جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

فقال هشام : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) [ سورة الانعام (٦) الآية (١٢٤) ] (١).

وبهذا ، تمكّن الإمام من جذب قلوب الناس ، حتى الدّ الأعداء ، فكان سببا لانفتاح الجميع على أهل البيت عليهم‌السلام ومذهبهم ، بعد ان انغلقوا عنهم ، واعتزلوهم بعد وقعة كربلاء.

ولقد ظهرت ثمرة تلك الأخلاق والجهود ، في يوم وفاة الإمام عليه‌السلام ، فقد خرج الناس كلّهم ، فلم يبق رجل ولا امرأة إلاّ خرج لجنازته بالبكاء والعويل ، وكان كيوم مات فيه رسول الله (٢).

وكان من أطيب ثمرات هذه الجهود أن مهّدت الأرضيّة للإمام محمد بن علي ، الباقر عليه‌السلام كي يتسنّم مقام الإمامة بعد أبيه زين العابدين ، ويقوم بتعليم الناس معالم دينهم ، وتتكوّن المدرسة الفقهيّة الشيعيّة على أوسع مدى وأكمل شكل وأتقنه.

ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين عليه‌السلام في تحرّكه القياديّ هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين ، والتركيز على تربيتهم روحيّا ، وتعليمهم الإسلام ، وإطلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي ، ومن خلال روافده الثرّة الغنيّة ، بهدف وصل الحلقات ، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان ، ولا تنفرط اُسس العقيدة.

وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحقّ ، ويكدّرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل.

وتعدّ هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين ، وأعمقها أثرا وخلودا في مقاومة الدولة الحاكمة ، التي استهدفت كل معالم الإسلام ، بغرض القضاء عليه ، وإبادته ، والعودة بالأمة الى الجاهلية الأولى بوثنيّتها ، وفسادها ، وجهلها.

__________________

(١) تاريخ دمشق الحديث (١١١) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٤٣ ) وانظر صورا أخرى للقصة في بحار الأنوار ( ٤٦ : ٩٤ و ١٦٧ ) وشرح الأخبار ، للقاضي ( ٣ : ٢٦٠ ) وكشف الغمة ( ٢ : ١٠٠ ) وتاريخ الطبري ( ٥ : ٢١٦ ) وتاريخ اليعقوبي ( ٢ : ٢٨٠ و ٢٨٣ ).

(٢) الإمام زين العابدين ، للمقرم (ص ٤١٢).

١٢١

فراح الإمام يدعو الأمة الى التفكير والتدّبر :

فمن أقواله عليه‌السلام : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته (١).

ويدعو الى العلم والفضل والحكمة :

فقال عليه‌السلام : سادة الناس في الدنيا : الأسخياء ، وفي الآخرة : أهل الدين ، وأهل الفضل ، والعلم ، لأنّ العلماء ورثة الأنبياء (٢).

وقال عليه‌السلام : لو يعلم الناس ما في طلب اللم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج.

إن الله أوحى الى دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل ، المستخفّ بحقّ أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وإنّ أحبّ عبيدي إليّ التقيّ ، الطالب للثواب الجزيل ، الملازم للعلماء ، التابع للحكماء (٣).

وكان عليه‌السلام يحثّ الأمة ـ والشباب منهم خاصة ـ على طلب العلم ، فكان إذا نظر الى الشباب الذين يطلبون العلام أدناهم اليه ، فقال : مرحبا بكم ، أنتم ودائع العلم ، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين (٤).

وكان إذا جاءه طالب علم قال : مرحبا بوصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

ويدعو الأمة الى المراقبة الذاتيّة لنفسها ، لتتحصّن من اجتياح وسائل التزوير والخداع ، ونفوذ نفثات الشياطين.

فيقول عليه‌السلام : ليس لك أن تقعد مع من شئت ، لأنّ الله تعالى يقول في الأنعام [ الآية : ٦٨ ] : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).

وليس لك أن تتكلّم بما شئت ، لأنّ الله يقول في الإسراء [ الآية : ٣٦ ] : ( وَلاَ تَقْفُ مَا

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ١٣٨ ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٥٤ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٨٥ ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢٣٩ ).

(٣) الوافي ، للفيض الكاشاني ( ١ : ٤٢ ).

(٤) بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام (ص ١٧١). عن الأنوار البهية ، للقمي.

(٥) الخصال ، للصدوق (ص ٥١٧).

١٢٢

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو صمَتَ فسلم ».

وليس لك أن تسمع ما شئت ، لانّ الله يقول : [ الإسراء : ٣٦ ] : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (١).

وبهذا يحذّر الإمام عليه‌السلام الأمة من الجلوس مع المزوّرين والظالمين ، ومن التحدّث والكلام معهم ، أو صرف العمر معهم في حديث الجهالات والخرافات ، وما لا يزيد الإنسان معرفة بحياته أو قوّة وتركيزا في عقيدته وإيمانه ، أو تعديلا في سلوكه وأخلاقه ، بل لا تعدو لغو السمر ، والشعر الساقط ، وأحاديث الفكاهة والمجون ، التي كان يروّجها السلاطين وأمراء السوء.

وهو عليه‌السلام في الوقت نفسه يحيي بهذا الاسلوب سنن الاستدلال بآيات القرآن الكريم ، والاعتماد عليه وعلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللذين دأب الظالمون على إبعاد الأمة عنهما ، وإماتتهما ، وإبادتهما بالإحراق بالنار ، والإماثة في الماء ، والدفن تحت الأرض ، ومنع التدوين.

كما حذّر الأمة من الارتباط بمن لا يدعو الى الله والحقّ ، ومن الاستماع إليهم ، وهم دعاة السوء ، وأدعياء العلم ، من علماء البلاط ، الذين ركنوا الى الظالمين وآزروهم.

وقد كان عليه‌السلام يدأب على تربية الأمة وتهذيبها ، وتقديم الإرشادات إليها ، وتجلّى ذلك في وصاياه المأثورة التي جمعت بين معالم الهداية والحكمة ، ووسائل الحذر والوقاية ، وبثّ الأمل والقوة ، وبعث النشاط والهمّة في نفوس أصحابه :

ففي رسالته إليهم يقول عليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبّارين.

أيّها المؤمنون ، لا يفتنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا ، المائلون إليها ، المفتنون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد ، وهشيمها البائد غدا.

__________________

(١) علل الشرائع ، للصدوق ( ص ٥ ـ ٦٠٦ ) الحديث (٨٠) وانظر بحار الأنوار ( ١ : ١٠١ ) طبع الحجر.

١٢٣

فاحذروا ما حذّركم الله منها ، وازهدوا في ما زهّدكم الله فيه منها.

ولا تركنوا الى ما في هذه الأمور ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان.

والله! إنّ لكم مما فيها لدليلا ، وتنبيها ، من تصرّف أيّامها ، وتغيّر انقلابها ومثلاتها ، وتلاعبها بأهلها ، إنّها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد أقواما الى النار غدا ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.

إنّ الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلاّت الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان ، ووسوسة الشيطان ، لتثبّط القلوب عن تنبّهها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحقّ إلاّ قليلا ممن عصم الله ، فليس يعرف تصرّف أيّامها وتقلّب حالاتها ، وعاقبة ضرر فتنتها إلاّ من عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم استعان على ذلك بالزهد ، فكرّر الفكر ، واتّعظ بالعبر فازدجر ، وزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذّاتها ، ورغب في دائم نعيم الآخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، ونظر الى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك الظلمة.

فقد ـ لعمري ـ استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلّون به على تخيّب الغواة وأهل البدع ، والبغي ، والفساد في الأرض ، بغير الحقّ.

فاستعينوا بالله ، وارجعوا الى طاعة الله ، وطاعة من هو أولى بالطاعة ممّن اتبع فاطيع.

فالحذر ، الحذر ، من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه.

وتالله! ما صدر قوم قطّ عن معصية الله إلاّ الى عذابه ، وما آثر قوم ـ قطّ ـ الدنيا على الآخرة ، إلاّ ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم.

وما العلم بالله والعمل بطاعته إلاّ إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله.

وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه ، فقد قال الله : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) [ فاطر «٣٥» الآية : ٤ ].

فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله ، واشتغلوا في هذا الدنيا بطاعة الله ،

١٢٤

واغتنموا أيّامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم من عذاب الله ، فإن ذلك أقلّ للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة.

فقدّموا أمر الله ، وطاعة من أوجب الله طاعته ، بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من الطواغيت ، من زهرة الدنيا ، بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة اُولي الأمر منكم.

واعلموا انكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيّد غدا ، وهو موقفكم ، ومسائلكم ، فأعدّوا الجواب قبل الوقوف والمسألة والعرض على ربّ العالمين.

واعلموا أن الله لا يصدّق كاذبا ، ولا يكذّب صادقا ، ولا يردّ عذر مستحق ، ولا بعذر غير معذور ، له الحجّة على خلقه بالرسل والأوصياء.

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واستقبلوا في إصلاح أنفسكم طاعة الله ، وطاعة من تولّونه فيها ، لعلّ نادما قد ندم في ما فرّط بالأمس في جنب الله ، وضيّع من حقوق الله.

فاستغفروا الله ، وتوبوا إليه ، فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيّئة ، ويعلم ما تفعلون.

وإيّاكم ، وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم ، وتباعدوا من ساحتهم.

واعلموا أنّه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبدّ بأمره دون وليّ الله كان في نار تلهب ، تأكل أبدانا قد غاب عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حرّ النار ، ولو كانوا أحياءا لوجدوا مضض حرّ النار.

فاعتبروا يا أولي الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله الى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ورسوله ، ثمّ إليه تحشرون.

وانتفعوا بالعظة.

وتأدّبوا بآداب الصالحين (١).

__________________

(١) الكافي ( ٨ : ١٤ ـ ١٧ ) الأمالي للمفيد ( ص ٢٠٠ ـ ٢٠٤ ) وفيه : قال أبو حمزة الثمالي ـ راوي هذا الكتاب : « قرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين عليه‌السلام ، فكتبت ما فيها ، وأتيته به ، فعرضته عليه فعرفه وصحّحه » وأمالي الطوسي ( ١ : ٤ ـ ١٢٧ ) ورواه في تحف العقول ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ).

١٢٥

بهذا يحصّن الإمام عليه‌السلام أصحابه خاصّة والمسلمين عامة بالطاعة ، والزهد ، والورع عن المعاصي ، والبعد عن بهجة الدنيا وعن مفاتن الحياة المادّية ، التي يستخدمها الطواغيت ، كمغريات لتحريف الأمة عن سنن الهدى.

ويحاول الإمام عليه‌السلام أن يهوّن عليهم المصائب والأتعاب التي تواجههم على هذا الطريق الوعر.

ويؤكّد عليه‌السلام على إلتزامهم بالحقّ ، واعتقادهم بولاية الأئمة الاطهار عليهم‌السلام الذين فرض الله ولايتهم وأوجب طاعتهم.

ويبثّ في نفوسهم روح المقاومة والصبر والصمود والمثابرة والجدّ ، ويثير فيهم روح العمل والتحرّك والنشاط!

ويملؤهم بالأمل ، والبشرى بالنجاح والفلاح ، ويصلّي عليهم لتكون صلاته سكنا لهم.

فيقول في دعائه ليوم عرفة بعد الصلاة على الإئمة :

أللهمّ!

وصلّ على أوليائهم ، المعترفين بمقامهم ، المتّبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المتمسكين بولايتهم ، المؤتمّين بإمامتهم ، المسلّمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيّامهم ، المادّين إليهم أعينهم (١).

وبهذه القوة ، ليصنع منهم جيلا ، متكتّلا ، متوثّبا ، طموحا ، ثابت الجأش ، قويّ العزيمة ، متماسك الصفّ ، متّحد الهدف.

وفي نصّ آخر ، يحثّهم الإمام عليه‌السلام على المواساة والإحسان ، والمنافسة فيقول :

شيعتنا!

إما الجنّة فلن تفوتكم ، سريعا كان أو بطيئا ، ولكن تنافسوا في الدرجات!

واعلموا أنّ أرفعكم درجات ، وأحسنكم قصورا ، ودورا ، وأبنية : أحسنكم إيجابا بإيجاب المؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم.

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، الدعاء (٤٧) ليوم عرفة.

١٢٦

إنّ الله ليقرّب الواحد منكم الى الجنّة بكلمة طيّبة يكلّم أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ماءة عام بقدمه ، وإن كان من المعذّبين بالنار.

فلا تحتقروا الإحسان الى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره (١).

وهو عليه‌السلام في الوقت الذي يجد من أنصار الحق تذمّرا ، أو وهنا ، أو تألما من مجاري الأحداث حولهم ، يهبّ لنجدتهم ، وتقويتهم روحيا ومعنويا ، فيقول :

فما تمدّون أعينكم؟

لقد كان من قبلكم ، ممّن هو على ما أنتم عليه ، يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب!

ثم يتلو عليه‌السلام : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ... ) [ البقرة (٢) : ٢١٤ ] (٢).

وبكل هذه الجهود والتحصينات والتعاليم المركّزة ، ترّبى جيل صامد من المؤمنين ، المتسلّحين بالإسلام ، بعلومه وعقيدته وتقواه وإخلاصه ، فأصبحوا أمثلة للشيعة وقدوة صالحة للتعريف لمن يستحق هذا الاسم من المنتمين الى التشيّع ، من أمثال :

يحيى بن اُمّ الطويل :

الذي عدّ من القلائل الذين بقوا ـ بعد كربلاء ـ على ولائهم واتصالهم بالإمام زين العابدين عليه‌السلام (٣) ، بل هو من حوارييه (٤) ، ومن أبوابه (٥).

وكان من المجاهرين بالحق ، كان يقف بالكناسة في الكوفة ، وينادي بأعلى صوته :

معاشر أولياء الله!

إنا بُرءآء مما تسمعون.

من سب عليّا عليه‌السلام فعليه لعنة الله.

ونحن برءآء من آل مروان وما يعبدون من دون الله.

ثم يخفض صوته فيقول : من سبّ أولياء الله فلا تقاعدوه ، ومن شكّ في ما نحن

__________________

(١) بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام (ص ٥٠).

(٢) بحار الأنوار ( ٦٧ ـ ١٩٧ ).

(٣) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص ١٢٣) رقم (١٩٤).

(٤) معجم رجال الحديث ( ٢٠ : ٤٢ ).

(٥) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام (ص ٤٨).

١٢٧

عليه فلا تفاتحوه ، ومن احتاج الى مسألتكم من إخوانكم .. فقد خنتموه (١).

وكان يدخل مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حيث يجتمع المشبّهة الملحدون ـ ويقول : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء (٢).

وقد طلبه الحجّاج ، وأمر بقطع يديه ورجليه ، وقتله (٣).

وسعيد بن جُبَير : الذي مثّل به الحجّاج وقتله (٤) وكان قد خرج مع عبدالرحمن بن الأشعث ، يحارب دولة بني اُمية وكان يومئذ يقول : قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم ، بنيّة ويقين ، على آثامهم قاتلوهم ، وعلى جورهم في الحكم ، وتجبّرهم في الدين ، واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة (٥).

والذين اختفوا من جور بني اُمية مثل سالم بن أبي حفصة ، وسليم بن قيس الهلالي ، وعامر بن واثلة الكناني ، ومحمد بن جبير بن مطعم.

والذين هربوا فنجّاهم الله مثل أبي خالد الكابلي ، وأبي حمزة الثمالي ، وشعيب مولى الإمام (٦).

وآل أعين الذين قال الحجّاج فيهم : « لا يستقيم لنا الملك ومن آل أعين رجل تحت حجر » ، فاختفوا وتواروا (٧).

وفي طليعة من ربّاهم الإمام زين العابدين أبناؤه :

الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه‌السلام ، الذي تحمّل الإمامة من بعده ، وقاد الاُمة الى

__________________

(١) الكافي ، الأصول ( ٢ : ٢٨١ ) باب مجالسة أهل المعاصي (ح ١٦).

(٢) الاختصاص (ص ٦٤) ورواه الخصيبي في ( الأبواب ) بزيادة قوله : « حتى تؤمنوا بالله وحده » فلاحظ الباب (٥) ص ( ١٢٤ : ألف ).

(٣) رجال الكشي (ص ١٢٣) رقم (١٩٤).

(٤) انظر رجال الكشي (ص ١١٩) رقم (١٩٠) بحار الأنوار ( ٤٦ : ١٣٦ ) ومروج الذهب ( ٣ : ١٧٣ ) والامامة والسياسة ( ٢ : ٥١ ) والاختصاص (ص ٢٠٥).

(٥) أيام العرب في الإسلام (ص ٤٧٨).

(٦) لاحظ تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث عند الشيعة الإمامية وغيرهم وانظر عوالم العلوم (ص ٢٧٩).

(٧) رسالة أبي غالب الزراري (ص ١٩٠) الفقرة (٤).

١٢٨

الهدى والرشاد ، وأسّس المدرسة الفقهيّة على قواعد الإسلام المتينة ، ومصادره واُصوله الرصينة ، عندما بدأ الحكّام بترويج فقه وعّاظ السلاطين ، فحفظ بذلك الشريعة المقدّسة من الزوال.

وابنه الحسين الأصغر ، الذي روى عن أبيه العلم ، وكان مشارا إليه في العبادة والصلاح (١).

وأخذ الحديث عن عمّته فاطمة بنت الحسين ، وأخيه الإمام الباقر عليه‌السلام (٢).

وقال فيه الإمام الباقر عليه‌السلام : أمّا الحسين فحليم ، يمشي على الأرض هونا (٣).

وابنه العظيم المجاهد في سبيل الله زيد الشهيد عليه‌السلام الذي ضرب أروع الامثلة في الإباء والحميّة ، والفداء والتضحية.

وكان عين اخوته ـ بعد أبي جعفر عليه‌السلام ـ وأفضلهم ، وكان عابدا ورعا ، فقيها ، سخيّا ، شجاعا ، وظهر بالسيف ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين عليه‌السلام (٤).

إن ثورة زيد بن علي عليه‌السلام كانت عظيمة من حيث توقيتها ، وآثارها التي خلّفتها ، لخدمة حقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، ونستعرض في ما يلي بعض ذلك :

١ ـ إنّ هذه الحركة الشجاعة دلّت على أنّ البيت الذي يلد مثل زيد من الرجال ، في البطولة والشهامة ، والجرأة والإقدام ، فضلا عن العلم والعبادة والتقى ، لا يبنى على التخاذل والمهادنة مع الظالمين ، أو الابتعاد عن السياسة والتوجّس من العذاب ، والهول من المصائب.

ولو كان لأحد أثر في تربية زيد الشهيد على كلّ تلك الصفات ، فليس إلاّ لأبيه الإمام الطاهر زين العابدين ، وإلاّ لأخيه الإمام الباقر عليهما‌السلام ، اللّذين علّماه الإسلام بما فيه من تعاليم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرّساه التاريخ بما فيه

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (ص ٢٦٩).

(٢) الإرشاد للمفيد (ص ٢٦٩).

(٣) حياة الإمام محمد الباقر ( ١ : ).

(٤) الإرشاد للمفيد (٢٦٨).

١٢٩

بطولات جدّه عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وذكّراه بثارات جدّه الحسين عليه‌السلام ، وزقّاه المجد والكرامة ، ولقّناه الإباء والحريّة (١).

واستلهم ـ هو ـ من حياة أبيه وأخيه ، وسيرتهم الحميدة والأصيلة ، ونضالهم الصامت والناطق سنن التضحية والفداء ، حتى جعل في مقدمة أهداف ثورته العظيمة : الطلب بثارات الحسين عليه‌السلام في كربلاء (٢).

٢ ـ إنّ ثورة زيد بن علي عليه‌السلام هي الثمرة اليانعة للجهود السياسية التي بذلها الإمام زين العابدين ، طول فترة إمامته ، فهو الذي تمكّن بتخطيطه الدقيق من استعادة القوى ، وتهيئة النفوس ، لمثل حركة ابنه الشهيد ، وإن صحّ التعبير فهو الذي جيّش لابنه زيد ذلك الجيش المسلّح ، الذي فاجأ الظالمين ، وزعزع ثقتهم بالحكم الظالم.

فلم يكن الجيش الذي كان مع زيد وليد ساعته ، أو يومه ، أو شهره ، أو سنته ، مع تلك المقاومة الباسلة التي أبداها أصحابه وأنصاره (٣).

٣ ـ ويكفي زيد بن علي عليه‌السلام عظمة أنه ضحّى بنفسه في سبيل تعزيز مواقع الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد كشف للأمويين الطغاة ، في فترة حساسة من تاريخ حكمهم ، أنّ أهل البيت عليهم‌السلام لا يزالون موجودين في الساحة ، ولديهم القدرة الكافية على التحرّك في أيّ موقع زمني ، وأي موضع من البلاد ، وهذا ما جعل الأمويين يهابون الأئمة عليهم‌السلام ويعدّونهم المعارضين الأقوياء ، المدافعين عن هذا الدين ، برغم جسامة التضحيات التي كانوا يقدّمونها ، وأبان الشهيد زيد لكلّ الظالمين أنّ أهل اليت عليهم‌السلام لا يسكتون عمّن يعتدي على كرامة الإسلام ، مهما كلّف الثمن.

وبهذا يفسّر قوله لابن أخيه الصادق جعفر بن محمد ـ لما أراد الخروج الى الكوفة ـ : أو ما علمت يابن أخي أن قائمنا لقاعدنا ، وقاعدنا لقائمنا ، فإذا خرجت أنا وأنت ، فمن يخلفنا في حرمنا؟ (٤)

__________________

(١) تعلم زيد على ابيه وعلى أخيه الباقر عليهما‌السلام انظر : طبقات ابن سعد ( ٥ : ٢٤٠ ) وتاريخ ابن عساكر ( تهذيب بدران ) ( ٦ : ١٩ ) وانظر : ثورة الحسين لناجى حسن ( ص ٢٨ و ٣٢ ).

(٢) الإرشاد للمفيد (٢٦٨) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي (ص ٣٥).

(٣) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص ٩٨ ).

(٤) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة (ص ٢٢٠).

١٣٠

٤ ـ إن قيام الشهيد زيد بن علي عليه‌السلام ، بحركته خارج حدود المدينة صرف أنظار الحكّام عن قطب رحى الدين ، ومحور فلك الإمامة والقيادة ، وهم الأئمة القائمون في المدينة المنوّرة ، بحيث تمكّن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام من أداء دوره القياديّ ، مستفيدا من كلّ الأجواء الإيجابيّة التي خلقتها ثورة عمّه الشهيد زيد بن علي عليه‌السلام ، لينشر علوم آل محمد الحقّة ، ويربّي الجيل الإسلامي المؤمن.

وكفى ذلك عظمة ومجدا وهدفا ساميا.

٥ ـ وكان من ثمرات ثورة زيد بن علي عليه‌السلام أنه أثبت للأمة صدق الدعوى التي يرفع رايتها أئمة أهل البيت ، في الدفاع عن هذا الدين والنضال من أجله ، فهذه التضحيات الكبرى أوضح شاهد على ذلك.

وكان ذلك تعزيزا علميا لمواقع أهل البيت عليهم‌السلام في أوساط الأمّة الإسلامية (١).

__________________

(١) إقرأ مفصلا عن زيد الشهيد وأخباره في عوالم العلوم (ص ٢١٩) وما بعدها من الجزء الخاص بترجمة الإمام السجاد عليه‌السلام.

١٣١

ثانيا : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة

إن كان الإصلاح من أبرز ما يقصده الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، لأنّ مهمتهم إنّما جعلت في الأرض لدفع الفساد عنها بهداية الخلق الى ما هو صالح لهم ، وقطع دابر المفسدين.

فإن كان هذا هو الحق : فإن الإمام زين العابدين عليه‌السلام لم يتخلّ عن موقعه الإلهي ، كقائد للأمة الإسلامية ، ومصلح للمجتمع الإسلاميّ ، وقد تبلور في ساحة العمل الأجتماعي ، في كل زواياها وأطرافها ، وأبرزها المطالبة بإصلاح جهاز الحكم.

أنّ أقصى ما يريد أن يبعده المؤرخون المحدثون عن حياة الإمام زين العابدين هو العمل السياسي ، والتعرّض للجهاز الحاكم ، والتطلّع الى إصلاح الدولة ، فيحاولون الإيحاء ـ بعبارات شتّى ـ أنّ الإمام عليه‌السلام لم يكن سياسيّا ، وكان بعيدا عن التورّط في ما يمسّ قضايا السياسة من قريب أو بعيد ، وأنه انزوى متعبّدا بالصلاة والدعاء والاعتكاف!

ومع اعتقادنا أنّ مزاولات الإمام الدينيّة ـ كلّها من صميم العمل السياسي ، وخصوصا في عصره ، إذ لم يسمع نغم الفصل بين السياسة والدين ، بعد!

فمع ذلك : نجد في طيّات حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام عيّنات واضحة ، من التدخّلات السياسيّة الصريحة.

فهو في ما يلي من النصوص المنقولة عنه ، يبدو رجلا مشرفا على الساحة السياسية ، فهو يدخل في محاورات حادّة ، ويتابع مجريات الأحداث ، ويدلي بتصريحات خطرة بشأن الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمّة ، وهو ينميها ـ بكل صراحة ـ الى فساد الدولة.

١ ـ قال عبد الله بن حسن بن حسين :

كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة ، هو ، وعروة بن الزبير ، في مؤخّر مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! بعد العشاء الآخرة ، فكنتُ أجلس معهما ، فتحدّثا ليلة ، فذكرا جور من جار من بني اٌمية ، والمقام معهم ، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك!

ثمّ ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم!

١٣٢

فقال عروة لعلي : يا علي ، إنّ من اعتزل اهل الجور ، والله يعلم منه سخطه لإعمالهم ، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم.

قال : فخرج عروة ، فسكن العقيق.

قال عبدالله بن حسن : وخرجت أنا فنزلت سويقة (١).

إمّا الإمام زين العابدين فلم يخرج ، بل : آثر البقاء في المدينة طوال حياته (٢) لأنه يعدّ مثل هذا الخروج فرارا من الزحف السياسي ، وإخلاءا للساحة الاجتماعية للظالمين ، يجولون فيها ويصولون.

وما أعجب ما في النصّ من قوله : « يجلسون كلّ ليلة ... في مسجد الرسول » وكأنّه اجتماع منظّم ، ولا ريب أن فيه تحدّيا صارخا للنظام يقوم به الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

ولعلّ اقتراح عروة بن الزبير ـ وهو من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام ـ (٣) كان تدبيرا سياسيّا منه ، أو من قبل الحكاّم ، ومحاولة لإبعاد الإمام عليه‌السلام عن الحضور في الساحة الاجتماعية ، لكنه عليه‌السلام لم يخرج ، وظل يداوم مسيرته النظاليّة.

٢ ـ وفي حديث آخر : قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : إنّ للحمق دولة على العقل وللمنكر دولة على المعروف ، وللشرّ دولة على الخير ، وللجهل دولة على الحلم ، وللجزع دولة على الصبر ، وللخُرْق دولة على الرفق ، وللبؤس دولة على الخصب ، وللشدّة دولة على الرخاء ، وللرغبة دولة على الزهد ، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف ، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة.

فنعوذ بالله من تلك الدول ، ومن الحياة في النقمات (٤).

وإذا كانت « الدولة » ـ في اللسان العربّي ـ هي : الغلبة والاستيلاء ، وهي من أبرز مقوّمات « السلطة الحاكمة » فإنّ الإمام عليه‌السلام يكون قد أدرج قضيّة السلطة السياسيّة

__________________

(١) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٢١ ).

(٢) جهاد الشيعة ، لليثي (ص ٢٩).

(٣) لاحظ تنقيح المقال ( ٢ : ٢٥١ ).

(٤) تاريخ دمشق ( الحديث ١٤٢ ) مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٥٥ ).

١٣٣

في سائر القضايا الحيويّة ، والطبيعية ، التي يهتّم بها ، ويفكّر في إصلاحها ، ويحاول رفع مشكلاتها التي تستولي على الإنسان ، من اقتصاديّة ، وثقافيّة ، ونفسيّة ، ودينيّة.

فمن ـ يا ترى ـ يعني الإمام عليه‌السلام بالبيوتات الخبيثة التي لها السلطان على الأشراف ، في عصر الإمام عليه‌السلام؟!

ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره عليه‌السلام؟!

وهل التعوّذ بالله من دولة السلطان ، يعني أمرا غير رفض وجوده ، واستنكار سلطته؟!

وهل لسياسيّ آخر حضور أقوى من هذا ، في مثل ظروف الإمام عليه‌السلام وموقعه ، وضمن تخطيطه الشامل لحلّ المشاكل؟!

وأخيرا هل يصدر مثل هذا من رجل ادُّعيَ : أنّه ابتعد عن السياسة ، أو اعتزلها؟!

١٣٤

ثالثا : في مجال مقاومة الفساد

وإذا كان من أهم واجبات المصلح ، وخاصّة الإلهي ، مقاومة الفساد ، ومحاربة المفسدين في الأرض ، فإنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام قام بدور بارز في أداء هذا المهمّ.

وقد تميّز عصر الإمام عليه‌السلام ، بمشاكل اجتماعيّة من نوع خاصّ ، وقد تكون موجودة في كثير من الأوقات ، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحا ، ومكثّفا ، كما أنّ الإمام زين العابدين قام بمعالجتها بأسلوبه الخاصّ ، مما أعطاها صبغة فريدة ، تميّزت في نضال الإمام عليه‌السلام ، أهمها :

١ ـ مشكلة العصبيّة ، والعنصريّة.

٢ ـ مشلكة الفقر العام.

٣ ـ مشكلة الرقّ والعبيد.

ولنبحث عن كل واحدة ، وموقف الإمام عليه‌السلام في معالجتها :

١ـ مقاومة العصبيّة والعنصريّة :

إن الأمويين ـ بعد إحكام قبضتهم على الحكم ـ اعتمدوا سياسة التفرقة العنصرية بين طوائف الأمة ، والعصبية القبليّة بين مختلف طبقاتها ، محاولين بذلك تفتيت المجتمع الإسلامي ، وتقطيع أواصر الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية ، تلك الوحدة التي شرّعها الله بقوله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً * وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [ سورة الأنبياء : «٢١» الآية : ٩٢ ].

ودفعا لها على التفرّق الذي نهى عنه الله بقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) [ سورة آل عمران : «٣» الآية : ١٠٣ ].

حتى وصل الأمر الى : أنّه تتابع فخر النزاريّة على اليمنيّة ، وفخر اليمنيّة على النزاريّة ، حتى تخرّبت البلاد ، وثارت العصبيّة في البدو والحضر ـ كما يقول المسعودي ـ (١).

__________________

(١) مروج الذهب ( ٢ : ١٩٧ )

١٣٥

وقال ابن خلدون : إن عصبيّة الجاهلية نسيت في أول الإسلام ، ثم عادت كما كانت ، في زمن خروج الحسين عليه‌السلام عصبية مضر لبني اُمية كما كانت لهم قبل الإسلام (١).

فقاموا بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشرع ، مثل تأمير العراب ، وتقديم العربي ولو كان خاملا على الكفوئين من غير العرب ، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة ، بتنصيب العرب في مناصب الديوان ، والقضاء ، وحتى الفقه.

وتجاوزوا كلّ الأحكام الشرعية في التزامهم باساليب الحياة العربية الجاهلية ، فتوغّلوا في اللهو والاستهتار بالمحرّمات ، والظلم ، والقتل ، حتى تجاوزوا أعرافا عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام ، فخانوا العهد ، وأخفروا الذمّة ، وهتكوا العرض (٢).

ولقد بلغت تعدّياتهم أن كان معاوية : يعتبر الناس العرب ، ويعبر الموالي شبه الناس (٣).

وقد استغّل الجاهلون هذا الوضع ، فكان العرب لا يزوّجون الموالي (٤).

وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة ـ بلال بن أبي بردة ـ ضرب شخصا من الموالي ، لأنه تزوج امرأة عربيّة (٥).

ووصلت عدوى هذا المرض الى علماء البلاط أيضا فاتبعوا سياسة الاسياد ، فقد وجّهت الى الزهريّ تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي ، فسئل عن ذلك؟ فاعترف به (٦).

__________________

(١) نقله علي جلال في كتاب : الحسين عليه‌السلام ( ٢ : ١٨٨ ).

(٢) لاحظ : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، لأبي الحسن الندوي. وأقرأ ثورة زيد ( ص ٧٧ وما بعدها ).

(٣) تاريخ دمشق ، مختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٨٤ ).

(٤) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب (٢٦) الحديث (٤) تسلسل (٢٥٠٦٠) ولاحظ العقد الفريد ، للأندلسي ( ٣ : ٣٦٠ ـ ٣٦٤ ).

(٥) لاحظ : طبقات ابن سعد ( ٧ : ٢٦ ق ٢ ). وانظر تهذيب الكمال ، للمِزي ( ٤ / ٢٧٢ ).

(٦) المحدث الفاصل ، للرامهرمزي ( ص ٤٠٩ ) رقم (٤٣١) والجامع لأخلاق الراوي ،

١٣٦

قال أحمد أمين المصريّ : لم يكن الحكم الأموي حكما إسلاميا يسّوى فيه بين الناس ، ويكافأ فيه المحسن عربيا كان أو مولى ، ويعاقب من أجرم عربيا كان أم مولى ، ولم تكن الخدمة للرعيّة على السواء ، وإنّما كان الحكم عربيّا ، والحكّام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم ، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية ، لا النزعة الإسلاميّة (١).

ولقد قاوم الإمام زين العابدين عليه‌السلام هذه الردّة الاجتماعية عن الإسلام بكل قوّة ، وتمكن ـ بحكم موقعه الاجتماعي ، واصالته النسبية ـ أن يقتحم على بني اُميّة ، بلا رادع أو حرج.

قال الدكتور صبحي : في ما كان الأمويون يقيمون ملكهم على العصبيّة العربيّة عامة ، كان زين العابدين عليه‌السلام يشيع نوعا من الديمقراطيّة الاجتماعية (٢) بالرغم مما يجري في عروقه من دم أصيل ، أباً وأمّاً ، وقد أقدم على ما زعزع التركيب الاجتماعي للمجتمع الإسلامي الذي أراد له الأمويّون أن يقوم على العصبيّة (٣).

وقد قاوم الإمام زين العابدين عليه‌السلام ذلك ، نظريا بما قدّمه من تصريحات ، وعمليّا بما أقدم عليه من مواقف :

فكان يقول : لا يفخر أحدٌ على أحدٍ ، فإنّكم عبيد ، والمولى واحدٌ (٤).

وكان يجالس مولى لآل عمر بن الخطاب ، فقال له رجل من قريش ـ هو نافع بن جبير ـ : أنت سيّد الناس ، وأفضلهم ، تذهب الى هذا العبد وتجلس معه؟!

__________________

للخطيب ( ١ / ١٩٢ ).

(١) ضحى الإسلام ( ١ : ١٨٧ ).

(٢) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : « لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم ... كان منهجه في حياته الخاصة » وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص ١٠ ـ ١١ ).

(٣) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص ٦ ـ ٢٥٧ ).

(٤) بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام ( ص ٢١٧ ).

١٣٧

فقال عليه‌السلام :أءتي من أنتفع بمجالسته في ديني (١) أو قال : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع (٢).

ومن المعلوم أن ما ينتفع به الإمام عليه‌السلام من هذا المولى ليس إلاّ بنفس المجالسة ، فإنّ هذه المجالسة تحقّق للإمام غرضه السياسي من إعلان معارضته لسياسة بني اُميّة المبتنية على طرد الموالي وعدم احترامهم ، فإذا جالسه الإمام زين العابدين عليه‌السلام ـ وهو من لا ينكر شرفه نسبا وحسبا ـ فإنّ ذلك نسف لتلك السياسة التي تبنتها الدولة ورجالها!

وقال له طاوس اليماني ـ وقد رآه يجزع ويناجي ربّه بلهفة ـ : يابن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع ، ... ، وأبوك الحسين بن علي ، واُمّك فاطمة الزهراء ، وجدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

فالتفت الإمام عليه‌السلام إليه وقال : هيهات ، هيهات ، يا طاوس ، دع عنّى حديث أبي ، وأُمّي ، وجدّي ، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ، ولو كان ولدا قرشيّا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) [ سورة المؤمنون (٢٣) الآية : ١٠١ ].

والله ، لا ينفعك ـ غدا ـ إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح (٣).

واعتق الإمام زين العابدين عليه‌السلام مولاة له ، ثم تزوّجها ، فبلغ ذلك عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي ، فعدّها تحدّيا لعرف السلطة الحاكمة ، فكتب الى الإمام يحاسبه ويعاتبه على ذلك ، ومما جاء في كتابه : « إنّك علمت أنّ في أكفائك من قريش من تتمجّد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ، ولا على ولدك أبقيت ... ».

وهذا كلام ـ مع أنه ينمّ عن التعزّي بعزاء الجاهلية في عنصريتها وغرورها ـ فهو تعريض بالإمام عليه‌السلام أنه ليس بحكيم ، وأنه بحاجة الى أن يتمجّد بمصاهرة واحد من

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٨٨ ) وانظر حلية الأولياء ( ٣ : ١٣٧ ) وصفوة الصفوة ( ٢ : ٩٨ ).

(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٣٠ ) ومختصر ابن منظور ( ١٧ : ٢٣٣ ) وطبقات ابن سعد ( ٥ : ٢١٦ ).

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ( ٣ : ٢٩١ ) كشف الغمة ( ٤ : ١٥١ ) بحار الأنوار ( ٤٦ : ٨٢ ) ونقل عن مجالس ثعلب ( ٢ : ٤٦٢ ).

١٣٨

قريش ، وأن ولده لا ينجب إلاّ بمثل ذلك ، متغافلا عن أن الإمام عليه‌السلام بنفسه هو مصدر الحكمة والمجد والنجابة.

فأجابه الإمام زين العابدين عليه‌السلام بكتاب ، جاء فيه :

« أمّا بعد : فقد بلغني كتابك ، تعنّفني فيه بتزويجي مولاتي ، وتزعم : « أنه كان في قريش من أتمجّد به في الصهر ، واستنجبه في الولد ».

وإنه ليس فوق رسول الله مرتقى في مجد ، ولا مستزاد في كرم.

وكانت هذه الجارية ملك يميني ، خرجت منّي إرادة لله عزوجل بأمر ألتمس فيه ثوابه ، ثم ارتجعتها على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن كان زكيّا في دين الله تعالى فليس يخلّ به شيء من أمره.

وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمّم به النقيصة ، وأذهب به اللؤم ، فلا لؤم على امرىء مسلم ، وإنّما اللؤم لؤم الجاهلية.

والسلام » (١).

وقد عرّض الإمام عليه‌السلام في هذا الكتاب بأن ما يقوم به حكّام بني اُمية من تبنّي العصبية هو مخالف للإسلام ولسنة الرسول ، بل قلب عليه كل الموازين التي اعتمدها في كتابه الى الإمام ، وجعل العتاب مردودا عليه ، والنقص والعار واردا على الجاهلية التي يتبجّح بها من خلال العصبية.

وقال عليه‌السلام : لا حسب لقرشي ، ولا عربي إلاّ بالتواضع ، ولا كرم إلاّ بالتقوى ، ولا عمل إلاّ بالنيّة ، ولا عبادة إلاّ بالتفقّه ، ألا وإن أبغض الناس الى الله من يقتدي بسنّة إمام ، ولا يقتدي بإعماله (٢).

وقال عليه‌السلام : العصبية التي يأثم صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه

__________________

(١) الكافي ، الفروع ( ٥ : ٣٤٤ ).

(٢) تحف العقول ( ص ٢٨ ).

١٣٩

على الظلم (١).

وهذا حسم قيّم في هذا المجال ، حيث أن الميل الى العصبة والقبيلة أمر طبيعيّ ، جرت عليه العادة ، فإذا كان على أساس الحب والولاء فهو أمر جيّد ، لكن إذا كان على أساس المحاباة ، وظلم الآخرين وعلى حساب حقوق الأباعد ، أو كان من باب اعانة الظالم ، فهذا هو المردود في الإسلام.

والذي يدّعيه أصحاب النعرات العنصريّة ، وأهل الغرور والجهل ، الفارغين من القيم ، كبني اُميّة ، هو النوع الثاني.

إنّ هذه التصريحات ، وتلك المواقف ، بقدر ما كانت مثيرة للسلطة المتبيّنة لسياسة العصبية والعنصرية ، حتّى أثارت أحاسيس الملك نفسه ، فهي في الوقت ذاته كانت منيرة للدرب أمام الاُمة الإسلامية بكلّ طوائفها وأجناسها وألوانها وشعوبها وقبائلها ، تلك المغلوبة على أمرها ، تفتح أمامها أبواب الأمل بالإسلام ورجاله المخلصين ، الذين يقود مسيرتهم في ذلك العصر الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

٢ ـ ضد الفقر :

من المشاكل الاجتماعيه الخطيرة ، التي يستغلها الحكام لاٍحكام سيطرتهم على الأمة هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة الى المال ، فإن السلطات تحاول اتّباع سياسة التجويع من جهة ، لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل مع السلطات ، وثم سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى ، لتعويد الناس على الترف وزجّهم في الجرائم والآثام.

وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد ، وهو المال ، يستفيدون منه في القضاء على من لا يرضى بهم ، وفي جذب من يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادّة المغرية.

وقد ركن معاوية الى هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد ، فأوعز الى ولاته في جميع الأمصار : انظروا من قامت عليه البينّة أنه يحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من

__________________

(١) بلاغة علي بن الحسين عليه‌السلام ( ص ٢٠٣ ).

١٤٠