جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

إنّا نقرأ في سيرة الإمام السجّاد عليه‌السلام ـ منذ البداية ـ صفحات من النضال الواضح ، بحيث لا يمكن تجاوزها ، والغضّ عنها بسهولة :

فحضوره في كربلاء.

ومواقفه في خطبه في الأسر.

وتخطيطه عند الوصول الى المدينة.

ثلاث محطّات للتأمّل في سيرة الإمام السجّاد عليه‌السلام ، وفي بدايتها بالضبط ، تستدعي التوقّف عندها لأخذ الشواهد العينيّة لمعرفة أبعاد نضاله المستقبلي.

وإنّي أعدّ هذه البداية مهمّة جدا للبحث ، إذ أنّها توقفنا على اتجاه السهم السياسي الذي أطلقه الإمام السجاد عليه‌السلام ليصيب به هدفه الأوّل والأخير ، والذي أمتدّ سيره طول حياته الشريفة.

ولو تأمّلنا ما في هذه المحطّات من أعمال ، وبظروفها وحوادثها ، نرى أنها لم تقصر ـ في الأعتبار السياسي ـ عن قعقعة السيوف وصليلها ، ولا عن عدو الخيول وضبحها وصهيلها ، ولا عن وغى العساكر ولجبها!

بل تتجاوز ـ في بعض الاعتبارات ـ أثر خروج محدود يؤدّي الى الشهادة ، في تلك الظروف الحرجة المعقّدة ، التي غطّى فيها التعتيم على الحقائق ، وظلّل الإعلام كلّ الأجواء ، وأصمّ الدجل كلّ الآذان ، وأعمى التزوير كلّ الابصار ، وكدّر الظلم النور المؤدّي الى النظر الصائب.

فلنقف في كلّ نقطة مع أهم ما حفظ لنا من خلال المصادر ، ولنقرأ تلك الصفحات :

٤١

أوّلاً : في كربلاء

لقد حضر الإمام السجّاد علي بن الحسين ، في معركة كربلاء ، الى جنب والده الإمام الحسين عليه‌السلام ، وهذا ما تذكره كلّ المصادر بلا استثناء.

ويرد في مصادر الوقعة ، اسم « علي بن الحسين » في بعض مقاطع رحلة الإمام الحسين عليه‌السلام في طريقه الى الشهادة ، وفي بعض الحديث بينه وبين ولده « عليّ ».

ولم يحدّد المقصود من « علي » هذا ، هل هو السجّاد عليه‌السلام أو أخوه « علي » الشهيد عليه‌السلام؟

وقد اشتهر أنّه هو الشهيد ، لكنّ ذلك غير مؤكد ، فلعلّ الذي ورد ذكره ، هو الإمام السجّاد عليه‌السلام (١).

والدلالات النضالية في هذا الحضور من وجوه :

أولاً : إن هناك نصوصا تاريخية تدل على أن الإمام السجاد عليه‌السلام قد قاتل يوم عاشوراء وناضل الى أن جرح ، وهي :

النص الأول : ما جاء في أقدم نصّ مأثور عن أهل البيت عليهم‌السلام في ذكر أسماء من حضر مع الحسين عليه‌السلام ، وذلك في كتاب « تسمية من قتل (٢) مع الحسين عليه‌السلام من أهل بيته وإخوته وشيعته » الذي جمعه المحدّث الزيدي الفضيل بن الزبير ، الأسدي ، الرسّان ، الكوفي ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام (٣).

__________________

(١) لاحظ شرح الأخبار للقاضي ( ٣ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ) والإرشاد للمفيد (٢٥٣) وانظر السرائر لابن إدريس ( ١ : ٦٥٥ ) ، ولاحظ تواريخ النبي والآل للتستري ( ص ٣٠ ـ ٣٢ ).

(٢) كذا في ما نقل عن هذا الكتاب في مصادره ، لكنّي أظنّ أن الكلمة هي ( قاتل ) لأنّ المذكورين لم يقتلوا جميعا ، بل في بعض المذكورين من اسر ، ومن فرّ ، ومن قتل قبل كربلاء ، فلاحظ مقدّمتنا للطبعة الثانية لهذا الكتاب ، الذي نقوم بإعداده بعون الله.

(٣) نشر هذا الكتاب ، بتحقيقنا ، في مجلة ( تراثنا ) الفصلية التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لأحياء التراث في قم سنة (١٤٠٦) وقد ذكرنا سنده وترجمة مؤلّفه بتفصيل واف. والكتاب مذكور في الامالي الخميسية للمرشد بالله ( ١ : ١٧٠ ـ ١٧٣ ) والحدائق الوردية للمحلي ج١ ص ١٢٠.

٤٢

فقد ذكر ما نصّه :

« وكان علي بن الحسين عليلا ، وارتُثّ ، يومئذ ، وقد حضر بعض القتال ، فدفع الله عنه ، وأخِذَ مع النساء » (١).

ومع وضوح النصّ في قتال الإمام السجاد عليه‌السلام في كربلاء فإن كلمة « ارْتُثّ » تدل على ذلك ، لأنها تقال لمن حمل من المعركة ، بعد أن قاتل ، وأثخن بالجراح ، فأُخرج من أرض القتال وبه رمق ، كما صرّح به اللغويون (٢).

النصّ الثاني : ما جاء في مناقب ابن شهر آشوب ـ بعد ذكره مشهد علي بن الحسين المعروف بالأكبر وأن الإمام الحسين عليه‌السلام أتى به الى باب الفسطاط ، أورد هذه العبارة « فصارت اُمّة شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلّم (٣).

ومن المعلوم أن اُم علي الشهيد هي ليلى العامرية أو برّة بنت عروة الثقفي ـ كما يراه ابن شهر آشوب ـ والمعروف أنّ « شهر بانويه » هي أمّ علي بن الحسين عليه‌السلام ، فلابّد أن يكون قد سقط من عبارة مناقب شهر آشوب ذكر مبارزة علي بن الحسين السجاد عليه‌السلام ، وبهذا يكون شاهدا على مانحن بصدده.

ومن المحتمل أن تكون العبارة مقدّمة على موضعها في مقتل علي الأصغر الذي ذكره ابن شهر آشوب بعد هذا النصّ المنقول ، لأن ابن شهرآشوب ذكر أن أُم علي السجاد هي أُم علي الأصغر شهر بانويه رضي الله عنها (٤).

النصّ الثالث: ما جاء حول مرض الإمام عليه‌السلام ، إن المصادر تكاد تتفق على أنّ

__________________

(١) تسمية من قتل مع الحسين عليه‌السلام ، مجلة ( تراثنا ) العدد الثاني (ص ١٥٠).

(٢) لاحظ مادة (رثث) من كتب اللغة ، وقد صرحوا بأن الكلمة بالمجهول ، انظر : المغرب للمطرزي ( ١ : ١٨٤ ) والقاموس ( ١ : ١٦٧ ) ولسان العرب ( ٢ : ٤٥٧ ).

(٣) مناقب آل ابي طالب ـ طبع دار الاضواء ( ٤ / ١١٨ ).

(٤) مناقب آل أبي طالب ( ٤ / ٨٥ ) دار الاضواء.

٤٣

الإمام السجاد عليه‌السلام كان يوم كربلاء ، مريضا ، أو موعوكا (١).

إلاّ أنّها لم تحدّد نوعية المرض ولا سببه ، لكنّ ابن شهر آشوب روى عن أحمد بن حنبل قوله : كان سبب مرض زين العابدين عليه‌السلام أنّه كان البس درعا ، ففضُل عنه ، فأخذ الفُضلة بيده ومزّقها (٢).

وهذا يشير الى أن الإمام إنّما عُرّض للمرض وهو على أُهبة الاستعداد للحرب أو على أعتابها ، حيث لا يلبس الدرع إلاّ حينذاك ، عادة.

ولا ينافي ذلك قول ابن شهر آشوب : « ولم يقتل زين العابدين لأن أباه لم يأذن له في الحرب ، كان مريضا » (٣).

لأن مفروض الأدلة السابقة أنّ الإمام زين العابدين قد أصيب بالمرض بعد اشتراكه أول مرة في القتال وبعد أن ارتثّ وجرح ، فلعلّ عدم الإذن له في أن يقاتل كان في المرة الثانية وهو في حال المرض والجراحة.

ولو فرض كونه مريضا منذ البداية فالأدلة التي سردْناها تدلّ بوضوح على مشاركته في بعض القتال.

فمؤشرات الجهاد في سيرة الإمام السجّاد عليه‌السلام هي :

أولا : حمله السلاح ـ وهو مريضٌ ـ ودخوله المعركة ، الى أن يجرح ، يحتوي على مدلول بطوليّ كبير ، أكبر من مجرّد حمل السلاح!

فلو كان حمل السلاح واجبا على الأصحاء ، فهو في الإسلام موضوع عن المرضى بنصّ القرآن ، لكن ليس حراما عليهم ذلك ، إذا وجدوا همّة تمكّنهم من أداء دور فيه.

ثانيا : إن وجود علي بن الحسين عليه‌السلام ، مع أبيه الإمام الحسين عليه‌السلام ، في أرض كربلاء ، حيث ساحة النضال المستميت ، وميدان التضحية والفداء ، وحيث كان الإمام

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (ص ٢٣١) شرح الأخبار ( ٣ : ٢٥٠ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٤٨٦ ).

(٢) نقله ابن شهر آشوب عن كتاب ( المقتل ) في مناقب آل أبي طالب ( ٣ / ٢٨٤ ) وفي ط دار الأضواء ( ٤ / ١٥٥ ) ونقله في العوالم (ص ٣٢).

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ( دار الاضواء ) ( ٤ / ١٢٢ ).

٤٤

الحسين عليه‌السلام يسمح لكلّ من حوله ـ وحتى أولاده وأهل بيته ـ بالانصراف ، ويجعلهم في حلّ ، لهو الدليل على قصد الإمام للمشاركة في ما قام به أبوه.

قال الإمام السجّاد عليه‌السلام: لما جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء ، دنوت لاسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول : ... أما بعد ، فإني لا اعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيرا .. ألا ، وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا (١).

ففي ذلك الظرف ، لا دور ـ إذن ـ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بالمعنى الفقهي ، لان الأخطار المحدقة كانت ملموسة ، ومتيقّنة ومتفاقمة للغاية ، تفوق حدّ التحمّل.

وقد أدرك ذلك كلّ من اطّلع على أحداث ذلك العصر ، قبل اتّجاه الإمام الحسين عليه الى العراق ، ممّن احتفظ لنا التاريخ بتصريحاتهم ، فكيف بمن رافق الإمام الحسين عليه‌السلام في مسيره الطويل من المدينة الى مكّة والى كربلاء ، ومن أولاده وأهل بيته خاصة؟ الذين لا تخفى عليهم جزئيّات الحركة وأبعادها وأصداؤها وما قارنها من زعزعة الجيش الكوفّي للإمام ، وسمعوا الإمام عليه‌السلام يصرّح بالنتائج المهولة والأخطار التي تنتظر حركته ومن معه! حتّى وقت تلك الخطبة مساء يوم التاسع ، أو ليلة عاشوراء؟

فلقد عرف من بقي مع الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء ، بأن ما يقوم به الإمام ليس إلاّ فداءا وتضحية ، لحاجة الإسلام الى إثارة ، والثورة إلى فتيل ووقود ، واليقظة الى جرس ورنين ، والنهضة الى عماد وسناد ، والقيام الى قائد ورائد ، والحياة الحرّة الكريمة الى روح ودم.

والإمام الحسين عليه‌السلام قد تهيّأ ليبذل مهجته في سبيل كلّ هذه الأسباب لتكوين

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ( ص ٢٣١ ).

٤٥

كلّ تلك المسبّبات.

ولم يكن مثل هذه الحقيقة ليخفى على عليّ بن الحسين السجّاد عليه‌السلام الذي كان يومذاك في عمر الرجال ، وقد بلغ ثلاثا وعشرين سنة وكان ملازما لأبيه الشهيد منذ البداية ، وحتّى النهاية.

فكان حضوره مع أبيه عليه‌السلام وحده دليلا كافيا على روح النضال مع بطولة فذّة ، تمتّع بها أولئك الشجعان الذين لم ينصرفوا عن الحسين عليه‌السلام.

ثم هو ـ كما تقول تلك الرواية ـ قد شهر السلاح ، وقاتل بالسيف ، حتى اُثخن بالجراح ، واُخرج من المعركة وقد ارتثّ.

وإذا كانت هذه الرواية ـ بالذات ـ زيدية ، فمعنى ذلك تماميّة الحجّة على من ينسب الإمام زين العابدين عليه‌السلام الى اعتزال القيام والسيف والنضال.

ثالثا : مضافا الى أنّ حامل هذه الروح ، قبل كربلاء ، لا يمكن أن يركن الى الهدوء بعد ما شاهده في كربلاء من تضحيات أبيه وإخوته وأهله وشيعته ، وما جرى عليهم من مصائب وآلام ، وما اُريق من تلك الدماء الطاهرة.

أو يسكت ، ولا يتصدى للثأر لأبيه ، وهو ثار الله ، مع أنه لم ينسهم لحظة من حياته.

فكيف يستسلم مثله ، ويهدأ ، أو يسالم ويترك دم أبيه وأهله يذهب هدرا؟ إذ لم يبق من يطالب بثأر تلك الدماء شخص غيره.

فاذا كان ـ كما يقول البعض : ـ « مصرع الحسين عليه‌السلام في كربلاء هو الحدث التاريخي الكبير الذي أدّى الى بلورة جماعة الشيعة ، وظهورها كفرقة متميزّة ذات مبادىء سياسية وصبغة دينية ( أكثر وضوحا وتميّزا مما كانت عليه في زمان أمير المؤمنين عليه‌السلام وقبله ).

وكان لمأساة كربلاء أثرها في نموّ روح الشيعة وازدياد أنصارها ، وظهرت جماعة الشيعة ، بعد مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، كجماعة منظّمة ، تربطها روابط

٤٦

سياسية متينة » (١).

فكيف لا تؤثّر هذه المأساة في ابن الحسين ، وصاحب ثأره ، والوحيد الباقي من ذريته ، والوريث لزعامته بين الشيعة ، ولا تزيد نموّ الروح السياسية عنده؟

وكيف تجمع هذه المنظمة أفراد الشيعة بروابط سياسية ، ولكن تبعّد علي بن الحسين عليه‌السلام عن السياسة؟!

وكيف تستبعد هذه المنظمة عن التنظيم ، وارث صاحب الثورة وصاحب الحقّ المهدور؟

أليس في الحكم بذلك تعنّتٌ وجوْر؟

__________________

(١) جهاد الشيعة ، للّيثي ( ص ٢٧ ).

٤٧

ثانيا : في الأسْر

إنّ البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه‌السلام بعد كربلاء ، وهو في أسر الإعداء ، وفي الكوفة في مجلس أميرها ، وفي الشام في مجلس ملكها ، لا تقلّ هذه البطولة أهميّة ـ من الناحية السياسية ـ عن بطولة الميدان ، وعلى الأقلّ : لا يقف تلك المواقف البطولية من هالته المصارع الدامية في كربلاء ، أو فجعته التضحيات الجسيمة التي قدّمت أمامه ، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممّن فضّل السلامة!

نعم ، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلاّ من صاحب قلب جسور ، صلب يتحمّل كلّ الآلام ، ويتصدى لتحقيق كلّ الآمال ، التي من أجلها حضر في ميدان كربلاء من حضر ، وناضل من ناضل ، واستشهد من استشهد ، والآن يقف ـ ليؤدّي دورا آخر ـ من بقي حيّا من أصحاب كربلاء ، ولو في الأسر!

إن الدور الذي أدّاه الإمام السجاد عليه‌السلام ، بلسانه الذي أفصح عن الحق ببلاغة معجزة ، فأتم الحجة على الجميع ، بكل وضوح ، وكشف عن تزوير الحكّام الظالمين ، بكل جلاء ، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام ، إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد ، من أثر السيف واحد ، يجرّده الإمام في وجه الظلمة ، إذ لم يجد معينا في تلك الظروف الصعبة!.

لكنّه كان الشاهد الوحيد ، الذي حضر معركة كربلاء بجميع مشاهدها ، من بدايتها ، بمقدّماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقّبها ، وهو المصدّق الأمين في كل ما يرويه ويحكيه عنها.

فكان وجوده استمرارا عينيّا لها ، وناطقا رسميّا عنها.

مع أن وجوده ، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكلّ فروع : العقيدة ، والشريعة ، والأخلاق ، والعرفان ، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته وسيرته وسنته ، والناطق عن القرآن المفسّر الحيّ لآياته ، إن وجوده ـ حيّا ـ كان أنفع للإسلام وانجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل ، والجفاف القاتل ، في المجتمع الإسلامي.

كان وجوده أقضّ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيف وسيف ، لأن الإسلام إنّما

٤٨

يحافظ عليه ببقاء أفكاره وقيمه ، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضدّه ، وإذا كان شخص مثل الإمام موجودا في الساحة ، فإنه ـ لا ريب ـ أعظم سدّ أمام محاولات الأعداء.

وكذلك الأعداء إنما يبادون بضرب أهدافهم ، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم ، والكشف عن دجلهم ، ورفع الأغطية عن نيّاتهم الشرّيرة تجاه هذا الدين وأهله ، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل.

وعلى يد الإمام السجاد عليه‌السلام يمكن أن يتمّ ذلك بأوثق شكل وأتمّ صورة ، وأعمق تأثير.

ثمّ ، أليس الجهاد بالكلمة واحدا من أشكال الجهاد ، وإن كان أضعفها؟ بل ، إذا انحصر الامر به ، فهو الجهاد كلّه ، بل أفضله ، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه‌السلام ، كما ورد في الحديث الشريف ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر » (١).

ولنصغ الى الإمام السجاد عليه‌السلام في بعض تلك المواقف :

فمن كلام له عليه‌السلام كان يعلنه وهو في أسر بني أمية :

« أيّها الناس!

إنّ كلّ صمت ليس فيه فكر فهو عيّ ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء.

ألا ، وإنّ الله تعالى أكرم أقواما بآبائهم ، فحفظ الابناء بالآباء ، لقوله تعالى : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) [ سورة الكهف الآية (٨٢) ] فأكرمهما.

ونحن ـ والله ـ عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول في منبره : « احفظوني في عترتي وأهل بيتي ، فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ، ألا ، فلعنة الله على من آذاني فيهم » حتى قالها ثلاث مرات.

ونحن ـ والله ـ أهل بيت أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ... » (٢).

__________________

(١) الروض النضير ( ٥ / ١٣ ) وانظر الكنى للدولابي ( ١ / ٧٨ ).

(٢) بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام ( ص ٩٥ ) عن المنتخب للطريحي.

٤٩

وبهذه الصراحة ، والقوة ، والبلاغة ، عرّف الإمام السجّاد عليه‌السلام للمتفرّجين ـ ولمن وراءهم ـ هذا الركب المأسور ، الذي نبزوه بأنه ركب الخوارج!

ففضح الدعايات ، وأعلن بذلك أنه ركب يتألف من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وافصح بتلاوة الآيات والأحاديث ، أنه ركب يحمل القرآن والسنّة ، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب والسنّة.

وهو ـ من لسان هذين المصدرين ـ يصبّ اللعنة والنقمة على من آذى هذا الركب ، من دون أن يمكّن الأعداء من التعرّض له ، لأنه عليه‌السلام إنّما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه!

كان هذا الموقف ، حين أخذ الناس الوجوم ، من عظم ما جرى في وقعة كربلاء ، وما حلّ بأهل البيت عليه‌السلام من التقتيل والأسر ، وذهلوا حينما رأوا الحسين سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزّرين! ويرون اليوم ابنه ، وعيالاته أسرى ، يساقون في العواصم الإسلامية.

والأسر ـ في قاموس البشر ـ يوحي معاني الذلّ والهوان ، والضعف والأنكسار!

هذا ، والناس يفتخرون بالانتماء الى دين الرسول وسنته.

والأنكى من ذلك أنّ الجرائم وقعت ولمّا يمض على وفاة الرسول ـ جدّ هؤلاء الأسرى ـ نصف قرن من الزمن!!

وموقفه الآخر في مجلس يزيد ، فقد أوضح فيه عن هويّته الشخصية ، فلم يدع لجاهل عذرا في الجلوس المريب ، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد ، للأحتفال بنشوة الانتصار ولابدّ أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان ، فانبرى الإمام السجاد عليه‌السلام ، في خطبته البليغة الرائعة ، التي لم يزل يقول فيها : « أنا ... أنا ... » معرّفا بنفسه ، وذاكرا أمجاد أسلافه « حتى ضجّ المجلس بالبكاء والنحيب » حسب تعبير النص (١) الذي سنثبته كاملا :

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام ، للخوارزمي ( ٢ / ٧١ ).

٥٠

خطبة الإمام في مجلس يزيد :

قال الخوارزمي : ( وروي ) أنّ يزيد أمر بمنبر وخطيب ، ليذكر للناس مساويء الحسين وأبيه علي عليهما‌السلام.

فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد.

فصاح به علي بن الحسين : ويلك أيّها الخاطب! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟ فتبوّأ مقعدك من النار.

ثم قال : يا يزيد ، إئذن لي حتى أصعد هذه الأعواد ، فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب.

فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد ، فلعّلنا نسمع منه شيئا.

فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا؟

فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا.

ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود.

فصعد المنبر : فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، فقال فيها :

« أيّها الناس ، اُعطينا ستّا ، وفضّلنا بسبع :

اُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين.

وفضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الاُمّة ، وسيّدا شباب أهل الجنّة.

فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي :

أنا ابن مكّة ومنى.

أنا ابي زمزم والصفا.

٥١

أنا ابن من حمل الزكاة (١) بأطراف الردآ

أنا ابن خير من ائتزر وارتدى.

أنا ابن خير من انتعل واحتفى.

أنا ابن خير من طاف وسعى.

أنا ابن خير من حجّ ولبّى.

أنا ابن من حُمل على البُراق في الهوا.

أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى.

أنا ابن من بلغ به جبرائيل الى سدرة المنتهى.

أنا ابن من دنى فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى.

أنا ابن من صلّى بملائكة السما.

أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى.

أنا ابن محمد المصطفى.

أنا ابن عليّ المرتضى.

أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا آله إلاّ الله.

أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، واصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول ربّ العالمين.

أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل.

أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين

__________________

(١) في نقل ( كامل البهائي ) : « من حمل الركن » وفسّر بالحجر الأسود الذي محلّه الركن ، ولذلك ذكر في سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة.

٥٢

والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله ، من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخي ، بهلول زكيّ أبطحي رضي مرضي ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، وأجرأهم لسانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب ـ إذا أزدلفت الأسنة ، وقربت الأعنّة ـ طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، صاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنصّ والاستحقاق مكّيّ مدنيّ ، أبطحي تهاميّ ، خيفي عقبيّ ، بدريّ أحديّ ، شجريّ مهاجريّ ، من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وأرث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب غالب كلّ غالب ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهرا.

أنا ابن سيّدة النسا.

أنا ابن الطهر البتول.

أنا ابن بضعة الرسول.

( أنا ابن الحسين القتيل بكربلا.

أنا ابن المرمّل بالدما.

أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلما.

أنا ابن من ناحت عليه الطيور في الهوا. ) (١)

قال : ولم يزل يقول : « أنا أنا » حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن

__________________

(١) ما بين القوسين عن « الكامل للبهائي ».

٥٣

تكون فتنة ، فأمر المؤذّن أن يؤذّن ، فقطع عليه الكلام وسكت.

فلمّا قال المؤذّن «الله أكبر! » قال علي بن الحسين : كبّرت كبيرا لا يقاس ، ولا يدرك بالحواسّ ، لا شيء أكبر من الله.

فلمّا قال : « أشهد أن لا إله إلاّ الله! » قال علي : شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخّي وعظمي.

فلمّا قال : « أشهد أن محمدا رسول الله! » التفت علي من أعلى المنبر الى يزيد وقال : يا يزيد ، محمد هذا جدّي ام جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت. وإن قلت إنّه جدي ، فلم قتلت عترته؟ (١)

فأدّى كلام الإمام عليه‌السلام الى أن تتبخّر كل الدعايات المظلّلة التي روّجتها السياسة الأموية ، والتي تركّزت على : أنّ الاسرى هم من الخوارج! فبدّل نشوة الانتصار الى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين!

وفي التزام الإمام السجّاد عليه‌السلام بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة ، حكمة وتدبير سياسيّ واع ، إذا لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان ، أن يتطرّق الى شيء من القضايا الهامّة ، وإلاّ كان يمنع من الكلام والنطق ، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية ، وهو من أبسط الحقوق التي تمنح للفرد وإن كان في حالة الأسر!

لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلاّ مليئا بالتذكير والإيماء ، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، بنسبه الشريف ، واتصاله بالإسلام ، وبرسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ذكّر الإمام عليه‌السلام بكل المواقع الجغرافية ، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام ، وربط نفسه بكلّ ذلك ، فسرد ـ وبلغة شخصية ـ حوادث تاريخ الإسلام ، معبرا بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه ، وأنّه حامل هذا العبء ، بكلّ ما فيه من قدسيّة ، ومع هذا فهو يقف « أسيرا » أمام أهل المجلس!

وقد فهم الناس مغزى هذا الكلام العميق ، فلذلك ضجّوا بالبكاء! فإنّ الحكّام

__________________

(١) مقتل الحسين ( ٢ / ٦٩ ـ ٧١ ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائيّ ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام ( ص ١٠٦ ـ ١٠٩ ) ونقل بعده نصّا آخر للخطبة عن أبي مخنف فليلاحظ.

٥٤

الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام ، فكسبوا لأنفسهم قدسيّة الخلافة!

وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر الى هذه الحالة ، أن يروا ابن الأسلام أسيرا أمامهم!

ثمّ إنّ جهل أهل الشام بأهل البيت ، مضافا الى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة ، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه‌السلام في كربلاء خاصة ، كان يدعوا الى الاحتياط ، والحذر من أن ينقضّ يزيد على الأسرى! في ما لو أحسّ بخطرهم ، فيبيدهم!

فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعا من إثارة غضبه وحقده ، لكن لم يفت الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبثّ من خلال التعريف ، بشخصه وهويته ، التنويه بشخصيته وبقضيته وبهمومه ، ولو بالكناية التي كانت ـ حقا ـ أبلغ من التصريح.

فلذلك لم يتعرّض الإمام عليه‌السلام لذكر مساويء الاُمويّين ، ولم يذكر شيئا من فضائحهم ، بالرغم من « توقّع يزيد » نفسه لذلك.

وبذلك نجا من شرّ يزيد ، وبقي ليداوم اتّباع الهدف الذي من أجله قتل الشهداء بالأمس ، وأصبح ـ هو ـ يقود مسيرة الأحياء ، اليوم ، وغدا ...

وموقف آخر: في وسط ذلك الجوّ الخانق ، وفي عاصمة الحاكم المنتصر ، وفي حالة الأسر ، يرفع الإمام صوته ، ليسمع الآذان التي أصمّها الضوضاء والصخب ، في ما رواه المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين ، فقلت : كيف اصبحت ، أصلحك الله؟!

فقال : ما كنت أرى شيخا من أهل المصر ـ مثلك ـ لا يدري : كيف أصبحنا!؟

قال : فأمّا إذا لم تدر ـ أو تعلم ـ فأنا أخبرك :

أصبحنا ـ في قومنا ـ بمنزلة بني أسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ).

وأصبحنا : شيخنا وسيّدنا يتقرّب الى عدوّنا بشتمه ، وبسبّه ، على المنابر

٥٥

وأصبحت قريش تعد : (١) أن لها الفضل على العرب ، لأن محمدا منها ، لا يعدّ لها فضل إلاّ به ، وأصبحت العرب مقرّة (٢) لهم بذلك.

وأصبحت العرب تعدّ (٣) أن لها الفضل على العجم ، لأن محمدا منها ، لا يعدّ لها فضل إلاّ به ، وأصبحت العجم مقرّة (٤)

فإن كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّدا منها : إن لنا ـ أهل البيت ـ الفضل على قريش ، لأن محمدا منّا.

فأضحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقّا.

فهكذا أصبحنا ، إن لم يعلم : كيف أصبحنا؟!

قال المنهال : فظننت أنّه أراد أن يسمع من في البيت! (٥)

ويصرّح في موقف مماثل يسأل فيه عن الركب الذي هو فيه ، فيقول :

« إنا من أهل البيت ، الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) [ سورة الشورى ٤٢ الآية «٢٣» ] فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت » (٦).

الى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور ، حتى أرجعه الى المدينة!

إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب ملىء رعبا ، أو شخص يفضّل السلامة ، أو يميل الى الهدوء والراحة ، بله المسالمة مع العدو أو الركون الى الظالمين!

__________________

(١) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ).

(٢) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ).

(٣) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ).

(٤) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ).

(٥) تاريخ دمشق ( الحديث ١٢٠ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٤٥ ) ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ( ج ٢ ص ١٠٨ ) رقم (٥٩٨) ولاحظ طبقات ابن سعد ( ٥ / ٢١٩ ). ورواه السيد الموفق بالله في الاعتبار وسلوة العارفين (ص ١٨٦).

(٦) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم ( ٣ : ١٧٢ ).

٥٦

إنّما صاحب هذه المواقف ذو روح متطلّعة وثابة هادفة ، إذا لم يتح له ـ بعد كربلاء ـ أن يأخذ بقائمة السيف ، فسنان المنطق لا يزال في قدرته ، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلّل!

وقد اتّبع الإمام السجّاد عليه‌السلام هذه الخطّة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر ، وعمد له ، وكشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرة مدروسة.

فلمّا سئل عن : « الكلام ، والسكوت » أيّهما أفضل؟ لم يدل بما يعتبره الحكماء من : أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب ، وإنمّا قال :

« لكل واحد منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت ».

ولمّا سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لاعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت؟ قال :

« لأن الله ـ عزوجل ـ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنّما بعثهم بالكلام.

ولا استحقت الجنة بالسكوت.

ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت.

ولا توقّيت النار بالسكوت.

ولا يجنّب سخط الله بالسكوت.

إنما كلّه بالكلام! وما كنت لأعدل القمر بالشمس!

إنك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت! (١)

وهكذا طبق الإمام عليه‌السلام هذه الحكمة البالغة ، وأدّى رسالته الإلهية من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه ، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها ، وهو في الأسر.

وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن ، فإنّما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر ، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم (٢).

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ( ص ٣١٥ ).

(٢) لاحظ أن الحجّاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس ، في اسد الغابة ( ٢ : ٤٧١ ) ترجمة سهل الساعدي.

٥٧

وإذا ذبح الحسين عليه‌السلام وقتل في كربلاء ، فإنّ نداءاته ظلّت تدوّي من حنجرة الإمام السجّاد عليه‌السلام في مسيرة الأسرى ، وفي قلب مجالس الحكّام.

وليس من الإنصاف ، في القاموس السياسي ، أن يوصف من يؤدي هذا الدور ، بالانعزال عن السياسة ، أو الابتعاد عن الحركة والنضال!

بل ، أذا كانت حركة الإمام الحسين عليه‌السلام سياسية ، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي : إن الإمام زين العابدين عليه‌السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية ، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه ، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا في دنيا الشجاعة والبطولات! أمّا خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام (١).

وبرز الإمام زين العابدين عليه‌السلام على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ ، فقد استطاع بمهارة فائقة ـ وهو في قيد المرض والأسر ـ أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجّرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة ، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين ، والأصالة ، والإبداع (٢).

__________________

(١) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( ١ : ٨ ).

(٢) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( ١ : ٧ ).

٥٨

ثالثا : في المدينة

رجع الإمام السجّاد الى المدينة :

ليرى المدينة واجمة ، موحشة من أهله وذويه ، رجالات أهل البيت عليهم‌السلام ، والناس كذلك واجمون ، بعد أن رأوا ركب أهل البيت يرجع ليس فيهم إلاّ علي بن الحسين عليه‌السلام ، وليس معه ألاّ أطفال ونساء!! أما الرجال فقد ذبحوا على يد العصبة الاموية!؟

وإذا لم يتورّع آل اُمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هكذا ، وفي وضح النهار ، وهو من هو! فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم!؟

إنّ الإمام السجاد عليه‌السلام ، وهو الوارث الشرعي لدماء كلّ المقتولين ، الشهداء الذين ذبحوا في كربلاء ، وهو الشاهد الوحيد على كلّ ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة ، لابدّ أن عين الرقابة تلاحقه ، وتتربّص به ، وتنظر الى تصرفاته بريبة واتهام.

والناس ـ على عادتهم في الابتعاد والتخوّف من مواضع التهمة ، ومواقع الخطر ـ قد تركوا علي بن الحسين ، وابتعدوا عنه ، حتى من كان يعلن الحبّ لأهل البيت عليهم‌السلام قبل كربلاء ، لم يكد يفصح عن ودّه بعد كربلاء.

وقد عبّر الإمام السجّاد عليه‌السلام عن ذلك بقوله : « ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبّنا » (١).

وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت ، في عاصمة الإسلام قليلا الى هذا الحدّ ، فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت عليهم‌السلام؟!

وقد رجع الإمام السجّاد عليه‌السلام حاملا معه أعباءا ثقالا :

فأعباء كربلاء ، بمآسيها ، وذكرياتها ، وأتعابها ، وجروحها ، والأثقل من كلّ ذلك ( أهدفها ) ونتائجها ، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( ٤ : ١٤٠ ). ولاحظ الغارات للثقفي (ص ٥٧٣) وبحار الأنوار ( ٤٦ / ١٤٣ ).

٥٩

فعليه أداء رسالتها العظيمة.

وأعباء العائلة المهضومة ، المكثورة ، ما بين ثكالى وأرامل وأيتام ، ودموع لابدّ أن يكفكفها ، وعواطف مخدوشة ، وقلوب صغيرة مروّعة ، وعيون موحشة ، وجروح وأمراض وآلام ، تحتاج الى مداراة ومداواة والتيام!

ولابدّ أن يسترجع القوى!

وأعباء الإمامة ، تلك المسؤولية الإلهية ، والتاريخية الملقاة على عاتقه ، والتي لابدّ أن ينهض بها ، فيلملم كوادرها ويردم الصدمات العنيفة التي هزّ كيانها ، ويرأب الصدع الذي أصاب بناء نظام الإمامة الشامخ ، الذي يمثّل الخط الصحيح للإسلام.

وقد حمل الإمام السجّاد عليه‌السلام ، في وحدته ، كلّ هذه الأعباء ، وبفضل حكمته وتدبيره خرج من عهدتها بأفضل الأشكال. ففي السنين الأولى :

وقبل كل هذه المهمات الهائلة الثقال ، وبعدها : كانت ملاحقة الدولة ، أهمّ ما كان على الإمام السجّاد عليه‌السلام أن يوقفها عند حدّ ، حتى يتمكّن من أداء واجب تلك الإعباء الصعبة بشكل صحيح ومطلوب.

ولابدّ أن أصابع الاتّهام كانت موجهة إليه ما دام موجودا في المدينة ، أو أي بلد إسلامي آخر ، تلاحق حركاته وسكناته ، وتحصي أنفاسه وكلماته.

الإجراء الفريد :

فلذلك اتّخذ إجراءا فريدا في حياة الأئمة ، وبأسلوب غريب جدّا ، لمواجهة الموقف ، ولإبعاد نفسه عن وجهة تلك الأتهامات والملاحقات التي لا يمكن صرفها هي ولا تغيير وجهتها.

فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات ، وبدأ بعيدا عنها بالاستعداد لما يتوجّبه حمل تلك الأعباء ، ويتأهب للقيام بدوره ، كوارث لكربلاء ، وكمعيل كفيل لعوائل الشهداء ، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء.

كان ذلك الإجراء الفريد أنه أتخذ بيتا من « شعر » في البادية ، خارج المدينة!

٦٠