جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

يابن آدم! إن أجلك أسرع شيء إليك قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكأن قد أوفيت أجلك ، وقبض الملك روحك وصرت الى قبرك وحيدا ، فردّ إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكان : ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.

ألا ، وإن أوّل ما يسألانك : عن ربك الذي كنت تعبده؟ وعن نبيك الذي اُرسل إليك؟ وعن دينك الذي كنت تدين به؟ وعن كتابك الذي كنت تتلوه؟ وعن إمامك الذي كنت تتولاّه؟

ثمّ ، عن عمرك في ما كنت أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته؟ وفي ما أنت أنفقته؟

فخذ حذرك ، وانظر لنفسك ، وأعدّ الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار.

فإن تك مؤمنا عارفا بدينك ، متّبعا للصادقين ، مواليا لأولياء الله ، لقّاك الله حجّتك وانطلق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب ، وبشّرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان.

وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجّتك وعييت عن الجواب ، وبشّرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم.

واعلم يابن آدم : أن من وراء هذا أعظم ، وأفضع ، وأوجع للقلوب يوم القيامة ، وذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ، يجمع الله عز وجل فيه الأولين والآخرين.

ذلك يوم ينفخ في الصور ، وتبعثر فيه القبور.

وذلك يوم الأزفة ، إذ القلوب لدى الحناجر ، كاظمين.

وذلك يوم لا تقال فيه عثرة ، ولا يؤخذ من أحد فدية ، ولا تقبل عن أحد معذرة ، ولا لأحد فيه مستقبل توبة ، ليس إلاّ الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات.

فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.

فأحذروا ، أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها ، وحذّركموها في كتابه الصادق ، والبيان الناطق.

ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده ، عندما يدعوكم الشيطان اللّعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا ، فإن الله عز وجل يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ

١٦١

طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) [ الأعراف «٧» الآية : ٢٠١ ].

وأشعروا قلوبكم خوف الله ، وتذكّروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه ، كما قد خوّفكم من شديد العقاب ، فإنه من خاف شيئا حذره ، ومن حذر شيئا تركه.

ولا تكونوا من الغافلين ، المائلين الى زهرة الدنيا ، الذين مكروا السيئات ، فإن الله يقول في محكم كتابه : ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) [ النحل (١٦) الآيات ٤٥ ـ ٤٧ ].

فاحذروا ما حذّركم الله ، بما فعل بالظلمة ، في كتابه ، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظاملين في الكتاب.

والله ، لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم ، فإن السعيد من وُعِظَ بغيره.

ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظامين من أهل القرى قبلكم ، حيث يقول : ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ) وإنّما عنى بالقرية أهلها ، حيث يقول : ( وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) فقال عز وجل : ( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ) يعني يهربون ، قال : ( لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) فلما أتاهم العذاب ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) [ الانبياء «٢١» الآيات « ١١ ـ ١٥» ].

وايمّ الله ، إن هذه عظة لكم وتخويف ، إن اتّعظتم وخفتم.

ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال الله عز وجل : ( وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) [ الأنبياء «٢١» الآية «٤٦» ].

فإن قلتم ـ أيها الناس ـ : إن الله عز وجل إنّما عنى بهذا أهل الشرك؟

فكيف ذاك؟ وهو يقول : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) [ الأنبياء «٢١» الآية «٤٧» ]؟!

إعملوا ـ عباد الله ـ إن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين ،

١٦٢

وإنما يحشرون الى جهنم زمرا ، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام.

فاتقوا الله عباد الله.

وأعلموا أن الله عز وجل لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها : أيّهم أحسن عملا لآخرته؟.

وإيمُ الله ، لقد ضرب لكم فيه الأمثال ، وعرّف الآيات لقوم يعقلون ، ولا قوّة إلاّ بالله.

فازهدوا في ما زهّدكم الله عزوجل فيه من عاجل الحياة الدنيا.

فإن الله عزوجل يقول ـ وقوله الحق ـ : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [ يونس «١٠» الآية «٢٤» ].

فكونوا عباد الله ـ من القوم الذين يتفكّرون ، ولا تركنوا الى الدنيا فإن الله عزوجل قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) [ هود «١١» الآية «١١٣» ].

ولا تركنوا الى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتّخذها دار قرار ومنزل استيطان ، فإنها دار بُلغة ، ومنزل قلعة ، ودار عمل ، فتزوّدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرّق أيامها ، وقبل الإذن من الله في خرابها ، فكان قد أخربها الذي عمرّها أول مرة وابتدأها وهو وليّ ميراثها فأسأل الله العون لنا ولكم على تزوّد التقوى ، والزهد فيها.

جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا ، الراغبين لآجل ثواب الآخرة ، فإنما نحن به وله.

وصلّى الله على محمد وآله وسلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (١).

__________________

(١) الكافي ، للكليني ( ٨ : ٧٢ ـ ٧٦ ) وتحف العقول ( ص ٢٤٩ ـ ٢٥٢ ) وأمالي الصدوق ( المجلس (٧٦) ص ( ٤٠٧ ـ ٤٠٩ ).

١٦٣

وكان عليه‌السلام يعظ أصحابه (١) ويعظ الخليفة وأعوانه (٢).

ويجسّد في نفسه كل المواعظ والنصائح ، حتى يكون اُمثولة للسامعين والمشاهدين.

وقد نقلت آثار في هذا الباب عنه عليه‌السلام ، نذكر منها :

١ ـ كان علي بن الحسين عليه‌السلام إذا مشى لا يجاوز يديه فخذيه ، ولا يخطر بيده (٣).

٢ ـ وكان إذا قام الى الصلاة أخذته رعدة ، فقيل له : ما لك؟

فقال : ما تدرون بين يدي من أقوم؟ ومن أناجي؟ (٤).

٣ ـ وقيل : إنه كان إذا توضّأ أصفرّ لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟

فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ (٥).

٤ ـ قال سفيان بن عيينة : حجّ علي بن الحسين عليه‌السلام فلمّا أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه ، وانتفض ... ولم يستطع أن يلبي ، فقيل له : ما لك؟

فقال : أخشى أن أقول : « لبّيك » فيقول لي : « لا لبيك » ).

٥ ـ وقال مالك بن أنس : أحرم علي بن الحسين عليه‌السلام ، فلمّا أراد أن يقول : « لبّيك اللّهمّ لبيّك » قالها فأغميَ عليه ، حتى سقط من راحلته (٧).

__________________

(١) كما رأينا صحيفته في الزهد الى أصحابه ( راجع ص ١٢٣ ـ ١٢٥ ) من الفصل الثالث.

(٢) سيأتي ذكر مواعظ لهم في الفصل الخامس ( ص ٢٢١ ـ ٢٣٠ ).

(٣) تاريخ دمشق الأحاديث ( ٦ ـ ٦٣ ) مختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٣٦ ) وانظر سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ).

(٤) تاريخ دمشق الأحاديث ( ٦ ـ ٦٣ ) مختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٣٦ ) وانظر سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ).

(٥) تاريخ دمشق الأحاديث ( ٦ ـ ٦٣ ) مختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٣٦ ) وانظر سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ) وروي الحديث الثالث في العقد الفريد ( ٣ : ١٦٩ ).

(٦) تاريخ دمشق الأحاديث ( ٦ ـ ٦٣ ) مختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٣٦ ) وانظر سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ).

(٧) تاريخ دمشق ( الحديث ٦٤ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٧ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ).

١٦٤

قال : وبلغني أنه كان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة الى أن مات (١).

٦ ـ وقع حريق في بيت فيه الإمام زين العابدين عليه‌السلام فجعلوا يقولون له : يابن رسول الله! النار! يابن رسول الله! النار!

فما رفع راسه حتى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها؟

قال : ألهتني النار الأخرى! (٢).

٧ ـ قالوا : وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يخرج على راحلته الى مكة ويرجع ، لا يقرعها (٣).

٨ ـ وروى ابن طاوس عن الصادق عليه‌السلام قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام إذا حضر الصلاة اقشعّر جلده ، واصفرّ لونه ، وارتعد كالسعفة (٤).

ولنقرأ معا كلاما له عليه‌السلام في الزهد ، لنقف على معالم رفيعة وآفاق وسيعة مما عند الإمام في هذا المقام :

إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كلّ صاحب لا يريد ما يريدون.

إلا وإن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا ، الآخذ للموت أهبته ، الحاثّ على العمل قبل فناء الاجل ونزول ما لابدّ من لقائه. وتقديم الحذر قبل الحين ، فإنّ الله عزوجل يقول : ( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ (٥) ) فلينزلنّ أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور الى الدنيا ، النّادم على ما فرّط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته.

واعلموا عباد الله : أنّه من خاف البيات تجافى عن الوساد. وامتنع من الرّقاد ،

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٦٤ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٧ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ) وانظر ( ص ١٥٨ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ١٠ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٦ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ١ ـ ٣٩٢ ).

(٣) تاريخ دمشق ( الحديث ١٠٠ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٣ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٨٨ ).

(٤) فلاح السائل ( ص ٩٦ ) عن كتاب ( زهرة المهج وتواريخ الحجج ).

(٥) المؤمنون آية ١٠٠.

١٦٥

وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا ، فكيف ، ويحك يا ابن آدم ، من خوف بيات سلطان رب العزّة وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا باللّيل والنّهار؟ فذلك البيات الّذي ليس منه منجى ، ولا دونه ملتجا ، ولا منه مهرب.

فخافوا الله أيّها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوى ، فإن الله يقول : ( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١) ).

فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها وتذكّروا ضرر عاقبة الميل إليها ، فإن زينتها فتنة وحبّها خطيئة.

واعلم ويحك يابن آدم أن قسوة البطنة وكظة الملأة وسكر الشبع وغرة الملك مما يثبّط ويبطّىء عن العمل وينسي الذّكر ويلهي عن اقتراب الأجل ، حتى كأنّ المبتلى بحبّ الدّنيا به خبل من سكر الشّراب.

وأنّ العاقل عن الله ، الخائف منه ، العامل له ليمرّن نفسه ويعوّدها الجوع حتى ما تشتاق الى الشبع ، وكذلك تضمّر الخيل لسبق الرّهان.

فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمّل ثوابه وخائف عقابه فقد ـ لله أنتم ـ أعذر وأنذر وشوّق وخوّف ، فلا أنتم الى ما شوّقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون ، ولا أنتم مما خوّفكم به من شديد عقابه وأليم عذابه ترهبون فتنكلون.

وقد نبّأكم الله في كتابه أنّه : ( فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٢) ).

ثم ضرب لكم الأمثال في كتابه وصرّف الآيات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا فقال : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) ).

فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، فاتقوا الله واتّعظوا بمواعظ الله ، وما أعلم إلاّ كثيرا منكم قد نهكته عواقب المعاصي فما حذرها وأضرّت بدينه فما مقتها ، أما

__________________

(١) سورة ابراهيم آية ١٤.

(٢) سورة الأنبياء آية ٩٤.

(٣) سورة التغابن آية ١٥.

١٦٦

تسمعون النداء من الله بعيبها وتصغيرها حيث قال : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

) (١).

وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (٢).

فاتّقوا الله عباد الله ، وتفكروا واعملوا لما خلقتم له ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ، قد عرّفكم نفسه وبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ، فيه حلاله وحرامه وحججه وأمثاله.

فاتّقوا الله فقد احتج عليكم ربّكم فقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (٣) فهذه حجّة عليكم فاتّقوا الله ما استطعتم فإنّه لا قوّة إلاّ بالله ولا تكلان إلاّ عليه ، وصلّى الله على محمد [ نبيه ] وآله (٤).

إن الأبعاد الأخرى التي أنتجتها سيرة الإمام زين العابدين عليه‌السلام في الزهد والعبادة ، هي :

١ ـ اعتراف علماء البلاط بفضل أهل البيت عليهم‌السلام.

على الرغم من أن الحكّام يحاولون التغطية على فضائل المعارضين لهم ولا سيما آل اُمية الذين ضربوا الأرقام القياسية في هذه الخصلة الذميمة ، بإعلان السبّ لأهل البيت على المنابر ، وإيعازهم الى وعّاظ السلاطين بوضع الحديث في قدحهم وذمّهم ،

__________________

(١) سورة الحديد آية ٢٠ ـ ٢١.

(٢) سورة الحشر آية ١٨ ـ ١٩.

(٣) سورة البلد آية ٨ ـ ١٠.

(٤) تحف العقول ( ص ٢٧٢ ـ ٢٧٤ ).

١٦٧

فإن علماء البلاط الاموي في عصر الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، لم يمكنهم إخفاء فضل الإمام السجّاد عليه‌السلام فضلا عن الغضّ منه ، لأن سيرته لم تكن تخفى على أحد من الناس ، فقد اضطروا الى إضهار تصريحات واضحة تعلن فضل الإمام عليه‌السلام ، بالرغم من ارتباطهم بالحكم الأموي الجائر ، أو موالاتهم له ، وكذلك من تلاهم من فقهاء العامة ورجالهم :

قال يحيى بن سعيد : سمعت علي بن الحسين ، وكان أفضل هاشمي أدركته (١).

وقال الزهري : ما رأيت قرشيّا ـ أو هاشميا ـ أفضل من علي بن الحسين (٢).

وقال سعيد بن المسيب : ما رأيت أورع منه (٣).

وقال حماد بن زيد : كان علي بن الحسين أفضل هاشمي أدركته (٤).

لقد فرض الإمام زين العابدين عليه‌السلام نفسه على كل المناوئين لأهل البيت عليهم‌السلام حتى لم يشذ أحد منهم عن تعظيمه وتجليله.

٢ ـ إبراز فضل أهل البيت عليهم‌السلام.

ولقد كان الموقع الذي احتلّه الإمام زين العابدين عليه‌السلام بفضله وعبادته وزهده ، بين الأمة ، أحسن فرصة كي يعلن فضل أهل البيت عليهم‌السلام ، الذي جهد الأعداء الظالمون في إخفائه :

ففي الحديث أن جابرا قال له : ما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ ... يابن رسول الله! البقيا على نفسك ، فإنك من اُسرة بهم يستدفع البلاء ، وبهم تستكشف اللأواء ، وبهم تستمسك السماء؟

__________________

(١) طبقات ابن سعد ( ١ : ٢١٤ ) وتاريخ دمشق ( الحديث ٤٧ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٥ ).

(٢) سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٨٧ ) ولاحظ تاريخ دمشق ( الأحاديث ٣٧ و ٤١ و ٥٠ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣١ و ٢٣٥ ).

(٣) سير اعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩١ ) ومختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٣٦ ) وحلية الاولياء ( ٣ : ١٤١ ).

(٤) تهذيب الأسماء واللغات ( ١ : ٣٤٣ ).

١٦٨

فقال الإمام : يا جابر ، لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسيا بهما حتى ألقاهما.

فاقبل جابر على من حضر فقال : ما رؤي في أولاد الانبياء مثل علي بن الحسين ، إلاّ يوسف بن يعقوب ، والله لذريّة علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف (١).

فإن قوله : « منهاج أبويّ ـ يعني : عليا والحسين عليهما‌السلام ـ مؤتسيا بهما » يعني : أن ما يتمتع به الإمام زين العابدين عليه‌السلام هو ما كان يتمتع به أبوه الحسين وجدّه علي عليهما‌السلام ، وأن ما قام به أبواه من الجهاد يقوم به الإمام السجاد ، لأنه مثلهما في الامامة ، ووارثهما في الكرامة.

وفي حديث عن الصادق عليه‌السلام في ذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام وإطرائه ومدحه بما هو أهله ، وزهده في المأكل ، قال : وما أطاق عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمة غيره ، ثم قال : وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليه‌السلام.

قال : ولقد دخل أبو جعفر ـ ابنه ـ عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه ، وقد اصفرّ لونه من السهر ، ورمصت عيناه من البكاء ...

قال أبو جعفر عليه‌السلام : فلم أملك ـ حين رايته بتلك الحال ـ البكاء ، فبكيت رحمة له ، فإذا هو يفكّر ، فالتفت إليّ ـ بعد هنيئة من دخولي ـ فقال : يابني ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فأعطيته ، فقرأ فيها شيئا يسيرا ، ثم تركها من يده تضجّرا ، وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام إذا أخذ كتاب علي عليه‌السلام فنظر فيه قال : من يطيق هذا؟ من يطيق هذا؟ (٣).

وهكذا يعلن الإمام زين العابدين عليه‌السلام ـ وهو في أعلى قمم العبادة والاجتهاد في الطاعة ـ أنه لا يقوى على عبادة جدّه علي عليه‌السلام!

فإلى أيّ سماء ترتفع فضيلة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في العبادة ، بعد هذه الشهادة!؟

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ( ٣ : ٢٨٩ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ : ٧٩ ) ولاحظ : أمالي الطوسي ( ٢ : ٢٥٠ ).

(٢) شرح الأخبار للقاضي ( ٣ : ٢٧٢ ) والإرشاد للمفيد ( ص ٢٥٦ ) والمناقب لابن شهر آشوب ( ٤ : ١٤٩ ) وكشف الغمة ( ٢ : ٨٥ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ : ٧٥ ).

(٣) الكافي للكليني ، الروضة ( ٨ : ١٦٣ ).

١٦٩

إن الإمام زين العابدين عليه‌السلام بهذا الجهاد الظريف يحرق ما كدّسه بنو اُمية طوال السنين المظلمة لحكمهم من أطنان الكذب والافتراء ضدّ علي عليه‌السلام ، وينسف كل الاُسس التي بنوا عليها ظلمهم وجورهم لسيد العترة وزعيم أهل البيت الطاهر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

٣ ـ إنارة السبيل للعُبّاد والصالحين :

إن الإمام زين العابدين عليه‌السلام وهو يمثّل الإسلام في تصرفاته وأقواله ، كان المثل الأفضل للعبّاد والصالحين ، ومن أراد أن يدخل هذا المسلك الشريف فله من الإمام عليه‌السلام خير دليل ومرشد ، ومن أقواله خير منهج وطريقة.

وقد رسم خطوطا عريضة للسير والسلوك ، تمثّل أفضل ما قرّره علماء هذا الفنّ ، وإليك أمثلة من تلك :

فقال عليه‌السلام : إنّ قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجّار ، وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار (١).

فربط بين الحرية ، وبين عبادة الله ، وبين الروح غير الخانعة ولا الطامعة بل المتطلّعة الى الله ، والمتقرّبة الى رضوانه ، بالتزام العبادة له ، والطالبة للمزيد بالشكر ، حيث وعد وقال : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) [ سورة إبراهيم (١٤) الآية ٧ ].

وسئل عليه‌السلام : عن صفة الزاهد في الدنيا؟

فقال : يتبلّغ بدون قوته ، ويستعد ليوم موته ، ويتبرّم في حياته (٢).

وقال له رجل : ما الزهد؟

فقال عليه‌السلام : الزهد عشرة أجزاء :

فأعلى درجات الزهد ، أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا ، وإن الزهد في آية من كتاب الله ( لِكَيْلَا

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ١٤١ ) وهذا من كلام الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام رواه الرضي في نهج البلاغة بالارقام ( ٦٥ و ٢٣٧ و ٢٧٦ ) من الباب الثالث : قصار الحكم.

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ١٣٤ ).

١٧٠

تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) [ الحديد «٥٧» الآية : ٢٣ ] (١).

ومن أظرف أمثلة مواعظه ، ما روي عنه من الخطاب الموجّه الى « النفس » يقول : « يا نفس ، حتام الى الدنيا سكونك ، والى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك؟ ومن وارته الأرض من ألاّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ ونقل الى الثرى من أقرانك؟

فهم في بُطونهم الأرض بعد ظهورها

محاسنهم فيها بَوالٍ دوائرُ

خلت دورهم منهم وأقوت عِراصُهم

وساقتْهم نحو المنايا المقادر

وخلّوا عن الدنيا وما جمعوا لها

وضمَّهم تحت التراب الحفائرُ (٢)

وهكذا يسترسل الإمام عليه‌السلام مع النفس في خطاب رقيق ، وحساب دقيق ، ويناجيها ، يعرض عليها العبر ، ويذكّرها بما فيه مزدجر ، ويبعّدها عن الدنيا وزينتها والغرور بها ، ويقرّبها الى الآخرة ونعيمها وما فيها من جوار الله ورحمته ، في مقاطع نثريّة رائعة ، تتلوها معان منظومة ، في ثلاثة أبيات بعد كل مقطع ، بلغت (١٨) مقطعا (٣).

وهكذا ، لم يترك الإمام عليه‌السلام طريقا إلاّ سلكه ولا جهدا إلا استنفده ، ليدرك الامة كيلا تقع في هوّة الانحراف ، وحياة الترف التي صنعتها لها آل اُمية!

__________________

(١) تحف العقول ( ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ).

(٢) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( الحديث ١٣٥ ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٤٩ ـ ٢٥٤ ) ونقله ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية ( ٩ : ١٠٩ ـ ١١٣ ).

وانظر عوالم العلوم ( ص ١٢٤ ) عن المناقب لابن شهر آشوب ( ٣ / ٢٩٢ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ / ٨٣ ).

(٣) وقد نسب كتاب منظوم الى الإمام السجاد عليه‌السلام باسم « المخمسات » في نسخة محفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي قدس‌سره ، ذكرها السيد أحمد الحسيني في التراث العربي في تلك الخزانة ( ٥ / ٢٨ ) أوله :

تـبارك ذو العـلى والكـبرياء

تـفرد بـالـجلال وبـالبقاء

وسوّى الموت بين الخلق طُـرّا

وكلهم رهائن للفناء

رقم النسخة (٥٥٥٧) وتاريخها (٩٠٣).

١٧١

١ ـ تزييف دعاوي المبطلين من دعاة التصوّف والرهبنة :

ومع أنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان المثل الأعلى للزهد والعبادة في عصره ، حتى غلبت عليه هذه الصفة أكثر من غيرها ، إلاّ أنّه عليه‌السلام وقف من المتظاهرين ـ كذبا ـ بالزهد ، والمائلين الى الانعزال عن المشاكل ، والتاركين للحكّام وللناس ، يظلم اُولئك هؤلاء ، ويتبع هؤلاء اُولئك ، والذين قبعوا ـ حسب نظرتهم ـ على إصلاح أنفسهم وأعمالهم ، تلك الحالة التي سمّيت من بعد بالتصوّف ، وسمّي أهلها بالصوفيّة.

وقف الإمام عليه‌السلام من هذه الحالة ومن دعاتها ورعاتها ، موقف الردّ والإنكار وإعلان الخطأ في طرقهم ، وحاول إرشادهم الى طرق السلوك الصائبة ، بما قدّمه إليهم والى الأمة من مواعظ وأدعية وخطب ورسائل وأجوبة تحدّد لهم معالم الطرق القويمة والسبل المستقيمة ، والموصلة الى الهدى والرشاد.

وبما كان الإمام يتمتّع به من مكانة مرموقة معترف بها ، في الإيمان والشرف ، حسبا ونسبا ، وخاصة في الزهد والعبادة ، فإن كلامه في هذا المجال كان هو المقبول ، ومواقفه التي كان يتخذها من المتظاهرين بالزهد ، كانت هي الناجحة والغالبة.

وقد تركّز انحرافهم في نقطتين هامّتين :

١ ـ محاولتهم الانعزال عن الحياة الاجتماعية ، بعدم تدخلهم في ما يمسّ وجودهم بسوء أو ضرر ، مثل التعرّض للظلم والفساد الذي يجري حواليهم ، وخاصة من قبل الخلفاء والولاة وكل من يمتّ الى السلطان والحكومة بصلة! خوفا على أنفسهم من الموت والهلكة.

وقد كان يجرّهم هذا التفكير الى مداراة الظلمة ، والخضوع لهم ، والحضور في مجالسهم ، بل الانخراط في مظالمهم ، وتصويب أعمالهم ، بالرغم من معرفة ظلمهم وعدم استحقاقهم للمقامات التي احتلّوها.

٢ ـ وعلى أثر النقطة الاولى ، فإنهم ابتعدوا عن أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنهم كانوا هم المعارضين السياسيّين ، فكان الاتصال بهم يعني المحسوبيّة عليهم وعلى خطّهم ،

١٧٢

فابتعدوا عنهم ، وأقلّ آثار ذلك هو الحرمان من تعاليمهم القيمة ، والتردّي في ظلمات الجهل والانحراف.

وبما أن اولئك المتظاهرين كانوا يمثلون في أنظار الناس بمنزلة علماء زهّاد ، فأن استمرارهم على تلك الحالة الانحرافية كان يغري الناس البسطاء بصحة سلوكهم المنحرف ، وتفكيرهم الخاطيء فكان على الإمام زين العابدين عليه‌السلام أن يصدّهم ، إرشادا لهم ، وإيقافا للاُمّة على حقيقة أمرهم ، وكشفا لانحرافهم وخطئهم في السلوك والمنهج :

فموقفه من عبّاد البصرة ، الذين دخلوا مكّة للحجّ ، وقد اشتدّ بالناس العطش لقلة الغيث ، قال أحدهم : « ففزع إلينا أهلُ مكة والحجّاج يسألوننا أن نستسقي لهم »؟!

والكلام الى هنا يدل على مدى اهتمام الناس بهؤلاء العبّاد!

قال : فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا الله خاضعين متضرّعين بها ، فمنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل ، وقد أكربته أحزانه ، وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطا ، ثم أقبل علينا ، فقال :

يا مالك بن دينار ، ويا ... ويا ...

وذكر الإمام عليه‌السلام أسماءهم كلّهم ، بحيث يبدو أنه يريد أن يعرفهم للناس بأعيانهم!

قال الراوي : فقلنا : لبيك وسعديك ، يا فتى!

فقال : أما فيكم أحد يحبّه الرحمن؟

فقلنا : يا فتى ، علينا الدعاء وعليه الإجابة!

فقال : أبعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبّه الرحمن لأجابه!

ثم أتى الكعبة ، فخرّ ساجدا ، فسمعته يقول في سجوده : « سيّدي بحبّك لي إلاّ سقيتهم الغيث ».

قال : فما استتمّ الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب!

قال الراوي : فقلت : يا أهل مكة ، من هذا الفتى؟

قالوا : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام (١).

__________________

(١) الاحتجاج ( ٣١٦ ـ ٣١٧ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ : ٥٠ ـ ٥١ ).

١٧٣

إن ابتعاد أهل البصرة عن أهل البيت عليهم‌السلام الى حدّ الجهل بهم ليس بتلك الغرابة ، لأنّ انحرافهم عن أهل البيت قد تجذّر فيهم منذ حرب الجمل ووقعته الرهيبة ، وقد بقيت آثارها فيهم حتى دهر سحيق ، فلما خرج حفص بن غياث القاضي الى عبادان ـ وهو موضع رباط ـ فاجتمع إليه البصريّون فقالوا له : لا تحدّثنا عن ثلاثة : اشعث بن عبدالملك ، وعمرو بن عبيد ، وجعفر بن محمد ... (١).

فتلك شنشنة أعرفها من أخزم!

لكن كلّ الغرابة من أهل مكّة المجاورين للمدينة؟ والذين يعرفون الإمام كاملا ، كيف اغترّوا بأولئك الزهّاد ، القادمين من بعيد ، ولجأوا إليهم يطلبون الغيث منهم ، وهذا الإمام زين العابدين ، وحجّة الزاهدين بينهم يتركونه ، بل لا يعرف إلاّ بالسؤال عنه!؟

لم يتصور ظلم على أهل البيت عليهم‌السلام أكثر من هذا! في مركز الدين والإسلام ، مكة ، وعند أشرف البقاع وأعظمها « الكعبة الشريفة »!!

وما الذي جعل أهل مكّة يتركون الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام وهم يعرفونه حسبا ونسبا ، فيلجأون الى أناس جاءوا من البصرة؟

إنّه ليس إلاّ الانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام والجهل بحقّهم وفضلهم ، إن لم يكن العداء لهم!!

وهكذا تصدّى الإمام لهذا الانحراف وأسقط ما في أيدي أولئك العبّاد المتظاهرين بالزهد ، الذين لا يعرف واحدهم زين العابدين ، إمام زمانه ، وسيّد أهل البيت.

فكشف عن زيف دعواهم ، وسوء نيّاتهم ، وضلال سبلهم حيث عندوا عن حقّ أهل البيت ، ولم يعترفوا لهم بالفضل.

وللإمام عليه‌السلام مواقف اُخرى مع آحاد من هؤلاء العباد ، مثل موقفه من الحسن البصري ، ومن طاوس ، وغيرهما (٢).

إن الزهد الذي قام الإمام زين العابدين عليه‌السلام بإحيائه كان مثل زهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) تهذيب الكمال للمزّي ( ٥ / ٧ ـ ٧٨ ).

(٢) لاحظها في حلية الأولياء ، وصفوة الصفوة ، وكشف الغمة.

١٧٤

وعليّ والأئمة عليهم‌السلام ، الذي يطابق ما قرّره الإسلام ، وينبذ كل أشكال الانحراف والزيف والتزوير ، والرهبانية المبتدعة.

ولقد اُثِرَتْ عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام نصوص جاء فيها شرح العبادات من وجهات نظر روحيّة بما عجز عن إدراكه كبار المتصدّين لمثل هذه المعارف ، فمن ذلك ما روي عنه في تفسير معاني أفعال الحج (١) وأقسام الصوم (٢).

أضف الى أن عمل الإمام كان تعديلا لسلوك الامة في اغترارها بمناهج أولئك المتظاهرين المزيّفين ، المنحرفين عن ولاء أهل البيت عليهم‌السلام وأئمة الحق والصدق ، الذين مثّلهم الإمام زين العابدين عليه‌السلام يومذاك.

إن الإمام عليه‌السلام حذر الأمة من الإغترار بالذين يتظاهرون بالزهد ، ممن يحبّ الترؤّس على الناس ، يجتمعون حوله ، ويلتذّ بالفخفخة والتمجيد ، ولو على حساب المعرفة بالدين والفقه!

ففي الحديث أنه قال عليه‌السلام : إذا رأيتم الرجل قد حسّن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويدا لا يغرّنكم!

فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها ، لضعف نيّته ، ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخّا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكّن من حرام اقتحمه.

وإذا وجدتموه ، يعفّ عن المال الحرام ، فرويدا ، لا يغرّنكم!

فإن شهوات الخلق مختلفة! فما أكثر من ينبو عن المال الحرام ، وإن كثر! ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّما.

فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك ، فرويدا لا يغرّنكم!

__________________

(١) مستدرك الوسائل ( ٢ : ١٨٦ ) أبواب العود الى منى ، الباب (١٧) الحديث (٥) وطبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ( ١٠ / ١٦٦ ) رقم (١١٧٧٠). ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمّى بـ « شبلي » وليس في الرواة عنه ، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم ، ولعله مصحّف « شيبة » وهو ابن نعامة ، المذكور في أصحابه عليه‌السلام.

(٢) حلية الأولياء ( ٣ : ١٤١ ) وفرائد السمطين للحمويني ( ٢ : ٢٣٣ ) وكشف الغمة ( ٢ : ١٠٣ ـ ١٠٥ ) ولاحظ : المقنعة للشيخ المفيد ( ص ٣٦٣ ) الباب (٣٢ ) ووسائل الشيعة ، كتاب الصوم ، أبواب بقية الصوم الواجب ، الباب (١٠) الحديث (١).

١٧٥

حتى تنظروا ماعقدة عقله؟ فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع الى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متينا ، فرويداً لا يغرّنكم!

حتى تنظروا ، أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبّته للرئاسات الباطلة؟ وزهده فيها؟

فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة ، بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة ، حتى إذا قيل له : « اتّق الله » أخذته العزّة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد (١).

فهو يخبط خبط عشواء ، يوفده أول باطل الى أبعد غايات الخسارة ، ويمدّ به ـ بعد طلبه لما لا يقدر عليه ـ في طغيانه ، فهو يحلّ ما حرّم الله ، ويحرّم ما أحلّ الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها.

فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذابا مهينا (٢).

ولكن الرجل ، كلّ الرجل ، نعم الرجل :

هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب الى عزّ الابد ، من العزّ في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه الى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأن كثير ما يلحقه من سرّائها ـ إن أتّبع هواه ـ يؤدّيه الى عذاب لا انقطاع له ولا يزول.

فذلكم الرجل ، نعم الرجل :

فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، والى ربكم فتوسّلوا ، فإنه لا ترّد له دعوة ، ولا يخيب له طلبة (٣).

ولحن هذا الكلام ، يعطي أنّه خطاب عام وجّهه الإمام الى مستمعيه ، أو من طلب منه الإجابة عن سؤال حول من يجب الالتفات حوله والأخذ منه؟

__________________

(١) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة البقرة (٢) الآية : ٢٠٦.

(٢) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة الاحزاب (٣٣) الآية (٥٧).

(٣) الاحتجاج ( ص ٣٢٠ ـ ٣٢١ ).

١٧٦

ومهما يكن ، فإنّ كلام الإمام عليه‌السلام يبدو واضحا قاطعا للعذر ، وهو غير متّهم في موقفه من الزهد والتواضع ، وما الى ذلك مما يراد استغلاله من قبل المشعوذين ، لإغراء العوام ، وإغواء الجهّال.

إنّ فيه تحذيرا من علماء السوء ، المتزيّين بزيّ أهل الصلاح ، والمتظاهرين بالورع والتقى ، ولكنهم يبطنون الخبث والمكر ، والدليل على ذلك ارتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة ، من الحكّام والولاة وأصحاب الأموال.

وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس.

٥ ـ إرعاب الظالمين :

إن الواقعيّة التي التزمها الإمام زين العابدين عليه‌السلام في حياة الزهد والعبادة ، كما اتفتحت له بها قلوب الناس الطيّبين ، فكذلك اقتحم بها على الظالمين أبراجهم ، وقصورهم ، فملأ أثوابهم خيفة ورهبة ، كما غشّى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد ، والاشتغال بالعبادة.

ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة ـ سفّاح الحرّة ـ لمّا طلب الإمام ، فأكرمه ، وقد كان مغتاظا عليه ، يبرأ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه ـ وقد اشرف عليه ـ اُرعب مسلم بن عقبة ، وقام له ، وأقعده الى جانبه!

فقيل لمسلم : رايناك تسبّ هذا الغلام وسلفه ، فلما اُتي به إليك رفعت منزلته؟

فقال : ما كان ذلك لرأي منّي ، لقد مليء قلبي منه رعبا (١).

وسنقرأ في حديث عبدالملك بن مروان ، لمّا جلب الإمام مقيّدا مغلولا من المدينة الى الشام ، فلمّا دخل عليه الإمام عليه‌السلام بصورة مفاجئة قال لعبد الملك : ما أنا وأنت؟

قال عبد الملك : قلت : أقم عندي.

فقال الإمام : لا اُحبّ ، ثم خرج.

قال عبدالملك : فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ( ٣ : ٨٠ ) وانظر ما مضى ص (٧١) الفصل الأول.

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٤٢ ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٤ ـ ٢٣٥ ).

١٧٧

ومهما يكن من تدخل أمر « الغيب » في هذه القضايا ، وفرضه لنفسه على البحث ، الاّ أن من المعلوم كون تصرف الإمام عليه‌السلام نفسه ، وحياته العملية وتوجّهاته المعنوية ، وتصرّفاته المعلنة في الإدعية ، والمواعظ ، والخطب والمواقف ، وما تميّزت به من واقعية ، كل هذا ـ المجهول لاُولئك العمي البصائر ـ قد أصبح أمرا يهزّ كيانهم ، ويزعزع هدوءهم ، ويملؤهم بالرعب والخفية.

ولقد استغلّ الإمام ذلك لصالح أهدافه الدينيّة وأغراضه الاجتماعية.

ومع كلّ هذا التعرض والتحدّي ، وكل هذه الأبعاد المدركة والآثار المحسوسة ، مع دقتها وعمقها ، فإنّ التحفظ على ما في ظواهرها ، وجعلها « روحيّة » فقط وعدم الاعتقاد بكونها نتائج طبيعيّة من صنع الإمام وإرادته ، يدلّ على سذاجة في قراءة التاريخ ، وظاهريّة في التعامل مع الكلمات والأحداث ، وقصور في النظر والحكم.

وكذلك الاستناد الى كلّ تلك المظاهر ، ومحاولة إدراج الإمام مع كبار الصوفيّة وجعله واحداً منهم (١) ، فهو بخلاف الإنصاف والعدل؟!

ولماذا يقع اختيار عبد الملك الخليفة على الإمام عليه‌السلام ، من بين مجموعة الزهّاد والعبّاد ، ليوجّه اليه الإهانة ، ويلقي القبض عليه ، ويكبّله بالقيود والأغلال ، ويرفعه الى دمشق؟! دون جميع المتزهدين والعباد الآخرين؟!

بينما كل اولئك المتظاهرين بالزهد ، متروكون ، بل محترمون من قبل السلطان وأجهزة النظام!؟

لو لم يكن في عمل الإمام ما يثير الخليفة الى ذلك الحدّ!

__________________

(١) لاحظ الفكر الشيعي ( ص ٣١ و ٦٨ ) والصلة بين التصوف والتشيع ( ص ١٤٨ ) و ( ص ١٥١ و ١٥٧ ) وانظر خاصة ( ص ١٦١ ).

١٧٨

ثانيا : التزام البكاء على سيد الشهداء عليه‌السلام

لقد صاحبت هذه الظاهرة الإمام زين العابدين عليه‌السلام مدّة إمامته ونضاله ، بحيث لا يمكن المرور على أيّ مرفق من مرافق عمره الشريف ، أو أيّ موقف من مواقفه الكريمة : إلاّ بالعبور من مجرى دموعه وفيض عيونه.

ولا ريب أنّ البكاء ، كما أنه لا يتهيّأ للإنسان إلاّ عند التأثّر بالأمور الأكثر حساسية ، وإثارة وحرقة ، ليكون سببا للهدوء والترويح عن النفس.

فكذلك هو وسيلة لإثارة القضية ، أمام الآخرين ، وتهييج من يرى دموع الباكي تنهمر ، ليتعاطف معه طبيعيا ، وعلى الأقل يخطر على باله التساءل عن سبب البكاء؟

وإذا كان الباكي شخصية مرموقة ، وذا خطر اجتماعي كبير ، مثل الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فإن ظاهرة البكاء منه ، مدعاة للإثارة الاكثر ، وجلب الاهتمام الأكبر ، بلا ريب.

والحكّام الظالمون ، فهم دائما يهابون الثوّار في ظلّ حياتهم ، فيحاولون إسكاتهم بالقتل والخنق ، مهما أمكن ، ويتصّورون ذلك أفضل السبل للتخلّص منهم ، أو تطويقهم بالسجن والحبس.

وكذلك هم يحاولون بكل جدّية ، في إبادة آثار الثورة ومحوها عن الأنظار ، والأفكار حتى لا يبقى منها ولا بصيص جذوة.

ولكنهم ـ رغم كل قدراتهم ـ لم يتمكّنوا من اقتلاع العواطف التي تستنزف الدموع من عيون الباكين على أهليهم وقضيّتهم ، فالبكاء من أبسط الحقوق الطبيعية للباكين.

والإمام زين العابدين عليه‌السلام قد استغل هذا الحقّ الطبيعي في صالح القضية التي من أجلها راح الشهداء صرعى على أرض معركة كربلاء.

وإذا أمعنّا النظر في تحليل التاريخ وتابعنا مجريات الأحداث ، التي قارنت كربلاء ، وجدنا أن المعركة لم تنته بعد ، وإنما الدماء الحمر ، أصبحت تجري اليوم دموعا حارة بيضا ، تحرق جذور العدوان ، وتجرف معها مخلفّات الانحراف وتروّي بالتالي اُصول الحق والعدالة.

١٧٩

وبينما يعدّ الطغاة ظاهرة البكاء دليلا على العجز والضعف والانكسار والمغلوبيّة ، فهم يكفّون اليد عن الباكي ، لكون بكائه علامة لاندحاره أمام القوّة ، وعلامة الاستسلام للواقع ، نجد عامة الناس ، يبدون اهتماما بليغا لهذه الظاهرة ، تستتبع عطفهم ، وتستدرّ تجاوبهم الى حدّ ما ، وأقلّ ما يبدونه هو نشدانهم عن أسباب البكاء؟

وتزداد كلّ هذه الأمور شدّة إذا كان الباكي رجلا شريفا معروفا! وبالأخص إذا كان يفيض الدمعة بغزارة فائقة ، وباستمرار لا ينقطع! كما كان من الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، حتى عدّ في البكّائين ، وكان خامسهم بعد آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وجدّته فاطمة الزهراء (١).

إن البكاء على شهداء كربلاء ، وثورتها ، لم يكن في وقت من الأوقات أمر حزن ناتج من إحساس بالضعف والانكسار ، ولا عبرة يأس وقنوط ، لأن تلك الأحداث ، بظروفها ومآسيها قد مضت ، وتغيّرت ، وذهب أهلوها ، وعرف حقّها من باطلها ، وأصبحت للمقتولين كرامة وخلودا ، وللقاتلين لعنة ونقمة ، لكنّ البكاء عليهم وعلى قضيّتهم ، كان أمر عبرة وإثارة واستمداد من مفجّرها ، وصانع معجزتها ، وحزنا على عرقلة أهدافها المستلهمة من ثورة الإسلام التي قام بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والدليل على كل ذلك أن لكلّ حزن أمدا ، يبدأ من حين المصيبة الى فترة طالت أو قصرت ، وينتهي ولو بعد جيل من الناس.

أما قبل حدوث المصيبة ، فلم يؤثر في المعتاد ، أو المعقول للناس ، أن يبكوا لشيء.

لكن قضيّة الحسين أبي عبدالله عليه‌السلام ، قد أقيمت الأحزان عليها قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن ، واستمرّ الحزن عليه الى الأبد ، فهي الى القيامة باقية.

والذين أثاروا هذا الحزن ، قبل كربلاء ، وأقاموا المآتم بعد كربلاء : هم الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام.

فمنذ ولد الحسين عليه‌السلام أقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مآتم على سبطه الوليد ذلك اليوم ، الشهيد بعد غد.

__________________

(١) الخصال للصدوق ( ص ٢٧٢ ) وأمالي الصدوق ( المجلس ٢٩ ) ص (١٢١).

١٨٠