جهاد الامام السجّاد

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

جهاد الامام السجّاد

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-5985-22-6
الصفحات: ٣٥٧

السبيل هو إثارة موضوع « خلافة الشيخين : أبي بكر وعمر » اللذين حكما الأمة باسم الخلافة فترة غير قصيرة ، وأصبحت خلافتهما مثارا للبحث بين كلّ من الشيعة وأهل السنّة.

فالخلافة والإمامة ، يراها الشيعة حقّا لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام بالنصّ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق إلاّ عن الوحي الإلهي ، وقد التزموا بهذا على أنه واحد من أصول مذهبهم ومعتقدهم ، وهو المميّز لهم عن أهل السنّة ، الملتزمين بخلافة من استولى على أريكة الحكم ، كما حدث بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ حكم ابو بكر ، ثم عمر بدعوى وأنّ ذلك تمّ برضا من الناس الحاضرين ، وأنّ ذلك كاف في تحقّق الحقّ لهما في الخلافة ، وهو الدليل على فضلهما ومنزلتهما عند المسلمين الذين سكتوا على ذلك.

ومن الواضح ـ تاريخّيا ـ أنّ الجميع لم يحضروا مجلس البيعة للشيخين في سقيفة بني ساعدة.

ومجرّد السكوت في مثل هذا الموقف لا يدّل على الرضا ، لاحتمال الخوف ، والمداراة ، والغفلة ، أو الطمع في الحكم والمنصب.

مع حصول الاعتراض العلنّي قولا وفعلا من بعض كبار الصحابة.

وتعيين بعض الناس ورضاهم وسكوتهم ، أمور إن دلّت على الفضل والمنزلة عندهم ، فهي لا تدلّ على الرضا عند الله ورسوله وجميع المؤمنين!

ومع وجود هذه المفارقات ، فإن في المسلمين من لم تثبت عندهم خلافة الشيخين بطريق من الشرع الكريم ، فلذا رفضوا هذا الموقف ، وإن وقع ، والتزموا بما هو الحقّ ، وإن لم يقع!

ولقد جوبه هذا الالتزام بالاستنكار العنيف من قبل أهل السنّة فاعتبروه « كفرا » وأحلّوا دماء « الرافضة » بزعمهم مع اعترافهم بأنّ التأويل يمنع من التكفير ، وأن الحدود تدْرَءُ بالشبهات!!

وكان الأمويّون يثيرون هذا الخلاف لاصطياد أغراضهم من تعكير الماء ، بين فئات المسلمين.

١٠١

فكان موقف الإمام السجاد عليه‌السلام مقاومة ذلك بحكمة وحنكة ، حتى صيّر أمره الى الإحباط.

فلابدّ أن يعرف : أنّ قضيّة الإمامة وثبوتها لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وخلافة الخلفاء وحقّهم في الحكم ، قضيّة أدق من أن يبتّ فيها بمجرد الرفض واللعن والتكفير والطرد ، والقذف والسبّ ، أو إثارة الضجيج والعجيج ، وكيل التهم والتقبيح ، والتنفير والتهجير ، والاستهزاء والتهجين.

بل هي عند العقلاء قضيّة قناعة واعتقاد وأرقام ونصوص وحقوق وصفات وفضائل.

وهي عند أهل البيت عليهم‌السلام قضيّة هداية وإيمان ، محورها « الحق » الذي أمرنا الله بالتواصي به ، والصبر عليه.

واذا تصدّى لها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وتعرّضوا لها ، وطالبوا بها فليس لحاجة في أنفسهم إليها أو الى مآربها ، بل إنما من أجل أولئك الناس أنفسهم ، وهدايتهم الى « الحق » المنشود من كلّ الرسالات الإلهية.

فقد كان الإمام السجاد عليه‌السلام يقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس؟! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا ، لم يسعنا ... (١).

وكان الإمام الباقر عليه‌السلام يقول : بليّة الناس ـ علينا ـ عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (٢).

وبهذا المنطق ، الواقعي ، المتين ، الحنون ، الواضح ، دخل أهل البيت عليهم‌السلام في موضوع الخلافة والإمامة ، وحكموا عليها ولها.

وإذا كان هذا هو المنطلق ، فلا بدّ أن يكون المسير على طريق مصلحة الناس ، وهم المسلمون في كلّ عصر ومصر ، ومن أجل الحفاظ على دينهم الحقّ وهو الإسلام المحمّدي الخالص.

وعلى هذا الأساس ، لم يسمح الأئمة عليهم‌السلام للغوغاء ، أن يتدخّلوا في هذه القضيّة ـ الخلافة ـ كي لا يغرقوا في غمارها ، ولا يصبحوا ألعوبة في أيدي الدهاة

__________________

(١) الكافي ( ٣ / ٢٣٤ ) وقد مرّ تخريجه.

(٢) الإرشاد للمفيد (ص ٢٦٦).

١٠٢

الماكرين من حكّام الجور والضلالة ، بإثارة الشغب والفتنة بين طوائف الشعب ، على حساب قضيّة « الخلافة ».

فإن الغوغاء لا يدخلون في أيّة قضية على أساس المنطق السليم ، ولا من منطلق قويم ، ولا يمشون على الصراط المستقيم ، بل على طبيعتهم في الجدل العقيم ، وعلى طريقتهم في القذف واللعن والطرد ، وهي بالنسبة إليهم البداية المحسوبة ، والنهاية المطلوبة.

وليس الهدف عند الإئمة من أهل البيت عليهم‌السلام إلاّ « الحقّ » وأن يتبّين الرشد من الغيّ.

وقد كان الأمويّون يثيرون القضية على مستوى العوام الطغام ، والغوغاء الهوجاء ، ويهدفون من ذلك القضاء على وحدة المسلمين ، باتّهام أهل البيت وأتباعهم ، وهم يمثّلون أقوى الخطوط المعارضة لحكمهم.

ولقد كان موقف الإمام السجاد عليه‌السلام في إحباط هذه الخطط الأمويّة الجهنميّة ، شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا :

فهو عليه‌السلام لمّا سئل عن منزلة الشيخين عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أشار ـ بيده ـ الى القبر ـ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ثمّ قال : بمنزلتهما منه الساعة (١) وفي نصّ آخر : كمنزلتهما منه اليوم ، وهما ضجيعاه (٢).

فمثير السؤال ، إنّما أراد أن يعلن الإمام عن رأيه في الشيخين من حيث الفضل والمقام والرتبة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ولكنّ الإمام السجاد عليه‌السلام لم يفسح له المجال في إثارته المريبة ، فأجابه عن موضعهما من حيث المكان والمنزل والمدفن ، من دون أن يتعدى في الإجابة الحقيقية الظاهرة ، أو يتجاوز الحقّ المفروض ، فهما ـ الشيخان ـ كانا قريبين ـ جسدّيا ـ كما هما في قبريهما ـ الآن ـ بالنسبة الى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن هل هذا كرامة لهما ، وقد دفنا في مالم يملكا حقّ الدفن فيه؟!

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ( ٤ : ٤ ـ ٣٩٥ ).

(٢) تاريخ دمشق ( حديث ٩٢ ) ومختصر ابن منظور له ( ١٤٧ : ٢٤٠ ).

١٠٣

ويقول لمثير آخر : إذهب ، فأحِبَّ أبا بكر وعمر ، وتولّهما ، فما كان من إثم ففي عنقي (١).

وبمثل هذه القوة ، يبعد الإمام عوام الناس عن التوجّه الى هذه القضيّة الحسّاسة ، في ميدان الصراع ذلك اليوم ، فقد كانت أصول الدين ، وقواعده ، وفروعه ، وأحكامه الاساسيّة ، مهدّدة ، يتهدّدها الطغيان الأمويّ ، وكبار الصحابة ، وعلماء الأمة ، يذبّحون كل صباح ومساء ، فكان الإعراض عن القضايا الاساسيّة العاجلة ، والبحث عن قضية الشيخين البائدة ، تحريفا لمسير النضال ، وتشتيتا لقوى المناضلين ، مع أنه خداع ومكر يطرحه الحكّام الظالمون للتفريق بين الأمة ، لصرفها عن القضايا المصيرية ، المعاصرة ، التي هي محلّ ابتلاء المسلمين فعلا الى قضايا تاريخيّة غير حيويّة!

فإثارة مشكلة الخلافة ـ آنذاك ـ لم يزد أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم إلاّ انزواءاً وانعزالا عن المجتمع العام ، وذلك هو المطلوب لرجال الدولة ، لأنّه ييسّر لهم اجتثات أصول المعارضة ، والقضاء على جذورها.

بينما التعبير عن تولّي الشيخين ، وعامة الناس هم على ذلك بمن فيهم المثيرون ، لا يغّير الآن شيئا ، وليس له مفعول مثل ما لتولّي بني امية اليوم ، وهم حكّام مستحوذون مستخلفون كما استُخلِفَ أبو بكر وعمر ، لكنّ هؤلاء مالكو الساحة اليوم ، مع مالهم من مخالفات حتى لسنّة الشيخين ، تلك السنّة التي التزموا بها ودعوا إليها ، وباسمها استولوا على الأمور.

وليست ولاية الشيخين بمجرّدها هي المشكلة الفعليّة العائقة ، بل المشكلة ـ الآن ـ هي ولاية بني أمية! الذين يستخدمون فكرة ولاية الشيخين ، ويريدون بذلك فقط أن يستمرّوا على الحكم والخلافة ، ويضربوا من لا يوافقهم على ولايتهم التي هي استمرار لولاية الشيخين.

والمفروض أنّ ولاية الشيخين ، أصبحت وسيلة بأيدي الأمويين ليثبّتوا عرشهم من جهة ، ويضربوا أهل البيت عليهم‌السلام من جهة أخرى.

فلذا أعلن الإمام زين العابدين عليه‌السلام للسائل ، بأنّ ولاية الشيخين ليست موضعا

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٩٧ ) ومختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٤١ ).

١٠٤

للنقاش ، في هذا الوقت ، إذ لا يترتّب عليها نفع للإسلام والمسلمين ، لمضيّ زمانها ، وإنّما المضرّ ـ الآن ـ هو ولاية بني أمية ، التي لا بدّ أن تميّز عن ولاية الشيخين! مهما كانت استمرارا لها!

ولقد كشف الإمام السجّاد عليه‌السلام عن أقنعة مثيري هذه الفتنة ، وفضحهم ، حيث قال لهم : قوموا عنّي ، لا قرّب الله دوركم ، فإنكم متستّرون بالإسلام ، ولستم من أهله ).

فقد أعلن أن مثيري القضيّة بشكلها الغوغائي ليسوا إلاّ من المبعوثين من قبل بني أمية وعيونهم ، ممن لا ينتمون الى الإسلام إلاّ ظاهريا ، وبالإسم فقط ، وإنّما يريدون بإثارة هذه القضية ، وحملها على أهل البيت ، هدم الإسلام ، المتمثّل ـ يومذاك ـ بشخص الإمام السجّاد عليه‌السلام وشيعته.

والإمام السجاد عليه‌السلام إنّما يهدف الى تجديد بناء الإسلام الذي هزْهزَ بنو أمية قواعده وأركانه.

وتربية الكوادر الذين أشرفوا على الانقراض على يد جلاوزة بني امية حكّام الشام.

وإرساء قواعد التشيّع التي أشرفت على الانهيار ، بعد فجيعة كربلاء.

وإحياء الأمل في النفوس التي صدمتها الحوادث المتعاقبة وزرعت فيها اليأس والخوف.

فما كان من المصلحة ـ أصلا ـ الإجابة على مثل تلك الأسئلة المثارة وقد كان مثيروها لا يمتّون الى الإسلام بصلة ، وإنما هم متقنّعون باسمه ـ لتمرير أهدافهم ـ بتقديم هذه الاسئلة ، وإثارة قضايا الخلاف في الخلافة ، التي يريد العدوّ أن يستغلّها بايّة صورة.

فالإجابة الصحيحة ، إذا كانت مخالفة لرأي العامة الغوغاء ، فإنّها تثيرهم ، فينثالون على البقّية الباقية من المؤمنين بخطّ أهل البيت عليهم‌السلام فيبيدونهم عن بكرة ابيهم ، فلا يبقى منهم نافخ نار ، ولا طالب ثار.

وكلّ ذلك من أجل قضيّة لا أثر لإثارتها هذا اليوم ، ولا دخل لها في القضايا

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٩٨ ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( ١٧ : ٢٤١ ).

١٠٥

المصيرية الراهنة ، في عهد الإمام عليه‌السلام ، فلا تسمن ، ولا تغني الأمة من جوع ، ولا تكسوهم من عرْيٍ ، أو تنجدهم من ظلم أو جور.

والمستفيد من تلك الإثارة ، هم الحكّام المسيطرون ، وهم ذلك اليوم بنو أمية ، الذين يحاولون وبشتّى الاسلايب إبادة الحضارة الإسلامية ، في فكرها ، وتراثها ، ورجالها ، ومقدساتها.

وهم الذين يسعون في إحياء الجاهلية ، في وثنّيتها وصنميّتها ، وعنصريتها ، وعصبيتّها ، وجهلها ، وفسقها ، وفجورها ، وظلمها ، وبذخها ، وكفرها ، وعتوّها.

فأيّة القضيّتين أولى بالبحث عنها عند الإمام السجّاد عليه‌السلام ، وأحقّ أن يركّز عليها ويعارضها؟

هل هي ولاية بني أمية؟

أو ولاية الشيخين؟

لقد كان ـ حقا ـ موقف الإمام السجّاد عليه‌السلام : شجاعا ، وصريحاً ، ومدروسا :

كان عليه‌السلام شجاعا :

أن يواجه ، ويجابه الذين كان يعلم نيّاتهم الخبيثة ، وأهدافهم الدنيئة ، من جواسيس بني امية ، وعيونهم ، ألبرءآء من الإسلام ، وكذلك في الإعلان عن خططهم وتدابيرهم الإجرامية.

فالذين لم يؤمنوا بأصل الإسلام ، كيف يهتمّون بقضيّة الخلافة والخلفاء السابقين؟

وما هو هدفهم من هذه الإثارة؟

ولو صدقوا في أسئلتهم : فلماذا لا يهتمّون بما يجري على المسلمين في ولاية بني امية؟

وما لهم لا يتساءلون عن حقّ بني أمية في الحكم الظالم؟

وهذا مثل ما تثيره الأجهزة الأستعمارية ، وأذنابهم النهضويّون والرجعيّون ـ في عصرنا الحاضر ـ من النزاعات المذهبيّة بين الطوائف الإسلامية الواعية ، فإن كل مسلم عاقل يفطن الى أنّ إثارتهم هذه ليست لمصلحة الأمة الإسلامية ، وإنما هم يهدفون من وراءها الى ضرب القدرة الإسلامية العظيمة والصحوة الإسلامية

١٠٦

المتنامية ، وتحطيم كيان الدين الإسلامي ، المركّز في قلوب الأمة.

وكان الإمام السجّاد عليه‌السلام صريحا :

في إعراضه عن تفصيل القضيّة ، حيث يجرّ الى ما يريده الإعداء ، بل صرف الأنظار الى ماهم مبتلون به من مشاكل ومآس ، بالولاية الباطلة التي تخيّم عليهم بضلمها وجرائمها وحكّامها الجائرين!

وكان موقفه مدروسا :

إذ لم يدل بتصريح يخالف الحقّ أو ينافي الحقيقة ، بل حافظ عليهما بقدر ما يخلّص الموقف من الحرج ، ويخرج الإنسان المسؤول من المأزق.

وموقف مماثل مع أحد العلماء :

لكن الحديث يأخذ شكلا آخر إذا كانت المواجهة مع أحد الذين ينتمون الى العلم ، لأنّ التنبيه على الحقائق ـ حينئذ ـ يكون أوضح وأصرح وألزم! لكن مع الأخذ بنظر الأعتبار كلّ الملاحظات الحسّاسة التي يتحرّج الموقف بها ، فاقرأ معي هذا الحديث :

عن حكيم بن جبير ، قال : قلت لعلي بن الحسين : أنتم تذكرون ـ أو تقولون ـ : إن عليا قال : « خير هذه الأمّة بعد نبيّها : أبو بكر ، والثاني عمر ، وإن شئت أن اُسمّي الثالث سمّيته »

فقال علي بن الحسين : فكيف أصنع بحديث حدّثنيه سعيد بن المسيّب عن سعد بن مالك [ ابن أبي وقاص ] أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج في غزوة تبوك فخلّف عليا ، فقال له : أتخلّفني؟

فقال : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنّه لا نبي بعدي »

قال : ثم ضرب علي بن الحسين على فخذي ضربة أوجعنيها ، ثم قال : فمن هذا هو من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة هارون من موسى؟ (١).

__________________

(١) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام للكوفي ج ١ ص ٥٢١ ح ٤٥١ و ح ٤٦١ ص ٥٢٨.

١٠٧

وفي نصّ آخر : فهل كان في بني إسرائيل بعد موسى مثل هارون؟ فأين يذهب بك يا حكيم؟ (١)

ففي الوقت الذي لا يواجه الإمام حكيم بن جبير بتكذيب ما نسب الى الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام من إعلانه أمام الأمّة من أنّ خيرهم أبو بكر ثم عمر ثم الثالث؟

فإن هذا المنسوب الى أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وإن لم يصح ـ فهو مشهور بين الناس ، بقطع النظر عن أن الإمام إنمّا أعلن عمّا عند الناس من التفضيل للشيوخ ، بعد أن صار أمرا مفروضا لايمكن مخالفته ، فما فائدة إنكاره.

فإن أعاد أهل البيت عليهم‌السلام نفس الصيغة وتناقلوها فلا يدل على التزام ، لأنه تعبير عن مظلومية علي عليه‌السلام حيث لم يستطيع أن يصرّح بخلاف ما عند العامّة الغوغاء ، بل كان من أهدافه في الحفاظ على وحدة كلمة المجتمع الإسلامي وسلامته في حدوده الداخلية ، بينما معاوية يهدّد أمن الدولة ويثير الخلاف والشقاق.

لكن الإمام السجّاد عليه‌السلام في حديثه مع حكيم بن جبير اتّخذ اسلوبا علميّا فذكّره بمناقضة هذا المنقول ـ رغم شهرته ـ مع الحديث المتواتر المعلوم المتيقّن بصدوره ، ومعناه ، وأهدافه ومرماه ، وهو حديث المنزلة أي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (٢).

الذي لا يمكن إنكار صدوره ، ولا الاختلاف في معناه.

فإذا كان عليّ بهذه المنزلة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصره وبحضور كبار الصحابة فهل يبقى للحديث المنقول عن علي في تفضيل الشيوخ معنى ، غير الذي نقلناه؟

وإذا كان الفضل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالترتيب المذكور عند الناس ، فهل يكون لحديث المنزلة معنى؟

مع أن التاريخ والقرآن لم يذكر في بني إسرائيل شخصا أفضل من هارون بعد موسى؟

__________________

(١) مناقب الكوفي ( ج ١ ص ٥٢٢ ) ح (٤٥٣).

(٢) نقلنا أقوال العلماء بتواتر هذا الحديث الشريف ، وذكرنا بعض مصادره في البحث الأوّل من التمهيد ، فراجع (ص ١٨).

١٠٨

ثم ينبّه الإمام السجّاد عليه‌السلام حكيما بضربة على فخذه ، وينبّهه بالعتاب فيقول : فأين يذهب بك يا حكيم؟

وهكذا كان السجّاد ـ رغم حصافة المواقف التي يتخذها ، والالتزام بالأهداف السامية في حفظ وحدة الكلمة ـ لايترك الحقيقة مهملة عندما كان يخاطب من يفهم ، ويدرك ، وينتبه!

وإن كان له مع الغوغاء غير المتفهمين ، لأهداف الأئمة والإمامة ، تعاملا آخر يناسب حالهم ، ويخاطبهم على قدر عقولهم.

والصلاة مع المخالفين :

وللإمام السجّاد عليه‌السلام موقف حازم مماثل من الدعايات المغرضة ، التي كان يبثها دعاة الضلال ضدّ شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو ما جاء في الحديث التالي :

قال محمّد بن الفرات : صلّيت الى جنب علي بن الحسين يوم الجمعة ، فسمعت ناسا يتكلّمون في الصلاة!

فقال عليه‌السلام : ما هذا؟

فقلت : شيعتكم! لا يرون الصلاة خلف بني أُمية!

قال عليه‌السلام : هذا ـ والذي لا إله إلاّ هو ـ بدع ، فمن قرأ القرآن ، واستقبل القبلة فصلّوا خلفه ، فإن يكن محسنا فله حسنته ، وإن يكن مسيئا فعليه (١).

فالمسلم الشيعيّ يقتدي بإمامه ، فإذا كان أولئك شيعة لأهل البيت عليهم‌السلام حقيقة ، وكانوا يرون الإمام السجاد عليه‌السلام وهو زعيم أهل البيت عليهم‌السلام في عصره ، ها هو واقف في الصفّ يؤدّي الصلاة مع جماعة الناس ، فما بالهم يلغطون ، ليعرّفوا أنفسهم أنّهم لا يصلّون مع الجماعة!؟

ولماذا يعرّفون أنفسهم بأنّهم شيعة لأهل البيت ، وهم يقومون بمثل هذا التحدّي السافر!؟

وإلاّ ، كيف عرفهم الناس بأنّهم شيعة؟!

__________________

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ١١٠ ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( ١٧ : ٢٤٣ ).

١٠٩

إنّ القرائن واضحة ، تعطي أنّ أولئك لم يكونوا من الشيعة ، بل من المندسّين لتشويه سمعة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ، لاتّهام أئمة أهل البيت والشيعة المؤمنين ، بمخالفة الجماعة.

ولذلك ، تدارك الإمام عليه‌السلام الموقف ، وأفتاهم أوّلا بما يلتزم به العامّة من الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر.

ولم يدل بتفصيل حكم المسألة الفقهيّة في مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو أنّ المؤمن إذا حضر صلاة الجماعة ، ولابدّ أن يحضر ، لأنّه لايمكنه الانعزال بل هو أولى بالمسجد من غيره (١) ، فعليه أن يقتدي بإمام الصلاة ، ويصلّي بصلاته ، وفي بعض النصوص : إنها أفضل الركعات (٢) بل في بعضها : « أن الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣) حيث تعطي روعة الوحدة التي كان عليها المسلمون في عهده الأزهر.

وإذا لم يحضر المؤمن صلاة الجماعة ، فليصلّ منفردا في بيته (٤).

وأمّا أن يحضر الصلاة ، ولا يصلّي مع الجماعة ، أو يلغط ويتكلّم فيشوّش على الآخرين أيضا ، فهذا حرام قطعا ، فكيف يقوم بذلك من يدّعي الانتماء الى التشيّع ويلتزم بإمامة الإمام زين العابدين عليه‌السلام؟! وهو يقوم بهذا العمل المخالف لفقه الأئمة.

فهذا في نفس الوقت تشهير بهم ، وتحريض للعامة ضدّهم ، بجرح عواطفهم!

إنّ مثل هذا العمل الاستفزازي لا يصدر من عاقل يريد مصلحة نفسه ، أو مصلحة إمامه ، أو مصلحة مذهبه.

مع مخالفته للإمام عليه‌السلام الذي هو واقف في صفّ الجماعة ، ويصرّح بذلك التصريح ، ومخالفته لفقه أهل البيت وتعليماتهم ومواقفهم العملية في الحضور في الجماعات وأداء الصلوات معها!!

__________________

(١) كما في نصّ الحديث لاحظ وسائل الشيعة ( ٨ / ٣٠٠ ) الباب (٥) من أبواب صلاة الجماعة كتاب الصلاة تسلسل (١٠٧٢٢).

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الجماعة ، الباب (٣٤) تسلسل (١٠٩٢٥).

(٣) المصدر السابق ( ٨ / ٢٩٩ ) تسلسل (١٠٧١٧) و (١٠٧٢٠) و (١٠٧٢٣).

(٤) المصدر نفسه ، تسلسل (١٠٧٣٣).

١١٠

ثالثا : في الشريعة والأحكام

يتميّز الإمام في نظر الشيعة ، بأنّه ليس وليّا للأمر ، وحاكما على البلاد والعباد فحسب ، بل هو مصدر لتشريع الأحكام أيضا ، باعتبار معرفته التامّة بالشريعة وارتباطه الوثيق بمصادرها.

والانحراف الذي حصل عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لم يكن في جانب حكمهم وولايتهم فقط ، بل الأضرّ من ذلك هو الانحراف عن أحكام الشريعة التي كانوا يحملونها!

والحكّام الذين استولوا على أريكة الخلافة بأشكال من التدابير السياسيّة حتّى بلغ أمرها أن صارت « ملكا عضوضا » كانوا يدركون أنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام هم أولى منهم في كلا جانبي الحكم والولاية ، وكذلك في جانب الفقه والعلم بالشريعة.

وكما أزْوَوا أئّمة أهل البيت عن الحكم والولاية على الناس ، حاولوا أيضا ـ إزواءهم عن الفقه وإبعاد الناس عنهم ، وذلك باختلاق مذاهب فقهيّة روّجوها بين الناس ، وعارضوا الأحكام التي صدرت من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وحاربوا فقهاءهم بشتّى الأساليب ، فكان من أعظم اهتمامات الأئمة وأتباعهم هو إرشاد الناس الى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلاميّة كي ينتهلوا منه.

وقد كان اهتمام الإمام السجّاد عليه‌السلام بليغا بهذا الأمر ، حيث كان يعيش بدايات الانحراف!

ولقد دعا الإمام عليه‌السلام الى فقه أهل البيت عليهم‌السلام لكونه أصفى المناهل وأعذبها ، وأقربها من معين القرآن الكريم ، وسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فأهل البيت أدرى بما في البيت ».

ففي كلام له يشرح اختلاف الاُمّة ، يقول :

وكيف بهم؟

وقد خالفوا الآمرين ، وسبقهم زمان الهادين ، ووُكّلوا إلى أنفسهم ، يتنسّكون في الضلالات في دياجير الظلمات

١١١

وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبويّة أخلاص الديانة ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانيّة ، وتغالوا في العلوم ، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته ، وتحلّوا بأحسن السنّة ، حتى إذا طال عليهم الأمد ، وبعدت عليهم الشقّة ، وامتحنوا بمحن الصادقين : رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى ، وعلم النجاة.

وذهب آخرون الى التقصير في أمرنا ، واحتجّوا بمتشابه القرآن ، فتأوّلوه بآرائهم ، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا ، يقتحمون أغمار الشبهات ، ودياجير الظلمات ، بغير قبس نور من الكتاب ، ولا أثرة علم من مظانّ العلم ، زعموا أنهم على الرشد من غيّهم.

والى من يفزع خلف هذه الامة؟!

وقد درست أعلام الملّة والدين بالفرقة والاختلاف ، يكفّر بعضهم بعضا ، والله تعالى يقول : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) [ ( سورة البقرة (٢) الآية (٢١٣) ].

فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة؟ وتأويل الحكمة؟ إلاّ الى أهل الكتاب ، وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدى من غير حجّة.

هل تعرفونهم؟

أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهّرهم تطهيرا ، وبرّأهم من الآفات ، وافترض مودّتهم في الكتاب (١).

وقال عليه‌السلام لرجل شاجره في مسألة شرعيّة فقهيّة :

يا هذا!

لو صرت الى منازلنا ، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا ، أيكون أحد أعلم بالسنّة منّا؟ (٢).

وقال لرجل من أهل العراق :

__________________

(١) كشف الغمة للاربلي ( ٢ : ٩٨ ـ ٩٩ ) وانظر جامع أحاديث الشيعة للبروجردي ( ١ : ٤٠ ) الإمام زين العابدين للمقرّم (ص ٢٤٢).

(٢) نزهة الناظر ، للحلواني (ص ٤٥).

١١٢

أما لو كنت عندنا بالمدينة لأريناك مواطن جبرئيل من دورنا ، استقانا الناس العلم ، فتراهم علموا وجهلنا؟ (١).

ولنفس الهدف السامي ، قاوم الإمام السجّاد عليه‌السلام الانحراف الفقهي الذي منيت به الاُمّة ، بالتزام الشريعة وأخذها من أناس تعلّموا الفقه من طرق لا تتصل بمنابع الوحي الثرّة الصافية المأمونة.

فيقول عليه‌السلام : إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ، والآراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة ، لا يصاب إلاّ بالتسليم.

فمن سلّم لنا سَلِمَ ، ومن اقتدى بنا هُدِيَ ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هَلَك ، ومن وَجَدَ في نفسه ـ مما نقوله ، أو نقضي به ـ حرجا ، كَفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم (٢).

وهكذا كان شديد النكير على تلك البوادر المظلّلة ، وحارب بدعة تقليد غير أهل البيت عليهم‌السلام من المذاهب المنسوبة الى البعداء عن ينابيعه نسبيّا وحتى سببيّا ، أولئك الذين روّجت الحكومات والدول الظالمة فقههم ، لأنهم كانوا مسالمين لهم ، ومنضوين تحت ظلالهم ، من المتّكئين على آرائك الخلافة المزعومة.

وهذا الذي حذّر الرسول الأكرم منه في أحاديث مستفيضة ، أوردنا نصوصها في كتاب « تدوين السنة الشريفة » وتحدّثنا عن دلالتها (٣).

وقد تمكّن الإمام زين العابدين عليه‌السلام من توضيح معالم فقه أهل البيت عليهم‌السلام وإرساء قواعده ، وإغناء معارفه ، وتزويد طلاّبه وتربيتهم ، حتى أقرّ كبار العلماء بأنّه « الأفقه » من الجميع ، وفيهم عدّة من فقهاء البلاط ووعّاظ السلاطين :

قال أبو حازم : ما رأيت هاشميّا أفضل من علي بن الحسين ، وما رأيت أحد كان أفقه منه (٤).

__________________

(١) بصائر الدرجات ، للصفار (ص ٣٢).

(٢) إكمال الدين ( ص ٣٢٤ ب ٣١ ح ٩ ).

(٣) لاحظ الصفحات ( ٣٥٢ ـ ٣٥٩ ) و (٤٢٥) من : تدوين السنة الشريفة.

(٤) تاريخ دمشق الحديث (٤٥) مختصر تاريخ دمشق ( ١٧ : ٢٤٠ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٩٤ )

١١٣

ومثله قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب (١).

وقال الشافعي ـ إمام المذهب ـ : إن علي بن الحسين أفقه أهل البيت (٢).

وإذا لم يكن للحكّام المسيطرين ، باسم الخلافة الإسلامية ، نصيب من علم الشريعة وفقه الدين ، بل كانت أعمالهم مخالفة لأحكام الله وسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وإذا كان فقهاء البلاط ، وأصحاب المذاهب ، يفخرون بالتلمّذ عند علماء أهل البيت عليهم‌السلام (٣).

فإن إعلان الإمام السجاد عليه‌السلام عن حقيقة مذهب أهل البيت الفقهي وتبيين موقعيّته المتقدّمة على جميع المذاهب الفقهيّة ، والدعوة الى الالتزام به ، هو نسفّ عملي لقواعد الخلافة المزعومة التي كان المتّكيء على أريكتها من أجهل الناس بالفقه ، وكل الناس أفقه منه حتى المخّدرات في الحجال!

وكذلك هو تقويض لأعمدة التزوير التي رفعت فساطيط المذاهب الرسميّة المدعومة من قبل دار الخلافة ، والتي تبعها الهمج الرعاع من العوام أتباع كلّ ناعق!

__________________

وكشف الغمة ( ٢ : ٨٠ ).

(١) تاريخ دمشق ( الحديث ٣٧ ) وسير أعلام النبلاء ( ٤ : ٣٨٩ ) وصفوة الصفوة ( ٢ : ٩٩ ).

(٢) رسائل الجاحظ (ص ١٠٦) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( ١٥ : ٢٧٤ ) عن الرسالة للشافعي ـ في خبر الواحد ـ.

(٣) كان أبو حنيفة ـ إمام المذهب ـ يقول : « لولا العامان لهلك النعمان » يشير الى العامين اللذين حضر فيهما عند الإمام الصادق عليه‌السلام ، وكان قبل ذلك قد أخذ من الإمام الباقر عليه‌السلام وأخيه زيد الشهيد. انظر الإمام جعفر الصادق ، للجندي (ص ١٦٢) والنظم الإسلامية ، لصبحي الصالح (ص ٢٠٩) وموقف الخلفاء العباسيين لعبد الحسين علي أحمد (ص ٣٧) ـ ولاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( ١٥ : ٢٧٤ ) وموقف الخلفاء (ص ٣١) عن الشكعة في الأئمة الأربعة (ص ٥٢) وعن أبي زهرة في : أبو حنيفة (٧٢).

١١٤

وأخيرا : في إعمار الكعبة المعظّمة

وللإمام موقف عظيم يدلّ على المراقبة التامّة لما يجري ، مع التصدّي لاعتداءات الحكام الظلمة على الرموز الأساسية للدين ، وهو : موقفه من إعادة تعمير الكعبة ، في ما رواه الكليني والصدوق ، بسندهما عن أبان بن تغلب ، قال : لما هدم الحجّاج الكعبة ، فرّق الناس ترابها ، فلمّا جاءوا الى بنائها وأرادوا أن يبنوها ، خرجت عليهم حيّة ، فمنعت الناس البناء حتى انهزموا ، فأتوا الحجّاج ، فأخبروه ، فخاف أن يكون قد منع بناءها ، فصعد المنبر ، وقال : أُنشد الله عبدا عنده خبر ما ابتُلينا به ، لما أخبرنا به.

قال : فقام شيخ فقال : إن يكن عند أحد علم ، فعند رجل رأيته جاء الى الكعبة ، وأخذ مقدراها ، ثم مضى.

فقال الحجّاج : من هو؟

قال : علي بن الحسين.

قال : مَعْدِنُ ذلك ، فبعث الى علي بن الحسين ، فأخبره بما كان من منع الله إيّاه البناء.

فقال له علي بن الحسين :

يا حجّاج! عمدت الى بناء إبراهيم ، وإسماعيل عليهما‌السلام وألقيته في الطريق وانتهبه الناس كأنك ترى أنه تراث لك.

إصعد المنبر ، فأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئا إلاّ ردّه.

قال : ففعل ، فردّوه ، فلمّا رأى جيمع التراب ، أتى علي بن الحسين فوضع الأساس ، وأمرهم أن يحفروا.

قال : فتغيّبت عنهم الحيّة ، وحفروا حتى انتهى الى موضع القواعد.

فقال لهم علي بن الحسين : تنحّوا ، فتنحّوا ، فدنا منها فغطّاها بثوبه ، ثم بكى ، ثم غطّاها بالتراب ، ثم دعا الفعلة ، فقال : ضعوا بناءكم.

فوضعوا البناء ، فلمّا ارتفعت حيطانه ، أمر بالتراب فأُلقي في جوفه.

١١٥

فلذلك صار البيت مرتفعا يصعد إليه بالدرج (١).

فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام « مقادير الكعبة » لئلاّ تضيع المعالم الأثرية لأكبر محور لرحى الدين ، وهي الكعبة الشريفة.

وإذا كانت تلك المراقبة تتمّ في ظرف ولاية مثل الحجّاج الملحد السفّاح الناصب لآل محمد العداء المعلن ، فلن تخفى أهميّتها ، ودلالتها القاطعة على التحدّي.

ومواجهة الحجّاج بمثل ذلك الكلام « كأنك ترى أنه تراث لك! » تصّد لانتهاكه لحرمة الكعبة المعظّمة ، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة.

وأهم ما في الأمر جرّ الحجّاج الى التصريح بأن الإمام « هو مَعْدِن ذلك » وهي شهادة لها وقعها في الإلزام والإبكات للخصم اللدود.

وأخيرا : نزول الإمام عليه‌السلام الى القواعد ـ وحده ـ وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين ، إثبات لحقّه في إقامتها دون غيره.

وهل كلّ ذلك يتهيّأ إلاّ من التدبير العميق ، والتخطيط الدقيق ، ممّن يحمل هدفا ساميا في قلب شجاع ، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة ، شخص غير الإمام السجّاد زين العابدين عليه‌السلام.

__________________

(١) نقله ابن شهر آشوب في المناقب ( ٤ / ١٥٢ ) ط الأضواء ، عن الكافي وعلل الشرائع للصدوق.

١١٦

الفصل الثالث

النضال الاجتماعيّ والعَمَلِيّ

أولاً : فـي مـجـال الأخـلاق والتربية

ثانيا : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة

ثالثا : فـي مجال مقاومـة الفسـاد

وأخيراً : مع كتاب « رسالة الحقوق »

١١٧
١١٨

إن من أهمّ أهداف الرجال الإلهيين إصلاح المجتمع البشريّ ، بتربيته على التعاليم الإلهية ، ولابدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك :

١ ـ أن يربّي جيلا من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها ، والأخلاق القيّمة التي تخلّق بها ، لكي يكونوا له أعوانا على الخير.

٢ ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ، ويبلّغهم رسالات الله.

٣ ـ أن يقاوم الفساد ، الذي يبثّه الظالمون في المجتمع ، بهدف تفكيكه وشلّ قواه ، وتفريغه من المعنويات ، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير والجمال ، لئلاّ يصنعو منه آلة طيّعة تستخدم حسب رغباتهم وطوع إرادتهم.

وقد كان للإمام زين العابدين نشاط واسع في كلّ هذه المجالات ، حتى عدّ ـ بحقّ وجدارة ـ في صدر المصلحين الإلهيّين ، بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني اُمية على الأمة ، وعلى مقدّراتها وباسم الخلافة الإسلامية ، التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام.

إنّ مقاومة الإمام زين العابدين عليه‌السلام في مثل هذا الظرف ، بل وتمرير خططه ، وإنجاح مهمّاته وأهدافه ، مع قلّة الأعوان والأنصار ، يعدّ معجزة سياسية تحقّقت على يد هذا الإمام العظيم ، الذي سار على خطى جدّه الرسول الأعظم ، في خلقه العظيم.

وقد عقدنا هذا الفصل الثالث للوقوف على أوجه نشاطه العملي في تلك المجالات الاجتماعية :

١١٩

أوّلاً : في مجال الأخلاق والتربية

ضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة ، وفي سيرته مع الناس ، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات.

فكانت تتبلور فيه شخصيّة القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابليّة العلميّة الراقية ، والفضل والشرف السامق ، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها ، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وتوءدّة وهدوء.

فالصبر الذي تحلّى به ، بتحمّله ما جرى عليه في كربلاء ، وفي الأسر ، ممّا لا يحتاج الى برهان وذكر.

ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي ، بارزة للعيان ، وهذا الفصل يمثّل جزءا من نشاطه السياسيّ والاجتماعيّ الجادّ.

وحديث مواساته للإخوان ، والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ، بالبذل والعطاء والإنفاق ، مما اشتهر عند الخاص والعام ، وسيأتي الكلام حول ذلك كله.

وحنوّه وحنانه على الرقيق ، وعلى الأقارب والأباعد ، بل على أعدائه وخصومه ، مما سارت به الركبان.

وأخبار عبادته وخوفه من الله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ، ملأت الصحف ، حتى خصّ بلقب « زين العابدين ، وسيّد الساجدين ».

ومن أمثلة خلقه الرائع : العفو :

وقد تناقل المؤلّفون حديث هشام بن إسماعيل الذي كان أميرا على مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، للامويّين ، فعزلوه ، وقد كان منه أو بعض أهله شيء يكره ، تجاه الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، أيام كان أميرا ، فلمّا عزل اُوقف للناس ، فكان لا يخاف إلاّ من الإمام أن يؤاخذه على ما كان منه.

فمرّ به الإمام ، وأرسل إليه : « استعن بنا على ما شئت ».

١٢٠