السّلام في القرآن والحديث

الشيخ محمد الغروي

السّلام في القرآن والحديث

المؤلف:

الشيخ محمد الغروي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

فأوحى الله إليه : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، ثم أمسك عنه الوحي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذلك الله كذلك [ الله ] ربنا ، فلما قال ذلك ، أوحى الله إليه اركع لربك يا محمد ، فركع ، فأوحى الله إليه وهو راكع قل : سبحان ربي العظيم ، ففعل ذلك ثلاثاً ، ثم أوحى الله إليه أن ارفع رأسك يا محمد ، ففعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام منتصباً ، فاوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اسجد لربك يا محمد ، فخر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساجداً ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ، قل : سبحان ربّي الأعلى ، ففعل ذلك ثلاثاً ، ثم أوحى الله إليه استوِ جالساً يا محمد ، ففعل ، فلما رفع رأسه من سجوده واستوى جالساً ، نظر إلى عظمته تجلت له ، فخرّ ساجداً من تلقاء نفسه ، لا لأمر أمر به ، فسبح أيضاً ثلاثاً ، فأوحى الله إليه انتصب قائماً ، ففعل ، فلم ير ما كان رأى من العظمة ، فمن أجل ذلك صارت الصلاة ركعة وسجدتين ، ثم أوحى الله عز وجل إليه اقرأ بالحمد لله ، فقرأها مثل ما قرأ أوّلاً ، ثم أوحى الله عز وجل إليه اقرأ إنّا أنزلناه ، فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة ، وفعل في الركوع مثل ما فعل في المرة الأولى ، ثم سجد سجدة واحدة ، فلما رفع رأسه تجلت له العظمة ، فخرّ ساجداً من تلقاء نفسه ، لا لأمر أمر به فسبح أيضاً ، ثم أوحى الله إليه أرفع رأسك يا محمد ، ثبّتك ربّك ، فلما ذهب ليقوم قيل : يا محمد اجلس ، فجلس ، فأوحى الله إليه يا محمد إذا ما أنعمت عليك فسم باسمي ، فألهم أن قال : بسم الله وبالله ولا إله إلا الله والأسماء الحسنى كلها لله ، ثم أوحى الله إليه يا محمد صل على نفسك ، وعلى أهل بيتك ، فقال : صلى الله عليّ ، وعلى أهل بيتي ، وقد فعل ، ثم التفت فإذا صفوف من الملائكة والمرسلين والنبيين فقيل : يا محمد سلّم عليهم ، فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فأوحى الله إليه أنّ السلام والتحية والرحمة والبركات أنت وذرّيّتك ، ثم أوحى الله إليه أن لا يلتفت يساراً ، وأول آية سمعها بعد قل هو الله أحد ، وإنا أنزلناه آية أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فمن أجل ذلك كان السلام واحدة تجاه القبلة ، ومن أجل ذلك كان التكبير في السجود شكراً ، وقوله : سمع الله لمن حمده ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع ضجة الملائكة بالتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، فمن

٢٠١

أجل ذلك قال : سمع الله لمن حمده ، ومن أجل ذلك صارت الركعتان الأوليان كلما أحدث فيهما حدثاً كان على صاحبهما إعادتهما ، فهذا الفرض الأول في صلاة الزوال يعني صلاة الظهر » (١).

أقول : جئنا على رواية المعراج عن آخرها ، لاشتمالها على بدئ الأذان ، وصلاة الزوال أي الظهر المعنية بها الصلاة الوسطى في آية ( حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى ) (٢) ، وعلى سرِّ التسليم في الصلوات.

وللرواية شرح وبسط لا بأس بالإشارة إليه ، إذ فيه بيان سرّ السلام فيها ، وبيان موضعه منها ، قال العلامة المجلسي في كتابه مرآة العقول عند شرح رواية المعراج :

قوله عليه‌السلام : « إنّ أُبيّ بن كعب رآه في النوم » أقول : لا خلاف بين علمائنا في أن شرعية الأذان كانت بالوحي لا بالنوم ، قال في المعتبر والمنتهى : الأذان عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وحي على لسان جبرئيل علّمه ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عليّاً عليه‌السلام وأطبق الجمهور على خلافه ، ورووا أنه برؤيا عبد الله بن زيد وعمر.

أقول (٣) : وفي روايات المخالفين أن المسلمين حين قدموا المدينة كانوا يجتمعون ويتحينون الصلوات ، وكان لا ينادي بها أحد ، فشاوروا بينهم ، أو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً كالنصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، وعن أنس : تنوروا ناراً ، وقال آخرون : النار والبوق شعار اليهود ، والناقوس شعار النصارى. فتلتبس أوقاتنا بأوقاتهم. فقال عبد الله بن زيد : إني رأيت الأذان في المنام ، وقيل : إن أُبياً قال : رأيته في النوم ، وقيل : إن عمر قال مثل ذلك ، فقال عمر عند ذلك : أوَ لاتبعثون رجلاً ينادي بألفاظ الأذان.

__________________

١ ـ الكافي ٣ | ٤٨٢ ـ ٤٨٦ ، ولخصها الشيخ الحر في إثبات الهداة ١ | ١٥٥.

٢ ـ البقرة : ٢٣٨.

٣ ـ القائل هو الشيخ المجلسي طاب ثراه.

٢٠٢

أقول : قاتلهم الله كيف هونوا (١) بأحكام الله ، ليتهيأ لهم القياس ، والاستحسان في دين الله.

ثم إن هذا الخبر يدل على أن بالنوم لا تثبت الأحكام ، ويمكن أن يخص بابتداء شرعيتها ، ورأيت في بعض أجوبة العلامة رحمه‌الله عما سئل عنه تجويز العمل بما يسمع في المنام عن النبي ، والأئمة عليهم‌السلام ، إذا لم يكن مخالفاً للإجماع ، لما روي من أن الشيطان لا يتمثل بصورتهم وفيه إشكال.

قوله عليه‌السلام : « فأنزل الله » هذا تفصيل لما أجمل سابقاً ، وعود إلى أول الكلام ، كما سيظهر مما سيأتي ، فالفاء للتفصيل لا للتعقيب ، والأنوار تحتمل الصوريَّة والمعنوية ، والأعم منهما ، وأما نفرة الملائكة فلغلبة النور على أنوارهم ، وعجزهم عن إدراك الكمالات التي أعطاها الله نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لي مع الله وقت لا يسعني ملك مقرب ولا نبيّ مرسل » الخبر. ويؤيّد المعنويّة قول الملائكة : ما أشبه هذا النور بنور ربّنا ، وعلى تقدير أن يكون المراد الصوريّة ، فالمعنى ما أشبه هذا النور بنور خلقه الله في العرش ، وعلى التقديرين لمّا كان كلامهم وفعلهم موهماً لنوع من التشبيه ، قال جبرئيل : الله أكبر تنزيهاً له عن تلك المشابهة ، أي : أكبر من أن يشبهه أحد ويعرفه ، وقد مرّ تفسير الأنوار في شرح كتاب التوحيد ، والتكرير للتأكيد ، أو الأوّل لنفي المشابهة ، والثاني لنفي الإدراك.

وقال الجزري : « سبوح قدّوس » يرويان بالضمّ والفتح ، والفتح أقيس ، والضمّ أكثر استعمالاً ، وهو من أبنية المبالغة ، والمراد بهما التنزيه.

وتثنية التكبير (٢) يمكن أن اختصاراً من الراوي ، أو الزيادة بوحي آخر ... أو يكون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كزيادة الركعات

__________________

١ ـ هكذا في الأصل والصحيح « تهاونوا ».

٢ ـ يريد قول جبرائيل : « الله أكبر الله أكبر » في هذا الخبر أول كلمات الأذان والمعروف أن التكبير أربعة في أوله. والظاهر أنه الأذان انظر كمال الدين ١ | ٢٥٥.

٢٠٣

بالتفويض ، أو يكون التكبيران الأوّلان خارجين عن الأذان كما يؤمي إليه ما رواه الفضل بن شاذان من العلل عن الرضا عليه‌السلام ، وبه يجمع بين الأخبار. والأظهر أن الغرض في هذا الخبر بيان الإقامة وأطلق عليها الأذان مجازاً ، ويمكن أن يكون سؤالهم عن البعثة لزيادة الاطمئنان كما في سؤال إبراهيم عليه‌السلام إذ تصفح وجوه شيعة أخيه في وقت كل صلاة ، موقوف على العلم بالبعثة ، ويمكن أن يكون قولهم : « وإنا لنتصفّح » إخباراً عمّا أمروا به أن يفعلوه بعد ذلك ، ويؤيّده عدم وجوب الصلاة قبل ذلك كما هو الظاهر. وإن أمكن أن يكون هذا في معراجٍ تحقق بعد وجوب الصلاة ، لكنه بعيد عن سياق الخبر ، ويحتمل أيضاً أن يكون عرفوه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعرفوا وصيّه ، وشيعة وصيّه ، بأنهم يكونون كذلك ، ولذا كانوا يتصفّحون وجوه شيعته في أوقات الصلاة ، ليعرفوا هل وجبت عليهم صلاة أم لا ، فلا ينافي عدم علمهم بالبعثة ، وفيه أيضاً بُعدٌ ، ويحتمل أن يكون التصفّح كناية عن رؤية أسمائهم في رق البيت المعمور كما سيأتي ، أو عن رؤية أشباحهم ، وأمثلتهم حول العرش ، كما يؤمي إليه قولهم : « وهم نور حول العرش » ، وقريب منه ما ذكره بعض الأفاضل ، أنّ علمهم به ، وبأخيه ، وشيعته ، وأحوالهم فوق أحوال عالم الحسّ ، وهو العالم الذي أخذ عليهم فيه الميثاق ، والعلم فيه لا يتغيّر ، وهذا لا ينافي جهلهم ببعثه في عالم الحسّ الذي يتغيّر العلم فيه.

أقـول : هذا موقوف على مقدمات مباينة لطريقة العقل.

قوله عليه‌السلام : « مرحباً بالأوّل » أي : خلقاً ورتبةً ، والرُحب بالضمّ : السعة. وانتصاب « مرحباً » بفعل لازم الحذف كأهلاً وسهلاً أي : أتيت وصادقت رُحباً وسعةً .. « مرحباً بالآخر » أي ظهوراً وبعثة. « ومرحباً بالحاشر » أي : بمن يتّصل زمان أمته بالحشر. « ومرحباً بالناشر » أي : بمن ينشر قبل الخلق وإليه الجمع والحساب. وقد بيّنا جميع ذلك في الكتاب الكبير ـ أي البحار ـ. والرقّ بالفتح ويكسر : جلد رقيق يكتب فيه والصحيفة البيضاء. ودوي الريح والطائر والنحل : صوتها ، صوتان مقرونان ، كونهما مقرونين لأنّ الصلاة مستلزمة للفلاح وسبب له.

٢٠٤

وفي العلل : بعد ذلك بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله تقوم الصلاة ، وبعليّ الفلاح. ويحتمل أن تكون هاتان الفقرتان مفسّرتين للسابقتين ، والغرض بيان اشتراط قبول الصلاة وصحّتها بولايتهما ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في بعض الأخبار من تفسير الصلاة والعبادات بهم أي : الصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والفلاح أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وهما متحدان من نور واحد ، مقرونان قولاً وفعلاً ، وبما فسّر في هذا الخبر يظهر سرّ تلك الأخبار ومعناها ، والضمير في قوله : « لشيعته » راجع إلى الرسول ـ على ما في العلل ـ أو إلى عليّ صلوات الله عليهما. وترك « حيّ على خير العمل » الظاهر أنّه من الإمام ، أو من الرواة تقيّة ، ويحتمل أن يكون قرّر بعد ذلك كما مرّ ويؤيده عدم ذكر بقية فصول الأذان ، ويحتمل أن يكون خرق الأطباق والحجب من تحته ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو من فوقه ، أو منهما معاً ، وأيضاً يحتمل أن يكون هذا في السماء الرابعة ، أو بعد عروجه إلى السابعة ، والأخير أوفق بما بعده ، فعلى الأوّل إنّما خرقت الحجب من تحته لينظر إلى الكعبة ، وإلى البيت المعمور ، فلما نظر إليهما وجدهما متحاذين ، متطابقين ، متماثلين ، ولذا قال : « ولكل مثل مثال » أي : كلّ شيءٍ في الأرض له مثال في السماء ، فعلى الثاني يحتمل أن تكون الصلاة تحت العرش محاذياً للبيت المعمور بعد النزول ، وعلى التقديرين استقبال الحجر مجازاً ، أي : استقبل ما يحاذيه أو ما يشاكله ويشبهه.

قوله : « وأنت الحرام » أي : المحترم المكرم ، ولعله إشارة إلى أن حُرمة البيت إنما هي لحرمتك ، كما ورد في غيره.

قوله : « صار الوضوء » في العلل صار أوّل الوضوء ، ويدلّ على استحباب أخذ ماءِ الوضوء أوّلاً باليمنى ، وعلى ما هنا يمكن أن يفهم منه استحباب الإرادة.

قوله تعالى : ( وعلى عدد حجبي ) وفي العلل بعدد حجبي ، فمن أجل ذلك صار التكبير سبعاً، لأن الحجب سبعة ، وافتتح القراءة عند انقطاع الحجب ، فمن أجل ذلك صار الافتتاح ستَّة ، والحجب مطابقة ثلاثة بعدد النور الذي نزل على محمد ثلاث مرّات ، فلذلك كان الافتتاح ثلاث مرّات ،

٢٠٥

ومن أجل ذلك كان التكبير سبعاً ، والافتتاح ثلاثاً ؛ فلمّا فرغ من التكبير والافتتاح قال الله عزّ وجلّ : الآن وصلت إلي فسمّه باسمي ، فقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » إلى آخره.

الظاهر : أنّ المراد بالحجب هنا غير السموات ، كما يظهر من سائر الأخبار ، وأنَّ ثلاثة منها متلاصقة ، ثم تفصل بينهما بحار النور ، ثم اثنان منها متلاصقان ، ثم تفصل بينهما بحار النور ، ثم اثنان ملتصقان ، فلذا استحبّ التوالي بين ثلاث من التكبيرات ، ثم الفصل بالدعاء ، ثم بين اثنين ثم الفصل بالدعاء ، ثم يأتي باثنتين متصلتين. فكل شروع في التكبير ابتداء افتتاح. وحمل الوالد العلامة ( ره ) ، الأفتتاح ثلاثاً على تكبيرة الإحرام، التي هي افتتاح القراءة ، وتكبير افتتاح الركوع ، وتكبير افتتاح السجود ، ولعل ما ذكرنا أظهر.

وقوله : « شكراً ثانياً » : يحتمل أن يكون كلام الإمام عليه‌السلام ، أي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه الشكر : « الحمد الله ربّ العالمين » ، والظاهر أنّه من تتمّة التحميد ، ويؤيد الأول أنه ورد تحميد المأموم في هذا المقام بدون هذه التتمَّة. ويؤيد الثاني أنّه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أضمر شكراً عند قوله : « الحمد لله ربّ العالمين » أوّلاً ، ويدلّ على استحباب التحميد في هذا المقام للإمام والمنفرد أيضاً ، ولعله خص بعد ذلك بالمأموم.

قوله عليه‌السلام : « قطعت » لعلّه لمّا كانت سورة الفاتحة بالوحي ، وانقطع الوحي بتمامها ، وحمد الله من قبل نفسه ، قال الله تعالى لما قطعت القراءة بالحمد فاستأنف البسملة ، فالمراد بالذكر القرآن.

قوله عليه‌السلام : « نسبة ربّك » في العلل « فقال له اقرأ قل هو الله أحد كما أنزلت ، فإنها نسبتي ونعتي » فيدلّ على تغيير في سورة التوحيد.

قوله تعالى : « فإنها نسبتك » أي : مبينة شرفك وكرامتك ، وكرامة أهل بيتك ، أو مشتملة على نسبتك ، ونسبتهم إلى الناس ، وجهة احتياج الناس إليك وإليهم ، فإن نزول الملائكة والروح بجميع الأمور التي يحتاج الناس

٢٠٦

إليها ، إذا كان إليك وإليهم ، فبهذه الجهة أنهم محتاجون إليك وإليهم.

قوله تعالى : « إن السلام » في العلل : « إني أنا السلام والتحية » فلعل التحية معطوفة على السلام تفسيراً وتأكيداً.

وقوله « والرحمة » مبتدأ أي : أنت المراد بالرحمة ، وذريتك بالبركات ، أو المراد أن كلامهم رحمة وبركات ، ويحتمل أن يكون قوله « والتحية » مبتدأ ، وعلى التقادير حاصل المعنى : سلام الله وتحيته ورحمته وشفاعة محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم ودعاؤهم وهدايتهم وإعانتهم عليكم : أي لكم.

قوله : « تجاه القبلة » أي من غير التفات إلى اليسار أو اليمين أيضاً كثيراً ، بأن يحمل ما فعله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على الالتفات القليل ، ويؤيده قوله عليه‌السلام « أن لا تلتفت يساراً » وما قيل من أنه رأى الملائكة والنبيين تجاه القبلة ، فسلم عليهم مرة ، لأنهم المقربون ، ليسوا من أصحاب اليمين ، ولا من أصحاب الشمال ، فلا يخفى ما فيه ؛ إذ الظاهر أنهم كانوا مؤتمّين به صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قوله عليه‌السلام : « كان التكبير في السجود شكراً » لعل المعنى أنه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما كان هويّه إلى السجود لمشاهدة عظمته ، تجلت له ، كبّر قبل السجود شكراً لتلك النعمة كما قال تعالى :

( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) (١) أي على ما هدى ، وفي العلل ومن أجل ذلك صار التسبيح في السجود والركوع شكراً وهو أظهر كما لا يخفى.

قوله عليه‌السلام7 : « في صلاة الزوال » وفي العلل : « وهي الفرض الأول وهي أول ما فرضت عند الزوال » ولعل المعنى أن هذه الصلاة التي فرضت ، وعلمها الله نبيه في السماء ، إنما فرضت وأوقعت أولاً في الأرض عند الزوال ، فلا يلزم أن يكون إيقاعها في السماء عند الزوال ، مع أنه

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٥.

٢٠٧

يحتمل أن يكون النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في ذلك الوقت محاذياً لموضع يكون في الأرض وقت الزوال ، لكنه بعيد ، إذ الظاهر من الخبر أنها أوقعت في موضع كان محاذياً لمكّة ، ولمّا كان الظاهر من الأخبار تعدّد المعراج ، فيمكن حمل هذا الخبر على معراج وقع في اليوم ، وبهذا الوجه يمكن التوفيق بين أكثر الأخبار المختلفة الواردة في كيفية المعراج ، ثم إنه يظهر من هذا الخبر أن الصلاة [ لما كانت ] معراج المؤمن ، فكما (١) أن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا نفض عن ذيله الأطهر علائق الدنيا ، وتوجه إلى عرش القرب والوصال ومكالمة الكبير المتعال ، وكلّما خرق حجاباً من الحجب الجسمانيّة كبّر الربّ تعالى ، وكشف بسببه حجاباً من الحجب العقلائية حتى وصل إلى العرش (٢) العظمة والجلال ، ودخل مجلس الأنس والوصال ، فبعد رفع الحجب المعنوية بينه وبين مولاه كلمه وناجاه ، فاستحقّ لأن يتجلّى له نور من أنوار الجبروت ، فركع وخضع لذلك النور ، فاستحقّ أن يتجلى عليه نور أعلى منه ، فرفع رأسه وشاهده وخر ساجداً لعظمته ، ثم بعد طيِّ تلك المقامات ، والوصول إلى درجة الشهود والاتصال بالربّ الودود ، رفع له الأستار من البين ، وقربه إلى مقام قاب قوسين ، فأكرمه بان يقرن اسمه باسمه في الشهادتين ، ثم حباه بالصلاة عليه ، وعلى أهل بيته المصطفين ، فلمّا لم يكن بعد الوصول إلا السلام ، أكرمه بهذا الإنعام ، وأمره أن يسلّم على مقرّبي جنابه ، الذين فازوا قبله بمثل هذا المقام تشريفاً لهم بإنعامه ، وتأليفاً بين مقرّبي جنابه ، أو أنّه لمّا أذنه بالرجوع عن مقام « لي مع الله » (٣) الذي لا يرحمه فيه سواه ، ولم يكن يخطر بباله غير مولاه ، التفت إليهم فسلَّم عليهم ، كما يؤمي إليه هذا الخبر. فكذا ينبغي للمؤمن إذا أراد التوجه إلى جنابه تعالى بعد تشبثه بالعلائق الدنيّة ، وتوغّله في العوائق الدنيوية ، أن يدفع [ عنه ] عند الأنجاس الظاهرة والباطنة ، ويتجلى بما يستر

__________________

١ ـ يحتمل أن يكون « فكما » جواب « لما » أي أن الصلاة معراج المؤمن ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أزال العلائق الدنيوية كلها عن نفسه. أو يكون الجواب « توجه إلى عرش القرب ... » والواو زائدة.

٢ ـ كذا. والصحيح « عرش العظمة ».

٣ ـ حديث مشهور لم أجد له مصدراً في مجامع الحديث.

٢٠٨

عوراته الجسمانيّة والروحانيّة ، ويتعطّر بروائح الأخلاق الحسنة ، ويتّطهر من دنس الذنوب والأخلاق الذميمة ، ويخرج من بيته الأصنام ، والكلاب ، والصور ، والخمور الصورية ، وعن قلبه صور الأغبار ، وكلب النفس الأمارة ، وشكر الملك ، والمال ، والعزّ ، والأصنام ، وحب الذهب ، والفضة ، والأموال ، والأولاد ، والنساء ، وسائر الشهوات الدنيوية ، ثم يتذكر بالأذان والإقامة ما نسيه بسبب الاشتغال بالمشهيات ، والأعمال ، من عظمة الله تعالى ، وجلاله ، ولطفه ، وقهره ، وفضل الصلاة ، وسائر العبادات ، مرة بعد أخرى ، ويتذكر أمور الآخرة ، وأهوالها ، وسعادتها ، وشقاواتها ، عند الاستنجاء ، والوضوء ، والغسل ، وأدعيتها ، إذا علم أسرارها ، ثم يتوجه إلى المساجد التي هي بيوت الله في الأرض ، ويخطر بباله عظمة صاحب البيت وجلاله ، إذا وصل إلى أبوابها ، فلا يكون عنده أقل عظمة من أبواب الملكوت الظاهرة ، التي إذا وصل إليها ، دُهش ، وتخيّر ، وارتعد ، وخضع ، واستكان ، فإذا دخل المسجد ، وقرب من المحراب الذي هو محلّ محاربة النفس والشيطان ، يستعيذ بالكريم الرحمن من شرورهما وغرورهما ، ويتوجه بصورته إلى بيت الله ، وبقلبه إلى الله ، وأعرض عن كل شيءٍ سواه ، ثم يستفتح صلاته بتكبير الله وتعظيمه ، ليضمحلّ في نظره من عداه ، ويخرق بكلّ تكبير حجاباً من الحجب الظلمانيّة الراجعة إلى نقصه ، والنورانية الراجعة إلى كمال معبوده ، فيقبل تلك المعرفة والأنقياد والتسليم بشراشره إلى العليم الحكيم ، ويستعين في أموره باسم المعبود الرحمن الرحيم ، ويحمده على نعمائه ، وقرباته ربّ العالمين ، وأخرجه من كتم العدم إلى أن أوصله إلى مقام العابدين ، ثم بأنه الرحمن الرحيم ، وبأنه مالك يوم الدين ، ويجزي المطيعين والعاصين ، فإذا عرفه بهذا الوجه استحق لأن يرجع من مقام الغيبة إلى الخطاب ، مستعيناً بالكريم الوهاب ، ويطلب منه الصراط المستقيم ، وصراط المقربين ، والأنبياء ، والأئمّة المكرمين ، مقرّاً بأنّهم على الحق واليقين ، وإن أعداءهم ممّن غضب الله عليهم ولعنهم ومن الضالّين ، ويتبرّأ منهم ومن طريقتهم تبرّء الموقنين ، ثم يصفه سبحانه لتلاوة التوحيد بالوحدانية ، والتنزيه عمّا لا يليق بذاته وصفاته ، فإذا عبد ربّه بتلك الشرائط ، وعرفه بتلك الصفات ، يتجلّى له نور من أنوار الجلال ، فيخضع لذلك

٢٠٩

بالركوع والخشوع ، ويقرّ بأني أعبدك وإن ضربت عنقي ، ثم بعد هذا الخضوع والانقياد يستحق معرفة أقوى ، ويناسبه خضوع أدنى ، فيقرّ بأنك خلقتني من التراب ، والمخلوق منه خليق بالتذلل عند ربّ الأرباب ، ثم بأنك تعيدني بعد الموت إلى التراب ، فيناسب تلك الحالة خضوع آخر ، فإذا عبد الله بتلك الآداب إلى آخر الصلاة ، وخاض في خلال ذلك بحار جبروته ، واكتسب أنوار فيضه ومعرفته ، وصل إلى مقام القرب والشهود ، فيقر بوحدانيّة معبوده ، ويثني على مقربي جنابه ، ثم يسلّم عليهم بعد الحضور والشهود ، وفي هذا المقام لطائف ودقائق ، لا يسع المقام ذكرها ، وأوردنا شذراً منها في بعض مؤلّفاتنا ، وإنما أومأنا ههنا إلى بعضها لمناسبة شرح الرواية ، والله وليّ التوفيق والهداية (١).

أقول : إنما جئنا على شرح رواية الكليني ، طاب ثراه ، من المجلسي رحمه‌الله عن آخره لاشتماله على شرحها الوافي ، وعلى سرّ السلام على من أمره الله تعالى بقوله عليه‌السلام : « ثم التفت فإذا بصفوف من الملائكة والمرسلين والنبيين فقيل : يا محمد سلّم عليهم ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فأوحى الله إليه أنّ السلام والتحية والرحمة والبركات أنت وذرّيّتك » (٢).

وقال المجلسي : وفي العلل : « إني أنا السلام والتحية » : وحاصل المعنى : سلام الله وتحيته ، ورحمته ، وشفاعة محمد ، وأهل بيته صلوات الله عليهم ، ودعاؤهم ، وهدايتهم ، وإعانتهم عليكم : أي لكم (٣).

ويستفاد من بعض الروايات أن الله عزّ وجلّ سلّم على النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سلم النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على نفسه وعلى عباد الله الصالحين ، ثم سلم الله تعالى عليهم أجمعين ؛ وإليك الإشارة إلى بعض هذه التسليمات كما في جامع الأحاديث قال : وفي رواية إسحق ( في ضمن ذكر قصة صلاة المعراج ) قوله عليه‌السلام : « فاستقبل رسول الله

__________________

١ ـ مرآة العقول ١٥ | ٤٦٨ ـ ٤٨٠.

٢ ـ نفس الرواية المتقدمة.

٣ ـ من شرح المجلسي لها ، فراجع.

٢١٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله ربه تبارك وتعالى مطرقاً فقال : السلام عليك » (١).

وفي المقنع : ثم سلم وقل : « اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، ولك السلام ، وإليك يعود السلام ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام على الأئمة الراشدين المهديين ، السلام على جميع أنبياء الله ، ورسله ، وملائكته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا كنت إماماً فسلم وقل : السلام عليكم مرة واحدة وأنت مستقبل القبلة ، وتميل بعينك [ بعينيك ] إلى يمينك ، وإن لم تكن إماما فقل : السلام عليكم وتميل بأنفك إلى يمينك ، وإن كنت خلف إمام تأتمّ به ، فتسلّم تجاه القبلة واحدة ردّاً على الإمام ، وتسلم على يمينك واحدة ، وعلى يسارك واحدة ، إلاّ أن لا يكون على يسارك أحد ، فلا تسلم على يسارك ، إلا أن بجنب الحائط فتسلم على يسارك ولا تدع التسليم على يمينك كان على يمينك أحد أو لم يكن » (٢).

بيـان :

في تسليمات الصلاة أسرار كثيرة ، قد جاءت الإشارة إلى بعضها في أحاديث سلام الصلاة ، وقد سبق الصادقي منها أنه الأمان من إبطال الصلاة وعما يفسدها (٣) ، وأنه يأمن المسلّم والمسلّم عليه من شرّ كلّ إلى كلٍّ (٤) ، هذا في غير الصلاة ، وأما فيها فكما دريت معنى الأمان به آنفاً. ولعل من معاني سلام الصلاة على غير الله عزّ وجلّ هو الاستمرار على الألفة ، والتعرف ، وجميل العشرة ، التي كانت قبل الصلاة ، وأنّ السلام عند الفراغ منها أقرب إلى الخلوص والوفاء والصدق ؛ لأنه قد سمت نفس المصلي بعروجه إلى عرش العظمة وجمال الحقّ تعالى فجاء بالسلام من عند السلام.

__________________

١ ـ جامع أحاديث الشيعة ٥ | ٣٥١.

٢ ـ المقنع ٢٩ ، جامع أحاديث الشيعة ٥ | ٣٥٠ ، الباب ٥ من التشهد والتسليم.

٣ ـ الوسائل ٤ | ١٠٠٦. وفي غضون العنوان الأول من العناوين العشرة.

٤ ـ المصدر نفسه.

٢١١

الأمر الثاني :

سلام الولادة ، والموت ، والبعث وأيّامها

وقبل كلِّ شيءٍ نقدّم من القرآن الكريم ما جاء في يحيى وعيسى على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام قال تعالى منوّهاً بيحيى :

( والسَّلامُ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَموتُ وَيَومَ يُبعَثُ حَيّاً ) (١). وعن لسان عيسى : ( وَالسّلامُ عَلىَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيّاً ) (٢).

بيـان :

في عيون الأخبار بإسناده إلى ياسر الخادم قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ويخرج من بطن أمّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا. وقد سلّم الله عزّ وجلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن ، وآمن روعته ، فقال : ( وَسَلامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وَلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ) وقد سلّم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن : ( وَالسّلامُ عَلىَّ يَوْمَ وَلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أَبعَثُ حَيّاً ) (٣).

____________

١ ـ مريم : ١٥.

٢ ـ مريم : ٣٣.

٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ | ٢٠١ ، تفسير الصافي ٢ | ٤٠ ، إحقاق الحق ١٩ | ٥٨١.

٢١٢

أقول : دل السلام في الرضوي على الأمان من العذاب ، ومما يتبع الولادة ، والموت ، والبعث ، واحتمل بعض السلام في الآيتين بمعنى التحية ، أو الأمان ، أو هما جميعاً على الأشتراك أو غير ذلك. ( وسلام عليه يوم ولد ) أي أمان من الله تعالى عليه من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم ، ( ويوم يموت ) من وحشة فراق الدنيا ، وهول المطلع ، وعذاب القبر. وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت ، بناء على أنّه عليه‌السلام قتل لبغيّ من بغايا بني إسرائيل ( ويوم يبعث حيّاً ) من هول القيامة وعذاب النار.

وجيء بالحال للتأكيد ، وقيل : للإشارة ، إلى أن البعث جسمانيّ لا روحانيّ ، وقيل : ـ والقائل الآلوسي ـ للتنبيه على أنّه عليه‌السلام من الشهداء .. وقيل : إنّ المراد بالسلام التحية المتعارفة ، والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف ، والحاجة ، وقلّة الحيلة ، والفقر إلى الله عزّ وجلّ ، وفي خبر .. إن عيسى ويحيى عليهما‌السلام التقيا وهما ابنا الخالة ، فقال يحيى لعيسى : أدع الله تعالى لي فأنت خير مني ، فقال عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير منّي ، سلّم الله تعالى عليك وأنا سلّمت على نفسي (١).

وقيل ـ والقائل القرطبي :ـ تفسير السلام هنا بالتحية المتعارفة أشرف ، وأنبه من الأمان ، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه (٢) [ بالعصمة ].

وقال السيد الطباطبائي : قوله تعالى : ( وسلامٌ عَليه يَومَ وُلد وَيَوم يَموت ويَوم يُبعثُ حيّاً ) السلام قريب المعنى من الأمن ، والذي يظهر من موارد استعمالها ، في الفرق بينهما ، أنّ الأمن خلّو المحلّ ممّا يكرهه الأنسان ، ويخاف منه ، والسلام كون المحلّ بحيث كلّ ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه ويخاف منه.

وقال طاب ثراه : وتنكير السلام لإفادة التفخيم ، أي سلام فخيم عليه

__________________

١ ـ تفسير روح المعاني ١٦ | ٦٨ ، وتفسير الجامع للقرطبي ٦ | ٨٨.

٢ ـ تفسير الجامع للقرطبي ٦ | ٨٨.

٢١٣

ممّا يكرهه في هذا الأيام الثلاثة ، التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم ، التي يدخلها الإنسان ، ويعيش فيها ، فـ ( سلام عليه يوم ولد ) فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته. وسلام عليه ( يوم يموت ) فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة. وسلام عليه ( يوم يبعث حياّ ) ، فيحيى فيها بحقيقية الحياة ولا نصب ولا تعب.

وقيل : إنّ تقييد البعث بقوله : ( حيّاً ) للدلالة على أنّه سيقتل شهيداً ، لقوله تعالى في الشهداء : ( بل أحياء عند ربّهم يرزقون ) [ آل عمران : ١٦٩ ]. واختلاف التعبير في قوله : ( وُلِدَ ) ، ( يَموتُ ) ، ( يُبعثُ ) لتمثيل أنّ التسليم في حال حياته عليه‌السلام (١).

وقال رحمه‌الله : قوله تعالى : ( والسلامُ عَلَىَّ يَوم وُلدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعثُ حيّاً ) تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية ، التي تستقبله في كونه ، ووجوده ، وقد تقدم توضيحه في آخر قصّة يحيى المتقدّمة.

نعم بين التسليمتين فرق ، فالسلام في قصّة يحيى نكرة تدلّ على النوع ، وفي هذه القصّة محلّى بلام الجنس ، يقيد بإطلاقه الاستغراق ، وفرق آخر وهو أنّ المسلّم على يحيى هو الله سبحانه ، وعلى عيسى هو نفسه (٢).

وقال الآلوسي بعد الآية : تقدَّم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر :

* فتـذكر فما في العهد من قدم *

والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضاً باللعنة على متّهمي مريم وأعدائها عليها‌السلام من اليهود ، فإنه إذا قال : جنس السلام عليّ خاصّة ، فقد عرّض بإنّ ضدّه عليكم ، ونظيره قوله تعالى : ( والسلامُ

__________________

١ ـ تفسير الميزان ١٤ | ٢١.

٢ ـ تفسير الميزان ١٤ | ٤٧ ـ ٤٨.

٢١٤

عَلى مَن اتّبع الهدى ) (١) يعني أنّ العذاب على مَن كذّب وتولّى ، وكان المقام مقام مناكرةٍ وعنادٍ ، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض ، والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر ، بل غير صحيح ، لا لأنّ المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسلام ، وعينه لا يكون سلاماً لعيسى عليه الصلاة والسلام ، لجواز أن يكون من قبيل ( هذا الذي رزقنا من قبل ) (٢) ، بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجوداً وسرداً ، فيكون معهوداً غير سابق لفظاً ومعنىً ، على أنّ المقام يقتضي التعريض ، ويفوت على ذلك التقدير ؛ لأنّ التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السلام به عليه‌السلام ، كذا في الكشف ، والاكتفاء في العهدية لتصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى جلاله ، وسلام يحيى عليه‌السلام قيل : لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السلام ؛ لكونه من قول عيسى عليه‌السلام. وقيل : هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه ، مع إفادة أختصاص جميع السلام به عليه‌السلام فتأمل (٣).

قال صاحب الكشاف : ( والسلام على ) ، قيل : أدخل لام التعريف لتعرّفه بالذكر قبله ، كقولك : جاءنا رجل ، فكان من فعل الرجل كذا ، والمعنى ذلك السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجّه إليّ. والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة على متهمي مريم عليها‌السلام وأعدائها من اليهود ، وتحقيقه أنّ اللام للجنس ، فإذا قال : وجنس السلام عليّ خاصّة ، فقد عرّض بأنّ ضدّه عليكم (٤) ...

أقول : عبارة الآلوسي مع ما في الكشاف متقاربة في المعنى ، وهل أنّ السلام سواء قاله الله عزّ وجلّ كما في يحيى ، أو أن أحداً من الانبياء سلّم

__________________

١ ـ طه : ٤٧.

٢ ـ البقرة : ٢٥.

٣ ـ تفسير روح المعاني ١٦ | ٨٣.

لعل وجه التأمل أن سلام عيسى عليه السلام على نفسه لا يقرن بسلام الله عزّ وجلّ على يحيى ولا يقاس ذلك به.

والجواب : أنهما سيان بعد إقرار الله تعالى لسلام عيسى على نفسه.

٤ ـ تفسير الكشاف ٣ | ١٦.

٢١٥

على نفسه في هذه المواطن الثلاثة كعيسى ، خاصّ بهم عليهم‌السلام ، أو يعمّ الأوصياء ، والخلّص من المؤمنين ، وكلّ من ينبغي التسليم عليه؟.

الجـواب :

أنّه عامّ ، وإنما خص يحيى وعيسى بالذكر للملابسات التي كانت لهما ، يعرف ذلك من درس حياتهما عليهما‌السلام ، والدليل على عموم السلام قوله تعالى : ( قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك ... ) (١).

والسلام بأي معنى كان يعمّ الذين ممّن مع نوح من المؤمنين به ، وبنفس الدليل شامل لغيرهم ، ممّن يأتي من بعد نوح إلى يوم القيامة ، والعقل السليم يسوّغ التسليم المذكور أيضاً.

ثم إن في القرآن الكريم خمس آيات نوّهت باسم يحيى وهي :

( إنّ الله يبشّرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ) (٢).

( وزكريّا ويحيى وإلياس كلٌّ من الصالحين ) (٣).

( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) (٤).

( يايحيى خذ الكتاب بقوّة وءاتيناه الحكم صبيّاً ) (٥).

( فَاستَجَبنا لَه وَوَهَبْنا له يَحيى وَأَصلَحنا له زَوجَهُ ) (٦).

وهذه من فضائله الّتي صرّحت فيها ، وهي تستدعي السلام عليه من الله تعالى في الحالات كلّها ، ومنها المواطن الثلاثة ، ومعناه سلامته ،

__________________

١ ـ هود : ٤٨.

٢ ـ آل عمران : ٣٩.

٣ ـ الأنعام : ٨٥.

٤ ـ مريم : ٧.

٥ ـ مريم : ١٢.

٦ ـ الأنبياء : ٩٠.

٢١٦

ومعافاته عن كلّ ما يلحقها من نقمات وعذاب.

وأمّا عيسى فقد تناوله القرآن الكريم في خمسة وعشرين موضعاً نذكر منها خمس آيات وهي :

( وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس ) (١).

( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) (٢).

( إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ) (٣).

( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) (٤).

( وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتيناه الإنجيل ) (٥).

لهذه الخصائص وغيرها ، ممّا جاء فيه في بقيّة الآيات ، اقتضى تسليمه على نفسه ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه من الأنبياء الذين ليس كمثل يحيى في درجتهم ، وإن كان هو منهم ، كما صرّح في الآي المتقدّمة الذكر. وكيف كان فالسلام عليهما من الله ، أو من نفسهما من المكرمات التي خصّهما الله تعالى بها ، وليس معنى ذلك أنّ سواهما من نبيّ ، أو وصيّ ، أو مؤمن مرضيّ عند الله عزّ وجلّ ، ليس له من السلام في المواطن الثلاثة نصيب ، خاصّة السلام بمعنى الأمان من العذاب ، وقد قال تعالى : ( إنّ المتّقين في مقام أمين ) (٦).

والأمن والأمان لا ينفكّ عن كلّ متَّقٍ ، فضلاً عن الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، ومنها زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام في صحيح بيّاع السابري ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وهو يقول : مَن أتى قبر الحسين عليه‌السلام كتب الله له حجّة ، وعمرة ، وعمرة ، وحجّة ، قال :

__________________

١ ـ البقرة : ٨٧.

٢ ـ آل عمران : ٤٥.

٣ ـ النساء : ١٧١ :

٤ ـ مريم : ٣٤.

٥ ـ الحديد : ٢٧.

٦ ـ الدخان : ٥١.

٢١٧

قلت : جعلت فداك فما أقول إذا أتيته؟ قال : تقول :

« السلام عليك يا أبا عبد الله ، السلام عليك يا بن رسول الله ، السلام عليك يوم وُلدتَ ، ويوم تموتُ ، ويَوم تُبعث حيّاً ، أشهد أنّك حيّ ، شهيد ترزق عند ربّك ، وأتوالى وليّك ، وأبرأ من عدوّك ، وأشهد أنّ الذين قاتلوك وانتهكوا حرمتك ملعونون على لسان النبيّ الأميّ ، وأشهد أنّك قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وجاهدت في سبيل ربّك بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، أسأل الله وليّك ووليّنا أن يجعل تحفتنا من زيارتك الصلاة على نبيّنا ، والمغفرة لذنوبنا ، اشفع لي يا بن رسول الله عند ربّك » (١).

أقول : لعل قوله : « ويوم تموت » إشارة إلى رجعة الحسين عليه‌السلام وموته ، حيث إنّه قتل شهيداً سنة ٦١ في فاجعة كربلاء المؤلمة ، التي عمّ جمر مصابها العالمين ، من لدن آدم إلى انقراض العالم ، ولم يمت والأيّام الثلاثة مفروضة له ، ولجميع المعصومين من الأنبياء عليهم‌السلام وغيرهم.

__________________

١ ـ كامل الزيارات ، الباب ٧٩ ص ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٢١٨

الأمر الثالث :

في سـلام الكائـنات

التكلّم عن سلام الكائنات يقع في مقامين.

الأول : في صحّة سلامنا عليها.

الثاني : في إمكان سلامها علينا ووقوعه.

وقبل الشروع في ذلك يتّجه سؤال : وهو هل أن الكائنات ذات حياة وشعور ، لكي يتسنى لنا البحث عن السلام من الجانبين أم لا؟ أو هل ما جاء من النوعين إنّما هو لأجل الأحياء ، وذوي الشعور من نبيّ أو وصيّ أو غيرهما ، من إنسان أو غير إنسان؟ أو أنّ ذلك كان علي سبيل الإعجاز ، إذا قلنا إنّها فاقدة للشعور؟؟ ويظهر جواب ذلك كله في غضون البحوث الآتية.

المقام الأوّل :

في السلام على الكائنات من أرض ،

وسماء ، وشجر ، ومدر ، وزمان ، ومكان ، وغيرها

إليك بعض الآيات أو الروايات التي تدلّ على إنّ الكائنات شاعرة ومدركة وناطقة ، قال تعالى في مواضع من القرآن الكريم منها آية : ( وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيءٍ ) (١).

__________________

١ ـ فصّلت : ٢١.

٢١٩

بيـان :

دلت الآية على تكلم جلود البشر ونطقها بإنطاق الله لها ولكلّ شيءٍ. وآية ( وإن من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً ) (١). نصّت على أنّ الكائنات تسبّح الله تعالى ، وتسبيحها دالّ بوضوح على تمتعها بنعمة الإدراك والشعور ، وعلى نوع من التعقل ، بدليل إرجاع ضمير ذوي العقول إليهم ، بقوله تعالى : ( تسبيحهم ) ولم يقل عزّ من قائِل ( تسبيحها ). وفي آخر الآية بشارة ونذارة : أما البشارة فهي إمكان تعقّل البشر تسبيح الكائنات وتفقهه (١) ويتجلى ذلك بما فيها من التنذير بأنّ ترك تفقّه تسبيحها من السفاهة والذنب ؛ إذ لا حلم إلاّ عن سفه ، ولا غفران إلا عن ذنب ، فلولا أن تفقّه التسبيح مستطاع للبشر وميسور له ، لما كان ترك ذلك معدوداً من الذنوب ، وأنه عمل سفهي يغفره الله عزّ وجلّ ويحلم عنه ، وفي إنذار ذلك دلالة على البشارة المذكورة ، على سبيل الإشارة التي تكفي الحرّ المتدبّر في الآية ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) (٢).

صرّحت الآية على أنّ السماء والأرض تقول كما نقول ، ولهما كلام ككلامنا ؛ والتأويل بأنّه ليس قولهما كالقول قول بلا دليل ، ويأتي مزيد توضيح له في المقام الثاني ، وإذا ثبت لهما ثبت لغيرهما للمشابهة في الجميع.

ومن الرواية الدعاء الخامس والأربعون من الصحيفة السجادية :

__________________

١ ـ الإسراء : ٤٤.

ولعل المناسب لذكر المقام الأول ـ وهو سلامنا على الكائنات ـ بعض المذكورات فيه من آية أو رواية ، وقد دريت أننا أولاً بصدد إثبات الإدراك لهنّ ، حتى يتسنى لنا السلام عليهن ، ومن ثم جئنا بالآية أو الرواية ، ومما يدلنا على إدراكهنّ ، ما جاء من ترحيب الإمام الكاظم عليه السلام في دعاء يوم الاثنين أوّله :

« مرحباً بخلق الله الجديد ... » رواه الشيخ الكفعمي طاب ثراه في البلد الأمين ١١٧. إذ لو لم يكن لخلق الله من سماء ، وأرض ، وشجر ، ومدر ، من شعور وإدراك لكان الترحيب لغواً محضاً ، وتعالى كلام المعصوم من اللغو.

٢ ـ فصّلت : ١١.

٢٢٠