جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه (١).

ولا ريب في أن رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهمّ الأهداف المرسومة لأيّة محاولة ثورية ، أو عمل إصلاحي ، حتى لو لم تكن دينية ، فكيف بها إذا كانت إلاهيّة ، يقودها شخص الإمام العادل؟!

إنّ التحرّك للإصلاح ، والناس في بؤس وتخلّف اقتصادي ، سوف يكلّفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه ، ولو تمكّن قائد ما أن يرفع من المستوى الأقتصادي للأمة ، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبّل اُطروحة الإصلاح ، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تفرض عليهم من قبل الظالمين والمعتدين.

ثم إنّ السعي في هذا المجال ، والمال حاجة يوميّة لكل أحد ، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة ، من حيث تحسّس القيادة لأمسّ الحاجات ، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعا ، فتكون دليلا على حقّانيّة سائر الأهداف التي تعلن للخطة الإصلاحية.

ولقد كان الإمام زين العابدين عليه‌السلام يزاول عمليّة تموين الناس بدقة فائقة ، خاصّة عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة ، يقوم بذلك في سرّية تامّة ، حتى خفيت ـ في بعض الحالات ـ على أقرب الناس إليه عليه‌السلام.

والأهم من ذلك : أن الفقراء انفسهم لم يطلّعوا على أن الشخص المموّن لهم هو الإمام زين العابدين عليه‌السلام إلاّ بعد وفاته ، وانقطاع اُعطياته!

فعن أبي حمزة الثمالي : إن علي بن الحسين عليه‌السلام كان يحمل الخبز بالليل ، على ظهره يتبع به المساكين في طلمة الليل ، ويقول : « إنّ الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرّب » (٢).

وعن محمد بن إسحاق ، قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلمّا مات علي بن الحسين عليه‌السلام فقدوا ما كان يؤتَوْو به بالليل (٣).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( ١١ : ٤٥ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٧٦ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٨ ).

(٣) تاريخ دمشق ( الحديث ٧٧ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٨ ).

١٤١

وعن عمرو بن ثابت ، قال : لمّا مات علي بن الحسين عليه‌السلام وجدوا بظهره أثراً ، فسألوا عنه؟ فقالوا : هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره الى منازل الأرامل (١).

وهذه الدقة في السّرّية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه.

مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل ـ وهو تمويل الناس وتموينهم ـ كان يتحقّق بتلك الطريقة الهادئة.

ومع أن معرفة الناس للأمر ـ ولو بعد حين ـ كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيرا في حبّ الناس لأهل البيت عليهم‌السلام.

ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء ، والسمعة ، والمباهاة.

وقد وصلت سرية عمله عليه‌السلام الى حدّ أنه كان يتّهم بالبخل :

قال شيبة بن نعامة: كان علي بن الحسين يبخّل ، فلمّا مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة (٢).

وقال ابن عائشة ، عن أبيه ، عن عمّه : قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السرّ حتى مات علي بن الحسين (٣).

وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة ، وقد اتّبع أساليب اُخرى ، نقرأ عنها الأحاديث التالية :

إنه عليه‌السلام كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنة كبيرة أن يجد الفقر متفشيا في الدولة الإسلامية ، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة :

ففي الحديث : شكا إليه عليه‌السلام بعض أصحابه دينا ، فبكى الإمام عليه‌السلام فلمّا سئل عن سبب بكائه؟ قال عليه‌السلام : وهل البكاء إلاّ للمحن الكبار!؟ وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكّن من قضائها ، وفي فاقة لا يطيق دفعها (٤).

وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة :

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٧٩ ) مختصر أبن منظور ( ١٧ : ٢٣٨ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٨٠ ) مختصر أبن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ).

(٣) حلية الاولياء ( ٣ : ٣٦١ ) ، تاريخ دمشق ( الحديث ٨١ ) مختصر أبن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ) ، وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٣ ).

(٤) أمالي الصدوق ( ص ٣٦٧ ) ونقله في عوالم العلوم ( ص ٢٩ ) في حديث طويل.

١٤٢

عن الرضا عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام ، قال : قال علي بن الحسين : إنّي لأستحيي من الله عزوجل أن أرى الأخ من إخواني ، فاسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : « لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل » (١).

إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة الى مستوى مثاليّ رائع ، وخطاب موجّه الى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الآخرة ، لا على معطياتها الدنيوية فقط ، إنّه معنى عرفاني دقيق ، ورفيع ، وبديع.

وأسلوب آخر ، يدلّ على إصرار الإمام عليه‌السلام لتجاوز المشكلة :

قال عمرو بن دينار : دخل علي بن الحسين على محمّد بن اُسامة بن زيد ، في مرضه ، فجعل محمّد يبكي ، فقال : ما شأنك؟

قال محمد : عليّ دين.

قال : كم هو؟ قال : خمسة عشر ألف دينار ـ أو بضعة عشر ألف دينار ـ.

قال الإمام : فهي عليّ (٢).

وقد جاء في الحديث أن الإمام عليه‌السلام قاسم الله تعالى ماله مرتين (٣).

هذا من جهة.

ومن جهة اُخرى : نجد الإمام عليه‌السلام يؤكّد على تداول الثروة ويحثّ على تنميتها ، واستثمار الأموال ، وعدم تجميدها ، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم ، للخسارة الواضحة فيها ، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها ، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية ، بينما تداولها يؤدّي الى نقيض كلّ ذلك.

فقد قال الإمام عليه‌السلام : استنماء المال تمام المروءة (٤) وفي نصّ آخر : استثمار المال (٥).

وأذا قارنّا هذه المواقف من الإمام عليه‌السلام بما كان يجري على أيدي بني أميّة من

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٨٤ ) مختصر أبن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ) وتهذيب التهذيب ( ٧ : ٣٠٦ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٨٣ ) مختصر أبن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ).

(٣) تاريخ دمشق ( الحديث ٧٥ ).

(٤) تحف العقول ( ص ٢٨٣ ).

(٥) فيي هامش المصدر السابق.

١٤٣

البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال ، ومن منع الموالين لعلي عليه‌السلام من الرزق والعطاء ، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن اُسامة بن زيد ، فضلا عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة.

لو قارنّا بين الأمرين : لعلمنا ـ بكل وضوح ـ أن لأعمال الإمام عليه‌السلام بعدا سياسيّا ، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الأقتصادية عند الناس ، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين الى مهاوي الانتماء إليها أو حتى الفساد والجريمة ، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه ، وأن لا تطبّق به سياسة التطميع بعد التجويع.

٣ ـ ضدّ الرقّ :

إن تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة ، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة.

وإذا دقّقنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام ، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام ، والأحداث التي كانت تجري من حوله ، والظروف التي تكتنف عملية الإعتناق الواسعة التي تبنّاها الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، تتضح الصورة الحقيقيّة لأهداف الإمام عليه‌السلام من ذلك.

فيلاحظ أولا :

١ ـ أنّ أعداد الرقيق ، والعبيد ، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية ، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل ، على أثر توالي الفتوحات (١).

٢ ـ أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية ، فيعتبرون الموالي شبه الناس (٢).

٣ ـ أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ، أخذا من نفس الخليفة ، الى جميع الأمراء وموظفي الدولة ، لا يمثّل الإسلام ، بل كان كل واحد يعارض معنوياته

__________________

(١) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين ( ص ٩٠ ).

(٢) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٨٤ ).

١٤٤

وأخلاقه ، وإن تنادى بشهاداته واسمه.

٤ ـ إن انتشار العبيد والموالي ، وبالكثرة الكثيرة ، ومن دون أي تحصين أخلاقي ، أو تربية إسلامية ، لأمر يؤدّي ـ لا محالة ـ الى شيوع البطالة ، والفساد ، وهو ما تركز عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات.

ويلاحظ ثانيا :

١ ـ أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان يشتري العبيد والإماء ، ولكن لا يبقي أحدهم عنده أكثر من مدّة سنة واحدة فقط ، وأنه كان مستغنيا عن خدمتهم (١).

فكان يعتقهم بحجج متعدّدة ، وبالمناسبات المختلفة؟

إذن ، فلماذا كان يشتريهم؟ ولماذا كان يعتقهم؟

٢ ـ إنه عليه‌السلام كان يعامل الموالي ، لا كعبيد أو إماء ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية ، ممّا يغرز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبّب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه‌السلام.

٣ ـ إنّة عليه‌السلام كان يعلّم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلاميّة ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّنا بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح.

٤ ـ إنه عليه‌السلام كان يزوّد كلّ من يعتقه بما يغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحرة ، كأي فرد من الاُمّة ، ولا يكون عالة على أحد.

إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأنّ الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق.

إنّ عمل الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنتج نتائج عظيمة ، هي :

١ ـ حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله ، وإمائه الذين وقعوا في الأسر ، وتلك حالة استثنائية غير طبيعيّة ، ومع أن الإسلام كان قد أقرّها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ ، إلاّ أن الشريعة قد وضعت طرق عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم

__________________

(١) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس ( ص ٤٧٧ ).

١٤٥

الحرية ، وقد استغل الإمام عليه‌السلام كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق ، وتحرير العبيد والإماء.

وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها ، كما يدلّ عليه الحديث التالي :

فعن سعيد بن مرجانة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار ، حتى أنه يعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج».

فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة!

قال سعيد : نعم.

فقال الإمام : ادع لي مطرفا ـ لغلام له أفره غلمانه ـ فلمّا قام بين يديه ، قال : إذهب فانت حرّ لوجه الله (١).

إن الإمام زين العابدين عليه‌السلام لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة ، وإنما أراد أن يؤكّد على سنة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث! وليكون عمله قدوة للآخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب.

٢ ـ إن الرقيق المعتقين يشكّلون جيلا من التلامذة الذين تربّوا في بيت الإمام عليه‌السلام وعلى يده ، بأفضل شكل ، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة ، والصدق والإخلاص ، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة.

فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس ، في شعورهم أو لا شعورهم ، وينقلونه الى الإجيال المتعاقبة ، وفي ذلك حفظ الإسلام.

ولا ريب أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس ، فلا بدّ أنه كان يواجه منعا من الجهاز الحاكم ، أو عرقلة لعمله ، أو رقابة شديدة على أقل تقدير.

٣ ـ إن الإمام عليه‌السلام استقطب ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرّرين ، إذ

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه ( ٣ : ١٨٨ ) كتاب العتق والكفارات ، ومسلم في صحيحة ( ١٠ : ١٥٢ ) في العتق ، والترمذي في صحيحه ( ٤ : ١١٤ ) في النذور رقم (١٥٤١) وانظر حلية الأولياء ( ٣ : ١٣٦ ).

١٤٦

لايزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه‌السلام ، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشا ، فإن عددهم بلغ ـ في ماقيل ـ خمسين ألفا ، وقيل : مائة ألف! (١).

فعن عبدالغفّار بن القاسم أبي مريم الأنصاريّ ، قال : كان علي بن الحسين خارجا من المسجد فلقيه رجل فسبّه! فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال علي بن الحسين : مهلا عن الرجل ، ثمّ أقبل على الرجل ، فقال له : ما سُتر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟ ـ فاستحيى الرجل ـ فألقى عليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم.

فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنّك من أولاد الرسول (٢).

وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعيّ آخر ، عن أهل البيت ، لمّا سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكّة ، وشيخهم محمد بن الحنفيّة عمّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، في مارواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدّثون : أنّه لما كان من أمر ابن الحنفيّة ما كان ، تجّمع بالمدينة (!) قوم من السودان ، غضبا له ، ومراغمة لابن الزبير.

فرأى ابن عمر غلاما له فيهم ، وهو شاهر سيفه! فقال له : رباح!

قال رباح : والله ، إنّا خرجنا لنردّكم عن باطلكم الى حقّنا.

فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذا لذنوبنا (٣).

وقال عبدالعزيز سيد الأهل : وجعل الدولاب يسير ، والزمن يمرّ وزين العابدين يَهَبُ الحرية في كلّ عام ، وكلّ شهر ، وكلّ يوم ، وعند كلّ هفوة ، وكلّ خطأ ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلّهم في ولاء زين العابدين (٤).

__________________

(١) لاحظ بحار الأنوار ( ٤٦ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ).

(٢) صفوة الصفوة لابن الجوزي ( ٢ : ١٠٠ ) ، تاريخ دمشق ( الحديث ١١٢ ) وكشف الغمة ( ٢ / ٨١ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ / ٩٩ ) وعوالم العلوم ( ص ١١٥ ).

(٣) أنساب الأشراف ( الجزء الثالث ) ( ص ٢٩٥ ).

(٤) زين العابدين ، لسيد الأهل ( ص ٤٧ ).

١٤٧

حقا لقد تحيّن الإمام عليه‌السلام الفرص ، وأهتبل حتى الزلّة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحريّة ، فكان يكافيء الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يعتق ، وأركز في خلده ، فلا ينساه.

إنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام استنفد كلّ وسيلة للتحرير.

وإليك بعض الأحاديث عن ذلك :

١ ـ نادى علي بن الحسين عليه‌السلام مملوكه مرتين ، فلم يجبه ، ثم أجابة في الثالثة ، فقال له الإمام : يا بنيّ! أما سمعت صوتي؟

قال المملوك : بلى!

قال الإمام : فما بالك لم تجبني؟

قال المملوك : أمنتُكَ.

قال الإمام : الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني (١).

٢ ـ عن عبدالرزاق ، قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيّا للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه ، فشقة ، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عزوجل يقول : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ).

فقال لها : قد كظمت غيظي.

قالت : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ).

فقال لها : قد عفا الله عنك.

قالت : ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [ آل عمران «٢» الآية ١٢٤ ].

قال : اذهبي ، فأنت حرّة (٢).

فكأنّ هذا الحوار كان امتحانا واختبارا ، نجحت فيه هذه الجارية ، بحفظها هذه الآية ، واستشاهدها بها ، فكانت جائزتها من الإمام عليه‌السلام أن تعتق!

٣ ـ قال عبدالله بن عطاء : أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنبا استحق منه العقوبة ، فأخذ له السوط ، فقال : ( قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ )

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٩٠ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٤٠ ) وشرح الأخبار ( ٣ : ٢٦٠ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٩٠ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٤٠ ).

١٤٨

[ الجاثية (٤٥) الآية ١٤ ].

فقال الغلام : وأما أنا كذلك ، إني لأرجوا رحمة الله وأخاف عقابه.

فألقى السوط ، وقال : أنت عتيق (١).

فلقد لقّنه الإمام عليه‌السلام بقراءة الآية ، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه ، فأعتقه مكافأة لذلك.

٤ ـ وكان عند الإمام عليه‌السلام قوم ، فاستعجل خادم له شواءاً كان في التنّور ، فأقبل به الخادم مسرعا ، وسقط السفود من يده على بنيّ للإمام عليه‌السلام أسفل الدرجة ، فأصاب رأسه ، فقتله ، فوثب الإمام عليه‌السلام ، فلمّا رآه ، قال للغلام : إنك حرّ ، إنك لم تتعمّده وأخذ في جهاز ابنه (٢).

ولعملية الإعتاق على يد الإمام عليه‌السلام صور مثيرة أحيانا ، تتجاوز الحسابات المتداولة :

ففي الحديث المتقدّم عن سعيد بن مرجانة ، وجدنا أن الإمام عليه‌السلام قد أعتق غلاما اسمه « مطرف » وجاء في ذيل الحديث ، أن عبدالله بن جعفر الطيّار كان قد أعطى الإمام زين العابدين عليه‌السلام بهذا الغلام « ألف دينار » أو « عشرة آلاف درهم» (٣).

ففي إمكان الإمام عليه‌السلام أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي ، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أكثر من واحد ، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص ـ مع غلاء ثمنه ـ يحتوي على معنى أكبر من العتق :

فهو تطبيق لقوله تعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ سورة آل عمران (٣) الآية : ٩٢ ].

وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها!

ولعلّ السبب الاساسي هو : أن غلاء ثمن الغلام لا يكون إلاّ من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته ، وقوّته ، وغير ذلك مما يجعله فردا نافعا ، فإذا صار حرّا ، وهو

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ١١٣ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٤٤ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ١١٨ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٤٤ ).

(٣) تاريخ دمشق ( الحديث ٨٢ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ).

١٤٩

متصف بهذه الصفات ، يفيد المجتمع ككلّ ، فهو أفضل ـ عند الإمام عليه‌السلام ـ من أن يكون عبدا يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصّة ، مهما كانت شريفة!

وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه‌السلام مشكلة الرقّ ، واستفاد منها ، في صالح المجتمع والدين (١).

وبما أنه عليه‌السلام كان يحتلّ موقعا رفيعا بين الاُمّة الإسلامية جمعاء :

إمّا لأنّه إمام مفترض الطاعة ، عند المعتقدين بإمامته عليه‌السلام.

أو لأنه من أفضل فقهاء عصره ، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه ، عند الكافّة.

أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد.

فقد كان عمله حجّة معتبرة ، وقدوة صالحة ، للمسلمين كافة ، يقتدون به في تحرير الرقيق ، ومحو العنصريّة المقيتة.

وبعد هذه الصور الرائعة :

فهل يصح أن يقال : « إن زين العابدين عليه‌السلام كان منعزلا عن السياسة ، أو مبتعدا عنها » وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع.

__________________

(١) وأقرأ صورا مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم ( ص ١٥١ ـ ١٥٥ )

١٥٠

وأخيرا : مع كتاب « رسالة الحقوق »

إن رسالة الحقوق التي نظّمها الإمام زين العابدين عليه‌السلام تدل على اهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحيّة ، ورعايته لأمنه واستقراره ، وحفاظه على تكوينته الإسلامية.

وإذا نظرنا الى ظروف الإمام عليه‌السلام من جهة ، والى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق ، من سعة الافق وشموليته من جهة أخرى ، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرنا.

إن صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقّته وواقعيته ، لا يصدر إلاّ من شخص جامع للعلم والعمل ، مهتّم بشؤون الأُمة ، ومتصد لإصلاحها فكريا وثقافيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وإداريا ، وصحيّا ، ونفسيّا ، ولا يصدر ـ قطعا ـ من شخص منعزل عن العالم ، وعن الحياة الاجتماعية ، ولا مبتعد عن السياسة واُمور الحكم والدولة!

ولذلك فإنا نجد الرسالة تحتوي على حقوق مثل : حقّ السلطان ، وحق الرعيّة ، وحق أهل الملّة عامّة ، وحقّ أهل الذمّة ، وغيرها ممّا يرتبط باُمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية ، الى جانب الشؤون الخاصة العقيديّة والعبادية والماليّة ، وكل ما يرتبط بحياة حرّة كريمة للفرد ، وللمجتمع الذي يعيش معه ، ومثل هذا لا يصدر ممّن يعتزل الحياة الاجتماعية.

ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة ، تقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه‌السلام الاجتماعية ، وخاصّة من المنظار السياسي ، وما استهدفه من بيانها ونشرها.

ونقدّم هنا مقطعين هامّين ، يرتبطان مباشرة باُمور الإدارة والحياة الاجتماعية ، وهما حقّ السلطان على الرعيّة ، وحقّ الرعيّة على السلطان:

قال عليه‌السلام ـ في حقوق الأئمّة ـ : وأما حق سائسك بالسلطان :

١٥١

فان تعلم أنّك جعلت له فتنة ، وأنّه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان.

وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لاتماحكه ، وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.

وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّه عنك ، ولا يضرّ بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله.

ولا تعازّه ولا تعانده ، فإنّك إن فعلت ذلك عققْته وعققت نفسك ، فعرّضتها لمكروهه ، وعرّضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك من سوء.

ولا قوّة إلاّ بالله (١).

وقال عليه‌السلام ـ في حقوق الرعية ـ : وأمّا حقّ رعيتك بالسلطان :

فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوّتك عليهم ، فإنّه إنّما أحلّهم محلّ الرعيّة لك ضعفهم وذلّهم.

فما أولى من كفاكه ضعفه وذلّه ـ حتى صيّره لك رعيّة وصيّر حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع عنك بعزّة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلاّ بالله ـ بالرحمة والحياطة والأناة.

وما أولاك ـ إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقوّة التي قهرت بها ـ أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه في ما أنعم عليه.

ولا قوّة إلاّ بالله (٢).

إن الإمام عليه‌السلام في هاتين الفقرتين إنّما يخاطب من هم من عامّة الناس ـ سلطانا ورعيّة ـ ممّن لابدّ أن تربط بينهم السياسة ، إذ لا بدّ للناس من أمير ، على ما هو سنّة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية ، فلا بدّ أن تكون لهم حقوق ، وتثبت عليهم واجبات ، ترتب بذلك حياتهم ترتيبا طيّبا كي يعيشوا في صفاء ووُدّ وخير وسعادة.

والإمام عليه‌السلام هنا ـ يقطع النظر عن الولاية الإلهية التكوينية ، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعيا على الناس.

__________________

(١) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ ١٥ ].

(٢) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ ١٨ ].

١٥٢

ولذلك عبّر بـ « السلطان » و « الرعيّة » ولم يفرض في السلطان ولاية إلهيّة ، وإنّما فرضها سلطة حاصلة بالقوّة والقهر ، وهذا ما يتمكّن من تحصيلة حتى غير الأئمة الإلهيين ، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاء بأنّهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة ، وأنّهم ظلّ الله على الأرض ، ولذلك يلقّنون الناس فكرة « الجبر » حتى يربطوا وجودهم بإرادة الله (١).

لكنّ الإمام السجّاد عليه‌السلام فرّغ الحديث عن السلطان من كلّ هذه المعاني ، وإنّما تحدّث عن حقّه كمتسلط بالقوة على الرعيّة ، فهو في هذه الحالة لابدّ أن يعرف واجباته ويؤدّيها ويعرف حقوقه فلا يطلب أكثر منها.

كما أن الرعيّة المواجهة لمثل هذا السلطان لابدّ أن تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهه ، وما يحرم عليها فلا تقتحمه ، رعاية للمصالح الاجتماعيّة العامة بشريا.

وبما أنّ السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة ، اللازمة في الولاة الإلهيّين ، فلابدّ أن يحذروا من المخالفات الشرعيّة ، كما لابدّ للرعيّة أن يحذروا من التعرّض لبطشهم وسطوتهم ، فهناك حقوق مرسومة لكلّ منهما ـ السلطان والرعيّة ـ لابدّ من مراعاتها ، حدّدها الإمام عليه‌السلام.

فعلى السلطان أن لا يغترّ بقدرته الموقوتة المحدودة :

١ ـ أن يكون رؤوفا رحيما بالبشر الذين استولى عليهم.

٢ ـ أن يعرف قدر نعمة السلطة ، حتى يوفّق للمزيد ، حسب الموعود بالمزيد لمن شكر.

ويتنعّم بما هو فيه من فضل وسلطة.

وأما الرعيّة ، فعليها :

١ ـ أن تخلص في النصيحة للسلطان ، وتبذل الولاء في سبيل إنجاح المهمّة الاجتماعية والحكمة والتدبير من « لابدّية الأمير » في سبيل الخير.

٢ ـ وأن لا تلجأ الى العداء والبغضاء حتى لا يلجأ السلطان الى العدوان والفتك ، فيحصل العقوق بين الراعي والرعيّة فيشتركان في إثم الفساد في الأرض.

__________________

(١) كما شرحنا جانبا من ذلك في بحث سابق ، لاحظ ( ص ٨٨ ـ ٩١ ) في الفصل الثاني.

١٥٣

ومن المعلوم ـ في المقامين ـ أنّ مخاطب الإمام عليه‌السلام إنّما هم المؤمنون بالله تعالى ، ولذا جعل كلاّ منهما « فتنة إلهية » للآخر ، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوّأه كلّ منهما.

فالحديث مع الذين لا يخالفون أمر الله ولا يعادونه ، وإنّما يسيرون موافقين للإسلام ، ويعتمدون على ما سنّه من أحكام ، ولا يضرّون بالدين ، وإلاّ فالأمر يختلف ، والحديث يتفاوت ، والحقوق تكون غيرها ، والواجبات سواها.

والحاصل : أنّ ما حدّده الإمام عليه‌السلام إنّما هو عن السلطان والرعية ، إذا لم يتهدّد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة ، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوّته وأنّه لا حول ولا قوّة إلاّ به.

وإلاّ ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله والاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع ، والاعتماد على قوة الله وحوله ، كما هوالحال في كلّ الحقوق الأخرى التي ذكرها في ( رسالة الحقوق ) فانه وجّه الخطاب الى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي ، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده.

وسنثبت نصّا موثوقا لرسالة الحقوق في الملحق الأوّل من ملاحق الكتاب بعون الله (١).

__________________

(١) لاحظ الصفحات ( ٢٥٤ ـ ٢٩٦ ) من كتابنا هذا.

١٥٤

الفصل الرابع

التزامات فَذَّة في حياة الإمام عليه‌السلام

أوّلا : التزام الزهد والعبادة.

ثانيا : التزام البكاء على سيّد الشهداء عليه‌السلام.

ثالثا : التزام الدعاء.

واخيرا : مع الصحيفة السجّاديّة هدفا ومضمونا.

١٥٥
١٥٦

تميزّت سيرة الإمام زين العابدين عليه‌السلام بمظاهر فذّة ، وهي وإن كانت متوفرّة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة عليهم‌السلام ، إلاّ أنها برزت في سيرة الإمام عليه‌السلام بشكل آخر ، أكثر وضوحا ، وأوسع دورا ، مما تسترعي الانتباه ، وهي :

١ ـ ظاهرة الزهد والعبادة.

٢ ـ ظاهرة البكاء.

٣ ـ ظاهرة الدعاء.

فإذا سبرنا حياة الائمة عليهم‌السلام ، وجدناهم ـ كلّهم ـ يتميزّون في هذه المظاهر على أهل زمناهم ، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام تجاوزت الحدّ المألوف ، حتى كان عليه‌السلام فريدا في الالتزام بكل منها :

العبادة والزهد ، فقد عدّ فيهما : زين العابدين وسيد الزاهدين ، حتى ضرب به المثل فيهما.

والبكاء ، فقد عدّ فيه : من البكّائين الخمسة.

وأما الدعاء : فالصحيفة التي خلّفها تكفي شاهدا على ما نقول.

وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام عليه‌السلام ، ونقرأ ما خلّده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام عليه‌السلام ، وما استهدفه الإمام عليه‌السلام من اللجوء إليها بهذا الشكل المركّز.

١٥٧

أوّلا : التزام الزهد والعبادة

لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام عليه‌السلام ، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة ، حتى أصبح من أشهر ألقابه « زين العابدين » (١) و « سيّد الساجدين » (٢).

والزهد ، من الفضائل الشريفة التي يتزيّى بها الرجال الطيّبون ، المخلصون لله ، الراغبون في جزيل ثوابه ، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة ، فلا يميلون الى الاستمتاع بلذّاتها ومغرياتها ، بل يقتصرون على الضروريّ الأقلّ ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل.

وقد اللتزم أئمّة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل ، وفي التزامهم بها معنى أكبر من مجرّد الفضل والخلق الجيّد ، فكونهم أئمة يقتدى بهم واُمثولة لمن يعتقد بهم ، واُسوة لمن سواهم ، وقدوة للمؤمنين ، يتبعون خطاهم ، فهم لو تخلّقوا بهذا الخلق الكريم ، قام جمع من الناس بذلك معهم ، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف.

فللإمام السجّاد عليه‌السلام في العبادة مشاهد عظيمة ، وأعمال جليلة ، وسجدات طويلة ، وصلوات متتالية ، حتى أنه كان يصلّي في اليوم والليلة « ألف ركعة » (٣) وهذا يشبه ما نقل عن جدّه الإمام علي أمير المومنين عليه‌السلام.

وإذا نظرنا الى عصر الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، والى ما حوله من حوادث واقعة واُمور جارية : أمكننا أن نقول : إن التزام الإمام بهذه العبادة ، وبهذا الشكل من السعة ، والإصرار ، والإعلان ، لم يكن عفويّا ، ولا عن غير قصد وهدف ، ولا لمجرد

__________________

(١) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام ( ص ١٣٠ ـ ١٣١ ) مختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٣٧ ) عن مالك بن أنس و ( ص ٢٣٥ ) عن الزهري.

(٢) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص ٣٥ ـ ٣٧ ) من كتابنا هذا.

(٣) سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٢ ) وشرح الأخبار ( ٣ : ٢٥٤ و ٢٧٢ ) والخصال للصدوق ٥١٧ وعلل الشرائع له ( ص ٢٣٢ ) والإرشاد للمفيد (٢٥٦) وكشف الغمة ( ١ : ٣٣ ) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( ٢ : ٨٦ ) وفلاح السائل ( ص ٢٤٤ ) وتذكرة الحفاظ ( ١ : ٧٥ ) وبحار الأنوار ( ٤٦ / ٦٧ ).

١٥٨

حاجة شخصيّة ، وتقرّب خاص ، بل كان وراءها تدبير اجتماعي مهمّ جدّا ، إذ أنّ الامويين ـ في تلك الفترة بالخصوص ، وبعد سيطرتهم على مقدّرات العباد والبلاد ـ جدّوا في إشاعة الفساد ، وتمييع المجتمع ، وترويج الترف واللهو ، بين الناس ، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدس ، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف ، وسعيا لتخدير الناس ، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكّن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات لامبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلّفة تتخطفهم الأمم من حولهم ، لا يملكون لعدوّهم دفعا ، ولا عن ذمارهم منعا.

وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واصفة حالتهم بقولها : ... وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطرق وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي (١).

فأرشدهم الرسول الى المجد والعلا والكرامة والعلم.

لكنّ الأمويين ـ ولأجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس ـ أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر ، والفجور والخمور ، والظلم والخيانة ، حتى ضرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق ، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس ، وتلاعبوا بكلّ المقدّرات والمقرّرات ، وانغمسوا ـ وجرّوا الناس معهم ـ في الرذيلة واللعب ، ومعهم الجيل الناشىء من الأمة ، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية.

حتى جعلوا من مدينة الرسول الطيبّة ، مركزا للفساد.

قال أبو الفرج الأصبهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم (٢) وحتى : كانت يثرب تعجّ بالمغنيّات ، .....

__________________

(١) بلاغات النساء ( ص ١٣ ) وانظر : فدك للقزويني ( ص ١٥٣ ) وخطبتها عليها‌السلام في مسجد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما منعها ابو بكر فدكا مروية في الاحتجاج للطبرسي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( ٤ / ٧٨ ) ، وطرقها عديدة متضافرة.

(٢) الأغاني ـ طبع دار الكتب ـ ( ٨ : ٢٢٤ ) ولاحظ ( ٤ : ٢٢٢ ) ففيه موقف مالك فقيه المدينة ، وانظر العقد الفريد ( ٣ : ٢٣٣ و ٢٤٥ ).

١٥٩

ومن المؤسف ـ حقا ـ أن مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صارت ـ في العصر الأموي ـ مركزا للحياة العابثة ، وكان من المؤمّل أن تصبح معهدا للثقافة الدينية ، ومصدرا للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي ، إلاّ أن الأمويين سلبوها هذه القابلية ، وأفقدوها مركزيّتها الدينية والسياسية (١).

ولمّا خرج عروة بن الزبير من المدينة واتخذ قصرا بالعقيق ، وقال له الناس : قد أجفرت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قال : إنّي رأيت مساجدهم لاهية ، وأسواقهم لاغية ، والفاحشة في فجاجهم عالية (٢).

وأضاف القرطبي : وكان في ما هناك عمّا أنتم فيه عافية (٣).

إنه ـ في مثل هذه الأجواء والظروف ـ ليس عفويا ، ولا عن غير هدف :

أن يظلّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام في المدينة ، يعظ الناس ويرشدهم ، ويدعوهم الى نبذ المتع ، ويحذّرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر.

فكان عليه‌السلام يقول : لا قدّست اُمّة فيها البَربط (٤).

لقد كان له مجلس في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعظ الناس فيه :

قال سعيد بن المسيب : كان علي بن الحسين عليه‌السلام يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ، ويرغّبهم في أعمال الآخرة ، بهذا الكلام ، في كل جمعة ، في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحفظ عنه ، وكتب ، كان يقول :

أيّها الناس! اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون ، فتجد كلّ نفس ما عملت ـ في هذه الدنيا ـ من خير محضرا وما عملت من سوء ، تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، ويحذّركم الله نفسه [ مقتبس من القرآن الكريم. سورة آل عمران «٣» الآية «٣٠» ].

ويحك! يابن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه!

__________________

(١) لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي (ص ٦٧٠) واقرأ في الصفحات ( ٦٦٥ ـ ٦٧١ ) أخبارا من ترف الأمويين ، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدسة ـ المدينة ومكة ـ.

(٢) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( ١٧ : ٢٣ ).

(٣) جامع بيان العلم ( ٢ / ).

(٤) لسان العرب مادّة ( بربط ).

١٦٠