السّلام في القرآن والحديث

الشيخ محمد الغروي

السّلام في القرآن والحديث

المؤلف:

الشيخ محمد الغروي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

الفصل الثالث

الإبـتـدَاء بـالسَـلام

٦١
٦٢

الابـتـداء بـالسـلام

كان رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سباقاً إلى كل خير وجميل ، ومنه الابتداء بالسلام لتواضعه وحسن خلقه. وفي حديث هند بن أبي هالة التميمي ـ ربيب النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان وصافاً عن حليته (١) ـ قال : « كان رسول الله فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ـ إلى أن قال : ـ وإذا مشى كأنما ينحط من صبب (٢) ، وإذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه (٣) ، ويبدر من لقي بالسلام » (٤).

و « يبدر » من البدار أي : كان ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يسبق كل من يلقاه بالسلام ، حتى النساء والصبيان وإليك من هذا اللون من أحاديث :

١ ـ الصادقي :

« كان رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يسلم على النساء ويرددن

__________________

١ ـ قال المحدث القمي : كان فصيحاً بليغاً إلى آخر كلامه. السفينة ٢ | ٧٢٥ ـ هند ـ.

٢ ـ قال ابن الأثير : أي : في موضع منحدر ، وفي رواية « كأنما يهوي من صبوب ». النهاية ٣ | ٣ ـ صبب ـ.

٣ ـ يقدم أصحابه فيكون سائقاً ، ولا يتقدمهم ليكون قائداً لهم ؛ لأن السائق يقال للمتأخر ، والقائد للمتقدم.

٤ ـ مكارم الأخلاق للطبرسي ٩ ـ ١١ ، معاني الأخبار ٨٠ ـ ٨١.

٦٣

عليه‌السلام ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يسلم على النساء ، وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن ويقول : أتخوف أن يعجبني صوتها فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر » (١).

أقول : لعل قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أتخوف .. » يقول ذلك وهو فوق المستوى البشري ، لسعة روحه العالية وعصمته ؛ لتعليم الآخرين بأن يحذروا من التسليم عليها للكراهة ،كما ذكره الشيخ المجلسي بقوله : لعل هذا للتعليم (٢) ، وعنون الشيخ الحر الباب : ( باب جواز تسليم الرجل على النساء ، وكراهته على الشابة وجواز ردّهنّ ) (٣).

٢ ـ الرضوي :

« قال : قال رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : خمس لا أدعهن حتى الممات : الأكل على الحضيض مع العبيد ، وركوبي الحمار مُؤَكِفاً [ مُؤكِفاً ] ، وحلبي العنز بيدي ، ولبس الصوف ، والتسليم على الصبيان ، لتكون سنة من بعدي » (٤).

وفي الصادقي : « ... خمس لست بتاركهن حتى الممات : لباس الصوف ، وركوبي الخمار مُؤكِفاً ، وأكلي مع العبيد ، وخصفي النعل بيدي ، وتسليمي على الصبيان لتكون سنة من بعدي » (٥).

__________________

١ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٨ ، الوسائل ٨ | ٤٥١ ـ ٤٥٢.

٢ ـ مراة العقول ١٢ | ٥٤٥.

٣ ـ الوسائل ٨ | ٤٥١ ، الباب ٤٨ من أبواب أحكام العشرة.

٤ ـ الوسائل ٨ | ٤٤١ ، الخصال ١ | ٢٧١ ، إنما حذفنا السند للاختصار ، وربما ذكرناه لأمر ما. ثم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وركوبي الحمار مؤكفاً » كما يأتي بيانه إما من باب الإفعال أو من باب التفعيل ، وعلى كلا التقديرين إما « مؤكفاً » اسم للفاعل ، أو « مؤكَفاً » اسم للمفعول ، والأول أنسب لتواضعه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسب « مؤكَفاً » على الحال للراكب بتقدير له : أي يركب الحمار حاكونه واضعاً له برذعته ، وقيل « مؤكَفاً » اسم للمفعول تعييناً للزوم سبق وضع الإكاف للحمار ، ولكنه مردود بما ذكرناه.

٥ ـ الخصال ١ | ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، الوسائل ٨ | ٤٤١ ـ ٤٤٢ ، والسند مختلف فيهما.

والنبوي : « أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله مرّ على صبيان فسلم عليهم وهو مغذّ » مستدرك الوسائل ٨ | ٣٦٤.

لعل كلمة « مغذّ » يريد بها التعليم ، لأنها من التغذية والعلم والأدب غذاء الأرواح.

٦٤

بـيان :

الحديثان كما تراهما متحدان في العدد دون المعدود ، لأن الأول فيه : « وحلبي العنز بيدي » بينما في الثاني « وخصفي النعل بيدي » مع اختلاف بعض ألفاظهما. والذي يسهل الأمر أنهما حديثان. و « مؤكفاً » من أَكَفَ إيكافاً ، أو أَكَّفَ تأكيفاً : الحمار شدّ عليه الإكاف أي البرذعة (١) وهي في المراكب : شبه الرحال والأقتاب (٢).

والمعنى : أنا بيدي أشدّ برذعة حماري عند الركوب ؛ وإنما كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع ذلك لعظيم تواضعه ، والمتكبرون كانوا يخصصون إنساناً يضع البرذعة على حمارهم ، وكان من الأجدر أن يضعها عليهم دونه.

٣ ـ الصادقي :

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام » (٣).

٤ ـ الآخر : « إن الله عزّ وجلّ قال : [ إنّ ] البخيل من يبخل بالسلام » (٤).

٥ ـ الآخر : « البادي بالسلام أولى بالله وبرسوله » (٥).

أقـول :

المراد بالأولوية القرب إليهما ، نظير ما جاء في آية ( إنَ أولى الناس بإبراهيم للذين أتّبعوه وهذا النبيّ والّذين ءامنوا ) (٦).

__________________

١ ـ هامش الخصال ١ | ٢٧١.

٢ ـ تاج العروس ـ أكف ـ.

٣ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٤ ، الوسائل ٨ | ٤٣٦.

٤ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٥ ، الوسائل ٨ | ٤٣٧.

٥ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٥ ، الوسائل ٨ | ٤٣٧.

٦ ـ آل عمران : ٦٨.

٦٥

ففي علوي : « إن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به ، ثم تلا هذه الآية ، قال : إنّ وليّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدوّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن عصى الله وإن قربت قرابته » (١).

تصريح : بأنّ الوليّ يراد به القريب ، ولم يرد من الأولى في هذه الأحاديث التفضيل حتى يقال : إنّ تارك السلام لا قرب له ليكون البادئ به أقرب ، فتفطن إلى مساغ الآية والحديث. وهنا احتمال آخر لأولوية البادىء ، وهو التشابه في التخلق بأخلاق الله والرسول ، حيث اقتدى البادئ بالسلام بهما فيه دون التارك له ، وقد عرفت أنه تعالى هو الأول له حتى سمى نفسه به ، وأمر نبيه بأن يسلم على المؤمنين وقد اتبعه أهل بيته عليهم‌السلام في كل خير ، ومنه السلام.

فالله المعلم الأول ، ثم الرسول كما جاء في آية ( علّم الإنسان ما لم يعلم ) (٢) أنه علم عليّاً عليه‌السلام (٣) ، وكذا باقي الأئمة عليهم‌السلام القدوة في السلام وفي كل أمر خير ، وأنهم أمروا بالسلام وابتدأوا به ، فالمقتدي في السلام متخلق بأخلاقهم. وإنك قد عرفت ذلك كله من الأحاديث السالفة ، من أن البادئ بالسلام أولى بالله ورسوله ، وبالأئمة المعصومين أيضاً ؛ وإنما اكتفى بهما دون الأئمة ، إما لكونهم نفس الرسول صلى الله عليه وعليهم ، أو جرياً على الأخذ بالمتفق عليه ، وإلا فلا ريب عندنا أن كل ما ثبت للرسول ثابت لهم أيضاً ، إلا الخصائص ، وهنا احتمال ثالث لمعنى الأولوية :

وهو بيان شروط الأولوية بالله وبالرسول ، وأن الابتداء بالسلام من تلك الشروط ، وأنه لزام على الداعي إلى الله والرسول كما كان ، صلى الله

__________________

١ ـ تفسير الصافي ١ | ٢٧١.

٢ ـ العلق : ٤ ـ ٥.

٣ ـ تفسير الصافي ٢ | ٨٣٣.

ومن روايات السلام النبوي الوارد في الأرحام : « صِلوا أرحامكم في الدنيا ولو بالسلام » مستدرك الوسائل ١٥ | ٢٥٥. وفي لفظ : « بلّوا أرحامكم ولو بالسلام » عوالي اللآلي ١ | ٢٥٥.

٦٦

عليه وآله ، كذلك : إنه يبدر بالسلام على كل من لقيه وهو الأسوة في كل خير ومنه السلام ، وقد قال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (١).

٦ ـ النبوي : « أطوعكم لله الذي يبدأ صاحبه بالسلام » (٢).

٧ ـ الآخر : « البادئ بالسلام بريء من الكبر » (٣).

٨ ـ العلوي : « لكل داخلٍ دهشة فابدأوا بالسلام » (٤).

بيـان :

وإنما كان البادئ بالسلام أطوع لله تعالى ؛حيث أخذ بما قد سنّه الله ورسوله له ، كما أن البادئ به قد برئ من الكبر ، إذ كابر نفسه في إخضاعها لذلك ، وأنه قد ذهب بدهشتها به في دخوله في كل شيءٍ. وحذف المتعلق ، أي متعلق الدخول في الحديث ، ذاهب بنفس السامع إلى كل مذهب ممكن.

وعليه فالسلام محبوب للجميع على كل حال : ومنها دخول البيت ولو لم يكن فيه إنسان يسلم عليه ، فإن ملائكة الله عز وجل موجودون في كل مكان ، لأن له أهلاً ومنهم الموكلون الحافظون له من أمر الله خاصة ، ملك الرقيب والعتيد الموكل لكتابة أعماله : ( وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (٥) و ( بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) (٦) و ( مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) (٧) وسيأتي في ـ سلام الإذن ـ حديث

__________________

١ ـ الأحزاب : ٢١.

٢ ـ كنز العمال ٩ | ١١٦ ، الرقم ٢٥٢٥٣.

٣ ـ البحار ٧٦ | ١١ ، كنز العمال ٩ | ١١٧ ، الرقم ٢٥٢٦٥.

٤ ـ غرر الحكم ودرر الكلم ٢٥٢.

٥ ـ الانفطار : ١٠ ـ ١٢.

٦ ـ الزخرف : ٨٠.

٧ ـ ق : ١٨.

ومنها النبوي : « إذا سلم المؤمن على أخيه المؤمن فيبكي إبليس ... » جامع أحاديث الشيعة ١٥ | ٥٨٣.

٦٧

« إذا لم ير الداخل بيتاً أحداً فيه يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، يقصد به الملكين اللذين عليه شهوداً » (١).

٩ ـ العلوي الآخر : « السلام سبعون حسنة ، تسعة وستون للمبتدئ ، وواحدة للرادّ » (٢).

١٠ ـ العلوي الآخر : « إذا حُيـّيت بتحيّة فحيِّى بأحسن منها ، وإذا أسديت إليك يدّ فكافـئها بما يربي عليها ، والفضل مع ذلك للبادئ » (٣).

فإن قيل : الحديث العاشر يمس البحث الثامن : ـ السلام ندب والرد فرض ـ. قلنا : نعم ولكن « والفضل مع ذلك للبادئ » يشمل المقام وهو : الابتداء بالسلام ، والفضل للبادئ مقياس كلي مطبق على البدايات بأسرها ومنها : الابتداء بالسلام كما هو واضح لا سترة عليه.

ولا يذهب الذاهب أن كل من ابتدأ بشيءٍ له فضل البداية ، ومالم يكن المبدوء به خيرا ليس للبادىء فضل ، فالفضل إنما هو للبادئ بالخير السابق إليه ، وهو المقرب بمقتضى قوله عز وجل : ( والسّبِقُونَ السّبِقُون * أُولئِكَ المُقَرَّبون ) (٤) ، ( فَاسْتَبِقُوا الخَيراتِ ) (٥).

١١ ـ السجادي : « بادروا بالسلام على الحاج والمعتمر .. من قبل أن تخالطهم الذنوب » (٦).

١٢ ـ السجادي الآخر : روى الشيخ الحر عن الكليني ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن

__________________

١ ـ تفسير القمي ٢ | ١٠٩ ، تفسير البرهان ٣ | ١٥٣.

٢ ـ البحار ٧٦ | ١١.

٣ ـ النهج ١٨ | ٢٠١ ، الحكمة ٦.

٤ ـ الواقعة : ١٠ ، ١١.

٥ ـ البقرة : ١٤٨.

أقول : البادئ بالشر ظالم ، بل أظلم كما في المثل السائر : ( البادئ أظلم ) المستقصى ١ | ٣٠٤. وأما البادئ بالخير ومنه البادئ بالسلام فله المثل العلوي : « الفضل للبادي ».

٦ ـ الوسائل ٨ | ٣٢٧.

٦٨

محمد ، عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطية ، عن أبي حمزة ، عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام قال : « من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار ، والتوسع على قدر التوسع ، وإنصاف الناس ، وابتداؤهم بالسلام عليهم » (١).

١٣ ـ الصادقي : « يا إسحاق متى أحدثت هذا الجفاء لإخوانك ، تمرّ عليهم فلا تسلّم عليهم؟! فقلت له : ذلك لتقية كنت فيها ، فقال : ليس عليك في التقية ترك السلام ... » (٢).

١٤ ـ الصادقي الآخر : « من التواضع أن تسلّم على مَن لقيت » (٣).

أقـول :

سَبْق السلام على كل من يلقاه هو من الخلق الإسلامي الرفيع ، المنشعب عن أصل الشجرة النبوية ، وقد سَبَق الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله « ويبدر مَن لقي السلام » ، الذي رواه هند بن أبي هالة (٤).

ومن أخلاق المؤمنين ؛ « وابتداؤهم بالسلام » من حديث الإمام السجاد زين العابدين عليه‌السلام الآنف الذكر ، وغير ذلك (٥).

١٥ ـ النبوي : « إنّ من التواضع أن يرضى الرجل بالمجلس دون شرف المجلس ، وأن يسلّم على مَن لقي » (٦).

١٦ ـ الآخر : « بين المسلّم والمجيب مائة حسنة ، تسعة وتسعون منها لمَن يسلّم ، وحسنة لمن يجيب » (٧).

__________________

١ ـ الوسائل ٨ | ٤٣٦.

٢ ـ الوسائل ٨ | ٤٥١ ، البحار ٧٦ | ٦.

٣ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٦ ، باب التسليم ، الحديث ١٢ ، والآخر : « ابدأ الناس بالسلام ، والمصافحة قبل الكلام ». جامع أحاديث الشيعة ١٥ | ٥٨١ ، الوسائل ٨ | ٤٣٨ و ٤٤٠.

٤ ـ مكارم الأخلاق ٩ ـ ١١ ، معاني الأخبار ٨١.

٥ ـ من ذلك حديث الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام : « من التواضع السلام على كل من تمرّ به ، والجلوس دون شرف المجلس ». البحار ٧٨ | ٣٧٢.

٦ ـ الجعفريات ١٤٩ ، مستدرك الوسائل ٨ | ٣٥٦.

٧ ـ مستدرك الوسائل ٨ | ٣٥٧.

٦٩

١٧ ـ في وصايا لقمان ، إلى أن قال : « يا بنيّ ابدأ الناس بالسلام ، والمصافحة قبل الكلام » (١).

١٨ ـ النبوي : « إذا لقي الرجل المسلم أخاه فسلّم عليه وصافحه لم ينزع أحدهما يده عن صاحبه حتى يغفر لهما » (٢).

١٩ ـ النبوي : « إذا سلّم المؤمن على أخيه المؤمن فيبكي إبليس ( لعنه الله تعالى ) ويقول : يا ويلتاه لم يفترقا حتى غفر الله لهما » (٣).

٢٠ ـ الباقري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تلاقيتم فتلاقوا بالتسيلم والتصافح ، وإذا تفرّقتم فتفرقوا بالاستغفار » (٤).

أقـول :

أبخل الناس رجل مسلم يمرّ بمسلم ولا يسلّم عليه ، على أن من حقوق المسلم على المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ، وإلا فقد جفاه ، وقد جاء ذلك في بعض أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام (٥).

ولو لم يكن من السلام غير أنّه اسم من أسماء الله عزّ وجلّ يجري على لسان المؤمن لكفى ، لأنه يعدّ من الذاكرين له تعالى وأنّه من مكارم الأخلاق (٦).

__________________

١ ـ الاختصاص ٣٣٨ ، مستدرك الوسائل ٨ | ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٢ ـ مستدرك الوسائل ٨ | ٣٥٩.

٣ ـ مستدرك الوسائل ٨ | ٣٦٠. وقد مر الحديث في الهامش رقم ٧ صفحة ٦٧.

٤ ـ أمالي الطوسي ١ | ٢١٩.

٥ ـ جامع أحاديث الشيعة ١٥ | ٥٩٠ في معناه.

٦ ـ في النبوي : « إنما بعثت لأتمم مكارم الإخلاق » مكارم الأخلاق ٢.

٧٠

الفـصل الرابـع

إفـشَـاء السَـلام في العَـالم

٧١
٧٢

إفشاء السلام في العالم

هذا العنوان مأخوذ من النبوي ، الآتي ذكره ، الدال على إفشاء السلام في العالم بأسره ، وأنه من خير الأخلاق ، ومن غيره أي غير النبوي كذلك وإليك من النصوص :

١ ـ النبوي : « ألا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال : إفشاء السالم في العالم » (١).

٢ ـ الباقري : « كان سلمان رحمه‌الله يقول : أفشوا سلام الله ، فإن سلام الله لا ينال الظالمين » (٢).

قال الشيخ المجلسي : أي لا تقولوا هذا ظالم لا نسلّم عليه ، فإن سلام الله لا ينالهم (٣).

يريد لا تمتنع من إفشاء السلام على كل أحد ، بزعم أنه ظالم لا يجدر السلام عليه ، ولا ريب أن قول سلمان ترغيب لإفشاء السلام ، وأنه لو كان المسلّم عليه من الظالمين لا ينتفع بالسلام كما يأتي التصريح به في الكاظمي ، والسلام كلمة تسر القلوب ، حتى الجفاة القساة ، ولعل الله

__________________

١ ـ البحار ٧٦ | ١٢.

٢ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٤.

٣ ـ مرآة العقول ١٢ | ٥٣٩.

٧٣

يهديها ويُلينها بالسلام ، وهو اسم الله تعالى قد اختاره تحية للمسلمين ، كما في حديث القمي النبوي : قال فيه رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند نزول قوله تعالى : ( وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيّك به الله ) (١) : « قد أبدلنا الله بخير من ذلك تحية أهل الجنة : السلام عليكم » (٢).

إن قول سلمان رحمه‌الله : « أفشوا سلام الله ، فإن سلام الله لا ينال الظالمين » الذي رواه الإمام الباقر عليه‌السلام برواية الشيخ الكليني ، يراد به عدم وصول النفع للظالمين ، بصفتهم أنهم ظالمون ؛ وذلك لما رواه الكليني ، طاب ثراه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : «أرأيت إن احتجت إلى متطبب وهو نصراني أسلّم عليه وأدعو له؟ قال : نعم إنّه لا ينفعه دعاؤك » (٣). وكذا رواية أخرى مثلها بسند آخر صحيح أيضاً (٤).

والرضوي قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : « كيف أدعو لليهودي والنصراني؟ قال : تقول له : بارك الله لك في الدنيا » (٥).

والسرّ في عدم وصول النفع ما قدّمناه : بصفتهم أنهم ظالمون ، لأن إعانة الظالم على ظلمه ظلم آخر لا بدّ من التبرّي منه ، كما اقتصّ تعالى وتقدّس ذلك عن استغفار إبراهيم عليه‌السلام لآزر : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إياه فلمّا تبيّن أنّه عدوّ لله تبرّء منه إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) (٦).

وعليه فلا يكون السلام ، ولا الدعاء ولا الاستغفار بنافع للظالمين

__________________

١ ـ المجادلة : ٨.

٢ ـ تفسير القمي ٢ | ٣٥٥ ، البحار ٧٦ | ٦.

٣ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٥٠ ، باب التسليم على أهل الملل ، الحديث ٧.

٤ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٥٠ ، الحديث ٨.

٥ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٥٠ ، الحديث ٩ في النفس من هذا الحديث شيء ، إذ كيف يدعى لليهودي ويبارك في دنياه إلاَّ أن يراد وفق آية : ( إنما نُملى لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذابُ مهينٌ ) [ آل عمران : ١٧٨ ]. أي يعطي الدنيا حتى يهلك ، فتدبر في الحديث لعلك تعلم منه ما لم أعلمه.

٦ ـ التوبة : ١١٤.

٧٤

والكافرين ، إلا أن يصير ذلك سبباً لهدايتهم فيما إذا نواها المسلِّم أو الداعي أو المستغفر ؛ فلعل الله تعالى يلين قلوبهم ويجمعهم على الحق ، وكم ظالم أو كافر اهتدى ببركة دعاء الداعي ، ولا سيما إذا كان الداعي أحد المعصومين عليهم‌السلام ، أو بعض المؤمنين الذين لا ترد لهم دعوة.

٣ ـ الباقري الآخر : « إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ إفشاء السلام » (١).

٤ ـ النبوي : « إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم » (٢).

٥ ـ الباقري : « إن الله يحبّ إطعام الطعام ، وإفشاء السلام » (٣).

٦ ـ النبوي : « والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمووا حتى تحابوا ، أوَ لا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم » (٤).

٧ ـ والآخر : « يا أنس أسبغ الوضوء تمرّعلى الصراط مرّ السحاب ، أفشِ السلام يكثر خير بيتك ، أكثر من صدقة السر ؛ فإنها تطفىء غضب الربّ عزّ وجلّ » (٥).

٨ ـ الصادقي : « من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة : أنفق ولا تخف فقراً ، وأنصف الناس من نفسك ، وأفشِ السلام في العالم ، واترك المراء وإن كنت محقاً » (٦).

٩ ـ الآخر : « كان عليّ عليه‌السلام يقول : لا تَغضبوا ولا تُغضبِوا ، أفشوا السلام ... » (٧).

__________________

١ ـ أصول الكافي ٢ | ٦٤٥ ، باب التسليم ، الحديث ٥.

٢ ـ كنزالعمال ٩ | ١١٣ ، الرقم ٢٥٢٣٧.

٣ ـ البحار ٧٦ | ١٠.

٤ ـ كنز العمال ٩ | ١١٣ ـ ١١٤ ، الرقم ٢٥٢٤١.

٥ ـ البحار ٧٦ | ٢.

والعلوي : « إنّ من الكرم لين الكلام ، ومن العبادة ... وإفشاء السلام » مستدرك الوسائل ٨ | ٣٦٣. ٦ ـ الوسائل ٨ | ٤٤٠.

٧ ـ الوسائل ٨ | ٤٣٨.

٧٥

١٠ ـ النبوي : « يا عليّ ثلاث كفّارات : إفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام » (١).

١١ ـ الباقري : « ثلاث درجات ، وثلاث كفّارات ، وثلاث موبقات ، وثلاث منجيات. فأما الدرجات : فإفشاء السلام ... » (٢).

١٢ ـ النبوي : « خيركم من أطعم الطعام وأفشى السلام ... » (٣).

١٣ ـ الآخر : « أفشوا السلام تسلموا » (٤).

١٤ ـ الآخر : « أفشوا السلام كي تعلوا » (٥).

ما هذا الإفشاء بالسلام؟ ولماذا اهتم الإسلام به هذا الاهتمام؟ وربّما يسبق إلى الأذهان أنّ الإفشاء بمعنى الجهر به ، كما جاء الأمر بأن يجهر المسلّم لدفع الاتّهام ، وكذا على المجيب الجهر بالجواب ، لذلك (٦). بل الإفشاء الإذاعة والإنشار (٧) والانتشار ، ومن ثم سميت المواشي فواشي ، لانتشارها في الأرض وكثرتها ، وأفشى السرّ : أذاعه وبمعنى الأتساع.

قال ابن الأثير فيه ـ أي الحديث النبوي ـ : « ضمّوا فواشيكم » الفواشي : جمع فاشية ، وهي الماشية التي تنتشر من المال ، كالإبل ، والبقر ، والغنم السائمة ؛ لأنّها تفشو أي : تنتشر في الأرض. وقد أفشى الرجل : إذا كثرت مواشيه.

ـ وقال : ومنه حديث الخاتم : « فلمّا رآه أصحابه قد تختّم به ، فشت خواتيم الذهب ». أي : كثرت وانتشرت ... ومنه الحديث « أفشى الله ضيعته » أي : كثر عليه معاشه ليشغله عن الآخرة ... ومنه حديث ابن مسعود

__________________

١ ـ الخصال ١ | ٨٥ ، الوسائل ٨ | ٤٣٩.

٢ ـ الخصال ١ | ٨٤.

٣ ـ الخصال ١ | ٩١.

٤ ـ البحار ٧٦ | ١١.

٥ ـ كنز العمال ٩ | ١١٥ | الرقم ٢٥٢٤٩.

٦ ـ تأتي أحاديثه في غضون ( ٨ ـ السلام ندب ، والرد فرض ).

٧ ـ باب استعمله القرآن : ( ثُمَّ إذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) [ عبس : ٢٢ ].

٧٦

« وآية ذلك أن تفشو الفاقة » (١).

قال ابن منظور : يقال فشت عليه أموره : إذا انتشرت فلم يدرِ بأيّ ذلك يأخذ ... والفشاء : تناسل المال وكثرته ... وتفشّت القرحة : اتّسَعَتْ وأَرِضَتْ (٢).

أقـول :

فلو أن المسلمين التزموا لزاماً عملياً بهذه السنة الطيّبة الإسلاميّة بأن أفشوا السلام في كلّ مكان ، وفي أيّة حالة سفر أو حضر ، أو رخاء أو بأساء للمسوا السلام ، ولكثرت أنصاره في أرجاء المعمورة ، ولانتشر الأمن والعدل بين سكّانها ؛ ولعل الحديث النبوي الذي ذكرت فيه كلمة « في العالم » (٣). يشير إلى اللزام العملي ، وإلا لم يفشِ السلام في العالم ، وليس معنى الحديث النبوي (٤) والصادقي : ـ « وأفش السلام في العالم » (٥) ـ إلا ذلك ويحمل عليه إطلاق الأمر بالإفشاء به من دون ذكر قيد : « في العالم » في بقية الأحاديث المطلقة إذ لا يفشوا السلام إلا بما ذكرناه.

ومن تلك المطلـقات دعاء اليوم الثامن من شهر رمضان المروي عن ابن عبّاس : « اللهم ارزقني فيه رحمة الأيتام ، وإطعام الطعام ، وإفشاء السلام ... » (٦).

الإفشاء بالسلام وعدم البخل به :

بقي في المقام حديث يفسّر الإفشاء بالسلام : بأن لا يبخل به ؛ فلا بدّ من ذكر الحديث ، ثم بيان المقصود ؛ إذ فيه نوع من الإبهام ، فقد روى الشيخ الحرّ عن الصدوق بإسناده إلى أبي بصير ، عن الصادق ، عن آباءه

__________________

١ ـ النهاية ٣ | ٤٤٩ ـ ٤٥٠ ـ فشا ـ.

٢ ـ لسان العرب ١٥ | ١٥٦ ـ فشا ـ.

٣ ـ أول أحاديث إفشاء السلام.

٤ ـ المصدر نفسه.

٥ ـ ثامن أحاديث الإفشاء.

٦ ـ إقبال الأعمال للسيد ابن طاوس ١٣٤.

٧٧

عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، لا يسكنها من أمتي إلا من أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأفشى السلام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام. فقال عليّ عليه‌السلام : يا رسول الله مَن يطيق هذا من أمّتك؟ فقال : يا عليّ أتدري ما إطابة الكلام؟ مَن قال إذا أصبح وأمسى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر عشر مرات. وإطعام الطعام : نفقة الرجل على عياله ؛ وأما إدامة الصيام : فهو أن يصوم الرجل شهر رمضان ، وثلاثة أيام من كل شهر ، يكتب له صوم الدهر ، وأما الصلاة بالليل والناس نيام : فمن صلى المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة في المسجد جماعة فكأنما أحيى الليل ؛ وأما إفشاء السلام فبأن لا يبخل بالسلام على أحد من المسلمين » (١).

أقـول :

لا يفتقر الحديث إلى مزيد شرح بعد التصريح بالتأويل بأن المقصود من هذه الكلمة كذا وكذا. يبقى بيان وجه التأويل والمناسبة التي أوجبت ذلك.

ولا ريب أن أداء الواجب وترك الحرام لا يدانيهما العمل بكل ندب أو ترك كل مكروه ، فمَن أتى بالفرائض وترك المحرمات ، فكأنه عمل بالمندوبات وترك المكروهات بأسرها ، إذ أن الأولى هي الأصول وسواها الفروع فلا تقارن هذه بتـلك.

بقي بيان ما كنا في صدده ، والسؤال عن وجه التأويل لإفشاء السلام بعدم البخل به بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإفشاء السلام أن لا يبخل بالسلام على أحد من المسلمين »؟ وقد عرفت أن الإفشاء بالسلام انتشاره ،

__________________

١ ـ الوسائل ٨ | ٤٣٩ ، الباب ٣٤ من أحكام العشرة ، الحديث ٧. ( وقد روي الأمر بإفشاء السلام في أربعين حديثاً من مجامع السنة والشيعة من الأولى في فهرس مخطوطات جامعة الرياض ٤ | ٢٢١ ، المطبوع في مطابع جامعة الرياض ، في عام ١٤٠٠ هـ ).

٧٨

وإذاعته في الناس ، وفي الأرض والعالم ، والسلام أمرٌ وإفشاؤه أمرٌ متفّرعٌ عليه أي على السلام الأصل.

والجـواب :

لا محذور بأن يعرّف الفرع بالأصل ، إما لعدم خلوّه عنه ، أو أنّ الاهتمام بالأصل مقدّم على الاهتمام بالفرع في الظروف القاضية عليه ، فلو فسّر الإفشاء بلزوم أصل السلام ، لكونه عُرضة للترك رأساً لكان تفسيراً مرضيّاً ، ولعلّ وقت صدور الحديث كان قد حتم ذلك للملابسات الزمنية ، أو أن ترك البخل بالسلام والالتزام به ، والاستمرار عليه ، قد يحقق الإنشاء والانتشار ، ولا بأس بأن يراد المسبب من طريق السبب ؛ لأن الالتزام بالسلام سبب للإفشاء والانتشار. وهذا وجه ثانٍ للتأويل وتفسير إفشاء السلام بأن لا يبخل به.

ولصاحب تفسير المنار كلام هو : إن الإسلام دين عامٌّ ، ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج ، وجذب بعضهم إلى بعض ، ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوّة إفشاء السلام إلا مع المحاربين ، لأن من سلّم على أحد فقد أمنه ، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائناً ناكثاً للعهد (١) ...

ـ وقال : ـ وورد في صفات المسلمين في حديث الصحيحين إفشاء السلام وكونه سبب الحب بينهم. ومنها حديث « إن أفضل الإسلام وخيره : إطعام الطعام ، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف » ، وصح « أفشوا السلام بينكم تحابّوا » ورواه الحاكم عن أبي موسى و « أفشوا السلام تسلموا » رواه البخاري في الأدب المفرد ، وأبو علي وابن حبّان عن البراء ، وفي صحيح البخاري قال عمّار : « ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم (٢) ، والإنفاق من الإقتار ». فهذا من أدب الإسلام العالي الذي لا يكاد يجمعه غيره (٣).

__________________

١ ـ تفسير المنار ٥ | ٣١٣.

٢ ـ يأتي تحت ١٩ من أحاديث ( ٧ ـ أدب السلام ).

٣ ـ تفسير المنار ٥ | ٣١٦.

٧٩

أقـول :

وإن أهل البيت أدرى من غيرهم بما في البيت (١) فقد مثلوا السلام وباقي آداب الإسلام بسيرتهم للعالم كله : بأفعالهم وأقوالهم وفي مقدّمتهم الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يفشي السلام لكل مَن لقيه (٢).

__________________

١ ـ أمثال وحكم ١ | ٣١٧ ...

٢ ـ لفظ الحديث « ويبدر من لقي بالسلام ».

٨٠