جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

فكيف يقيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلس الحزن على قرّة عينه ، يوم ولادته ، أهكذا يستقبل العظماء مواليدهم؟ أولا يجب أن يستبشروا بالولادات الجديدة ، ويتهادوا التهاني والأفراح والمسرّات؟!

وتتكرّر المجالس التي يعقدها الرسول العظيم ، ليبكي فيها على وليده ، ويبكي لأجله كلّ من حوله ، وفيهم فاطمة الزهراء عليه‌السلام أم الوليد ، وبعض أمّهات المؤمنين وأشراف الصحابة (١).

وحقا عدّ ذلك من دلائل النبوّة ومعجزاتها (٢).

وهكذا أقام الإمام علي عليه‌السلام ، مجلس العزاء على ولده الحسين عليه‌السلام ، لمّا مرّ على أرض كربلاء ، وهو في طريقه الى صفّين ، فوقف بها ، فقيل : هذه كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ثم أومأ بيده الى مكان ، فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بعده الى موضع آخر ، فقال : هاهنا مهراق دمائهم (٣).

ونزل الى شجرة ، فصلّى إليها ، فأخذ تربة من الأرض فشمّها ، ثم قال : واها لك من تربة ، ليقتلنّ بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب (٤).

ورثاه أخوه الحسن عليه‌السلام وقال له : لا يوم كيومك يا أبا عبدالله ... ويبكي عليك كلّ شيء ... (٥).

وحتى الحسين عليه‌السلام نفسه ، نعى نفسه ودعا الى البكاء على مصيبته ، وحثّ المؤمنين عليه ، حيث قال : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى (٦).

وهكذا الأئمة عليهم‌السلام بعد الحسين ، أكّدوا على البكاء على الحسين بشتّى الأشكال.

__________________

(١) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاب : سيرتنا وسنتنا للاميني ، ولاحظ تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ( ص ١٦٥ ـ ١٨٥ ).

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ( ٦ : ٤٦٨ ) ومسند أحمد ( ٣ : ٢٤٢ و ٢٦٥ ) وأنظر أمالي الصدوق ( ص ١٢٦) ودلائل النبوة ، لابي نعيم ( ص ٧٠٩ ) رقم (٤٩٢).

(٣) وقعة صفين ( ص ١٤١ ) والمصنف لابن أبي شيبة ( ١٥ : ٩٨ ) رقم (١٩١٢١٤) وكنز العمال ( ٧ : ١٠٥ و ١١٠ ) وأمالي الصدوق المجلس (٧٨) ( ص ٤٧٨ و ٤٧٩ ).

(٤) تاريخ دمشق لابن عساكر ( ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام ) ( ص ٢٣٥ ) رقم ٢٨٠ وانظر الارقام ( ٢٣٦ ـ ٢٣٩ ).

(٥) أمالي الصدوق ( المجلس ٢٤ ) ص (١٠١).

(٦) فضل زيارة الحسين للعلوي ( ص ٤١ ) الحديث (١٣).

١٨١

لكنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

قد تحمّل أكبر الإعباء ، في هذه المحنة ، إذ عايش اسبابها ، وعاصر أحداثها ، بل باشر جارحها وآلامها ، فكان عليه ان يؤدّي رسالتها ، لأنّه شاهد صدق من أهلها ، بل الوحيد الذي ملك أزمّة أسرارها ، ولابدّ أن يمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثّل غيره ، ولم تبق لها صورة في أي منظار ، غير ما عنده!

وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين عليه‌السلام هو أوثق من يروي حديث كربلاء ، فهو أصدق الناقلين له ، وخير المعبّرين عنه بصدق.

وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صنعت ، فلا بدّ لها أن تستمرّ ، ولا تنقطع عن الحيوية ، في ضمير الناس ووجدانهم ، حتى تستنفد أغراضها.

وبينما الحكّام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس ، فإن الإمام زين العابدين عليه‌السلام اتّخذ من البكاء عادة ، بل اعتمدها عبادة ، فقد كانت ـ وفي تلك الفترة بالذات ـ وسيلة هامّة لأداء المهمّة الإلهية التي حمل الإمام عليه‌السلام أعباءها.

والناس ، لمّا رأوا الإمام زين العابدين عليه‌السلام يذرف الدموع ليل نهار ، لا يفتأ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه ، فهم :

بين من يدرك : لماذا ذلك البكاء والحزن ، والدمع الذارف المنهمر ، والحزن الدائب المستمر؟ وعلى من يبكي الإمام عليه‌السلام؟

فكان ذلك سببا لاستمرار الذكرى في الأذهان ، وحياتها على الخواطر ، وبقاء الأهداف حيّة نابضة ، في الضمائر ووجدان التاريخ ، وتكدّس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة.

وبين من يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه ، الزاهد في الدنيا ، الصبور على مكارهها ، فإنه لم يبك بهذا الشكل ، من أجل أذى يلحقه ، أو قتل أحد ، أو موت آخر ، فإن هذه الامور هي مما تعوّد عليها البشر ـ على طول تاريخ البشرية ـ بل هي سنّة الحياة.

كما قال القائل :

لـه ملـك ينـادي كـلّ يوم

لدُوا للمـوت وابنـوا للخراب

١٨٢

وخصوصا النبلاء والنابهين ، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة.

فبكاء مثله ، ليس إلاّ لأجل قضيّة أكبر وأعظم ، خاصة البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره (١).

لقد ركزّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام على قدسية بكائه لمّا سئل عن سببه؟

فقال : لا تلوموني.

فإنّ يعقوب عليه‌السلام فقد سبطا من ولده ، فبكى ، حتى ابيضت عيناه من الحزن ، ولم يعلم أنه مات ..

وقد نظرت الى أربعة عشر (٢) رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة!

فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا؟! (٣).

إنه عليه‌السلام في الحين الذي يربط عمله بما في القرآن من قصة يعقوب وبكائه ، وهو نبي متّصل بالوحي والغيب ، إذ لا ينبع فعله عن العواطف الخالية من أهداف الرسالات الإلهية.

وفي الحين الذي يمثّل لفاجعة الطفّ في اشجى مناظرها الدامية ، وبأقصر عبارة وافية.

فهو يؤكّد على تبرير بكائه ، بحيث يعذره كل سامع.

وفي حديث آخر : جعل الإمام عليه‌السلام من قضيّة كربلاء مدعاة لكل الناس الى إحيائها ، وتزويدها بوقود الدموع ، وإروائها بمياه العيون ، ولا يعتبرونها قضية خاصة بعائلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب ، بل هي مصاب كل الناس ، وكل الرجالات الذين لهم

__________________

(١) أمالي الصدوق ( ص ١٢١ ) ولاحظ بحار الأنوار ( ٤٦ : ١٠٨ ) الباب (٦) الحديث (١).

(٢) يلاحظ أن المعروف في عدد المقتولين من أولاد علي وفاطمة عليهما‌السلام في كربلاء هم « ستة عشر » رجلا ، ـ الوسائل ـ المزار ـ الباب (٦٥) تسلسل (١٩٦٩٤) عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ( ١ : ٢٩٩ ) ولاحظ نزهة الناظر (ص ٤٥).

(٣) كامل الزيارات ( ص ١٠٧ ) أمالي الصدوق ( المجلس ٩ و ٩١ ) تيسير المطالب لابي طالب ( ص ١١٨ ) وتاريخ دمشق الحديث (٧٨) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ) وحلية الأولياء ( ٣ : ١٣٨ ).

١٨٣

كرامة في الحياة ، أو يحسّون بشيء اسمه الكرامة ، أو شخص يحسّ بالعاطفة ، فهو يقول :

وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟

أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟

أم أيّ عين منكم تحبس دمعها؟ (١).

وكان عليه‌السلام يحثّ المؤمنين على البكاء ويقول :

أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه‌السلام حتى تسيل على خدّه ، بوّأه الله تعالى بها في الجنّة غرفا يسكنها أحقابا.

وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّيه مما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا ، بوّأه الله منزل صدق (٢).

وكان البكاء واحدا من الأساليب لتي جعلها وسلية لإحياء ذكرى كربلاء ، وقد استعمل أساليب أخرى.

منها : زيارة الحسين عليه‌السلام :

قال أبو حمزة الثمالي : سألت علي بن الحسين ، عن زيارة الحسين عليه‌السلام؟

فقال : زرهُ كلّ يوم ، فإن لم تقدر فكلّ جمعة ، فإن لم تقدر فكلّ شهر ، فمن لم يزره فقد استخف بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

ومنها : الاحتفاظ بتراب قبر الحسين عليه‌السلام :

فكانت له خريطة ديباج صفراء ، فيها تربة قبر أبي عبدالله عليه‌السلام ، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها (٤).

__________________

(١) كامل الزيارات ( ص ١٠٠ ) مقتل الحسين عليه‌السلام للأمين ( ص ٢١٣ ) ولاحظ كتابنا هذا ( ص ٦٦ ).

(٢) ثواب الأعمال ( ص ٨٣ ).

(٣) فضل زيارة الحسين عليه‌السلام للعلويّ ( ص ٤٣ ) ح ١٧.

(٤) بحار الأنوار ( ٤٦ : ٧٩ ) باب ٥ ، الحديث ٧٥ وعوالم العلوم ( ص ١٢٩ ) وباختصار في مناقب أبن

١٨٤

ومنها : خاتم الحسين عليه‌السلام :

فقد كان الإمام زين العابدين عليه‌السلام يتختّم بخاتم أبيه الحسين عليه‌السلام (١).

كما كان ينقش على خاتمه : « خزيَ وشقي قاتل الحسين بن علي عليه‌السلام » (٢).

ومن المؤكد أن الإمام عليه‌السلام لم يتبع هذه الأساليب لمجرد الانعطاف مع العواطف والسير وراءها ، ولا لضعف في نفسه ، أو لاستيلاء هول الفجيعة على روحه ، ولم يتّخذ مواقفه من بني أمية نتيجة للحقد أو الأنتقام الشخصي ، ممن له يد في مذبحة كربلاء.

وإنما كان عليه‌السلام يلتزم بتلك الخطط ويتبع تلك الأساليب لإحياء الفكرة التي من أجلها قتل الحسين عليه‌السلام واستشهد هو وأصحابه على أرض كربلاء فضرّجوا تربتها بدمائهم الزكية.

ولقد أثبت ذلك بصراحة في حياته العملية :

فقد كانت له علاقات طبيعية مع عوائل بعض الأمويين مثل مروان بن الحكم ، الذي التجأ بأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان الى بيت الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فأصبحوا تحت حمايته ، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف ، مدّة وجود الجيش الأموي في المدينة ، فأمنوا من استباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها في واقعة الحرّة الرهيبة (٣).

وبالإضافة الى أن الأئمة عليهم‌السلام بعيدون عن روح الانتقام الشخصي وإنما يغضبون لله لا لأنفسهم ، فإنهم يشملون باللطف والرحمة للنساء والأطفال في مثل تلك الظروف ، وبذلك يكسبون ودّ الجميع حتّى الأعداء ، ويثبتون جدارتهم ، ولياقتهم

__________________

شهر آشوب ( ٤ / ١٦٢ ) عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي.

(١) نقش الخواتيم ، للسيد جعفر مرتضى ( ص ١١ ).

(٢) نقش الخواتيم ، للسيد جعفر مرتضى ( ص ٢٥ ) عن الكافي ( ٦ : ٤٧٣ ) ومسند الرضا عليه‌السلام ( ٢ : ٣٦٥ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ : ٥ ).

(٣) أنساب الأشراف ( ٤ : ٣٢٣ ) تاريخ الطبري ( ٥ : ٤٩٣ ) ومروج الذهب ( ٢ : ١٤ ) وكشف الغمة ( ٢ : ١٠٧ ).

١٨٥

لمنصب الإمامة والزعامة.

فكسب الإمام زين العابدين عليه‌السلام بمواقفه اعتقاد الجهاز الحاكم فيه أنه « خيرّ لا شرّ فيه » (١) وأنه « مشغول بنفسه » (٢).

ذلك الاعتقاد الذي افاد الإمام عليه‌السلام نوعا من الحرّية في العمل في مستقبل تخطيطه ضدّ الحكم الأموي الغاشم ، وعزّز موقعه الأجتماعي حتى تمكّن من اتخاذ المواقف الحاسمة من الظالمين وأعوانهم.

كما رسمت في سيرته الشريفة صور من صبره على المصائب والبلايا ، ممّا يدل على صلابته تجاه حوادث الدنيا ومكارهها ، وهي أمثلة رائعة للمقاومة والجلد.

فعن إبراهيم بن سعد ، قال : سمع علي بن الحسين واعية في بيته ، وعنده جماعة ، فنهض الى منزله ، ثم رجع الى مجلسه ، فقيل له : أمن حدث كانت الواعية؟

قال : نعم.

فعزّوه ، وتعجّبوا من صبره.

فقال : إنّا أهل بيت نطيع الله في ما نحبّ ، ونحمده في ما نكره (٣).

ونتمكن من استخلاص الهدف الأساسي من كلّ هذه الإثارات لقضيّة كربلاء وشهدائها خصوصا ذكر أبيه الإمام الشهيد عليه‌السلام من خلال الحديث التالي :

قال عليه‌السلام لشيعته : عليكم بأداء الأمانة ، فوالذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا ، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به ، لأديته إليه (٤).

ففي الوقت الذي يشير فيه الى مأساة قتل الحسين عليه‌السلام ، ويذكّر بقتله ، ليحيي معالمها في الأذهان ، فهو يؤكّد بأغلظ الأيمان على أنّ أمرا « مثل أداء الأمانة » يوجبه الإسلام ، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصية.

وهو يُوحي بأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام إنما قتل من أجل تطبيق كلّ المبادىء التي

__________________

(١) قاله مسرف بن عقبة لما استباح المدينة ، انظر في ما مضي من كتابنا هذا ( ص ٧١ ).

(٢) قاله الزهري لعبد الملك ، انظر ( ص ٢١٢ ) في ما يأتي.

(٣) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( ١ : ٢٤٠ ).

(٤) أمالي الصدوق ( ص ١٢٨ ) المجلس (٤٣).

١٨٦

جاء بها الإسلام ، والتي بعث بها جدّه النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن الإمام زين العابدين يريد الاستمرار على تلك المبادىء والخطط التي أنار الحسين الشهيد عليه‌السلام معالمها بوقود من دمه الطاهر.

وهو في الوقت ذاته ، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادّية ولو كانت الدنيا كلها :

ففي الخبر أنّه عليه‌السلام نظر الى سائل يبكي!

فقال عليه‌السلام : لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي (١).

__________________

(١) كشف الغمة ( ٢ : ١٠٦ ) عن كتاب نثر الدرر للآبي.

١٨٧

ثالثا : التزام الدعاء

ومن أبرز المظاهر الفذّة في سيرة الإمام زين العابدين عليه‌السلام الادعية المأثورة عنه ، فقد تميّز ما نقل عنه بالكثرة ، والنفس الطويل ، والشهرة والتداول ، لما تحتويه من أساليب جذّابة ومستهوية للقلوب ، تتجاوب معها الأرواح والنفوس ، وما تضمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار.

وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى ، بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية ، كانت بحاجة الى البت فيها بنصّ قاطع ، بعد أن عصفت بالعقيدة ، تيّارات الإلحاد ، كالتشبيه والجبر والإرجاء ، وغيرها مما كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها ، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل ، تمهيدا للردّة عن الإسلام ، والرجوع الى الجاهلية الاولى.

وفي حالة القمع والإبادة ، ومطاردة كل المناضلين الأحرار ، وتتبّع آثارهم وخنق أصواتهم ، كان قرار الإمام زين العابدين عليه‌السلام باتّباع سياسة الدعاء ، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها ، وأءمن طريقة ، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة ، وأقوى أداة اتصال سريّة مكتومة ، هادئة ، موثوقة.

كما كانت لنصوص الأدعية أصداء قويّة في ميادين الأدب ، الذي له وقع كبير في نفوس الشعوب ، وخاصة الشعب العربي ، وله تركيز كثير في قرارات أذهان الناس وذاكرتهم.

ولقد استخدم الأئمة عليهم‌السلام تأثير الأدب في الناس ، فكانوا يهتمّون بذلك ، سواء في تطعيم ما يصدرونه ، بألوان زاهية من الأدب العربي الراقي ، نثرا وشعرا ، كما كانوا يبعثون الشعراء على نظم القضايا الفكرية ، والحقّة ، في أشعارهم ، ويروّجونها بين الناس.

ولقد استثار الأئمة عليهم‌السلام ـ على طول خط الإمامة ـ شعراء فطاحل من المتشيّعين ، للنظم في قضايا عقيدية تؤدي الى تثبيت الحق والدعوة الى الإسلام من خلال مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، حتى اشتهر عنهم الحديث « من قال فينا بيتا من

١٨٨

الشعر ، بنى الله له بيتا في الجنّة ».

ولقد كان لهذا التوجيه أثر آخر ، وهو أنتشال الأدب ـ وخاصة الشعر ـ من مهاوي الرذيلة والمجون والاستهتار الذي سقط فيه الأدباء وخاصة الشعراء في تلك العصور المظلمة ، التي كادت تؤدّي الى ضياع جهود جباّرة من ذوق الشعراء وفنّهم في متاهات الأغراض الفاسدة ، وكذلك جهود الأمة في سماع ذلك الأدب الماجن ، ونقله وضبطه وتداوله!

وقد أثّرت جهود الأئمة عليهم‌السلام بتعديل ذلك المجرى ، للسير في السبل الآمنة ، والأغراض الشرعية ، والتزام الأدب الهادف المؤدّي الى رفع المستوى الخلقّي والفكريّ والثقافي.

ولقد أثرى الإمام زين العابدين عليه‌السلام الأدب العربي : بمادّة غزيرة من النصوص الموثوقة ، بشكل الأدعية التي تعدّ من أروع أمثلة الأدب العربي في النثر (١).

وامتازت بين مجموع ما روي عن الإمام زين العابدين من الأدعية ، تلك التي ضمّنها « الصحيفة السجادية » التي تتلألأ بين أدعيته ، لأنها من تأليف الإمام نفسه ، وإملائه ، فلذلك فتح العلماء لها مجالا خاصا في التراث الإسلامي ، وأغدق عليها المبدعون بأجمل من عندهم من مهارات في الخطّ والزخرفة ، وأولاها الداعون عناية فائقة في الالتزام والأداء ، والعلماء في الشرح والرواية ، فلنتحدث عنها في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل.

__________________

(١) لاحظ مقال : من أدب الدعاء في الإسلام ، مجلة تراثنا ، العدد (١٤) السنة الرابعة (١٤٠٩) (ص ٣٠).

١٨٩

وأخيرا : من الصحيفة السجّادية هدفا ومضمونا

أوّلا : مع الصحيفة هدفا

إنّ التشيّع ، وفي عصر الإمام زين العابدين عليه‌السلام خاصة ـ كان يواجه صعوبات بالغة الشدّة ، حيث كان الظلم مستوليا على كل المرافق والمقدّرات ، ولم يكن بالإمكان القيام بأية مقاومة إيجابية ، أو محاولة.

فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين عليه‌السلام في صدّ التعدّي الغاشم ، كان قد قضي عليها ، وعلى جميع عناصرها بشكل دموي ، وبقي منهم « غلام » فقط. وهو « الإمام زين العابدين عليه‌السلام ».

وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاه خطر ، خطورة الإجهاز على أساس النهضة ، وإخماد روح الوثبة الإسلامية ، بل القضاء على كل تفكير من هذا القبيل ، وتناسيه الى الابد.

وأبرز نموذج لهذه المشكلة ، أنّ الإمامة ـ وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة ـ أصبحت على شرف التناسي عن الأذهان ، لأن نظام الحكم الأموي استولى على كل أجهزة الإعلام من المنبر ، والمحراب ، والمسجد ، واشترى ذمم كل ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووالي ، وأصبحت كل الإمكانات في قبضة « الخلافة! » وفي خدمة « الخليفة »!

أما الإمام زين العابدين ، فقد بقي وحيدا في مواجهة المشكلات ، مع أن الإرهاب والذعر كان يتحكم في الرقاب ، ويستولي على النفوس.

في مثل هذه الظروف أصبح « الدعاء » ملجأ للإمام وللإمامة ، لا ، بل موقعا اتّخذه الإمام زين العابدين عليه‌السلام للصمود والهجوم :

صمود ماذا؟

ـ صمود ذلك الفكر ، وذلك الهتاف ، وذلك الإيمان ، الذي جنّدت الدولة الأموية كل الإمكانات في العالم الإسلامي ضدّه.

والهجوم على من؟

١٩٠

ـ للهجوم على سلطة تمكنّت من كل قواعد القدرة ، وسلبت من الأمة كل إمكانات المقاومة!

فكان الدعاء هو سلاح النضال.

ومعنى ذلك : أنّه إذا طوّقت مقاومة ، أو فكرة ، أو نضال ، وأدّت بها الظروف الى مثل ما حصل في « كربلاء » إذ تعرض كلّ رجالها للإبادة الدامية ، ولم يبق سوى رجل « واحد » ووقع كلّ النساء والصغار في الأسر ، وتحت القيود ، وإذا لم تبق أيّة إمكانية للعمل المسلّح ، والدفاع عن الحق بالقوة ، فإنّ هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤولية.

إنه مسؤول أن يدرّب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة ، وتحريك الأحاسيس ، والدفاع عن ذلك الحق ، ولو بلسان الدعاء ، وجعل الرسالة مستمرّة ولو بالأمل والرجاء ، ونقلها كذلك الى الاجيال.

إنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت الى حدّ الشهادة ، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء.

وفقد إمكانات العمل الاجتماعي الحرّ ، كما قام به ابنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق عليهما‌السلام.

لكنه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلاء النظام الحاكم ، والقابلة للتغلغل في أوساط المجتمع الفاسد ، والسارية مع كلّ نسيم ، والممكنة في كلّ الظروف ، والتي اسمها « الدعاء ».

وإن قيل : إن هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد؟

قلنا : نعم ، لكن الدعاء أمر ضروري حتى لو كان الإنسان في غير هذه الحال ، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة ، بأشكال أخر ، أقوى وأقدر ، فإن من المستحيل استغناؤه عن الدعاء ، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال ، ولو كان أضعف ، فلابّد له أن يكون قادرا على عملية الدعاء ، وأن يضمر في نفسه الارتباط بربّه ، وأن يعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء ، ويعبّر عن آماله وآلامه ، ومكنون نفسه ، وأن يُبرز هتافاته ، وأن يطالب برغباته المهضومة ، والمغصوبة.

١٩١

على أن من الضروري لكل مناضل أن يركّز معتقداته ، ويحدد مواقعه الفكرية ويحصّن أصول دينه ، حتى يكون على بصيرة من أمره ، فيوحي الى ذاته بالحق ، ويوصي نفسه بالصبر عليه ، بالدعاء.

وليس في المقدور لأية سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة ، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة.

وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سرّ خلود الإنسان ، عندما يكون مهدّدا بالإبادة.

والنطق بالدعاء. وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤليات ، في أحلك الظروف وأحرجها ، وبثّ روح النضال والمقاومة ، وتوثيق الرابطة الفكرية ، وتأكيد التعهّدات الاجتماعية ، وتثبيت العواطف الصالحة ، حبّا بالتولي والإعلان عنه ، وبغضا بالتبري وإبدائه ، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمة ، وتهيئة الأجواء ـ روحيا وفكريا وجسميّا ـ للإعداد للمسؤوليات الكبرى ، كلّ ذلك في ظروف جنّدت فيه القوى المضادّة ، للقضاء على الأهداف كلّها.

إن الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطط للعمل ، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل ، حتى الموت الشريف ، بعزّة وكرامة ، حيث لا طرق الى أختيار الشهادة كسلاح أخير ، لأن الشهادة ـ أيضا ـ تحتاج الى أرضيّة وظروف مؤاتية ، ومعركة ، كي يتسنّى للشهيد أن يفجّر بدمه الوضع ، ويكسر الصمت ، وإلاّ فهو الموت الصامت غير المؤثر ، المهمل الذي لا يستفيد منه إلاّ العدوّ.

والإمام زين العابدين عليه‌السلام أصبح قدوت للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته ، ووجوده ، ومصيره ، وسكوته ، ونطقه ، وخلقه ، ورسم بذلك منهاجا للعمل في مثل هذه الأزمات.

إنّه رسم الإجابة عن كلّ الاسئلة التي تطرح :

عن العمل ضدّ امبراطورية ضارية ، مستحوذة على كل المرافق والقدرات؟!

وعن الصمت الثقيل القاتل ، المطبق ، الذي يستحيل فيه التفوّه بكلمة الحقّ ، كيف يمكن أن يُكْسَرَ؟

وعن اسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف؟

١٩٢

إن الصحيف السجادية هي :

كتاب الجهاد عند الوحدة!

وكتاب التعبير عند الصمت!

وكتاب التعبئة عند النكسة!

وكتاب الهتاف عند الوجوم!

وكتاب التعليم بالشفاه المختومة!

وكتاب التسلّح عند نزع كلّ سلاح!

وهو قبل هذا وبعده ، كتاب « الدعاء ».

إن الدعاء ـ كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل ـ : « تجلّ للعشق والفاقة » وقد أضاف الإسلام الى هذين : « التوعية ».

وفي مدرسة الإمام زين العابدين عليه‌السلام يأخذ الدعاء بعدا رائعا هو تأثيره الأجتماعي الخاص.

وبكلمة جامعة : إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين ـ في الوقت الذي يعدّ كنزا لأعمق التوجّهات ، وأحرّ الأشواق ، وأرفع الطلبات ـ منهاج يتعلمّ فيه المؤمن تخطيطا متكاملا للوجود والتفكير والعمل ، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي.

ثانيا : مع الصحيفة السجّادية مضمونا :

إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلميّ والديني عقيديا وحضاريا وأثره الاجتماعي يحتاج الى تفرّغ وتخصص ، والى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل ، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارىء على مقاطع رائعة تدلّ على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة.

وأذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين عليه‌السلام وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم ، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشرات التصرّفات التي قام بها أولئك الحكام ، اتضح له أن الإمام قد قام من خلالها بتحدّ صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفت كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه.

١٩٣

وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخّار لاقتناص درره فإنا نقتصر على إيراد مقطعين من أدعية الصحيفة ، يمثّلان صورة عمّا جاء فيها ، ممّا تبرز فيه معالم التصدّي السياسي الذي التزمه الإمام عليه‌السلام بمنطق الدعاء.

المقطع الأول : دعاؤه لأهل الثغور :

إن الإمام ، لكونه الراعي الإلهي ، المسؤول عن رعيته وهي الأمة ، يكون الحفاظ على وجود الإسلام ، من أهمّ واجباته التي يلتزمها ، فلا بد من رعاية شعائره ، وأستمرار مظاهره ، ومتابعة مصالحه العامة ، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصّة بالأفراد ، أو الأعمال الجزئية الفرعية ، فالحفاظ على سمعة الإسلام وحدوده ، أهمّ من الالتزام بفروع الدين وواجباته ومحرّماته ، إذا دار الأمر بينه وبينها.

ففي سبيل ذلك الهدف العام السامي ، لابدّ من تجاوز الاهتمامات الصغيرة ، والمحدودة ، بالرغم من كونها في أنفسها ضرورات ، لابدّ من القيام بها في الظروف العاديّة ، لكنها لا تعرقل طريق الأهداف العامة الكبرى.

فالاسلام : كدين ، ليس قائما بالأشخاص ، ولا يتأثر بتصرفاتهم الخاصّة ، في مقابل ما يهدّده من الأخطار الكبيرة ، فكرية أو اجتماعية أوعسكرية ، فإذا واجه الإسلام خطر يهدّد التوحيد الممثل بكلمة « لا إله إلا الله » أو الرسالة المتجليّة في « محمد رسول الله » فإن الإمام يتجاوز كل الاعتبارات ويهب للدفاع عن هذين الركنين الأهمّ ، وحتى كان على حساب وجود الإمام نفسه ، أو عنوان إمامته ، فضلا عن مصالحه الخاصة ، وشؤونه وصلاحياته.

ومن هذا المنطلق ، يمكن تحديد المواقف الهامّة للأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام :

فسكوت الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عن مطالبته بحقّه ، ولجوء الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام الى توقيع كتاب الصلح مع معاوية ، وتضحية الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام بنفسه في كربلاء.

كل ذلك نحدّده على أساس متّحد ، وهو رعاية المصلحة الاسلامية العامة ، والحفاظ على كيان الإسلام لئلا يمسّه سوء.

وبهذا ـ أيضا ـ نميز وقوف الإمام زين العابدين عليه‌السلام للدعاء لأهل الثغور.

ومن هم أهل الثغور في عصره؟

١٩٤

ليس للدعاء تاريخ محدد ، حتى نعرف الفترة التي انشئ فيها الدعاء بعينها ، إلا أنها لا تخرج من مجمل الفترة التي عايشها الامام زين العابدين عليه‌السلام من سنة (٦١) إلى سنة (٩٤) ولم تخرج عن حكم واحد من الخلفاء الأمويين.

وحتّى لو فرضنا إنشاءه في فتره حكم « معاوية بن يزيد بن معاوية » الذي عرف بولائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، على قصرها ، فلا ريب أنّ نظام الحكم وأجهزة الدولة كافَّة ، وعناصر الإدارة ورموز السلطة لم تتغير , وخاصة أهل الثغور الذين هم حرس الحدود , لم يطرأ عليهم التغيير المبدئي , في تلك الفترة القصيرة بتبدّل الخليفة.

ومن المعلوم : أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية ، وهي أبعد النقاط عن أماكن الرفاه والراحة ، ليسوا إلا من سواد الناس ، ويمكن أن يكون اختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلا على ابتعادهم عن التورطات التي انغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد.

ومع ذلك ، يبقى التساؤل : عن دعاء الإمام عليه‌السلام بتلك القوة ، وذلك الشمول ، وبهذه اللهجة ، وهذا الحنان ، لحرس الحدود ، وهم جزء من جيش الحكومة الفاسدة ، ووحدة من وحدات كيان الدولة الظالمة؟

إن الحقيقة التي عرضناها سابقا ، هي الجواب عن هذا التساؤل ، لأن مصلحة الإسلام ، ككل ، مقدمة على كل ما سواه من امور الاسلام سواء فروع الدين ، أو عناوين الأشخاص ، أو مصالح الآخرين حتى الجماعات المعينة.

ثم إن هذا الدعاء بنفسه دليل مقنع على ان الإمام زين العابدين عليه‌السلام لم يكن ـ كما شاء أن يصوره الكتّاب الجدد ـ متخليا عن مركزه القيادي والسياسي ، كإمام يرعى مصلحة الاسلام ، والأمة الإسلامية.

فمن خلال أوسع جبهاتها ، وهي الحدود الاسلامية ، المهددة دائما ، بلا شك ، من قبل الدول المجاورة الحاقدة على الإسلام الذي قهرها ، واستولى على مساحات من أراضيها ، فرض الإمام عليه‌السلام رعايته واهتمامه ، وبشكل الدعاء الذي لا يثير الحكام.

وحرس الحدود أنفسهم ، مهما كانت هوياتهم ، لايعدون أنصار للحكومة ، بقدر ما هم محافظون على الأرض الاسلامية ، وكرامة الإسلام ، فإنهم مدافعون عن ثغوره ، ومراقبون لحماية خطوط المواجهة الأمامية : وهو أمر واجب على كل مسلم ان يبذل

١٩٥

جهداً في إسناده ودعمه وتسديد القائمين به ، بكل شكل ممكن.

وهذا هو الذي استهدفه الإمام زين العابدين عليه‌السلام في دعائه لأهل الثغور ، فهو ينبه الناس إلى خطورة هذا الواجب ويهيج الأحاسيس تجاه الثغور وحمايتها.

ومهما كان الحكام في الداخل ، يعيثون فساداً ، فإنهم لا محالة زائلون ، ومهما جدوا في التقتيل والظلم والاجرام ، والتخريب فإنهم لن يتمكنوا من القضاء على كل معالم هذا الدين ، الذي يعد المسلمون الحفاظ عليه من واجباتهم.

والإمام عليه‌السلام وإن كان معارضاً للنظام الأموي ، ويجد في فضحه وتزييف عمله والكشف عن سوء إدارته ، ويحكم على القائمين به بالخروج عن الحق والعدل ، وهو لا يزال ينظر إلى مصارع شهداء كربلاء بعيون تملؤها العبرة ، لكنه يدعو بصوت تخنقه العبرة كذلك لأهل الثغور الإسلامية ، وباللهجة القوية القاطعة لكل عذر.

وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين ، يدعو لأستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الاسلام.

فلنقرأ معاً هذا الدعاء العظيم :

اللهمّ :

صلّ على محمّد وآله ، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك ، وأيد حماتها بقوّتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك.

اللهم :

صلّ على محمَد وآله ، وكثر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألف جمعهم ، ودبر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر.

اللهم :

صلّ على محمَد وآله ، وعرَفهم مايجهلون ، وعلمهم ما لايعلمون ، وبصَرهم ما لايبصرون.

اللهم :

صلّ على محمَد وآله ، وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنَة نصب أعينهم ، ولوَح منها لأبصارهم ما أعددت

١٩٦

فيها من مساكن الخلد ، ومنازل الكرامة ، والحور الحسان ، والأنهار المطردة بأنواع الأشربة ، والأشجار المتدلية بصنوف الثمر ، حتَى لا يهمَ أحد منهم بالإدبار ، ولا يحدَث نفسه عن قرنه بفرار.

اللهمَ :

افلل بذلك عدوَهم ، واقلم عنهم أظفارهم ، وفرَق بينهم وبين أسلحتهم ، واخلع وثائق أفئدتهم ، وباعد بينهم وبين أزودتهم ، وحيرهم في سبلهم ، وضلَلهم عن وجههم ، واقطع عنهم المدد ، وانقص منهم العدد ، واملأ أفئدتهم الرعب ، واقبض أيديهم عن البسط ، واخزم ألسنتهم عن النطق ، وشرَد بهم من خلفهم ، ونكَل بهم من ورائهم ، واقطع بخزيهم أطماع من بعدهم.

اللهمَ :

عقَم أرحام نسائهم ، ويبس أصلاب رجالهم ، واقطع نسل دوابهم وأنعامهم ، لا تأذن لسمائهم في قطر ، ولا لأرضهم في نبات.

اللهمَ :

وفق بذلك محالَ أهل الإسلام ، وحصن به ديارهم ، وثمَر به أموالهم ، وفرغَهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتَى لايعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفَر لأحد منهم جبهة دونك.

اللهمَ :

اغز بكل ناحية من المسلمين على من بإزائهم من المشركين ، وأمددهم بملائكة من عندك مردفين ، حتى يكشفوهم إلى منقطع التراب قتلا في أرضك وأسرا ، أو يقرَوا بأنك أنت الله الذي لا إله إلاَ أنت ، وحدك لا شريك لك.

اللهمَ :

واعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد ، من الهند ، والروم ، والترك ، والخزر ، والحبش ، والنوبة ، والزنج ، والسقالبة ، والديالمة ، وسائر أمم الشرك الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم ، وقد أحصيتهم ، بمعرفتك ، وأشرفت عليهم بقدرتك.

اللهمَ :

أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ، وخذهم بالنقص عن

١٩٧

تنقيصهم ، وثبَطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم.

اللهم :

أخل قلوبهم من الأمنة ، وأبدانهم من القوة ، وأذهل قلوبهم عن الاحتيال ، وأوهن أركانهم عن منازلة الرجال ، وجنبهم عن مقارعة الأبطال ، وابعث عليهم جندا من ملائكتك ببأس من بأسك ، كفعلك يوم بدر ، تقطع به دابرهم ، وتحصد به شوكتهم ، وتفرق به عددهم.

اللهمَ :

وامزج مياههم بالوباء ، وأطعمتهم بالأدواء ، وارم بلادهم بالخسوف ، وألحَ عليها بالقذف ، وأفرعها بالمحول ، واجعل ميرهم في أحصَ أرضك ، وأبعدها عنهم ، وامنع حصونها منهم ، أصبهم بالجوع المقيم والسقيم الأليم.

اللهمَ :

وأيما غاز غزاهم من أهل ملَتك ، أو مجاهد جاهدهم من أتباع سنتك ، ليكون دينك الأعلى ، وحزبك الأقوى ، وحظّك الأوفى ، فلقّه اليسر ، وهيئ له الأمر ، وتولّه بالنجح ، وتخيّر له الأصحاب ، واستقو له الظهر ، وأسبغ عليه في النفقة ، ومتعه بالنشاط ، وأطفئ عنه حرارة الشوق ، وأجره من غم الوحشة ، وأنسه ذكر الأهل والولد ، وأثر له حسن النية ، وتولّه بالعافية ، وأصحبه السلامة ، وأعفه من الجبن ، وألهمه الجرأة ، وارزقه الشدّة ، وأيده بالنصرة ، وعلمه السير والسنن ، وسدده في الحكم ، واعزل عنه الرياء ، وخلصه من السمعة ، واجعل فكره وذكره وظعنه وإقامته فيك ولك ، فإذا صافّ عدوك وعدوه فقللهم في عينه ، وصغر شأنهم في قلبه ، وأدل له منهم ، ولا تدلهم منه.

فإن ختمت له بالسعادة ، وقضيت له بالشهادة ، فبعد أن يجتاح عدوك بالقتل ، وبعد أن يجهد بهم الأسر ، وبعد أن تأمن أطراف المسلمين ، وبعد أن يولي عدوك مدبرين.

اللهمّ :

وأيما مسلم خلف غازيا ، أو مرابطا ، في داره ، أو تعهد خالفيه في غيبته ، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمده بعتاد ، أو شحذه على جهاد ، أو أتبعه في وجهه دعوة ، أو رعى له من ورائه حرمة ، فأجر له مثل أجره ، وزنا بوزن ، ومثلا بمثل ، وعوّضه من فعله عوضا حاضراً يتعجل به نفع ما قدم ، وسرور ما أتى به ، إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من

١٩٨

فضلك ، وأعددت له من كرامتك.

اللهمّ :

وأيما مسلم أهمه أمر الإسلام ، وأحزنه تحزّب أهل الشرك عليهم ، فنوى غزوة ، أو همّ بجهاد ، فقعد به ضعف ، أو أبطأت به فاقة ، أو أخّره عنه حادث ، أو عرض له دون إرادته مانع ، فاكتب اسمه في العابدين ، وأوجب له ثواب المجاهدين ، واجعله في نظام الشهداء والصالحين.

اللهمّ :

صل على محمّد عبدك ورسولك ، وآل محمّد ، صلاة عالية على الصلوات ، مشرفة فوق التحيات ، صلاة لا ينتهي أمدها ، ولا ينقطع عددها ، كأتم ما مضى من صلواتك على أحد من أوليائك.

إنك المنان ، الحميد ، المبديء ، المعيد ، الفعال لما تريد (١).

هذا على مستوى كيان عسكري مرتبط بالدولة ، وأمّا على مستوى الشعب فلنقرأ معا :

المقطع الثاني : دعاء الاستسقاء بعد الجدب :

حيث تتجلى فيه رعاية الإمام عليه‌السلام لحالة الأمة ، ومراقبته لأحوالها ، وبخصوص اقتصادها الذي هو عصب حياتها ، فإذا رآه يتعرّض للأنهيار على أثر الجفاف ، ينبري عليه‌السلام لإنجاده بطريقته الخاصّة ، التي لا تثير أحقاد الحكام ضدّه ، ولا تمكّنهم من أخذ نقاط سياسيّة عليه ، ومع ذلك فهو يجلب أنظار الشعب المسلم المقهور ، المغلوب على أمره ، الى أنّ هناك من يعطف عليه الى هذا الحد ، ومن يراقب أوضاعه ، ويهتّم بشؤونه ومشاكله.

والإمام زين العابدين عليه‌السلام بهذا الشكل ، يفرض نفسه على الساحة السياسيّة ، وهو تدخل صريح في شؤون الأمة ، وظهور واضح على أرض العمل ، فإن الملجأ في مثل هذه المشاكل هم كبار القوم ، ومن لهم قدسيّة ، وفضل ، وتقدّم على الآخرين ، ولا

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، الدعاء السابع والعشرون.

١٩٩

تشخص الأبصار في مثل ذلك إلاّ الى الخليفة! أن كانت له قابليّة ما يدّعي من مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتسنّم أريكة الحكم!

والإمام زين العابدين عليه‌السلام بهذا الدعاء ، يثبت أنّه الأحقّ بالتصدي لذلك المقام ، وأنّه الملجأ الذي لابدّ أن يوسّط بين الأرض والسماء.

هذا كله ، مع أنّ الامة لم تقف الى جانب الإمام عليه‌السلام ، ولم تراع حرمته في النسب ، ولاحقّه في الإمامة ، بل خذلته ، حتى راح يقول : « ما بمكّة والمدينة عشرون رجلا يحبّنا ».

وليس المراد بذلك الحبّ مجرّد العواطف والدموع والمجاملات ، فهؤلاء أهل الكوفة كانوا من أحذق الناس في ذرف دموع التماسيح على أهل البيت عليهم‌السلام بعنوان « الحب » حتى كان الإمام عليه‌السلام يستغيث من حبّهم له ، ذلك الحب المعلن ، المبطّن بالنفاق ، والذي انقلب على أبيه الإمام الحسين عليه‌السلام سيفا أودى به!

فليس الحبّ المطلوب لآل الرسول ، والذي دلّت على لزومه آية المودّة في القربى وأحاديث الرسول المصطفى ، هو الفارغ عن كلّ حق لهم في الحكم والإدارة ، أو الفقه والتشريع وعن كلّ معاني الولاء العمليّ ، والاقتداء والاتّباع وإن ادّعاه المحرّفون ، أو حرفوه الى مثل ذلك ، مكتفين لأهل البيت باسم « الحب » (١).

لكن قضيّة الأمة الإسلامية ، واقتصاد البلاد الإسلامية ، من القضايا المصيرية الكبرى ، التي لا توازيها الأضرار الصغيرة ولا الأخطاء الخاصّة ، بل لابدّ من تجاوز كل الاعتبارات في سبيل إحياء تلك القضايا الكبار.

وبعد ، فلنعش في رحاب دعاء الاستسقاء :

اللهم :

أسقنا الغيث ، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق ، من السحاب المنساق لنبات أرضك ، المونق في جميع الآفاق ، وامنن على عبادك بإيناع الثمرة ، وأحيِ بلادك ببلوغ الزهرة ، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة بسقي منك نافع ، دائم غزره ، واسع درره ، وابل ، سريع ، عاجل ،

__________________

(١) لقد تحدّثنا عن هذا التحريف لمؤدّى الحب لأهل البيت عليهم‌السلام والذي تعمّده الأعداء ظلما ، والتزمه العامة جهلا ، في كتابنا الحسين عليه‌السلام سماته وسيرته ، الفقرة (١٣).

٢٠٠