جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

قال عليه‌السلام : من شهر سيفه ، ودعا الى سبيل ربه (١).

فاعتقاد الإمام السجّاد عليه‌السلام أنّ الفضل والسبق يتحقّق بإشهار السيف ، يقتضي بطلان نسبة معارضة الحركة المسلحة إليه عليه‌السلام.

وثالثا : إنّ هذا الشرط « الخروج بالسيف » ليس شرطا على إطلاقه ، وليس قابلا لأن يكون شرطا للإمامة كذلك.

ومن ثمّ ، فإن التهمة المذكورة مردودة وباطلة.

وقد يكون من قلّل من شدّتها وحدّتها ، فعمد الى تخفيفها ، وعبّر عنها بدعوى « عدم صحة الإمامة لو أرخى الإمام ستره ، وأغلق بابه » (٢) كان ينظر الى هذه الملاحظة.

فإن هذه الصيغة يمكن التأمّل فيها ، والبحث عنها ، من حيث أنّها لا تتجاوز شرط « الخروج » بالمعنى الذي عرفناه ، لانها يمكن أن تكون فرضا للحدّ الأقل من الفروض الممكنة للخروج ، وأن « إشهار السيف » هو الحدّ الأكثر له.

ومع أنّ « إغلاق الباب ، وإرخاء الستر » ليس ذكرا إلاّ لأبعد الاحتمالات الممكنة ، فإنا لم نجد في سيرة الإمام السجّاد عليه‌السلام ـ وكذلك الأئمة من ولده ـ مثل هذا الإرخاء وهذا الستر!

فهم عليهم‌السلام ـ وإن لم يشهروا السلاح الحديدي ـ لكنهم لم يغلقوا أبوابهم ، بل نجد سيرتهم مليئة بالنشاط القيادي ، حتى في أصعب الحالات ، وأقسى المواقف والظروف ، وأكثرها حساسية ، كما في حالة الأسر التي مرّ بها الإمام السجاد عليه‌السلام ، وحالة السجن التي مرّ بها الإمام الكاظم عليه‌السلام ، فإنهم لم ينقطعوا فيها عن أداء دورهم المتاح لهم.

__________________

(١) تفسير الحِبريّ ( ص ٣٥٤ ) الحديث (٨٨) وانظر الحديث (٨٩) وتخريجاته ، وكذلك الحديث (٩٠) وشواهد التنزيل للحسكاني ( ٢ : ١٠٤ ) رقم (٧٨٢) وفي الحديث (٧٨٣) نحوه عن زيد الشهيد عليه‌السلام.

(٢) كفاية الأثر ، للخزّاز ( ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢ ) ولاحظ معتزلة اليمن ( ص ١٧ ـ ١٨ ).

٢١

هذا بغضّ النظر عن عملهم الدؤوب في إرشاد الناس وهدايتهم الى الحق في أصول العقائد ، ومن ذلك إعلان إمامة أنفسهم ، وتعريفهم بالحق الصحيح من فروع الأحكام وعلم الشريعة ، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة ، وتعليمهم سنن الحياة الحرّة الكريمة ، هذا العمل الذي هو الهدف لكل الأنبياء في رسالاتهم ، ولكل المصلحين في نضالهم وهو من أميز وظائف الأئمة ، وأبرز واجبات الإمامة.

والظالمون من الحكّام غير الإلهيين يقفون أمام مثل هذا العمل ، ويعدّونه تحدّيا لسلطانهم ، ومنافيا لمصالحهم ، وبناء على ذلك : فالقائم به يكون معارضا سياسيا خارجا عليهم ولو بغير سيف!

وإصرار الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام على هذا العمل ، الى جانب من كان يقوم منهم بنشاط مسلّح ، يدل على أن الجهاد في هذا المجال له من الأهمية والأثر في الوصول الى الأهداف المنشودة من الإمامة ، ما يوازي الحاصل من الجهاد المسلّح ، على أقلّ الاحتمالات.

ويمكن التأكّد من ذلك ، من خلال الممارسات العنيفة للحكّام الظالمين تجاه اولئك الأئمة الذين لم يحملوا السلاح ، بنفس الشكل الذي واجهوا به المجاهدين المسلّحين.

فعمليات المراقبة ، والمطاردة ، والجلب الى مراكز القوّة والجند وعواصم الحكم ، بل السجن ، والتهديد ، والضغط على بعض الأئمة الأثني عشر ، من الأُمور التي كانت قائمة ومستمرة ، على الرغم من عدم مدّ أيديهم الى الاسلحة الحديدية.

إنّ ذلك يدلّ بوضوح على أنّ الحكّام عرفوا أن هؤلاء الأئمة يحاربونهم بأسلحة أفتك من السيف.

كما يعرف كلّ المناضلين : أن الحرب الفكرية والاختراق الثقافي من أساليب ما يسمّى بالحرب الباردة ، هي أشدّ ضراوة ، وأعمق أثرا في الخصم ، وأنفذ في كيانه ، من الحرب بالأسلحة.

وهل يجرؤ عارف بالتاريخ الإسلامي على إنكار الأثر البارز للأئمة الإثني عشر عليهم‌السلام في هذا المجال؟ فضلا عن نسبة « إغلاق الباب وإرخاء الستر » إليهم!؟

٢٢

لولا الخطأ في الحكم؟! أو التعمّد في تخطّي الحقائق؟!

وعلى كلّ ، فإنّ حالة « إرخاء الستر ، وإغلاق الباب » لا تمثّل إلاّ أبعد الفروض المحتملة ، والممكنة الوقوع في حياة الأئمة عليهم‌السلام.

كما أن حالة « إشهار السيف » تمثّل أقوى الفروض ، وأشد الحالات ، وأحوجها الى مثل ذلك.

فكلا الفرضين محتمل في الإمامة.

فكما أن من الممكن فرض حالة « إشهار السيف » في ما إذا تحققت الظروف المناسبة للحركة المسلّحة ، وتوافرت الشروط والامكانات اللازمة للخروج بالسيف ، إذ لم نجد نصّا يمنع الحركة ، فضلا عن أن يجوّز للإمام تفويت تلك الفرص ، وتبديد تلك الإماكانات.

فكذلك إذا اجتمعت شروط الإمامة ـ غير السيف ـ فإنّ تحدّي الظالمين عبر وسائل أُخرى ، تعبّر عن الخروج والتصدّي لحكمهم ، هو المتعيّن للكشف عن عدم الرضا باستمرار الأنظمة الجائرة ، ولا يمكن أن يعتبر ذلك نقطة ضعف ، أو يجعل دليلا على التخلّي عن الحركة المسلّحة.

ومن هنا نعلم أن « السيف » ليست له موضوعية ، وهو ليس شرطا بإطلاق الكلمة ، من دون تقييد بوقت ، ولا محدوديّة بإمكانيات.

بل ، لا ريب في أن الخروج بالسيف ، مشروط بما يحقق الأهداف المطلوبة منه ، وهي لا تتحقّق بالخروج العشوائي ، بل ، لا بدّ أن يتأهب الخارج لها ، ويعدّ للامر ما يلزم له من قوّة وعدّة.

وإلاّ ، فإن الانفراد في الساحة ، والاستبداد بالرأي من دون أنصار ، أو بأنصار غير كفوئين ، أو من غير خطة مدّبرة مدروسة ، أو في ظروف غير مؤاتية.

إن الخروج ـ ولو بأقوى سيف ـ في مثل ذلك لا يمكن أن يكون شرطا لشيء متوقّع ، فضلا عن أن يكون شرطا لشيء هامّ مثل « الإمامة ».

هذا إذا صدق على مثل ذلك اسم غير « الانتحار »!

وقد أرشد الإمام السجّاد عليه‌السلام الى هذه الحقيقة في احتجاجه على من

٢٣

اعترض عليه بترك الجهاد ، والالتزام بالحجّ ، بقوله : تركت الجهاد وصعوبته ، وأقبلت على الحجّ ولينه ، والله عزّ وجلّ يقول : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ـ الى قوله تعالى ـ وبشّر المؤمنين ) [ التوبة : ٩ الآية ١١١ ].

فقال الإمام عليه‌السلام : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج (١).

وهو المستفاد من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة الشقشقية : « أما والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت أوّلها بكاس آخرها » (٢)

ولو كان الخروج واجبا على كل حال ، وغير مشروط ، لما قال الإمام هذا الكلام.

وفي الجامع الكافي للشريف العلوي : قال الحسن عليه‌السلام : ويحق على من أراد الله والانتصار للدين : أن لا يُظهر نفسه ، ولا يعود بسفك دمه ودماء المسلمين ، وإباحة الحريم ، إلاّ ومعه فئة المتديّنين يوثق بطاعتهم ووفائهم (٣).

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى الى علي عليه‌السلام ، قال : يا أخي ، عليك بالصبر ، إلاّ أن تجد أعوانا وأنصارا ، فاشهر سيفك حينئذ ، فإن لم تجد أعوانا وانصارا ، فاحقن دمك ، فإنّ القوم لم ينسوا قتل ساداتهم في مواقفك التي شرّفك الله تعالى بها في دينه. (٤)

نعم ، قد يضطرّ الواقع إنسانا أبيّا ، إلى الإقدام على الخروج المسلّح ، وإن لم توجد شروطه ، لحاجة الوضع الى إثارة ، فيضحّي بنفسه فداءا من أجل قضيّته.

وهذا وإن كان لا يُسمى في قاموس اللغة « خروجا » ولا في مصطلح الفقه « جهادا » ولا يمكن أن يعتبر في حسابات العقل « واجبا » ولا في موازين

__________________

(١) الاحتجاج ، للطبرسي (ص ٣١٥) وانظر الكافي (٤ : ٢٥٧) ح ٢٤ ، وثواب الأعمال (٧١ : ٧) ووسائل الشيعة (١١ : ٩٥) تسلسل (١٤٣٣٠).

(٢) الإفصاح للمفيد (ص ٤٦) نهج البلاغة (٣١٥).

(٣) الاعتصام (٥ : ٤٠٨).

(٤) المقنع في الإمامة ، للسُدّ آبادي (ص ٩٩) وانظر (ص ١٠٩).

٢٤

المنطق « شرطا » لشيء ، فضلا عن الإمامة!

إلاّ أنّه يحتوي على فضيلة هذه العناوين كلّها بأعظم شكل ، إذ أنه يُعدّ في قاموس النهضات « بطولة » وفي وجدان الشعوب « تضحية » وفي روح الدين « فداءا » وعلى صفحات التاريخ « خلودا » ويكون قاعدة لإصلاحات كبيرة ، وبارودا لانفجارات مهيبة ، بعيدة أو قريبة ، كما كانت نهضة الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام. (١)

وأخيرا : فإنّ من الممكن نفي اشتراط الإمامة بـ « الخروج بالسيف » خاصّة ، على أساس المفهوم من حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ دالا على إمامة الحسن والحسين عليهما‌السلام ـ بقوله : « ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا ».(٢)

فإن القيام لو كان شرطا للإمامة ، والقعود لو كان منافيا لها ، لما كان ـ حتى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يثبتها للحسنين عليهما‌السلام مع فرض القعود!.

ثم إنّ الحسنين عليهما‌السلام ، قد استجمعا هذا الشرط ، فقاما وناضلا ، فما هو المبرّر لفرض القعود في حقّهما؟ وإبراز إمامتهما مع القعود؟ فليس من الحكمة إضهار هذا المعنى ، لو كان حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجّها إليهما بالخصوص.

إلاّ أنّ من الواضح أنّ المراد تعميم الحكم المذكور على الإمامة نفسها ، باعتبارها واقعا واحدا ، وعلى الأئمة جميعهم ، باعتبارهم قائمين بأمر بعينه.

والمفهوم من الحديث : أنّ الإمامة إذا ثبتتْ حسب الموازين المتّفق عليها ، التي أهمّها النصّ ، فإنّ القيام بالأمر والقعود ، متساويان.

__________________

(١) تحدّثنا عن ذلك في رسالة « ذكرى عاشوراء والاستلهام من معطياتها فقهيا وأدبيا ». ولا تزال مخطوطة.

(٢) حديث متفق عليه بين المسلمين : صرّح بذلك الشيخ المفيد في النكت (ص ٤٨) الفقرة (٨٢) ورواه الصدوق في علل الشرائع (١ : ٢١١) عن الحسن عليه‌السلام ، والخزّاز في كفاية الأثر (ص ١١٧) من حديث أبي أيّوب الأنصاري ، والمفيد في الإرشاد (ص ٢٢٠) وابن شهر آشوب في المناقب (٣ : ٣٩٤) وقال : أجمع عليه أهل القبلة ، ورواه مجدالدين في التحف (ص ٢٢) وأرسله في حاشية شرح الأزهار (٤ : ٥٢٢) نقلا عن كتاب الرياض ، ورواه الناصر في ينابيع النصيحة (ص ٢٣٧) وقال : لا شبهة في كون هذا الخبر مما تلقته الامة بالقبول وبلغ حدّ التواتر فصحّ الاحتجاج به.

٢٥

إذَن :

فالذي يمكن أن يكون شرطا لابدّ أن يعمّ الحركة المسلّحة المباشرة ، وأن تكون هي وحدة تمثّل تحقّق ذلك الشرط الذي تبتني عليه الإمامة ، بل هي متعيّنة ، عندما تتهيّأ ظروفها وتتكامل إمكاناتها ، أو كما يشخص الإمام نفسه ضرورة القيام بها.

ويتحقّق ذلك الشرط ضمن وحدات اُخرى تمثّله ، وتوصل الى الأهداف المطلوبة لأجلها الإمامة.

وذلك الشرط هو « الإصلاح » في الأمة.

وقد عبّر عنه في مصادر قدماء الزيدية بـ « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ».

في ما رواه الإمام الهادي الى الحق يحيى بن الحسين ، قال : بُلّغنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذرّيتي فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة كتابه ، وخليفة رسوله ». (١)

ولم يختلف أحد من الأمة ـ خاصة الشيعة : إمامية وزيدية ـ في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا على الامام فحسب ، بل على الأمة جمعاء. (٢)

لكن هذا الواجب :

أولا : ليس من أصول الدين ، بل من فروع العمل ، ولذا كان وجوبه عامّا على كلّ الأمة ، فلا يمكن أن يؤخذ شرطا خاصا ، لأصل دينّي ، كالإمامة ، ولا على شخص معيّن : كالإمام.

ثانيا : إنّ وجوبه ليس مطلقا ، بل هو مشروط ومقيّد بحالات (٣) ، فلا يعلّق عليه أمر ضروري مطلق ، كالإمامة التي يعدّها الشيعة من أثافي الاسلام وأعمدته (٤).

__________________

(١) درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية (ص ٤٨).

(٢) شرح الأزهار ( ٤ : ٥٨٢ ).

(٣) شرح الأزهار ( ٤ : ٥٨٢ ).

(٤) لاحظ وسائل الشيعة ( ج١ ص ١٣ ـ ٢٩ ) الباب الأول.

٢٦

فمن القيود ، عدم التقية :

قال الإمام السجّاد عليه‌السلام : التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كنابذ كتاب الله وراء ظهره ، إلاّ أن يتقي تقاة.

قيل : وما تقاته؟

قال عليه‌السلام : يخاف جبّارا عنيدا ، أن يفرط عليه أو أن يطغى (١).

ومنها ، ظنّ التاثير :

فإن لم يكن يظنّ لم يجب.

بل جعل منها في الفقه الزيدي شرط : أن لا يؤدي الى مثله أو أنكر ، أو تلفه ، أو عضو منه ، فيقبح غالبا.

واحترز بقيد « الغالب » عمّا لو حصل بتلف القائم إعزاز الدين ، كما كان من الحسين عليه‌السلام وزيد عليه‌السلام (٢).

فهو قد جعل حركة الحسين وزيد عليهما‌السلام مثلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا ريب في أنهما كذلك ، وفي المنظار العام ، بل هما من أروع الأمثلة وأعلاها!

وذكره للإمام الحسين عليه‌السلام مع أنّ إمامته ثابتة بالنصّ ـ عند الشيعة إمامية وزيديّة ـ دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجبّ آخر ، من دون دخالة له في أمر الإمامة.

والذي نستخلصه من هذا البحث :

أنّ الإمامة إنّما هي منصب إلهي يعتمد على النصّ ـ خاصا كما يقوله الإمامية ، أو عاما كما يقوله الزّيدية ـ وإذا ثبت النصّ على إمام بعينه كان الحجة على الامة ، مهما فعل من قيام أو قعود.

نعم ، إن من المستلزمات الواضحة للإعلان عن الإمامة هو التحرّك في سبيل مصلحة الدين والمسلمين ، والتحرّق من أجل مشاكلهم ومآسيهم ، والسعي في حلّ

__________________

(١) حلية الأولياء ، لأبي نعيم (٣ : ١٤٠).

(٢) شرح الإزهار (٤ ـ ٥٨٥٤) وانظر الاعتصام (٥ ـ ٤٢٥ و ٥٤٣).

٢٧

أزماتهم بكلّ الطرق والسبل ، ولو بتجريد السيف!

ولعلّ اشتراط الخروج والدعوت الذي يظهر من كلمات الزيدية ، يراد كونه شرطا لتعريف الأمّة بالإمام ، والإعلان عن بدء حركته الجهاديّة ، لا شرطا في الإمامة وثبوتها للإمام ، وبهذا يقترب المذهبان.

ولنختم هذا البحث بكلام واحد من كبار علمائنا الذين عاشوا في القرن الرابع الهجريّ ، وهو الشيخ المحدّث الحافظ ، المتكلّم ، الفقيه ، أبو القاسم ، علي بن محمد بن علي الخزّاز القمي ، الذي قال في كتابه القيّم « كفاية الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر » بعدما أورد النصوص المتضافرة على إمامتهم عليهم‌السلام ما نصّه :

فإن قال قائل : فزيد بن علي ، إذا سمع هذه الأخبار ، وهذه الأحاديث من ثقات المعصومين ، وآمن بها ، واعتقدها ، فلماذا خرج بالسيف؟ وادّعى الإمامة لنفسه؟ وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد؟ وهو بالمحلّ الشريف الجليل ، معروف بالستر والصلاح ، مشهور ـ عند الخاص والعام ـ بالعلم والزهد؟ وهذا ما لا يفعله إلاّ معاند أو جاحد ، وحاشا زيدا أن يكون بهذا المحلّ.

فأقول في ذلك ، وبالله التوفيق :

إن زيد بن علي عليه‌السلام خرج على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد عليهما‌السلام.

وإنما وقع الخلاف من جهة الناس ، وذلك أنّ زيد بن علي عليه‌السلام لمّا خرج ، ولم يخرج جعفر بن محمد عليهما‌السلام توهّم قوم من الشيعة أنّ امتناع جعفر كان للمخالفة!

وإنما كان لضرب من التدبير.

فلمّا رأى الذين صاروا للزيدية سلفا قالوا : ليس الإمام « من جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره » وإنّما الإمام « من خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ».

فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة ، وأما جعفر وزيد عليهما‌السلام ، فما كان بينهما خلاف (١).

__________________

(١) كفاية الأثر للخزّاز ( ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢ ) وانظر ثورة زيد بن علي ( ص ١٤٠ ـ ١٤٧ ).

٢٨

التمـهيد :

البحث الثاني : إمامة السجّاد زين العابدين عليه‌السلام

اتّفق الشيعة الإمامية على إمامة زين العابدين عليه‌السلام:

قال الشيخ المفيد : واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على علي بن الحسين ، وأن أباه وجّده نصّا عليه كما نصّ عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه كان بذلك إماما للمؤمنين (١).

وقد أقاموا الحجج وجمعوا النصوص الدالة على إمامته عليه‌السلام في كتبهم (٢).

ثمّ إن خصال الفضل ـ الموجب للتقدّم ـ ووجوهه ، في عصر التابعين ، هي : العلم بالدين ، والإنفاق في سبيل الله ، والزهد في الدنيا (٣).

وقد اجتمعت كلّها في شخص الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

ولا أظنّ أنّ القول بإمامة السجاد عليه‌السلام في عقيدة الشيعة الإمامية بحاجة الى الاستدلال ، بعد وضوح ذلك ، والاتفاق الذي نقله الشيخ المفيد ، وإثبات النصوص في صحاحهم المعتمدة.

__________________

(١) أوائل المقالات في المذاهب المختارات (ص ٤٧).

(٢) الكافي للكليني ( ١ : ١ ـ ٢٤٢ ) والإمامة والتبصرة (ص ١٩٣) الباب (١٠) وكفاية الأثر للخزّاز ( ص ٢٣٠ ـ ٢٣٥ ) والغيبة للطوسي (ص ٥ ـ ١٩٦) وإثبات الهداة للحر العاملي ( ٣ : ١ ـ ٣٢ ).

(٣) راجع الإفصاح للمفيد (ص ٢٣١).

٢٩

وأمّا الزيديّة :

فالذي يظهر من كلام الهادي الى الحق يحيى بن الحسين ( المتوفى ٢٩٨ ) أنه يلتزم بإمامة السجاد عليه‌السلام بالنصّ على الوصية إليه حيث ذكره باسمه الصريح ، فقد قال : إن الله عز وجل أوصى بخلقه على لسان النبي الى علي بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، والى الأخيار من ذريّة الحسن والحسين ، أولهم علي بن الحسين ، وآخرهم المهدي ، ثم الأئمة في ما بينهما (١).

فهذا الكلام صريح الدلالة على أن الوصية كانت الى الإمام السجاد عليه‌السلام كما كانت لابيه وعمّه وجدّه ، بالتعيين من الله تعالى فهو عليه‌السلام من الأوصياء الذين اختارهم الله للإمامة وثبتت لهم بالأختيار الإلهي.

لكنّ بعض العلماء المعاصرين ، من فضلاء الزيدية حاول صرف هذا الكلام عن صريح لفظه ، الى أن سيد الساجدين علي بن الحسين صلوات الله عليه من دعاة الأئمة (٢) ولم يذكره في عداد الأئمة.

فبالرغم من عدم قرينة على هذا الحمل ، فإنه يقتضي أن يكون « المهدي » أيضا من دعاة الأئمة ، وهو ما لا يلتزم به أحد من الأُمة!

ونقل السيّد بدرالدين الحوثي عن القاسم عليه‌السلام ما نصّه :

وجرى الأمر في ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفوة بعد الصفوة ، لا يكون إلاّ في خير أهل زمانه وأكثرهم اجتهادا وأكثرهم تعبّدا وأطوعهم لله وأعرفهم بحلال الله وحرامه وأقومهم بحقّ الله وأزهدهم في الدنيا وأرغبهم في الآخرة وأشوقهم للقاء الله ، فهذه صفة الإمام ، فمن استبان منه هذه الخصال فقد وجبت طاعته على الخلائق ، فتفهّموا وانظروا :

هل بيننا وبينكم اختلاف في علي بن أبي طالب ثم بعده الحسن بن علي؟

__________________

(١) كتاب فيه معرفة الله والعدل والتوحيد ، للهادي ، مطبوع في رسائل العدل والتوحيد (٢ : ٨٢). وأورده بنصه في المجموعة الفاخرة (ص ٢٢١). ونقله السيد بدرالدين الحوثي في رسالة ( الزيدية في اليمن ) (ص ١٧).

(٢) التحف شرح الزلف (ص ٢٥).

٣٠

أو هل اختلفنا من بعده في الحسين بن علي؟

أو هل اختلفنا في علي بن الحسين؟

أو هل اختلفنا في محمد بن علي؟

أو هل ظهر منهم رغبة في الدنيا؟! أو طلب اموال الناس؟

الى قوله عليه‌السلام : فلو أردنا أن نجحد الحقّ لجحدناهم من بعد الحسين بن علي ، وصيّرناه في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامّة (١).

وهذا النصّ أصرح في التزام الزيدية بامامة علي بن الحسين السجاد ومحمد بن علي الباقر عليهما‌السلام ، حالهم حال الإمامية بلا خلاف في القول بامامتهم الخاصة.

والذي يظهر من تتبّع أقوال خبراء الملل والنحل أن الزيدية القدماء كانوا يلتزمون بإمامة السجاد عليه‌السلام ، ولم يختلف الشيعة في إمامته :

فالشهرستاني ـ لما ذكر الاختلاف في الإمامة ، وذكر من قال بالنصّ على الحسن والحسين ـ قال : ثم اختلفوا : فمنهم من أجرى الإمامة في أولاد الحسن عليه‌السلام ، فقال بعده بإمامة ابنه الحسن [ المثنى ] ثم ابنه عبدالله ...

ومنهم من أجرى الوصية في أولاد الحسين ، وقال بعده بإمامة ابنه علي بن الحسين زين العابدين ، نصّا عليه ، ثم اختلفوا بعده : فقالت الزيدية بإمامة زيد ، وإمّا الإمامية فقالوا بإمامة ابنه محمد بن علي الباقر ، نصّا عليه (٢).

وقال في الجارودية : فساق بعضهم الإمامة من علي الى الحسن ، ثم الى الحسين ، ثم الى علي بن الحسين زين العابدين ، ثم إلى ابنه زيد ... (٣).

وقال القاضي النعمان المصري : الزيدية من الشيعة زعموا أنّ من دعا الى الله عزّوجلّ من آل محمد فهو إمام مفترض الطاعة.

قالوا : وكان علي إماما حين دعا الناس الى نفسه ، ثم الحسن والحسين ، ثم زين

__________________

(١) الزيدية في اليمن (ص ١٧ ـ ١٨) عن كتاب ( الرد على الروافض من الغلاة ـ المخطوط ـ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ).

(٢) الملل والنحل (١ : ٢٧).

(٣) الملل والنحل (١ : ١٥٨).

٣١

العابدين ، ثم زيد بن علي ... (١).

ويظهر التزام زيد بإمامة أبيه من الحوار الذي جرى بينه وبين أخيه الإمام الباقر ، والذي نقله الشهرستاني ، فإنّ زيدا كان يرى الخروج شرطا في كون الإمام إماما ، فقال له الباقر يوما : مقتضى مذهبك : والدك ليس بإمام! فإنه لم يخرج قط! ولا تعرّض للخروج (٢).

فلو لم يكن زيد ملتزما بإمامة والده السجاد عليه‌السلام ، لم يتمّ إلزامه بما في هذا الحوار.

لكنّ الزيدية المتأخرين خالفوا ذلك : ففي المعاصرين من لم يلتزم بإمامة السجاد عليه‌السلام بل يعدّه من دعاة الأئمة!

وهؤلاء يسوقون الإمامة من الحسين عليه‌السلام الشهيد في كربلاء ( سنة ٦١ ) الى الحسن المثنى بن الحسن المجتبى عليه‌السلام ويلقبونه بـ « الرضا » ثم الى زيد (٣).

ويبدوا أن الألتزام بعدم إمامة السجاد عليه‌السلام أصبح مذهبا للجارودية في الفترة المتأخرة عن عهد الهادي الى الحق ، فإنّ الشيخ المفيد نقل إنكارهم أن يكون علي بن الحسين عليه‌السلام إماما للاُمة بما توجب به الإمامة لأحد من أئمة المسلمين (٤).

وقال السيد ما نكديم أحمد بن الحسين بن هاشم الحسيني ششديو ، في تعيين الإمام : إعلم أن مذهبنا أن الإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم زيد بن علي ، ثم من سار بسيرتهم (٥).

والملاحظ عدم ذكره للحسن المثنى.

__________________

(١) شرح الأخبار للقاضي ( ٣ : ٣١٧ ).

(٢) الملل والنحل ( ١ ـ ١٥٦ ).

(٣) التحف شرح الزلف ( ص ٢٢ و ٢٤ ـ ٢٥ ).

(٤) أوائل المقالات (ص ٤٧) ولاحظ أجوبة ابن قبة الرازي على كتاب ( الأشهاد ) لأبي زيد العلوي الزيدي المطبوع في إكمال الدين (ص ١١٣) اذ قال له : وأنت لا تعترف بإمامة مثل علي بن الحسين عليه‌السلام! ، مع محله في العلم والفضل عند المخالف والموافق.

(٥) شرح الأصول الخمسة ، للقاضي (ص ٧٥٧).

٣٢

ومع أن هذه النصوص تدلّ على الخلاف الكبير بين الزيدية في تعيين الإمام بعد الحسين عليه‌السلام ، فإنا يمكننا الوصول الى رأي واحد من خلال الملاحظات التالية :

فعلى الرأي الأخير ، فإن منصب الإمامة يبقى شاغرا عمّن يتولاّه من سنة (٦١) مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، الى سنة (١٢١) مخرج زيد عليه‌السلام.

وحتى على الرأي الثاني ، فالمنصب يبقى شاغرا من سنة (٦١) الى سنة (٨٣) مخرج ابن الأشعث ودعوته الى الحسن المثنى ، على الفرض (١).

ومن المعروف ـ وحسب الأحاديث الصريحة ـ أنّ الارض لا تخلوا من حجّة (٢).

ودلالة الأحاديث المشهورة : « من مات لا يعرف إمامه » أو « وليس له أمام ، مات ميتة جاهلية » (٣) على أنّه لا بدّ للاُمة ـ في كل زمان ـ من إمام عدل يعرفونه ، ويدينون بإمامته وولايته ، وأن الجاهل بالإمام خارج عن ملّة الإسلام ، واضحة صريحة.

فخلوّ الفترة بين (٦١) الى (٨٣) أمر لا ينطبق على هذه الأصول.

على أنّ القول بإمامة الحسن المثنى ، وإن التزم به بعض المتأخرّين من الزيدية ، استنادا الى ما قيل من أن : عبدالرحمن بن الاشعث قد دعا إليه ، وبايعه ، فلمّا قُتل

__________________

(١) ولا يمكن الالتزام بإمامة الحسن ولا زيد قبل خروجهما ، إذا كان الخروج شرطا للإمامة ، كما يقول هؤلاء ، وحسب تفسيرهم للخروج!.

(٢) الكافي ( ١ص ٦ ـ ١٣٧ ) والإمامة والتبصرة ( ص ١٥٧ ـ ١٦٣ ) ب (٢) واكمال الدين (ص ١٠).

(٣) الكافي ( ١ ص ٣٠٨ ) والإمامة والتبصرة ( ص ٢١٩ ـ ٢٢٠ ) ب (١٨) وح ٥٠ ب ١١ وانظر : بحار الأنوار ( ج ٢٣ ص ٧٦ ـ ٩٥ ) ورواه في ( الجامع الكافي ) كما في الاعتصام ( ٥ : ٤٠٩ ) وقال : رواه الهادي في الاحكام ( ٢ : ٤٦٦ ) ودرر الأحاديث اليحيوية ( ص ١٧٧ ) ورواه المفيد في الأفصاح (ص ٢٨) وعبّر عنه بالمتواتر ، وعبّر عنه الشهيد الثاني بقوله : « من مشاهير الاحاديث بين العامّة والخاصّة وقد أوردها العامّة في كتب اُصولهم وفروعهم » جاء ذلك في كتاب : حقايق الإيمان ( ص ١٥١ ). ورواه من العامة الحاكم في المستدرك على الصحيحين (١ : ٧٧ و ١١٧ ) والطبراني في المعجم الزوائد ( ١٠ : ٣٥٠ ) رقم (١٠٦٨٧) وبلفظ ( بغير إمام ) في ( ١٩ : ٣٨٨ ) رقم (٩١٠) ومجمع الزوائد ( ٥ : ٢٢٥ ) وقد جمع الحديث بالفاظه المختلفة الشيخ مهدي الفقيه في كتابه ( شناخت امام ) باللغة الفارسية وهو مطبوع.

٣٣

عبد الرحمن توارى الحسن حتى دسّ اليه من سقاه السمّ ، فمات ، وعمره ثلاث وخمسون سنة (١) ، فهو أمرّ لم يثبت.

لأن الشيخ المفيد قال : ومضى الحسن [ المثنى ] ولم يدّع الإمامة ، ولا أدّعاها له مدّع (٢).

ولو فرضنا صحّة الدعوة منه ، أو اليه ، فهل مجّرد الدعوة ثمّ الأختفاء والموت يكفي لإسناد منصب الإمامة العظيم الى شخص؟!

وهل يقنع العقل بمجرد ذلك لإسناد الإمامة الى شخص غير الإمام السجّاد؟ فيُعرض عن ملاحظة الإنجازات السياسية والدينية الهائلة التي قدّمها الإمام السجّاد عليه‌السلام طيلة فترة إمامته (٦١ ـ ٩٥ ) والتي سنستعرضها في الفصول القادمة؟!.

وهل تُقاس هذه الجهود بمجرد الدعوة ثم الأختفاء والموت؟!

وهل مثل تلك الدعوة ـ على قصرها ـ تحقّق المطلوب من روح شرط « الخروج »؟!

مع أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام قد أعلن الدعوة صريحة الى إمامة نفسه ، وعلى رؤوس الأشهاد ، وعلى مدى أربع وثلاثين عاما! كما سيأتي.

وأما العامّة :

فقد قال الذهبي في ترجمة الإمام السجاد : السيد الإمام ، زين العابدين ، وكان له جلالة عجيبة ، وحقّ له ذلك ، فقد كان أهلا للإمامة العظمى : لشرفه ، وسؤدده ، وعلمه ، وتالّهه ، وكمال عقله (٣).

وقال المناوي : زين العابدين ، إمام ، سند ، اشتهرت أياديه ومكارمه ، وطارت بالجوّ في الوجود حمائمه ، كان عظيم القدر ، رحب الساحة والصدر ، رأساً لجسد

__________________

(١) عمدة الطالب ( ١٠٠ ـ ١٠١ ) وانظر هامشه.

(٢) الإرشاد الى ائمة العباد للمفيد (ص ١٩٧) وقد فصل الحديث عنه وقال : كان جليلا رئيسا فاضلا ورعا وكان يلي صدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في وقته ، وله مع الحجّاج خبر ( الارشاد ص ١٩٦ ).

(٣) سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٨ ).

٣٤

الرئاسة ، مؤمّلا للإيالة والسياسة (١).

وقال الجاحظ : أمّا علي بن الحسين بن علي : فلم أر الخارجي في أمره إلاّ كالشيعي ، ولم أر الشيعي إلاّ كالمعتزلي ، ولم أر المعتزلي إلاّ كالعامي ، ولم أر العامي إلاّ كالخاصيّ ، ولم أجد أحدا يتمارى في تفضيله ويشكّ في تقديمه (٢).

وقال الجاحظ أيضا : وأمّا علي بن الحسين عليه‌السلام فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لايمتري أحد في تدبيره ، ولا يشكّ أحد في تقديمه (٣).

وقد ترجم له عليه‌السلام أعلام العامة فلم يذكروه إلاّ بالسيادة والشرف ، والتقى والعلم ، والعبادة والفضل ، والحلم والكرم ، والتدبير والحكمة ، وكثير منهم وصفه بالإمامة (٤).

وهل يشكّ مسلم مؤمن بالكتاب والسنة ، ومزدان بالعقل والعدل ، في تقدّم هذا الإمام على خلفاء عصره ، وأولويّته بالإمامة والخلافة والحكم؟

الإشارة الى إمامة السجّاد :

ولنختم هذا البحث بحديث اتفقت المذاهب الإسلامية الكبيرة على روايته ونقله :

١ ـ من طرق الإمامية :

روى الشيخ أبو جعفر الصدوق محمّد بن علي ابن بابويه القمي ، مسندا ، عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين زين العابدين؟ فكأني أنظر الى ولدي عليّ بن الحسين بن علي أبي طالب يخطر بين الصفوف (٥).

وروى الصدوق أيضا ، مسندا عن عمران بن سليم ، قال : كان الزهري إذا حدّث عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : « حدّثني زين العابدين علي بن الحسين » فقال له

__________________

(١) الكواكب الدريّة ( ٢ : ١٣٩ ).

(٢) عمدة الطالب ( ٣ ـ ١٩٤ ) عن ( رسالة ) الجاحظ في فضل بني هاشم ، وانظر العلم الشامخ للمقبلي (ص ١٠).

(٣) رسالة الجاحظ ، ونقله عنه في كشف الغمّة ( ١ : ٣١ ).

(٤) انظر : طبقات ابن سعد ( ٥ / ٢١١ ) المعارف لابن قتيبة ( ص ٢١٤ ) حلية الأولياء (٣ : ١٣٣ ) تذكرة الحفاظ ( ١ : ٧٤ ) تهذيب التهذيب ( ٧ : ٣٠٤ ) النجوم الزاهرة ( ١ : ٢٢٩ ) وغيرها.

(٥) أمالي الصدوق ( ص ٢٧٢ ) نهاية المجلس (٥٣) وعنه في بحار الأنوار ( ٤٦ ص ٣ ).

٣٥

سنيان بن عيينة : ولم تقول له : « زين العابدين »؟

قال : لأني سمعت سعيد بن المسيّب ، يحدّث عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا كان ... (١) وروى الحديث بلفظه.

ورواه في العلل أيضا مسندا إلى الصادق عليه‌السلام موقوفا عليه (٢).

٢ ـ من طرق العامة :

روى الحافظ ابن عساكر ، بسنده ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزبير قال : كنّا عند جابر ، فدخل عليه علي بن الحسين ، فقال له جابر : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدخل الحسين ، فضمّه اليه وقبّله وأقعده الى جنبه ، ثم قال : يولد لابني هذا ابن يقال له « علي بن الحسين » إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش : « ليقم سيّد العابدين »فيقوم هو (٣).

وروى ابن المديني عن جابر أنه قال للامام الباقر محمد بن علي ، وهو صغير : « رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلّم عليك » فقيل له : وكيف ذاك؟

قال : كنت جالسا عنده ، والحسين في حجره وهو يداعبه ، فقال : يا جابر ، يولد له مولود اسمه عليّ ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : « ليقم سيّد العابدين » فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فإن أدركته ـ يا جابر ـ فأقرئه منّي السلام (٤).

٣ ـ من طرق الزيدية :

روى السيد الموفق بالله قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد : أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله : اخبرنا الحسن بن علي بن زكريا : حدثّنا العباس بن بكّار : حدثّنا أبو بكر الهذلي ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

__________________

(١) علل الشرائع (ص ٨٧) وعنه في بحار الأنوار ( ٤٦ ص ٢ ـ ٣ ) وعوالم العلوم (ص ١٧).

(٢) علل الشرائع ( ١ : ٢٢٩ ) وعنه بحار الأنوار (٤٦ ص ٣).

(٣) تاريخ دمشق ص ٢٦ الحديث ٣٤ ( من ترجمة الإمام زين العابدين ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٣٤ ).

(٤) الصواعق المحرقة (ص ١٢٠) ولسان الميزان ( ٥ : ١٦٨ ).

٣٦

يولد للحسين ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين (١).

ورواه الشهيد المحلّي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : « ليقم سيّد العابدين » فيقوم عليّ بن الحسين (٢).

الدلالة :

وهذا الحديث مع تعدّد طرقه وشواهده ، التي يؤيّد بعضها بعضا ، فيه الإشارة الى الإمام السجاد ، من نوع النصّ الخفّي ـ الذي يلتزم به كثير من الزيدية ـ على إمامته وإلاّ فدلالته على تشخّصه وفضله وشرفه على أهل عصره ، مما لا يرتاب فيه.

خير أهل الأرض :

وروى الباقر عليه‌السلام عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال لابنه الحسين لّما أخذ شهربانُويه ـ اُم علي بن الحسين ـ : يا أبا عبد الله ، لتلدنّ لك خير أهل الأرض.

فولد عليّ بن الحسين عليه‌السلام (٣).

ومن المعلوم أن خير أهل الأرض في عصره لابدّ أن يكون هو الإمام ، لأنه الأفضل.

دعوة الإمام الى إمامة نفسه :

ثم إن الإمام السجاد عليه‌السلام قد دعا الى إمامة نفسه في كثير من أقواله وتصريحاته ومنها قوله : نحن أبواب الله ، ونحن الصراط المستقيم ، ونحن عيبة علمه ، ونحن تراجمة وحيه ، ونحن أركان توحيده ، ونحن مواضع سرّه ... (٤).

وغير ذلك من النصوص التي سنذكر بعضها (٥).

__________________

(١) كتاب الاعتبار وسلوة العارفين (ص ١٨٥).

(٢) الحدائق الوردية (ص ١٣٧).

(٣) الكافي للكليني ( ١ : ٤٦٦ ) وإثبات الوصيّة للمسعودي (ص ١٤٥) وانظر : محاضرات الراغب الاصفهاني ( ١ : ٣٤٧ ) ط بيروت وقد نقله في العوالم (ص ٦) عن بصائر الدرجات للصفار ( ص ٣٣٥ ـ ٣٥٥ ) وانظر البحار ( ٤٦ / ١٩ / ٢ ).

(٤) معاني الأخبار للصدوق (ص ٣١).]

(٥) لاحظ نهاية الفصل الثاني من كتابنا هذا.

٣٧

ومهما يكن :

فلو التزمنا بإمامة الإمام السجاد عليه‌السلام ، كما تقول به الشيعة الإمامية ، وقدماء الزيدية.

أو التزمنا بأهليّته للإمامة ، كما نصّ عليه العامة.

أو قلنا إنه من دعاة الأئمة ، كما يقول به المعاصرون من الزيدية!

فإن حياة مثله لا يمكن أن تفرّغ من التحرّك السياسي ، الذي عرفنا أنه من مهمات « الإمامة » بل من صميم معناها!

وبعد :

فلو أعرضنا عن كل ذلك ، فإن ما نستعرضه في الفصول القادمة ، تعطينا الأدلة والبراهين الصادقة ، والشواهد العينية البيّنة ، على أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام ، لا أنّه لم يعتزل السياسة ولم يبتعد عن شؤونها ، فحسب ، بل إنه خطط لعمله السياسي أدقّ الخطط ، ودخل معمعة السياسة من الأبواب الواسعة ، والخطيرة ، بما حقّق أهداف الإمامة بأحسن شكل.

وأهم ميزات هذه الخطط أنها كانت دقيقة حتى أنها خفيت على الكثيرين من المؤرّخين والدارسين ، فراحوا ينكرونها وينفونها.

وأمّا الحكّام والساسة المعاصرون للإمام ، فقد أربكتهم تلك السياسة الدقيقة ، ولم يتمكّنوا من مقاومتها ، ولا الوقوف في وجهها ، فلم يكن منهم إلا مسايرتها ، والتسليم أمامها ، وبالتالي التراجع عن كثير من مواقع السلطة التي بنوا عليها نظام حكمهم ، واسّسوا عليها أساس ظلمهم وغصبهم للخلافة.

وتفصيل هذا الإجمال ، تتكفّله الفصول التالية ، بعون الله.

__________________

ويبدو أنّ البحث عن إثبات إمامة السجّاد عليه‌السلام قد كان مُثارا منذ القرن الرابع فقد قام واحد من كبار علماء الإمامية وهو العيّاشي السمرقندي محمد بن مسعود السلمي صاحب التفسير المعروف ، بتأليف كتاب باسم « إثبات إمامة علي بن الحسين عليه‌السلام » ذكره النجاشي في رجاله (ص ٣٥٢) رقم (٩٤٤) وانظر الفهرست للطوسي (ص ١٦٤) رقم (٦٠٥) ولاحظ الفهرست لابن النديم (ص ٣٢٥).

٣٨

الفصل الأول

أدوار النضال في حياة الإمام عليه‌السلام

أولا : في كربلاء

ثانيا : في الأسر

ثالثا : في المدينة

٣٩
٤٠