بحوث في علم الرجال

الشيخ محمد آصف المحسني

بحوث في علم الرجال

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مركز المصطفى العالمي للترجمة والنشر
المطبعة: زلال كوثر
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-195-211-4
الصفحات: ٤٥٦

وعن الشّهيد الثّاني وصاحبي المعالم والمدارك وغيرهم ممّن قال بالصّحيح الأعلى إنّها من باب الشّهادة ، فيعتبر فيه : العدالة والتّعدد (١) ، واللّفظ والحياة ، وسائر شروط الشّاهد.

وهذا هو المنسوب إلى المحقّق الحلّي وجماعة من الأصوليّين.

وفي رسالة الشّيخ الأنصاري في العدالة ، المطبوعة مع المكاسب (٢) : مع ذهاب أكثرهم إلى أنّ التعديلات من باب الشّهادة ، والله العالم.

وعن صاحب الفصول وجمع : أنّه من باب الفتوى والظّنون الاجتهاديّة المعتبرة بعد انسداد باب العلم وما هو بمنزلته ، فيعتبر فيهم شروط المفتي. وعن بعضهم وإن لم يعلم قائله ـ إنّه من باب قول أهل الخبرة ـ فلا بدّ من إحراز كون الرّجاليّ من أهل خبرة.

وذهب الفاضل المامقاني في تنقيح المقال (٣) : إنّها نوع تثبت وتبيّن مورث للاطمئنان الّذي هو المدار والمرجع في تحصيل الأحكام الشّرعيّة من باب بناء العقلاء على الاعتماد عليه ، وإن كان يظهر منه أخيرا أنّه من باب قول أهل الخبرة.

وقال : وأوضح شاهد على عدم كون الرّجوع إلى إخبارات أهل الرّجال من باب الشّهادة والفتوى اعتمادهم في جملة من أحوال الرجال على من لا يعتمد على فتواه ولا شهادته كبني فضّال الممنوع من قبول آرائهم ؛ لفقد بعض شروط المفتي ، وهو كونه إماميّا فيهم والمجوز فيهم للأخذ بما رووا.

وحيث إنّه قد أخذ في الخبر الابتناء على الحسّ المحض ، وإخبار أهل الرّجال إخبار بأمر غير حسّي ضرورة عدم تعقل محسوسيّة العدالة تعيّن كون قبول إخباراتهم من باب الأخذ بقول أهل الخبرة المأخوذ في اعتباره الوثوق ، ولا يضرّ عدم قائل به بعد قضاء الدّليل به ، فتدبّر جيّدا. (٤)

أقول : الصّحيح ما نسب إلى المشهور ، فهنا مقامان :

الأوّل : في إبطال سائر الأقوال.

__________________

(١) انظر : معالم الدين : ٢٠٤. حيث يدّعي أنّ تزكية الرّاوي شهادة ، ومن شأنها اعتبار العدد فيها.

وظاهر الشّهيد الثّاني الاكتفاء بمزك واحد.

(٢) المكاسب للشيخ الأنصاري : ٣٢٦ ، بل نسبه إلى المشهور ـ كما سيأتي عن قريب.

(٣) تنقيح المقال : ١ / ١٨٢ ، بعد نقل الأقوال المتقدّمة.

(٤) ظاهر هذا الكلام : إنّه يميل إلى هذا القول أو يختاره بدلا عن مختاره الأوّل. وقال في محلّ آخر : أو من باب مطلق الظّن في الرّجال كما ادّعوا الإجماع عليه ، وعلّلوه بانسداد باب العلم فيه. انظر : تنقيح المقال : ٢٠٤ ، المقدّمة.

٤١

الثّاني : في صحّة القول المختار.

أمّا المقام الأوّل ، فنقول : أمّا الرّأي الأخير من أن اعتبار أقوال علماء الرجال من جهة إيراثها الاطمئنان ، ففيه إشكال من جهتين :

الأوّل : إنّ الاطمئنان وإن كان كالقطع في الحجيّة ، فإنّه طريق عقلائي في كافة جهاتهم ، حتّى في أمثال النفوس والفروج ، والأموال الخطيرة. ومن الظّاهر اتّصال هذا البناء بزمان صاحب الشّريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل بزمان من قبله ، بل لا يبعد تحقّقه في زمان آدم عليه‌السلام وشارع الإسلام عليه‌السلام لم ينه عن هذا البناء ولو برواية ضعيفة سندا ، فهو عنده أيضا معتبر.

ودعوى ردعه بالآيات والرّوايات النّاهية عن اتّباع غير العلم ، والعمل بالظّن ضعيفة جدّا ، فإنّ الاطمئنان عند العرف علم ومبائن للظنّ ، وإن كان بالنّظر العقلي نوعا منه ، وعلى كلّ حال فمناقشة جملة من الأكابر منهم سيّدنا الأستاذ الحكيم رحمه‌الله في حجيّة الاطمئنان في غير محلّه ، بل خلاف عملهم اليومي. بل في مستمسكه (١) ما يدلّ على موافقته للمختار ورجوعه عمّا ذكره في عدم حجيّة الاطمئنان.

إذا : فلا شكّ في أنّ الاطمئنان طريق عقلائي شرعي في إثبات الأحكام الشّرعيّة ، لكن ليس معنى ذلك هو أنّ الأحكام الشّرعيّة والموضوعات المستنبطة والموضوعات الخارجيّة الصّرفة ، الّتي تترتّب عليها الأحكام الجزئيّة أو الكليّة لا يثبت شيء منها ، إلّا بالإطمئنان ، كما يظهر من كلام المامقاني ، فإنّه كلام بلا دليل ، بل هو مقطوع البطلان عند الفقيه.

نعم ، لا شكّ في أن حجيّة الأمارات والأصول والطّرق تنتهي بالأخرة إلى القطع أو الاطمئنان ، دفعا للدور والتّسلسل ، لكن الأحكام ومبانيها منها ما هو مظنون الثبوت ، ومنها : ما هو معلوم الثبوت. ومنها : ـ وهو الأكثر ـ ما هو ثابت تعبّدا ، بل ربّما يكون مرجوح الثبوت ، كما في بعض ما يستصحب.

الثّاني : إنّ قول الرجاليّين بالمدح أو الذّم لا يفيد الاطمئنان الفعلى ، كما يظهر لمن راجع أقوالهم ، ولا سيّما مع بعد الزّمان بينهم وبين الرّواة. فقد تأخّر زمان الكشّي والنجّاشي والشّيخ وأضرابهم ، من أقطاب الجرح والتعديل أكثر من قرنين عن زمان جملة من الرّواة ، فكيف يحصل الاطمئنان بأقوالهم؟

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى : ٧ / ٢٠٦.

٤٢

وبالجملة : دعوى الاطمئنان الشّخصي خلاف الوجدان ، إلّا لمن كان اعتقاده في حقّ هؤلآء الأعاظم مفرطا ، كما رأينا بعض المجتهدين (١). فهو يدّعي القطع بوثاقة من وثقه الشّيخ الطّوسي ، ولكنّه من النّوادر. وكأنّ الفاضل المامقاني أيضا عدل عن قوله هذا في أثناء كتابه ، فيدّعي كثيرا أنّ الظّنون الرّجاليّة حجّة ، ولا يدّعي الاطمئنان ، ولكن الظّنون الرّجاليّة كغيرها داخلة تحت عموم المنع من غير مخصّص ، والإجماع المدّعى على حجيّته ضعيف جدّا.

فالصّحيح : أنّ حصول الاطمئنان الفعلي في حجيّة قول الرّجالي غير لازم ، ولا حاصل غالبا والظّن ـ إن حصل ـ غير حجّة وما تخيّله من تشكيل مقدّمات الانسداد في علم الرجال وأحوال الرّواة ، فاستنتج منها حجيّة الظّن ، ضعيف ، كما تعرف من بيان القول المختار.

وعلى تقدير سلامتها لا تنتج شيئا لما تقرّر في أصول الفقه من أنّ المناط في حجيّة الظّن هو جريان مقدّمات الانسداد في علم الفقه ، فيعمل بالظّن حينئذ في علم الرجال وغيره ، من مقدّمات الفقه. ولو كان باب العلم مفتوحا فيها غالبا ، وإلّا فلا عبرة بالظّن الرّجالي واللّغوي وغيرهما ، بل يرجع إلى الأصول المقرّرة للشّاك في مرحلة العمل ، على أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد هو التبعيض في الاحتياط كما أوضحه الشّيخ الأنصاري رحمه‌الله.

وأمّا القول بحجيّة أخبار أهل الرّجال من باب الشّهادة ، فضعيف جدّا ؛ لعدم وجود شرائط الشّهود في المعدلين والجارحين ، ولو قيل : باعتبارها فيهم لبطل أكثر علم الرّجال أو كلّه. وبالجملة : الإجماع على اعتبار إيمان الشّاهد في الشّهادة ، والاتّفاق على قبول قول عدّة من غير المؤمنين في علم الرجال يوجب الاتّفاق على عدم دخول التّعديل والجرح في الشّهادة فافهم. (٢)

__________________

(١) أعين : الشّيخ الورع الحسين الحلّي رحمه‌الله. وكان يدرس الفقه والاصول في مقبرة أستاذه الأصولي الشّهير المحقّق النائيني رحمه‌الله في النجف الاشرف ، وبالغ في ذلك المحدّث الحرّ العاملي رحمه‌الله ، حيث قال : وأمّا توثيق الرّاوي الّذي يوثّقه بعض علماء الرجال الأجلاء الثّقات ، فكثيرا ما يفيد القطع مع اتّحاد المزكي لانضمام القرائن الّتي يعرفها الماهر المتتبّع. انظر : الوسائل : ٢٠ / ١١٥.

وليته أضاف وصف العالم بالغيب بعد صفة المتتبّع حتّى يصحّ كلامه.

(٢) قال الشّهيد الثّاني : وفي الاكتفاء بتزكيّة الواحد العدل في الرّواية قول مشهور لنا ولمخالفينا ، كما يكتفي بالواحد في أصل الرّواية ، وهذه التزكية فرع الرّواية فكلّما (فكماظ) لا يعتبر العدد في الأصل ، فكذا في الفرع ، وذهب بعضهم إلى اعتبار اثنين كما في الجرح ، والتّعديل في الشّهادات. انظر : الدّراية : ٦٩.

وقال : يثبت الجرح في الرّواة بقول واحد ، كتعديله. على المذهب الأشهر ... انظر : المصدر : ٧٢.

٤٣

واستدلّ للقول المزبور ـ كما في الفصول (١) ـ بقيام الإجماع على ثبوت العدالة بتعديل العدلين ، وانتفاء الدليل فيما عداه فيقتصر عليه ، ويرجع في غيره إلى الأصل. ويظهر ضعفه ممّا سيجيء في القول المختار. وزاد عليه في المعالم بأن تزكية الرّاوي شهادة ومن شأنها اعتبار العدد فيها ، لكنّه غير بيّن ولا مبين ، (٢) أو معلوم العدم.

وإن شئت ، فقل : إنّ الشّهادة فرد من الإخبار المطلق ، إلّا أنّه قد أخذ في خصوصها إنشاء الإخبار بين يدي القاضي عند التّخاصم والتّنازع.

فإذا قال أحد : رأيت اليوم زيدا يقتل أو يزني أو يقول كذا وكذا ، كان إخبارا جزما ، ولكن إذا قاله عند القاضي عند تنازع المتنازعين فهو شهادة ، واعتبار التّعدد في الشّهادة إنّما هو بدليل خاصّ.

ولو قيل : إنّ كلّ خبر شهادة ، قلنا : لا يعتبر فيها التّعدد إلّا في المرافعات عند الحاكم خاصّة.

وأمّا دخولها في الفتوى فليكن مفروغ البطلان ، فإنّ حجّية الفتوى مشروطة بأمور غير ممكنة أو غير موجودة في علم الرجال ، فمنها الحياة ، حيث اتّفقوا ـ سوى جمع شاذ ـ على أنّ تقليد الميت ابتداء غير جائز ، مع أنّه لا إشكال في حجيّة أقوال علماء الرّجال في حقّنا ، وإن كانوا أمواتا ، ومنها الاجتهاد المطلق بداهة عدم جواز تقليد غير المجتهد ، مع أنّه غير ثابت أو ثابت عدمه في حقّ كثير من المعدلين والجارحين ، حتّى أنّ اجتهاد مثل : الكشّي والنجّاشي غير ثابت وهما من أركان هذا العلم وأقطابه ، بل بهما أساسه وقوامه ، والمتّيقّن تحقّق هذا الشّرط في الشّيخ الطّوسي والعلّامة وأضرابهما ، على أنّ التزكية فضلا عن التّحسين ليست من الأمور الحدسيّة الاجتهاديّة كما ستعرف. ومضافا إلى أنّ مورد الاجتهاد هو الأحكام الكليّة والموضوعات المستنبطة دون الموضوعات الخارجيّة الجزئيّة.

ونسبة الفاضل المامقاني هذا القول إلى المحقّق الجليل صاحب الفصول رحمه‌الله غير صحيحة. وإليك بعض عبارة الفصول :

فالمختار عندي جواز التعويل في تعديل الرّاوي أو إثبات تحرّزه عن الكذب على

__________________

(١) بعد بحث حجيّة خبر الواحد بأربعة عشر ورقا تقريبا.

(٢) وأمّا اعتبار الإيمان وأصل العدالة في الرّاوي ، كما هو خيرة صاحب المعالم ونسبه إلى المشهور ، فسيأتي بحثه عند الكلام في شروط الرّاوي في بحث مستقل إن شاء الله ، وستعرف أيضا في محلّه أنّ إثبات عدالة الرّواة ، ولو بخبر صادق واحد ، غير ممكن في الغالب ؛ لعدم دلالة كلمة الثّقة على العادل خلافا لجمع.

٤٤

قول العدل الواحد ، بل على مطلق الظّن سواء استند إلى تزكية العدل أو إلى سائر الأمارات الاجتهاديّة.

لنا إنّه قد ثبت ممّا حقّقنا سابقا أنّ التّعويل في الأخبار الآحاد على الأخبار الموثوق بصدقها وصحّة صدورها ، ولا ريب أنّ الظّن بعدالة الرّاوي وتحرّزه عن الكذب ممّا يفيد الوثوق بصدق الرّواية ، فيجب التّعويل عليه.

وأيضا : لا خفاء في أنّ التّمييز بين الرّجال مع اشتراكهم بين الثّقة وغيره كثيرا ما يتعذر إلّا باعمال الظّنون والأمارات كملاحظة الطبقة والبلد وكثرة المصاحبة والرواية ، وما أشبه ذلك.

وقد جرت طريقتهم في ذلك على مراعاة هذه الظّنون ، ولم نقف على من يصرّح باعتبار خصوص شهادة العدلين أو العدل الواحد في ذلك.

وصاحب المنتقي مع مصيره إلى أنّ تزكية الرّاوي من باب الشّهادة وأنّه يعتبر فيها التعدّد ، قد عوّل في تمييز المشتركات على أمارات ضعيفة ، كما لا يخفى ... انتهى.

أقول : وأكبر الظّن إنّ الفاضل المامقاني رحمه‌الله أخذ مختاره الأوّل من هذه العبارة (١) ، ومع هذا نسب إلى صاحبها ما نسب ، فلاحظ. وكيف ما كان ، ليست في هذه العبارة عين ولا أثر من أنّ أقوال علماء الرجال يجب أخذها تقليدا عند العجز عن إحراز الوثاقة والضعف اجتهادا ، بل لا أعلم لهذا القول قائلا لحدّ الآن.

ثمّ إنّ ما أفاده صاحب الفصول من الوجهين يرد على الأوّل منهما أن التعويل على الخبر الموثوق به ـ وإن كان مذهب جمع ـ غير إنّ الأظهر جواز التعويل على خبر الثّقة وخبر الموثق لبناء العقلاء عليه ، وإن لم يكن نفس الخبر موثوقا به.

وأمّا ما أفاده من إفادة الظّن بعدالة الرّاوي وتحرّزه عن الكذب الوثوق بالخبر ، فهو عجيب! فإنّ الظّن بالعدالة يفيد الظّن بالصّدق دون الوثوق والاطمئنان ، وقد مرّ أنّ الظّنّ غير حجّة إلّا ما خرج بالدليل ، وإن أراد بالظّن بالعدالة الوثوق ، فهو ممنوع من أصله كما مرّ.

وأمّا الوجه الثّاني من عمل الأصحاب بالظّن ، ففيه انّه إثبات حجيّة الظّنّ بالإجماع المنقول الظّني ، وهو كما ترى ، ونحن نقول إنّ حصل الاطمئنان أو الحجّة الشّرعيّة فهو ، وإلّا فلا بدّ من التوقّف ، نعم ، ما أفاده من عدم الحاجة إلى تعدّد العدلين صحيح.

__________________

(١) أو من عبارة المحدّث الحرّ من الوسائل : ٢٠ / ١٥ وهي : ثمّ اعلم أنّ توثيق علماء الرجال ليس من باب الشّهادة ... بل هو من جملة القرائن القطعيّة الّتي تدلّ على حال الرجل ... الخ ، مبدلا وصف القطع بالاطمئنان.

٤٥

وأمّا القول الأخير ففيه : أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو في أمور نظريّة موقوفة على نوع تمارس وإعمال نظر ، وليس كلّ أحد يعرف ذلك والوثاقة ليست كذلك ، بل هي أمر حسّي واضح يعرفه كلّ أحد وليس السلف به بأعلم من الخلف.

وبعبارة أخرى صدق الخبرويّة المصطلحة يتوقّف على حصول العلم من المقدّمات الحدسيّة والبعيدة عن الاحساس والمقام ليس كذلك ، فإنّ الوثاقة ؛ إمّا حسّية ؛ وأمّا قريبة من الحسّ ، ولذا تعرف وثاقة الثّقة زوجته وكلّ من باشره من الصغار والنسوان ، ولا يكونون أهل الخبرة عرفا.

ثمّ إن المتيّقن من الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو فيما إذا كان يوجب الوثوق والاطمئنان ، كما ذكره صاحب الكفاية وأشار إليه المامقاني سابقا ، وهو في المقام غير حاصل ، ولكنّه يندفع بأنّه إن أريد الوثوق الشّخصي فهو غير لازم وإن أريد النّوعي فهو حاصل إلّا في توثيقات المتأخّرين كالعلّامة وأمثاله لأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّه لا يحصل الوثوق النّوعي منها ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره الفاضل المذكور من عدم كون العدالة حسّية فاستنتج منه دخول الإخبار بها في أخبار أهل الخبرة لا في مطلق الإخبار المأخوذ فيها الحسّ ففيه إيرادان :

الأوّل : عدم اعتبار العدالة في حجيّة الخبر حتّى على مبناه ، بل المعتبر فيها هو التحرّز عن الكذب ، فقط.

الثّاني : إنّ العدالة وإن لم تكن حسّية إلّا أنّها قريبة من الحسّ ببروز آثارها المحسوسة وحال هذه الحدسيّات غير المحسوسة القريبة من الحسّ حال الموضوعات الحسيّة في إثباتها بخبر الواحد ببناء العقلاء.

إذا عرفت هذا ، فنقول في إثبات المختار وهو المقام الثّاني : إنّه لا شكّ في بناء العقلاء على قبول خبر الثّقة في أحكامهم الكليّة العرفيّة والموضوعات الخارجيّة ، وفي جميع أمورهم حتّى الخطيرة والشّارع المقدّس لم يردع عنه فيكون ممضيّا معتبرا ، بل وردت الإخبار الكثيرة بحجّيته في الأحكام الشّرعيّة الكليّة ووردت الإخبار المعتبرة بحجّيته في بعض الموضوعات الخارجيّة للأحكام الجزئية (١) ، وفي بعضها الآخر مع اعتبار التعدّد.

__________________

(١) كصحيح هشام عن الصّادق عليه‌السلام في رجل وكّل آخرا : والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه (فهه) بالعزل عن الوكالة : انظر : الوسائل : ١٣ / ٢٨٦.

وصحيح حفص عنه عليه‌السلام في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول : إنّي لم أطاها. فقال : إن وثق به فلا بأس أن يأتيها. الوسائل : ١٣ / ٣٩. وقريب منه صحيح ابن سنان لكن فيه : إن كان عندك أمينا فمسّها. وقريب منه صحيح أبي بصير الوسائل : ١٤ / ٥٠٤ ، وغيرها من الرّوايات.

أقول : إذا اعتبر قول الثّقة في الوطيء اعتبر في غيره جزما ، فافهم جيّدا. الوسائل : ١٤ / ٢٢٦.

والمتتبّع يجد جملة وافرة من هذه الأحاديث في مختلف الأبواب. كجواز الصّلاة باذان الثّقة. الوسائل : أبواب الأذان والإقامة ؛ ثبوت الوصيّة بقوله : باب ٩٧ من وصايا الوسائل.

٤٦

وعلى هذا إذا كان الرّجالي ثقة أي صادقا مأمونا وجب قبول قوله في الجرح والتعديل وفي بيان الاسم والكنيّة والطبقة والقبيلة وغير ذلك ممّا يرجع إلى حالات الراوي.

هذا ولكن المنسوب إلى المشهور عدم حجيّة خبر العادل في الموضوعات الخارجيّة إلّا ما خرج بالدليل وذلك لأجل رواية مسعدة بن صدقة الرادعة عن العمل فيها إلّا بالعلم والبيّنة.

وهي ما رواه الشّائخ الثّلاثة كلّهم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة. (١)

فذيل الرّواية يجعل العلم والبيّنة غايتين فقط ، فلا يكون خبر الثّقة حجّة في الموضوعات. لكن الرّواية لا تصلح للردع عن بناء العقلاء المذكور من وجوه :

أوّلا : من جهة جهالة مسعدة بن صدقة فإنّه لم يرد فيه مدح معتبر يوجب حسنه فضلا عن وثاقته (٢) وما ذكره المجلسي الأوّل رحمه‌الله في وجه توثيقه اجتهاد منه وهو ضعيف ولذا ضعفه جمع منهم ابنه العلّامة المجلسي في الوجيزة كما قيل ، فالرّواية ساقطة ولا نقول بانجبارها بالشّهرة إن ثبتت. (٣)

وثانيا : إنّه ليس للرواية ظهور قوي في الحصر ، نعم ، صريح الرّواية الاختصار على الأمرين المذكورين ، لكن هذا لا ينافي حجيّة غيرهما بدليل آخر كالاستصحاب واليد والإقرار والحلف ، فيكون خبر الثّقة أيضا حجّة بالسّيرة المذكورة ، ولا معنى للردع أصلا.

__________________

(١) الوسائل : ١٢ / ٦٠ ط : الحديثة.

(٢) وقيل : باتحاده مع مسعدة بن زياد الثّقة كما في حاشية الموسوعة الرجالية المجلد الأوّل ، وقد أقام بعضهم عليه قرائن ، لكنّها غير ثابتة. ولا حظ تفصيله وبيان شواهده في مجلة تراثنا : ٢٠٣ ـ ٢٢٩ ، عدد ٥٣ ـ عام ١٤١٩.

(٣) ومن هنا نطالب القائلين باعتبار البيّنه على تعديل الراوى بعموم حجيّة البيّنة ؛ إذ لعلّ عمدة الدّليل عليه هي رواية مسعدة الّتي عرفت ضعفها.

وأمّا الإجماع المدعي في لسان صاحب الفصول وغيره عليه ، فهو منقول غير معتبر.

٤٧

وثالثا : إنّ الاستدلال بها موقوف على أنّ المراد من البيّنة ، البيّنة الاصطلاحيّة ، أعني بها : تعدّد المخبرين ، كما كان يصرّ عليه سيّدنا الأستاذ الحكيم قدس‌سره ، حينما ذاكرت معه هذا الموضوع في بيته.

فلو قلنا بعدم حقيقة شرعيّة أو متشرعيّة في زمان الصّادق عليه‌السلام للفظة المذكورة وإنّها استعملت بمعناها اللغوي الأعمّ من معناها الاصطلاحي ، لكانت الرّواية شاملة للخبر الواحد أيضا فإنّه بيّنة عرفيّة إذا كان مخبره ثقة. وعليه يكون خبر الثّقة ـ سواء كان عادلا شرعيّا أم لا ـ حجّة مطلقا في الأحكام والموضوعات الّتي منها أحوال الرّواة كالوثاقة والعدالة والضعف ، وغيرها فإذا أخبر بها الثّقة لزم قبولها.

وهذا الاحتمال هو الأرجح لما قرّرناه في شرح كفاية الاصول من التفصيل بين الألفاظ المستعملة في لسان النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بالنسبة إلى ثبوت الحقيقة الشّرعيّة والمتشرّعية ، فتلاحظ في الحكم بثبوت الحقيقة المذكورة وعدمه لكلّ لفظ ، كثرة استعماله وقلّته.

والظّاهر عدم إثبات استعمال لفظ : (بيّنة) في لسان النّبي الأكرم والأئمّة عليهم‌السلام في معناه المصطلح عليه اليوم بحدّ يوجب نقلها إليه ، ولا أقل من الشّك والأصل عدمه ، نعم ، استعمل فيه من باب استعمال المطلق في أحد أفراده لا من باب استعمال اللفظ في معناه. فتأمّل. (١)

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وفرضنا ردع الشّارع عنه في الموضوعات ، لكان لنا أيضا القول بحجيّة قول الرّجالي من باب النبأ ، وتوضيح ذلك :

إنّ الموضوعات على قسمين :

أحدهما : ما هو موضوع لحكم جزئي كحياة زيد ، وموت عمرو وكرية ماء ، ونجاسة ثوب وطهارة ظرف ، وملكيّة حائط ، والطلوع ، والغروب ، وأمثال ذلك.

ثانيهما : ما هو موضوع أو جزء موضوع للأحكام الكليّة كوثاقة زيد أو ضعفه ، فإنّه يترتّب عليه حكم كلّي نقله عن الإمام.

__________________

(١) وجه التأمّل عدم البعد في انعقاد الحقيقة الشّرعيّة له أو المتشرعيّة حتّى في لسان الإمام الصّادق عليه‌السلام ، كما يظهر لمن لاحظ الرّوايات الواردة في باب القضاء. ولذا ذهب المشهور خلافا للشيخ إلى عدم تحقّق التّعارض بين الشّاهدين والشّاهد والشّاهدتين وبين الشّاهد واليمين ، وليس له وجه سوى عدم صدق البيّنة على الأخير وصدقها على الأوّلين ، فافهم.

٤٨

وكقول اللغوي : إنّ اللفظة الفلانيّة معناها كذا إذا وردت في خبر متضمّن لحكم كلّي.

وكقول الرّاوي : بعد قول الإمام : إنّه يجب في هذا اليوم كذا : وكان اليوم يوم الجمعة.

وكقوله : إنّ الإمام قال كذا وكذا ، وكان السّائل رجلا أو امرأة ، وإن الإمام صلّي في مكان وقال إنّ الصلاة فيها واجبة أو ذات ثواب ، ثمّ يقول الرّاوي ، وكان المكان مسجد الكوفة مثلا.

وأمثال ذلك فإنّه لا شكّ لأحد في اعتبار قول الرّاوي ، وإن كان في موضوع خارجي.

فالقسم الأوّل : بناء على الرّدع ـ لا يثبت بخبر الثّقة وهو واضح.

وأمّا القسم الثّاني ، فلا مانع من شمول أدلّة حجيّة الخبر في الأحكام لها ، فإنّ الإخبار عنها إخبار عن الأحكام الكليّة الشّرعيّة حتّى بناء على الرّدع المذكور.

ومنه انقدح إثبات الاجتهاد ، بل سائر شرائط المجتهد كالعدالة وغيرها بخبر الثّقة ، فإنّها موضوعات للأحكام الكليّة الشّرعيّة للمقلّد ، نعم ، مقتضى القاعدة عدم جواز الاقتداء بمثل هذا المجتهد ، فإنّ عدالته الثابتة بخبر الثّقة إنّما هي كافية للتقليد والعمل بفتاويه ، لا للاقتداء به في الصّلاة. وقبول شهادته في المرافعات ، مثلا فإنّهما من الأحكام الجزئيّة الّتي لا بدّ من إقامة البيّنة عليهما بناء على هذا القول ، فكما يقبل قول الرّاوي ، بعد نقل الحكم.

وقول الإمام : إنّ اليوم كان جمعة ، مثلا أو كان السّائل رجلا وهكذا غيره ممّا يتغيّر الأحكام الكلّيّة به ، كذا يقبل في كلّ موضوع خارجي يترتّب عليه حكم كلّي كالاجتهاد والوثاقة والضعف دون الأعلميّة فإنّها حدسيّة محضة.

فإنّ قلت : فعلى هذا يجب قبول قول اللغوي أيضا فإنّه يترتّب عليه حكم كلّي ولا فرق بين قوله وقول الرّجالي ونحوه.

قلت : نعم ، نلتزم به إلّا أنّ يمنع منه بأنّ قول اللغوي حدسي غير حسّي كالأعلميّة ، لكن أجاب عند سيّدنا الأستاذ الحكيم قدس‌سره في حقايق الاصول بأنّ الحدس القريب من الحسّ لا بأس بالاعتماد عليه ؛ ولذا بنوا على قبول الخبر المنقول بالمعنى مع أنّه ممّا نحن فيه. انتهى. ويمكن الخدش في الاستشهاد المذكور بأنّ البناء المزبور لدليل خاصّ ، لا لما ذكره كما لا يخفى. (١)

__________________

(١) إلّا أن يقال : إنّ عمل اللغوي هو نقل المعاني المستعملة فيها الالفاظ ، فهو يجمع ما يجده من المعاني الّتي يريدها أهل المحاورة والاستعمال ، سواء كانت حقيقيّة أو مجازيّة ، وينقلها إلينا وهذا أمر حسّي لا يحتاج إلى خبرويّة وإعمال حدس ، نعم ، هو من أهل الخبرة بالنظر إلى موارد الاستعمالات فقط لا في بيان المعاني الموضوعة لها الألفاظ.

٤٩

والمتحصّل من ذلك كلّه : إنّ قول الرّجالي في تعديله وتوثيقه وجرحه حجّة إذا كان ثقة ولا يعتبر فيه التّعدد والعدالة ، والإيمان بالمعنى الأخصّ وشروط المفتي ، والشّاهد وأهل الخبرة.

ويمكن أن يجعل ارتكاز العقلاء على اعتبار خبر الثّقة بمنزلة المخصّص المتّصل اللفظي للعمومات الدّالة على عدم حجيّة الظّن في عدم انعقاد ظهورها بالنّسبة إلى خبر الثّقة ؛ ولذا لم يتغير بناء المسلمين في أعمالهم ومعاملاتهم كسائر العقلاء في الاعتماد على خبر الثّقة بعد نزول الآيات المشار إليها. والله الأعلم.

__________________

وبعبارة ثانية : ليس اللغوي من أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين ظواهر الألفاظ بالوضع أو بالقرينة العامّة. وعليه فإخباره عن استعمال اللفظ في المعاني من جهة مطلق النبأ ، لا من باب الشّهادة المعتبرة فيها العدالة كما ذكر في تقرير دروس بعض أساتيذنا في أصول الفقه.

٥٠

البحث الرابع

في اعتبار التّوثيقات الموجودة

إنّ أرباب الجرح والتعديل كالشّيخ والنجّاشي وغيرهما ، لم يعاصروا أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن بعدهم من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، حتّى تكون أقوالهم في حقّهم صادرة عن حسّ مباشر ، وهذا ضروري ، وعليه فإمّا أن تكون توثيقاتهم وتضعيفاتهم مبنية على أمارات اجتهادية وقرائن ظنية ؛ أو هي منقولة عن واحد بعد واحد ، حتّى تنتهي إلى الحسّ المباشر ، أو بعضها اجتهاديّة ، وبعضها الآخر منقولة ، ولا شق رابع.

وعلى جميع التقادير لا حجيّة فيها أصلا ، فإنّها على الأوّل حدسيّة ، وهي غير حجّة في حقّنا ؛ إذ بناء العقلاء القائم على اعتبار قول الثّقة ، إنّما هو في الحسيّات أو ما يقرب منها دون الحدسيّات البعيدة ، وعلى الثّاني يصبح معظم التّوثيقات مرسلة ، لعدم ذكر ناقلي التّوثيق والجرح في كتب الرجال غالبا.

والمرسلات لا اعتبار بها ، نعم ، عدّة من التّوثيقات منقولة مسندة كما في رجال الكشي رحمه‌الله ، وهذا ممّا لا شك في حجيّتها واعتبارها إذا كانت الأسناد معتبرة.

والحاصل : أنّ حال هذه التّوثيقات حال الرّوايات المرسلة ، فكما إذا قال الشّيخ الطوسي قدس‌سره قال الصّادق عليه‌السلام كذا وكذا ، ولم ينقل سنده لا نقبله ، كذا إذا قال : مسعدة بن صدقة من أصحاب الصّادق عليه‌السلام ثقة ، فإنّ الحال فيهما واحد ، فكيف يقبل الثّاني ولا يقبل الأوّل؟

وكنّا نسأل سيّدنا الأستاذ الخوئي رحمه‌الله أيّام تتلمذنا عليه في النّجف الأشرف عن هذا ، ولم يكن عنده جواب مقنع ، وكان يقول إذا طبع كتابي في الرجال تجد جوابك فيه ، ولمّا

٥١

لا حظناه بعد طبعه رأينا أنّه رحمه‌الله أجاب عن الشقّ الأوّل ، أي : حدسيّة التّوثيقات دون الشقّ الثّاني الّذي هو العمدة عندي ، وكنت أسأله عنه مرارا. (١)

وأيضا هو لم يقدر على إثبات كون جميع التّوثيقات حسيّا ، بل أثبت أنّ الكثير منها حسي والجميع ليس بحدسي ، وهذا المقدار مقطوع به بملاحظة كتب الرجال لكنّه غير كاف ، كما علمت.

وقد عرضت هذا السّؤال على جماعة من علماء العصر كالسّيد الأستاذ الحكيم رحمه‌الله والشّيخ الحلّي (في المشهد العلوي) والسّيد الميلاني (في المشهد الرضوي) والسّيد الخميني في النجف وغيرهم رحمهم‌الله جميعا ، وكجملة من علماء بلدة قم ، فلم يأت أحد بشيء يقنعني.

ثمّ لا شكّ في عدم استناد التوثيقات الموجودة كلّها إلى الحدس ، بل من المظنون القوي استناد أكثرها إلى النقل ؛ ولذا قال الشّيخ الطوسي قدس‌سره في أوّل فهرسته : فإذا ذكرت كلّ واحد من المصنّفين وأصحاب الاصول ، فلا بدّ أن أشير إلى ما قيل فيه من التّعديل والتّجريح. (٢) وقال في كتاب العدّة في آخر فصل في ذكر خبر الواحد : إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الإخبار ، فوثّقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء ، وفرقّت بين من يعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم ... وصنّفوا في ذلك الكتب ... (٣).

ظاهر هذه العبارة إنّ التّوثيقات والتجريحات كلّها منقولة عن سابق عن سابق.

وفي رجال النجّاشي في أوّل الجزء الثّاني (٤) : من كتاب فهرست أسماء مصنّفي الشيعة : وما أدركنا من مصنّفاتهم ، وذكر طرف من كنّاهم وألقابهم ومنازلهم وأنسابهم ، وما قيل في كلّ رجل منهم من مدح أو ذمّ ممّا جمعه الشّيخ الجليل أبو الحسين أحمد بن علي بن العبّاس النجّاشي الأسدي ، أطال الله بقاه وأدام علوه ونعماه ، انتهى. (٥)

__________________

(١) انظر كلامه في : معجم رجال الحديث : ١ / ٥٥ و ٥٦ ، والصفحة : ٤١ من الطّبعة الخامسة.

(٢) لكنّه رحمه‌الله لم يف بوعده حتّى في أوّل كتابه ، وهذا منه عجيب.

(٣) عدّة الاصول : ١ / ٣٦٦ ، المطبوعة في مطبعة سيّد الشّهداء بقم.

(٤) رجال النجاشي : ١ / ١٥٧.

(٥) جملة وما أدركنا وإن كانت تؤيد كون هذه الجملات من النجّاشي نفسه ، لكن الدعاء في الذيل يدلّ على أنّ الكلام من غيره ، فلم يثبت أنّه قوله ، لكن الدعاء المذكور قد ذكر في ترجمته أيضا ـ رجال النجاشي : ٧٩ ـ فلا يبعد كونه منه ، وقد قيل إنّ القدماء كانوا يدعون لأنفسهم بهذه العبارات ؛ وأمّا مدلوله ، فهو كمدلول كلام الشّيخ.

٥٢

وقيل : إنّ النجّاشي يعتمد في توثيق شخص أو تضعيفه على مشايخه ، كما يظهر من كتابه في خلال تراجمه كابن الغضائري ، والكشي ، وابن عقدة وابن نوح ، وابن بابويه وأبي المفضل وغيرهم ، وكذلك عن كتب جمّة ، وقد أحصيناها فبلغت أكثر من عشرين كتابا ، كرجال أبي العبّاس ، وابن فضّال والعقيقي ، والطبقات لسعد بن عبد الله ، والفهرست لأبي عبد الله الحسين بن الحسن بن بابويه ، ومحمّد بن زياد ، ولا بن النديم ، ولا بن بطّة ، ولا بن الوليد ، ولغيرهم. (١)

ثمّ إنّك عرفت أنّ بناء العقلاء إنّما هو على اعتبار الإخبار الحسيّ أو الحدسي المدلول عليه بالآثار الظّاهرة الواضحة القطعية الحسيّة ، وشيء منهما غير حاصل في المقام فإنّ الصدق وآثاره الحسيّة ، وكذا آثار العدالة الحسيّة غير قريبة من إحساس هؤلآء الأعاظم ، لما بين الرّاوي والمخبر من الفصل البعيد الزماني ؛ ولذا يختلف آراء الرجاليّين في حقّ جملة من الرّواة. وقد مرّ أنّ جملة كثيرة من تلك الأمارات مزيفة باطلة ، وهذا فليكن واضحا ، ولذا لا بدّ من معرفة الوسائط ووثاقتهم. وقد رأيت في ما قيل من مدارك النجّاشي أنّ بعضهم مجهول ، كالعقيقي وابن النديم مثلا ، وأمّا استناد السّيد الأستاذ قدس‌سره إلى أصالة الحسّ ، فيما يدور الإخبار بينه وبين الحدس في كلّ توثيق ، فهو صحيح ، لكنّها أجنبيّة عن المقام ، فإنّها تثبت حسّية الإخبار لا وثاقة المخبر. فإذا علمنا ولو تعبدا وثاقة نقلة التّوثيق وشككنا في صدور التّوثيقات عن حسّ أو حدس فالإصالة المذكورة تنفعنا كما في المسندات.

وأمّا إذا جهل وثاقة النقلة المحذوفة أسمائها ، كما في المقام أو ذكرت اسماءهم ، فلا أصل يثبت وثاقتهم إلّا بناء على أصالة العدالة ، أو أصالة الأمانة القوليّة في كلّ مسلم ، أو مؤمن ولا نقول بها.

لا يقال : النقلة الوسائط بين الموثّق والموثّق إن كانوا ثقات ، فقد ثبت المطلوب وإن كانوا مجهولين أو ضعفاء ، فاعتماد الموثق عليه يرجع إلى إعمال نوع من الحدس ، والأصل المذكور يدفعه ، فأصالة البناء على الحسّ تنفعنا في المقام.

قلت أصالة البناء المذكورة لم تثبت ببرهان عقلي ولا بدليل لفظي من آية أو رواية ، حتّى يتمسك بها في كلّ مورد ، بل هي دليل لبّي غير ثابت في المقام ، فارجع إلى العقلاء ، فانظر إلى بنائهم فهل يثبتون وثاقة مئات من المجهولين والمحتملون كذبا بهذا الأصل ، وبهذا

__________________

(١) أصول علم الرجال : ٢٦.

٥٣

البيان؟ ولا أقلّ من الشّك في مثل هذا البناء ، واللبّي يؤخذ بالقدر المسلّم والمتيقّن ، على أنّه منقوض بالرّوايات المرسلة ، إذ لا قائل باعتبارها مطلقا وبلا استثناء ، مع أنّ البيان المذكور جار فيها حرفا بحرف.

وهنا طريق آخر ذكره بعض الأعلام السّادة من المعاصرين حين المذاكرة معه في الحضرة العلويّة (١) ، وهو : إنّ احتمال التواتر في الرّوايات المرسلة غير متحقّق ؛ إذ طريق المصنفين إلى أرباب الكتب أو الأصول أو الرّواة معلومة معينة محدودة غالبا (٢) ، فلا تكون المرسلات حجّة. وهذا بخلاف التّوثيقات الصادرة من علماء الرجال للرواة ، فإنّ احتمال وصول وثاقة الرّواة إلى الشّيخ والنجّاشي وأمثالهما بنحو التواتر ، بلا مانع.

وعليه فنقول : الظاهر هو البناء على التواتر ، لما ثبت عند العقلاء أنّه لو دار الأمر بين كون خبر المخبر عن حسّه أو حدسه ، يبنى على أنّه عن الحسّ ، وفي المقام إذا قلنا بالتواتر المزبور يكون التّوثيق حسيّا ، بخلاف ما إذا أنكرنا التواتر فإنّ الشّيخ مثلا قبل توثيقه لأحد لا بدّ له من تطبيق صدق العادل على جميع نقلة هذا التّوثيق ، وهذا التطبيق ـ أي : تطبيق الكبرى على المفيد وغيره من نقلة الثقات ـ حدسي ليس بحسّي.

أقول : هذا كلامه وكان يصّر عليه ، ولكن يفسده امور :

أوّلا : إنّ لازمه حجيّة التّوثيق المرسل دون المسند بذكر الرّواة الثّقات بتقريب أنّ الوثاقة حينئذ حدسيّة ناشئة من تطبيق صدق العادل على النقلة ، وهو كما ترى.

وثانيا : عدم احتمال التواتر في جميع التّوثيقات كما يظهر من التّوثيقات المسندة في كلام النجّاشي والكشّي وغيرهما ، بل لم أجد موردا ثبتت الوثاقة بالتواتر المصطلح فيه ، بل لا أذكر عاجلا موردا ادّعي المعدل فيه القطع بوثاقة أحد. فتأمّل.

كيف ، ولو كانت التّوثيقات متواترة لما وقع الخلاف بين الشّيخ والنجّاشي وغيرهما من أرباب الرجال في التّوثيق والتضعيف ، بل ربّما كان للشيخ مثلا قولان في راو واحد على ما مرّ.

__________________

(١) وهو العلّامة الجليل السّيد على السيستاني (طال عمره) الّذي هو اليوم أحد مراجع التقليد بعد وفاة السّيد الخوئي رحمه‌الله ، ثمّ إنّي لقيته بعد ١٧ سنة من ذاك اللقاء سنة ١٤١٤ ه‍ / ١٣٧٣ ش ، في النجف الأشرف ، فقلت له : هل عندك شيء جديد في هذا المقام؟ فلم يكن عنده شيء غير ما قاله سابقا.

(٢) ولا يحتمل أن يكون للصدوق ، مثلا ـ إذا أرسل حديثا ـ طريق متواتر لم يصل إلى غيره من علماء الحديث ، كالكليني والطّوسي ، مثلا.

٥٤

ثمّ إنّ الكشّي (وهو أقدم رجالي وصل إلينا كتابه) بيّن حال بعض الرّواة مسندا وليست أسانيده متواترة فمن أين ينشأ احتمال التواتر ، بل القلب يطمئن بعدم التواتر في كثير من التّوثيقات.

وثالثا : إنّ تطبيق الكبرى ليست من الحدسي الّذي لا يثبت بخبر الواحد ، بل هو قريب من الحسّ واضح السبيل يثبت بخبر الواحد ، كما مرّ ، وبالجملة تصديق الثّقة أمر ظاهر ارتكازي للعقلاء معدود عندهم من الحسيات في الاعتبار. ولو كان مطلق الحدسي ـ وإن كان ضعيفا ـ مانعا عن معاملة الحسّي معه لكان التواتر أيضا حدسيّا لاحتياجه إلى قياس خفى ، كما قرّر في المنطق ، فلاحظ.

ورابعا : إنّ إثبات تواتر نقل ، بدعوى بناء العقلاء على معاملة الحسي مع الخبر المردّد بين كونه حسّيا أو حدسيّا مقطوع الفساد عند العرف ، بل ولعلّه لم يخطر ببال أحد من العقلاء سوى هذا السّيد الجليل المتصدّي لحجيّة أقوال علماء الرجال. (١)

نعم هنا شيء آخر يمكن به الفرق بين التّوثيق المرسل والرّواية المرسلة ، فيقال بحجيّة الأوّل دون الثّاني.

وحاصل هذا الوجه : أنّ نقل الرّواية من الضّعيف ممكن ولا مانع منه. وأمّا نقل التّوثيق عن الضعيف فغير صحيح ، ولا ينبغي صدوره عن الفضلاء ، فضلا عن الأكابر ؛ وذلك فإنّ الغرض الوحيد من التّوثيق هو إثبات وثاقة الرّاوي وعدم كذبه في قوله ونقله ، حتّى تصبح رواياته عند العلماء والمجتهدين الذين هم غير عالمين بحاله حجّة ، وعليه فيكون توثيق الرّاوي بنقل ضعيف نقض للغرض ، فإنّ كلّ عاقل يفهم أنّ وثاقة مجهول لا تثبت بتوثيق كاذب ، أو مجهول مثله.

ولا ينبغي لأحد أنّ ينسب هذا الاحتمال إلى أمثال هؤلآء الأكابر مثل الشّيخ وأمثاله من أقطاب العلوم الشّرعيّة.

فإذا حكم الشّيخ ـ مثلا ـ بوثاقة أحد ، لا بدّ من إحرازه وثاقة جميع نقلة الوثاقة.

__________________

(١) وقريب منه ما أفاده بعض السّادة الأجلاء حين مذاكراتي معه أيضا في النجف الأشرف في بيته بعد تلك المذاكرة بعدّة سنوات ، بيد أنّ الجليل المذكور عبّر بالواضح دون المتواتر ـ والمراد : السّيد السعيد الشّهيد المفكّر الإسلامي الكبير. السّيد باقر الصدر رحمه‌الله حشره الله مع أجداده ، [استشهد اليه بعد الطبعة الأولى من هذا الكتاب] ـ.

فإنّ أراد السّيد الشّهيد رحمه‌الله من الوضوح ، التواتر ، ففيه ما مرّ ، وإن أراد بالوضوح ما هو معلول القرائن ، فهو حدسي ، وإن أراد به الاطمئنان الحاصل من كثرة الطرق ، ففيه أنّه يختلف من أحد إلى آخر.

٥٥

أقول : هذا الّذي خطر ببالي مجرّد حسن ظنّ بهؤلآء العلماء قدس‌سرهم فإنّ أوجب الاطمئنان لأحد ، فله الاعتماد على التّوثيقات الموجودة ، وإلّا فلا.

والأصل في هذا الترديد إنّ إحراز وثاقة ناقلي التّوثيقات غير واضح السبيل ؛ ولذا قد يختلف كلام الشّيخ رحمه‌الله في وثاقة أحد أو ضعفه ، كما في حقّ سهل بن زياد. وترى الشّيخ يضعف سالم بن مكرم بن عبد الله أبا خديجة ، في حين أن النجّاشي يقول في حقّه : ثقة ، ثقة. (١) فيعلم من هذا وأمثاله أنّ لكلّ معدل ورجالي أصولا خاصّة يبني عليها الجرح والتّوثيق. (٢)

وبعبارة أخرى : إنّ التّوثيقات والتحسينات على قسمين :

قسم منها : مستند إلى نقل سابق عن سابق حتّى ينتهي إلى الناقل المعاصر للراوي المقول فيه ، والظّاهر إنّ هذا القسم هو الأكثر. (٣)

وقسم منها : مستند إلى الحدس والأمارات الاجتهاديّة على ما تقدّم أكثرها.

ثمّ إنّ وثاقة نقلة الوثاقة والصّدق أيضا قد تستند إلى النّقل ، وقد تستند إلى الحدس وهكذا.

وهذا القسم ـ أي : حدسيّة التّوثيق والتّحسين ـ هو الأقل ، وحيث إنّ حدس الموثّق والمحسّن ليس بحجّة لنا ، بل ثبت بطلانه في أغلب موارده فيما مرّ ، يسقط جميع التّوثيقات والتحسينات عن الاعتبار ضرورة عدم تمييز بين التّوثيقات الحسيّة والحدسية وخلط الحجّة باللاحجّة.

فإن قلت : ظاهر كلام النجّاشي والشّيخ السّابق استناد جميع التّوثيقات إلى الحسّ ، لا إلى الحدس.

قلت : أوّلا : نمنع ظهوره في العموم والاستيعاب ، بل المتيقن منه أو المظنون قويا من الخارج استناد أكثرها إلى الحسّ كما قلنا ، فيسقط الجميع عن الاعتبار لما عرفت. على أنّ بناء العقلاء على الحسّ فيما يدور الإخبار بينه وبين الحدس ، في المقام ، أي : ما يكون الفصل بين المخبر والمقول فيه بمائة سنة مثلا ، ممنوع ولا دليل عليه ، والدليل اللّبىّ يؤخذ بالمتيقّن منه.

وثانيا : إنّ قبلنا ذلك في توثيقات النجّاشي رحمه‌الله ، فلا نقبله في توثيقات الشّيخ قدس‌سره ؛ إذ من

__________________

(١) بل نقل عن الشّيخ أيضا توثيقه ونقل عن ابن فضّال في حقّه أنّه صالح لا ثقة.

(٢) يقول النجّاشي في حقّ الكشي : كان ثقة عينا ، وروى عن الضعفاء كثيرا. ويعتقد الشّيخ الطّوسي وثاقة كلّ من روي عنه أصحاب الإجماع ، كما يأتي بيانه في البحث الحادي عشر والبحث الحادي والعشرين ، ونحن لا نقول بها.

وعلى هذا يقوي الإشكال في توثيقات الشّيخ لتطرّق الظّنون الاجتهاديّة في توثيقاته في حقّ من ثبت رواية أحد هؤلآء عنه.

(٣) وقد مرّ أنّ أصالة البناء على الحسّ تثبت حسّية النقل ، ولا تثبت وثاقة الناقلين.

٥٦

أين نعلم خلوّ توثيقاته من أعمال الحدس ، فمثلا : من أين نعلم أنّ الشّيخ لم يقبل قول النقلة المجهولين في بيان التّوثيقات اعتمادا على أصالة العدالة ، كما نسبت إليه فيما سبق؟

ومن أين نفهم أنّه لم يوثّق الّذين روي عنهم ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي؟

وقد صرّح في محكي عدّته بأنّ هؤلآء الثّلاثة لا يرون ولا يرسلون إلّا عمّن يثقون به ، فالشيخ يعامل مع من روي عنهم هؤلاء الثلاثة وغيرهم ، معاملة الثقات اعتقادا منه بأنّ رواية أحد هؤلآء عن شخص بمنزلة قوله في حقّه أنّه ثقة ، فلا منافاة بين توثيق الشّيخ لمثل هذا الرّاوي وبين قوله السّابق في الفهرست والعدّة أصلا.

ومن أين نعتقد أنّ الشّيخ لم يقبل قول المعدلين والموثّقين المجهولين في توثيقاتهم ، أو قول ناقلي التوثيقات المجهولين بواسطة القرائن الحدسية؟

فإن قلت : سلّمنا ذلك ، لكن يدور الأمر في وثاقة كلّ راو بين كونها حسيّة أو حدسيّة ، وبناء العقلاء في ذلك على حملها على الأوّل.

قلت : نعم ، لولا العلم الإجمالي بوجود توثيقات ناشئة عن الحدس استنادا إلى تصريح نفس الشّيخ ، كما

أشرنا إليه ويأتي مفصّلا.

على أنّ النقض بمثل مرسلات الصّدوق وغيره فيما إذا قالوا : قال الصّادق عليه‌السلام كذا باق بحاله ، إذا الفاضل المتدين ـ فضلا عن مثل الأعاظم ورؤساء المذهب كالكليني والمفيد ، والشّيخ والصّدوق والصفار ومن يحذو حذوهم ـ كيف ينسب قولا إلى الصّادق وهو يعلم بعدم صحّة النسبة أو يشك في صحتها؟

فلا بدّ من البناء على صحّة المرسلات مع أنّهم لا يقبلون مطلق المرسلات. (١)

__________________

(١) وقد يدّعي بعض المشتاقين إلى التّوثيق أنّ الفرق بين إرسال التّوثيق وإرسال الرّواية ، واضح عند التأمّل ، فإنّ إرسال مثل الشّيخ والنجاشي إنّما يكون بعد سماعهم عن مشايخهم ، جميعهم أو أكثرهم بحيث يحصل لهم العلم الوجداني أو التعبّدي بذلك ، فيوجب العلم بأنّ الوسائط ثقات. ولو كان لديهم أدنى شكّ أو اختلاف لنسبوا ما ذكروه إلى الشّخص الّذي نقلوا عنه ، فكيف يقاس ذلك بالإرسال في الرّواية؟ فإنّ الإرسال فيها غير موجب للعلم بوثاقة من أرسل عنهم.

أقول : ما ادّعاه مجرّد توهّم لا واقعية له ؛ إذ يمكن اعتمادهما في التّوثيق على كتاب واحد أو شخص واحد ضعيف أو مجهول ، حصل لهم الظّن بالصدق كابن النديم وابن بطّة وأبي المفضل والعقيقي كما اعترف هذا القائل به في حقّ النجّاشي قبل ادّعائه هذا بأسطر ، فكيف علم أنّ الشّيخ أو النجّاشي ينقل التّوثيقات والتضعيفات في جميع الموارد عن جميع مشائخه أو أكثرهم؟ على ان النقض بالروايات المرسلة باق ولم يقدر على بيان وجه الفرق.

٥٧

وأمّا دعوى إجماع العلماء المتأخّرين عن زمان الشّيخ والنجّاشي على حجيّة توثيقات الشّيخ والنجّاشي والكشّي وأمثالهم ، فغير صحيحة ، فإنّ إجماعهم ليس تعبديّا كاشفا عن قول المعصوم ؛ إذ للعلماء طرق وآراء مختلفة في حجيّة آراء الرجاليّين ، وما يتوهّم من دفع الإشكال على القول بكون الرجوع إلى الرجاليّين من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ضعيف ، فإذا لم يندفع الإشكال المذكور فلا بدّ من الالتزام بدليل الانسداد والجرى على وفقه في الفقه ، لكن العجيب إننى ـ نفسيا ـ لا أرى في الانسداد وأصوله إثبات الحلال والحرام ، بل الّذي تطيب به نفسي هو العمل بصحاح الرّوايات وحسانها وموثقاتها حسب توثيق وتحسين هؤلآء الرجاليين الكرام (قدّس الله أسرارهم).

ولو أجد من حلّ لي المعضلة المذكورة لقدّمت له مبلغا من المال ، وكنت له شاكرا ، إذ مع هذه المعضلة يصبح علم الرجال غير معتمد على أساس عقلي أو شرعي ، كما هو ظاهر ، والله الهادي والملهم للصواب.

وفي الختام نلخص المشكلة المعضلة في المقام توضيحا للمطالعين.

المعضلة من جهتين :

١. معظم توثيقات الشّيخ الطّوسي والنجّاشي بشهادة كلماتهما ، وبالقرينة الخارجيّة ، حسّية جزما ، من دون الاستمداد من أصالة حمل كلام المخبر على الحسّ ، فيما إذا دار الأمر بين كونه عن حدس أو حسّ لبناء العقلاء عليه.

فالمشكلة في هذا القسم لا تنشأ من جهة احتمال كون توثيقاتهما حدسيّة أصلا ، وإنّما المعضلة أن توثيقاتهما ـ وكذا تضعيفاتهما ، وسائر ما ذكراه في حقّ الرّواة ـ مرسلة لم يذكرا الوسائط النقلة حتّى نعرف أنّهم ثقات أو ضعفاء أو مجاهيل.

وقبول التّوثيقات المرسلة لا وجه له سوى حسن الظّن بالشّيخ والنجّاشي ، وأنّهما لم ينقلاها إلّا عن ثقة عن ثقة إلى الآخر والحال أنّهما لم يذكرا ذلك ، ولم يشيرا إليه ، فكيف يجوز لنا قبولها؟ ولم لا نسأل منهما أنّه من هؤلآء الّذين أخبرو كما أنّ محمّد بن مسلم مثلا ثقة؟

فإنّكما لم تراه ألّا ترى أنا نقطع بأنّ ما ينقله أحدهما عن النّبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام ليس بحدسي قطعا ، بل هو حسّي ضرورة ، ولكن حيث نعلم إنّه لم يلاق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام نحتاج في قبول الحديث الحسّي إلى سنده ، وملاحظة حال رواته فإنّ علمنّا وثاقتهم

٥٨

أو حسنهم نأخذ به وإلّا نتركه ؛ لأجل الإرسال. وحيث إنّ معظم التّوثيقات مرسلة غير مسندة لا اعتبار بها ، وإن كانت حسّية مسموعة عمّن تقدمهما ، وهذا هو الإشكال الصعب المهمّ.

٢. الشّيخ الطّوسي رحمه‌الله مجتهد بتمام معنى الكلمة فمن أين نطمئن بأنّه لم يعمل حدسه في توثيقاته وتضعيفاته؟ والاستمداد من أصالة الحمل على الحسّي عند دوران الأمر بين الحسيّ والحدسي ، حتّى يثبت كونه حدسيّا في المقام مقرون بالصعوبة بعد الظفر على كلمات للشيخ رحمه‌الله تشهد بإمكان استفادته من اجتهاده وحدسه في مسائل علم الرجال. وقد صرّح بأنّ ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي وغيرهم ـ أي : أصحاب الإجماع كلّهم ـ لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

وهذا أمر حدسي ظاهرا ، نعم ، احتمال عدم الحدس في حقّ النجّاشي محدود ، فإنّه ليس كالشّيخ في سعة علومه واجتهاده ـ إنّ ثبت ـ مع إنّا لم نجد في كتابه ما يدلّ على إعمال حدسه ، لكن يحتمل ، في حقّه وحقّ الشّيخ ـ صدور التّضعيف والتّوثيق بملاحظة روايات الرجال ، وهذا يمكن إقامة بعض الشّواهد في فهرستيهما عليه.

واعلم أنّ الإخبار عن شيء ، تارة يكون عن حسّ ومشاهدة ، وأخرى عن أمر محسوس مع احتمال استناده إلى الحدس دون الحس.

وثالثة : عن حدس قريب من الحس.

ورابعة : عن حدس ناشئا عن سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به تامّة عند المنقول إليه ، بحيث لو فرض إطلاعه على ذلك السبب لقطع بالمخبر به ، كما في بعض الإجماعات المنقولة.

وخامسة : عن حدس ناشئا من سبب لم تحرّز الملازمة بينه وبينه عند المنقول إليه.

فالأوّل حجّة إذا كان المخبر ثقة صادقا ، والثّاني مثله ، إذ بعد كون المخبر به من الأمور المحسوسة فظاهر الحال يدلّ على أنّ الإخبار به عن حسّ دون حدس. وكذا الثالث إذ احتمال الخطأ في الأمور القريبة من الحسّ بعيد موهون عند العقلاء. وكذا الرابع فإنّه إخبار عن أمر حسيّ وهو السّبب. والاعتماد على المسبّب لأجل تماميّة الملازمة عند المنقول إليه .. وأمّا الخامس ، فهو غير حجّة إلّا بدلالة دليل كما في حجيّه الفتوى ، ثمّ الأظهر إثبات الأمور الحدسيّة النظريّة المترتبّة عليها الأحكام الشّرعيّة ، كما في تقويم الأمتعة ، مثلا : بقول واحد ثقة من أهل الخبرة ولا يتوقف على العدالة والتّعدد ؛ وذلك لبناء العقلاء على ذلك كما في مراجعة المرضى وغيرهم إلى الأطباء والمهندسين ، وغيرهما في جميع ما يحتاجون إليه.

٥٩

البحث الخامس

حول وثاقة مشائخ ابن قولويه

قال الشّيخ الجليل الثّقة جعفر بن محمّد بن قولويه (١) : وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم ـ أي : الأئمّة عليهم‌السلام ـ في هذا المعنى ، ولا في غيره ، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا (رحمهم‌الله برحمته) ولا أخرجت فيه حديثا روي عن الشّذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرّواية المشهورين بالحديث والعلم .... (٢)

أقول : العبارة تحتمل وجهين :

الأوّل : إنّه لا يذكر في كتابه ما روي عن الشّذاذ مطلقا.

الثّاني : إنّه لا ينقل عنهم إذا كان الخبر نقل عن غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم. وإن نقل عن المعروفين فهو ينقل عن الشّذاذ.

وعلى كلّ استفاد منه صاحب الوسائل (٣) توثيق الرّواة الواقعين في الكتاب وتبعه سيدنا الأستاذ الخوئي رحمه‌الله وكان يصرّ عليه في محاضراته (دروس الخارج) فيحكم لأجله بوثاقة جمع كانوا في علم الرجال من المجهولين ، ثمّ ذكر ذلك في كتابه معجم رجال الحديث (٤) ، ثمّ أتعب نفسه الشّريفة في تراجم الرّواة في تمام كتابه فأشار إلى رواية من روي عنه ابن قولويه دلالة على وثاقته.

__________________

(١) انظر : كامل الزيارات : ٤.

(٢) أنظر : مستدرك الوسائل ، فإنّه نقل العبارة فيه بتفاوت يسير ، وعلى كلّ العبارة غير خاليّة عن التعقيد.

(٣) وسائل الشيعة : ٦٨ / ٢٠ ، الطبعة الحديثة. لكن عبارته غير واضحة في أنّه هل قبل هذا التّوثيق العام أم لا؟ فالعمدة هو قبول سيّدنا الأستاذ رحمه‌الله.

(٤) معجم رجال الحديث : ١ / ٤٤.

٦٠