاسبة ، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه‌السلام.

لكن الإمام زين العابدين عليه‌السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد ، وقلبه الى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه.

حتى اصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في نظر رجال الحكم « خيرا لا شرّ فيه ».

وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام عليه‌السلام ، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكّن من استعادة قواه ، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطنا صالحا لا يخاف من الاتصال به والارتباط به ، لانه أصبح « علي الخير » (١).

وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه‌السلام في ذيل كلامه السابق : « ... ثم إن النا لحقوا وكثروا » (٢).

أن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه‌السلام وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه‌السلام بعد رجوعه الى المدينة ، وكان عليه ـ لأنه الإمام ، وقائد المسيرة ـ أن يخطط لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة الى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب ، وبثّ العزم في النفوس.

وقد تمكّن الإمام السجاد عليه‌السلام بعمله الهادىء الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة وجدّ.

وكما قد يكون تأسيس بناء جديد ، اسهل وأمتن من ترميم بناء متهرّىء ، فكذلك ، إن بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادّة في الالتفاف حولها ، والعزم على إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهدا من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ، وتصوّر إخفاق تجربتها ، وهم يشاهدون إبادة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( ١٥ : ٢٧٣ ).

(٢) اختيار معرفة الرجال ( الكشي ) (ص ١٢٣) رقم (١٩٤).

٧٣

كبار حامليها ، وضعف أنصارها ، واستيلاء المعارضين عليها ، فحرّفوا معالمها ، وشوّهوا سمعتها ، وزيّفوا أهدافها.

فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض ، ويحاولون الانسحاب والارتداد ، والوقوف على الحواشي ، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة!

فقد مني المسلمون بإخفاق ويأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية ، ومخلّصة من العبودية والفساد ، وذلك لمّا رأوا الأمويين ـ أعداء هذا الدين قديما ، ومناوئيه حديثا ـ قد استولوا على الخلافة ، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأنصار القدماء له ، ويعثون فسادا في أرض الإسلام بالقتل والفجور ، وكل منكر حرّمه الإسلام.

وإذا كان صاحب الحقّ ، منحصرا في الإمام علي بن الحسين السجاد عليه‌السلام ، الذي قام النصّ على إمامته ، وهو وارث العترة ، وزعيم أهل البيت في عصره ، فهو الإمام الحامل لنقل الرسالة على عاتقه ، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية ، ليجمع القوى ، ويلملم الكوادر المتفرّقة ، ويعيد الأمل الى النفوس اليائسة ، والرجاء الى العيون الخائبة ، والحياة الى القلوب الميّتة.

الى جانب مقاومته للأعداء ، وتفنيد مزاعمهم واتّهاماتهم ، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم ، وتبديد خططهم وأحابيلهم!

إنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ مع ما لهم من مآثر العلم والمجد والإمامة ، التي أقرّ بها لهم جميع الأمة ـ هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم ، ليرسّخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام.

والإمام عليه‌السلام قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف ومآثر علمية وعملية ، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة.

وهم آباؤه الطاهرون.

وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسراياه ، كما في الحديث عن عبدالله بن محمّد بن علي ، عن أبيه. قال : سمعت علي بن الحسين يقول :

٧٤

كنّا نعلّم مغازي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسراياه كما نعلّم السورة من القرآن (١).

فتلقّن الإمام السجاد عليه‌السلام أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله ومن أجل الإسلام ، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة.

وبعد أن رأى باُم عينيه ـ في كربلاء ـ بطولات أبيه الإمام الحسين عليه‌السلام وجهاد أصحابه الأوفياء ، في سبيل إعلاء كلمة الله ، لم يكن ليرفع اليد عن محاولة تطبيق تلك الصورة الفريدة ، والتخطيط للوصول الى نتائجها الغالية.

ولقد بدأ الإمام السجّاد عليه‌السلام في الفصول التالية ، من جهاده وجهوده ، لتحقيق هذه الأهداف السامية.

وحاولنا ـ نحن ـ بقدر وسعنا ، لجمع ما انتشر من أنباء ذلك الجهاد ، وتلك الجهود ، في المجالات العملية والعلمية ، بعون الله وتوفيقه.

__________________

(١) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي ( ٢ / ٢٨٨ ) رقم (١٦٤٩).

٧٥
٧٦

الفصل الثاني

النضال الفكري والعلمي

أولا : في مجـال القرآن والحديث

ثانيا : في مجال الفكـر والعقيدة

ثالثا : في مجال الشريعة والأحكام

وأخيرا : في إعمار الكعبة المعظّمة

٧٧
٧٨

يكاد المؤرّخون لحياة الإمام السجاد عليه‌السلام ، لا سيما الدارسون الأجتماعيّون ، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية ، يتّفقون على أن الإمام عليه‌السلام : « انكبّ على الشؤون الدينية ، ورواية الحديث ، والتعليم » (١) وأنّ مهمّته كانت : « الانصراف الى بثّ العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين ، وتخريج العلماء والفقهاء ، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية » (٢).

ولا ريب في أن الإمام السجاد عليه‌السلام قام بدور بليغ في هذه المجالات كلّها ، ولكن لم تكن ـ قطّ ـ هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي ، أو بديلا عن العمل السياسي!

بل ، إن هذه الواجبات هي من أهم وظائف الانبياء والأئمة بل المصلحين السياسيين من البشر ، بأن يقوموا بها ، ويبلغوا بالامم والشعوب الى مستويات راقية فيها ، خاصة التعاليم الإلهية التي من أجلها بعثوا ، ولها عيّنوا ، وبتبليغها وبثّها كلّفوا ، وهم طريق معرفة الناس بها ، والأمناء الوحيدون عليها.

والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال ، فكل مناضل يعلم ـ بوضوح ـ أن من مقوّمات كل حركة سياسية ، هو تثقيف الجماهير ، وتوعيتها ، بالتعليم والتلقين ، لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات.

وقد سعى الحكّام الفاسدون ـ على طول التاريخ ـ الى إبعاد الناس عن الحقّ ، والتعاليم الأصيلة ، بطرق شتى :

__________________

(١) معتزلة اليمن ( ص ١٧ ـ ١٨ ).

(٢) الإمام السجاد عليه‌السلام لحسين باقر ( ص ١٣ ـ ١٤ ).

٧٩

منها : التصدّي للذين يبلّغون رسالات الله ، بالضغط ، والأسر ، والتشريد والحبس ، وحتى القتل.

ومنها : تزييف الأديان وتحريفها بالبدع والخرافات ، وبثّ التعاليم الباطلة ، والعمل من أجل ترويجها.

ومنها : منع تثقيف الناس ، حذرا من تنبّههم الى ما هم عليه من خلل ونقص في الحياة المادّية ، وما هم فيه من ذلّ ومهانة في الحياة المعنوية.

ومنها : محاولة استيعاب أجهزة التعليم ، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة والمحرّفة.

وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم ، بشراء الضمائر ، وغسل الأدمغة والعقول ، وتفريغها من الرؤى الصائبة ، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة.

وقد استعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لما استولى على أريكة الخلافة ، فعمّم كتابا على أقطار نفوذه ، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات واختلاقها ، وبثّها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت ، ليربّي جيلا ناشئا مشبّعا بتلك التعاليم المزوّرة في صالح الأمويين ، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة (١).

فوجود المعلّمين المناهضين لتلك الخطط الهدّامة ، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة ، يكون صدّا سياسيا للأنظمة الحاكمة ، ويكون عملهم جهادا ونضالا سياسيا ، بلا ريب.

وإنّ الحكومات الفاسدة ، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغواء الناس وإبعادهم عن العلماء المصلحين ، اصطنعت من علماء السوء رجالا مقنّعين بالعلم ، ملجمين بلباس الدين ، من العملاء بائعي الضمائر ، ليكونوا وسائل لإقناع العامة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة ، وقضايا منافية للحقّ ، وليصحّحوا للدول الظالمة تصرّفاتها الجائرة.

__________________

(١) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( ١١ : ٤٤ ـ ٤٦ ) والاحتجاج للطبرسي (ص ٢٩٥) ولاحظ كتابنا « تدوين السنة الشريفة » (ص ٤٧٥).

٨٠