بحوث في علم الرجال

الشيخ محمد آصف المحسني

بحوث في علم الرجال

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مركز المصطفى العالمي للترجمة والنشر
المطبعة: زلال كوثر
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-195-211-4
الصفحات: ٤٥٦

في آخرها من عدّ الثقات والحسان إلى أكثر من ألف ومأتين وثمانين رجلا.

وأمّا كتاب معجم رجال الحديث ـ الطبعة الخامسة ـ لسيّدنا الأستاذ الخويي رضي‌الله‌عنه فالأسامي المذكورة فيه من الجزء الأوّل إلى الجزء الحادي والعشرين : ١٣٨٨٢ رجلا.

والمكنون بالأب ـ ج : ٢٢ وقسم من الجزء الثالث ٢٣ (١٣٨٨٣ إلى ١٤٩٨٩) رجلا.

والمعنونون بالابن ـ ج : ٢٣ ـ من (١٤٩٩٠ إلى ١٥٢١٨) رجلا.

والملقبون وفيهم عنوان الأخ والجد ـ ج : ٢٤ ـ من (١٥٢١٩ إلى ١٥٥٧١).

والنساء وفيهن عنوان الأخت والأم والبنت والجدّة ـ ج : ٢٤ ـ من (١٥٥٧٢ إلى ١٥٧٠٦) شخصا.

لكن في الأسماء والكني والألقاب وأسماء النساء مكرّرات كثيرة ، فلا يعلم العدد المحدود الواقعي في كتابه رحمه‌الله.

على أنّ كتب الرجال لم تستوف جميع الرّواة ، كما يظهر للمراجع المتتبّع فإنّ عمدة نظر المتأخّرين إلى رواة الكتب الأربعة المشهورة. فكثير من الرّواة لم تذكر أسمائهم في كتب الرجال ، ومن تتبّع الأسانيد في بحار الأنوار وغيره يظهر له جملة وافرة أخرى من الرواة.

٢٢١

البحث الخامس والثلاثون

في بيان أصحاب التّجريح والتعديل

ليست الوثاقة وضدها أو نقيضها وإن شئت فقل : الصدق والكذب أمرين نظريين يحتاج فهمهما إلى تعلّم وخبرة ، بل هما أمران واضحان تتيسّر معرفتهما لكلّ أحد ، فلا يشترط في الجارح والمعدل سوى صداقتهما واستناد قولهما إلى الحسّ ولو بالأصل للبناء العقلائي.

نعم. يستند التّوثيقات الموجودة في علم الرجال في الأغلب إلى النجّاشي والشّيخ الطّوسي والكشّي قدس‌سره وفي غير الغالب إلى أفراد آخرين نذكر هنا جماعة منهم لمزيد إطلاع القارئ عليهم :

١. علي بن إبراهيم القمّي الثّقة في تفسيره ، وقد مرّ تحقيق الحال في توثيقه العامّ لرواة كتابه في البحث الثامن ، فهو وإن كان ثقة ، لكنّنا لم نستفد منه في توثيق الرجال شيئا بخلاف السّيد الأستاذ الخوئي رحمه‌الله فإنّه استفاد منه وثاقة جماعة.

٢. جعفر بن محمّد بن قولويه الثّقة في كتابه كامل الزيارات على ما مرّ تفصيل البحث في توثيقه العام في البحث الخامس ، والحال فيه كما في سابقه ، بل وقد رجع السيّد الأستاذ عن رأيه في آخر عمره. (١)

٣. أحمد بن علي بن محمّد بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام العلوي العقيقي ، قال النجّاشي في حقّه :

__________________

(١) كما هو المشهور ، وقيل أنّه رحمه‌الله بني على وثاقة مشائخ ابن قولويه فقط دون بقيّة الرواة في كتابه.

٢٢٢

كان بمكّة وسمع أصحابنا الكوفيّين وأكثر منهم صنّف كتبا وقع إلينا منها ... كتاب تاريخ الرّجال ...

وهكذا ذكر الشّيخ في فهرسته قبل النجّاشي.

وعلى كلّ حال هو مجهول لم يثبت حسنه ، وإن اعتمد عليه العلّامة في عدّة من تراجم الخلاصّة ، بل قيل قد أكثر علماؤنا في كتب الرّجال من النقل عنه ، واعتمدوا على روايته وجرحه وتعديله ، وكان يكنّي بأبي طالب العلوي ، بل حسنه بعض الرجاليّين صريحا ، والحقّ أنّه لا يصحّ التعويل على أقواله ، وعلى كلّ حال ، سند الشّيخ في فهرسته إلى كتبه أيضا لا يخلو عن إشكال أو ضعف ، فلاحظ.

٤. علي بن أحمد العلويّ العقيقي ابن العقيقي السّابق ، ذكره الشّيخ في فهرسته ورجاله ، ونقل في الفهرست كتبه الّتي منها : كتاب الرجال بالسند السّابق ذكره.

ثمّ نقل عن ابن عبدون إنّ في أحاديث العقيقي مناكير ووصفه في رجاله بأنّه مخلط ؛

ولذا ضعّفه جمع من الرجاليّين.

أقول :

لكن ابن عبدون نفسه مجهول ، والتخليط لا يدلّ على الكذب ؛ ولذا دافع عنه بعض فحسنه أو وثقه (١).

والحقّ أنّه كأبيه لم يثبت حسنه ، فلا اعتماد على أقواله ، بل قول الشّيخ في الرجال في حقّه يجعله أدون حالا من أبيه. (٢)

٥ ـ ٦. الغضائري : والحقّ عدم اعتبار ما نقل من كتابه أو كتابيه ، لما مرّ سابقا من عدم ثبوتهما. وأمّا هو ـ أي : الغضائري نفسه ـ فإنّ كان المراد هو الابن أحمد بن الحسين بن عبيد الله ، ففيه كلام حتّى أنّ العلّامة المجلسي ـ على ما حكي عنه ـ قال : لا أعتمد عليه كثيرا. وعمدة أدلّة المعتمدين عليه هو اعتماد النجّاشي عليه ، بل كونه من مشائخه الّذين عاشره غير قليل فافهم ، ومرّ كلام جماعة أنّ النجّاشي لا ينقل عن ضعيف ، وفيه ما سبق.

__________________

(١) انظر : تنقيح المقال : ٢ / ٢٦٦.

(٢) واجيب عن اعتماد العلّامة عليه بأنّه يعتمد على كلّ إمامي لم يرد فيه قدح ، وقيل : إنّ العلّامة لم يعتمد عليه ، بل نقل قول الشّيخ في حقّه في ترجمته ، ولم يحسنه.

أقول : ظاهر العلّامة عدم الاعتماد على قبول قوله ؛ لأنّه ذكره في القسم الثّاني من كتابه المعدّ لذكر الضعفاء والمردودين أقوالهم ، والمتوقّف في أقوالهم.

٢٢٣

نعم. إنّ النجّاشي نقل عنه في أكثر من عشرين موردا ، وترحّم عليه في جملة من تلك الموارد ، وهذا يدلّ على حسن حاله ، وإن كان الأب الحسين بن عبيد الله ، فيدلّ عليه توثيق ابن طاووس إيّاه في محكي : فرج المهموم (١).

ووصف العلّامة إياه بشيخ الطائفة (٢). ويظهر من رجال السّيد بحر العلوم رحمه‌الله أنّه من الفقهاء أيضا ، وقد ترحّم عليه النجّاشي في كتابه ثمان مرات. (٣)

وعليه فلا بأس من الاعتماد على أقواله إن شاء الله تعالى ، لكن لم يثبت ما نقل في التّوثيق والجرح عن كتابهما أو كتبهما بسند معتبر شيئا.

٧. ابن عقدة أحمد بن محمّد بن سعيد الزيدي ، الّذي وثّقه الشّيخ والنجّاشي أكرم توثيق ، فنقبل توثيقه وجرحه إذا وصلا إلينا بطريق معتبر ، لكن سند الشّيخ إليه ضعيف ، نعم ، سند الصدوق إليه معتبر على عكس ما أفاده السّيد الأستاذ رحمه‌الله في معجمه ، ولا يستفاد منه في علم الرجال شيء ، وبنبينا اخيرا على اعتبار ما ينقل الشيخ عن كتابه.

٨. ابن فضّال الجليل الموثق بتوثيق الشّيخ والنجّاشي ، ولا بأس بالاعتماد على أقواله إذا نقلت بطريق معتبر ، كما نقلت في رجال الكشّي.

٩. محمّد بن إسحاق المعروف بابن النديم ، يقول المامقاني في كتابه تنقيح المقال : ويستفاد من النجّاشي والشّيخ اعتمادهما عليه ، حيث نقلا في مقامات عديدة كترجمة : بندار بن محمّد ، وثابت الضرير ، والحسن بن علي بن فضّال ، وداود بن أبي زيد ، ومحمّد بن الحسن بن زيادة ، وغيرهم عنه معتمدين عليه ، واعتمادهما عليه إن لم يفد توثيقه ، فلا أقلّ من إفادته حسنه ، بل من دقق النظر في فهرست الشّيخ رحمه‌الله وجد جملة وافية منه مأخوذة من فهرست ابن النديم حرفيّا بلا تغيير ، فيكشف ذلك عن نهاية وثوق الشّيخ رحمه‌الله به وغاية اطمئنانه به ، ولعلّنا نستفيد من ذلك وثاقته ...

هذا كلام هذا الفاضل ، وقد ذكر أوّلا : أنّ كونه شيعيّا من المسلّمات بين الفريقين.

يقول سيّدنا الأستاذ رحمه‌الله : الظّاهر إنّ الرجل من العامّة وإلّا لترجمه النجّاشي والشّيخ في

__________________

(١) والأقوى عدم اعتبار توثيق ابن طاووس لبعد الفاصلة بينه وبين الغضائري.

(٢) رجال المامقاني : ١ / ٣٣٣.

(٣) رجال النجاشي : ٦٩ ، ٧٥ ، ١٦٥ ، ١٢٤ ، ١٧٨ ، ٢٩٢ ، ٣٠٦ ، طبعة من جامعة المدرّسين.

٢٢٤

كتابيهما ، ولم يثبت وثاقته أيضا ، فإنّ مجرّد نقل النجّاشي والشّيخ عنه لا يدلّ على وثاقته. (١) أقول : ونحن لا نعتمد عليه.

١٠. أحمد بن محمّد بن خالد البرقي المتقدّم ذكره الثّقة في نفسه ، ونحن نعتمد على جرحه وتعديله إن وصلا بطريق معتبر ، ولا نعتمد على كتابه لما مرّ. (٢)

١١. العلّامة السديد المحقّق الشّيخ المفيد رحمه‌الله وقد وثّق أربعة آلاف من أصحاب الصّادق عليه‌السلام ، وجماعة اخرى من أصحاب الباقر والصادق والكاظم والهادي والعسكري عليهم‌السلام في الإرشاد ومصابيح النور ، فهو وثّق أكثر من كلّ رجالي وثّق ، لكنّنا ـ كما سبق ويأتي ـ لم نستفد منه شيئا إلّا في حقّ بعض الأفراد ، فهو مع جلالته وعلمه وتحقيقه وقداسته وعدالته لم يتكلّم ـ حسب رائي الناقص ـ في الرجال عن دقّة وتحقيق ، بل عن حسن نظر مفرط ، والله العالم.

قال العلّامة المامقاني رحمه‌الله في مقباس الهداية : (٣) ومنهم المفيد رحمه‌الله في الإرشاد ، فإنّه تأمّل المولى الوحيد في استفادة العدالة من توثيقاته فيه قال : نعم ، يستفاد منها القوة والاعتماد. (٤) وربّما تأمّل المحقّق الشّيخ محمّد رحمه‌الله أيضا في توثيقاته لتحققها بالنسبة إلى جماعة اختصّ بهم من دون كتب الرجال ، بل وقع التصريح بضعفهم من غيره على وجه يقرب الاتّفاق. ولعلّ مراده من التّوثيق أمر آخر ، انتهى.

وأنا أتوقّف في جميع توثيقاته العامّة ، أو شبه العامّة ، وأظن أنّ من تأمّل عن تعمّق في كلام الشّيخ المفيد قدس‌سره يوافقني ـ وعلى الأقلّ ـ لا يسرع إلى الإيراد عليّ ، والله الموفق.

١٢. جبرئيل بن أحمد الفارابي ، كثير الرّواية عن العلماء بالعراق وقمّ وخراسان.

والكشّي يروي عنه كثيرا ، وكأنّه يعتمد عليه حتّى يروي ما وجده بخطّه.

والحقّ إنّ الرجل مجهول لا يجوز الاعتماد على أقواله.

__________________

(١) معجم رجال الحديث : ١٥ / ٧٥.

(٢) يأتي تفصيل الكلام حوله في البحث الثّاني والخمسين.

(٣) مقباس الهداية : ٨٠.

(٤) ويقول الوحيد في تعليقته : ١١ : وعندي إنّ استفادة العدالة منها ـ أي : من توثيقات المفيد ـ لا تخلو عن تأمّل ، كما لا يخفى على المتأمّل في الإرشاد في مقامات التّوثيق ، نعم ، يستفاد منها القوّة والاعتماد ....

أقول : نحمل الجملة الأخيرة على حسن ظنّ الوحيد رحمه‌الله.

٢٢٥

١٣. نصر بن صباح البلخي ، قال الشّيخ في رجاله عنه : لقي جلّة من كان في عصره من المشايخ والعلماء ، وروي عنهم إلّا إنّه قيل كان من الطيارة غال.

الأقوى أنّه كسابقه مجهول ، وإن ثبت غلوه ـ ولو بمرتبة ضعيفة ـ فهو يؤكّد ضعف أقاويله ، فلا يعتمد عليه وإن فرضنا اعتماد الكشّي عليه في رجاله.

وخلاصّة الكلام ، الموثّق ـ بالكسر ـ لا بدّ أن يكون محرز الوثاقة والصدق أوّلا ، ووصل توثيقه بالسند المعتبر ثانيا ، وكان توثيقه غير خارج عن العادّة ، فافهم المقام.

٢٢٦

البحث السادس والثلاثون

حول الأقوال في اعتبار المراسيل

قد يشتمل سند الحديث على ذكر جميع رواته بأسمائهم ، وقد لا يكون كذلك ، بأنّ يحذف واحد أو أكثر من أوّل السند أو وسطه أو آخره أو يحذف تمام السند ، أو يذكر بلفظ مبهم كبعض أو بعض أصحابنا ، ونحو ذلك ويسمّى النّوع الأوّل بالمسند ، والنوع الثّاني بالمرسل. ولو بالمعنى الأعم الشّامل للمرفوع وغيره ، كما يأتي تعريف كلّ من الأقسام في البحث الثامن والأربعين.

ثمّ في الفرض الأوّل قد يكون الرّاوي معلوم الحال من المدح والذم ، وقد يكون مجهول الحال ، وقد يكون مهملا غير مذكور في علم الرجال من رأس ....

ونحن في خصوص هذا البحث أطلقنا المرسل على النوع الثّاني وعلى القسمين الأخيرين من النوع الأوّل.

فمرادنا بالمرسل ما لم يذكر راويه في الرجال ولم يعلم صدقه ، أو ذكروه ، ولكن لم يذكر في السند أصلا ، أو ذكر بعنوان بعض الأصحاب وشبهه ، أو ذكروه ، ولكن لم يذكروه بمدح أو ذمّ. (١)

مع العلم بأنّ إطلاق المرسل على بعض الأقسام خلاف الاصطلاح.

إذا عرفت هذا ، فاعلم إنّ مقتضى الاصول المتقدّمة عدم حجيّة المراسيل ؛ لأنّ شرط قبول الخبر الفاقد للقرينة هو وثاقة مخبره ، وهي غير محرزة في المرسل على الفرض ، ولكن

__________________

(١) والمراد بالمدح ما يفيد صدقه لا مطلقا ، وكذا المراد بالذمّ ما يدلّ على كذبه.

٢٢٧

لعلمائنا الأعلام أقوالا وتفاصيل في المقام لا بدّ من التّعرض لها ومعرفة قويّها من ضعيفها ، فنقول مستمدّا من الله سبحانه :

القول الأوّل :

المرسل إمّا يرسل عن بعضهم ، أو عن جمع ، والأوّل لا يكون حجّة على الأصل ، والثّاني حجّة للاطمئنان بعدم كذب جمع ، فإذا قال الرّاوي عن عدّة أو عن جماعة أو عن غير واحد أو أمثال هذه العبارات نبني على اعتبار الرّواية ، وإن لم نعرف المحذوفين إسما بالمدح والذمّ ، للاطمئنان بعدم كذب جميع الجماعة المذكورة في أخبارهم. (١)

أقول :

هذا التفصيل لا يحتاج إلى إقامة دليل بعد حصول الاطمئنان بعدم الكذب في الفرض المذكور ، فإنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة لم يردع الشّارع عنه ؛ ولهذا التفصيل ثمرات في علم الفقه وغيره ، ولا أدري هل قال به قائلون أم لا (٢)؟

لكنّي أعتمد عليه.

القول الثّاني :

اعتبار روايات مطلق المهملين ، كما صرّح به صاحب قاموس ، الرجال وسيأتي نقد كلامه في البحث الآتي.

وقد نسب هذا القول إلى ظاهر جمع من المتأخّرين أيضا (٣) ، واستدلّ له بأنّ الله تعالى علّق وجوب التبيّن على فسق المخبر وليس المراد الفسق الواقعي وإن لم نعلم به ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق فتعيّن أن يكون المراد ، الفسق المعلوم ، وانتفاء التثبت والتبيّن عند عدم العلم بالفسق يجامع كلا من القبول والرد ، لكن الثّاني منتف وإلّا لزم كون المجهول الحال أسوء حالا من معلوم الفسق ، حيث يقبل خبره بعد التثبّت.

أقول :

التلفيق المذكور فاسد جدّا ، فإنّ الألفاظ موضوعة لنفس معانيها ، لا مع قيد العلم ، كما قرّر

__________________

(١) ويلحقّ بالفرض الأوّل في عدم الحجيّة ما إذا كان قول المرسل محتملا للوجهين ؛ وذلك لعدم حصول الاطمئنان حينئذ.

(٢) يظهر من باب الحيض وباب البلوغ ، عمل جمع من الفقهاء بمثل هذا المرسل.

(٣) مقباس الهداية : ٥٦ ، وخاتمة المستدرك : ٣ / ٢٩٨.

٢٢٨

في أصول الفقه ، وإحراز عدم الفسق وجدانا أو تعبّدا ممكن كإمكان ثبوته بالعلم والإقرار والبيّنة ، فلا يلزم التكليف بما لا يطاق ومع الغضّ عنه لا يلزم من التوقّف في إخبار مجهول الحال كونه أسوء حالا من المعلوم الفسق ؛ لأنّ العقلاء يحكمون باشتراط اعتبار قول المجهول الحال بالتّبيّن ، فهما من هذه الجهة ـ أي : اشتراط جواز العمل بقولهما بالتبين ـ على السواء.

وقد يقال :

إنّ المستفاد من الآية مانعيّة الفسق عن قبول الخبر ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدمه.

أقول :

اشتراط العمل بخبر الفاسق بالتبيّن والتعليل المذكور في الآية : (... أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ...) ، يدلّان على أنّ المناط في قبول الخبر هو صدق المخبر وعدم كذبه ، ومن المعلوم إنّ الاطمئنان لا يحصل من أصالة عدم الفسق فمجهول الحال ، كالمعلوم فسقه في اشتراط قبول خبره بالتّبيّن.

ومنه ينقدح بطلان أصالة العدالة أيضا في المقام ، فإنّ المسلم المشكوك فسقه لا يقبل قوله مطلقا ، بل هو مقيد بالتّبيّن والاطمئنان ولو نوعا بعدم كذبه ، فتأمّل.

القول الثالث :

حجيّة مراسيل أصحاب الإجماع المذكورين في كتاب رجال الكشّي ، كما عن المشهور ، وحيث إنّا ذكرنا هذا الموضوع في البحث الحادي عشر ، فلا نبحث عنه هنا ، وقد ثبت أنّ مراسيلهم ، كمراسيل غيرهم في عدم الاعتبار.

القول الرابع :

حجيّة مراسيل محمّد بن أبي عمير.(١)

يقول المامقاني : إنّ محمّد بن أبي عمير تفرّد في تسالم الكلّ على قبول مراسيله وعدّهم إيّاها بحكم المسانيد المعتمدة ، ونحو ذلك وإن قيل في نفر آخرين أيضا ، إلّا أنّ القائل نفر ولم يقع على هؤلآء تسالم الكلّ ...

__________________

(١) وهو من الثقات الأجلّاء فقد ذكره الرجاليّين بكل ثناء.

قال الشّيخ : كان أوثق الناس عند الخاصّة والعامّة وأنسكهم نسكاو أورعهم وأعبدهم ، وقد ذكره الجاحظ في كتابه. بهذه الصفة الّتي وصفنا وذكر أنّه كان واحد زمانه في الأشياء كلّها و ...

وقال النجّاشي : إنّه جليل عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين.

٢٢٩

يقول النجّاشي في رجاله في ضمن ترجمة محمّد بن أبي عمير :

وقيل : إنّ اخته دفنت كتبه في حالة استتارها وكونه في الحبس أربع سنين ، فهلك الكتب. وقيل : بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت ، فحدث من حفظه ، وممّا كان سلف له في أيدي الناس ؛ فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله ...

أقول :

لم يفهم إنّ التفريع الأخير : فلهذا أصحابنا ... من النجّاشي أو من الحاكي عن هلاك الكتب ، وعلى كلّ حال إن اريد من سكون الأصحاب وعدم الاعتراض على ابن أبي عمير بكثرة نقل المراسيل وعدم مطالبتهم إيّاه باسناد رواياته ، فالتفريع المذكور مفهوم صحيح ، وإن كان المراد منه : القبول وإلحاق مراسيله بمسانيده المعتبرة ، فالتفريع المذكور غير مفهوم أصلا ، فإنّ نسيان الرّاوي رواة أحاديثه لا يقتضي بوجه وثاقتهم ولا صدقهم ، وهذا فليكن واضحا ؛ ولذا يصبح الشّق الأوّل أرجح ، بل متعينا.

وبالجملة :

الإيراد على الكلام المذكور من جهتين ، من جهة احتمال أنّه من مقولة القائل المجهول حاله ، ومن جهة أن سكون جمع إلى مراسيل أحد ، لا يكون دليلا على غيرهم حتّى إذا فسرنا السكون بالقبول من جهة كلمة (إلى) ويبعد كلّ البعد توافق كلّ الأصحاب على ذلك ، وسيأتي ما يدلّ عليه أيضا إن شاء الله.

لا يقال : إنّ ابن أبي عمير إنّما نسي أسامي من روي عنهم ، دون وثاقتهم أو كذبهم ، فهو يعلم أنّ أحاديثه كلّها مروية عن الثقاة والحسان.

فإنّه يقال : إنّه مجرّد احتمال.

ودعوى أنّ السكون مستند إلى فهم الطائفة أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة ، ضعيفة ومخالفة لقوله : (فلهذا) ـ أي : لأجل تلف الكتب ونسيان أسامي الرّواة ـ على أنّ النجّاشي أو القائل المجهول ، يخصّ كلامه بمراسيله دون مسانيده ، ولم يدع إنّ ابن أبي عمير لا يروي إلّا عن ثقة ، بل يمكن أنّ يكون القول المذكور : (فلهذا) ردّا على الشّيخ في أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة ، يعني : أنّ علّة سكون الأصحاب إلى مرسلات ابن أبي عمير ؛ لأجل تلف كتبه ونسيانه أسمائهم ، لا لأجل أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة ، فلاحظ.

نعم ، للشيخ الطّوسي وجه آخر في اعتبار مراسيله ، وهو أنّ ابن أبي عمير ممّن لا يروي

٢٣٠

ولا يرسل إلّا عن ثقة ، فيكون مراسيله حجّة ، وهذا معقول في الجملة ، وقد نسب قبوله إلى جمع كالعلّامة في النهاية والشّهيد في الذكرى والبهائي في الزبدة وغيرهم.

وقيل : إنّ الشّافعية أيضا يقبلون مراسيل سعيد بن المسيب.

بل سيأتي في البحث الثامن والثلاثين من الشّيخ الطوسي قدّس سره دعواه إجماع الطائفة على أنّه ـ أي : ابن أبي عمير ـ وصفوان والبزنطي وجماعة آخرين ، لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به.

والمناقشة فيه باحتمال ثبوت الجارح ضعيفة بأصالة عدمه.

أقول :

قد مرّ ما يتعلق بهذه المسألة في البحث الحادي عشر وضعّفنا الإجماع المذكور والمدعى أيضا مخدوش بما قد ثبت من روايتهم عن الضعفاء.

فإنّ قلت :

ظاهر الشّيخ أنّه يستند معرفة عدم رواية هؤلآء عن غير الثّقة إلى الطائفة ، ومعرفة الطائفة حجّة سواء كانت عن حسّ ، أو عن حدس للاطمئنان بعدم اشتباه جميعهم في ذلك ، فتكون مرسلاتهم معتبرة حتّى إذا تعارضت بجرح جارح فإنّ توثيق الطائفة مقدّم على جرح واحد منهم.

قلت :

نمنع ذلك الظهور وإلّا لتعرّض له غير الشّيخ عادة فهو اجتهاد منه ، بل قيل إنّ الشّيخ نفسه خالف هذا الاجتهاد. (١)

ثمّ إنّ صاحب معجم الثقات بعد متابعة الشّيخ في قوله هذا تتبّع الكتب الأربعة وغيرها ، واستخرج أسماء من روي عنهم هؤلآء الثّلاثة ، ولم يرد فيهم التّوثيق بالخصوص ، فأنّهاها إلى ثلاثمائة وواحد وستين اسما (٢) ، ولاحظ خاتمة المستدك أيضا.

وهذه ثمرة مهمّة جدّا.

__________________

(١) التهذيب : ٨ / ٢٥٦ ؛ الاستبصار : ٤ / ٤٦ ، المطبوع جديدا. نعم ، قيل : إنّه ربّما يذكر في التهذيبين خلاف مبناه ؛ لأنّ غرضه فيهما هو الجمع بين المتعارضات.

أقول : هذا صحيح في الجملة ولكن لا دائما ، على أنّ دأبه على ذلك إنّما هو بالجمع الدلالي دون النقاش في السند ، كما صرّح به في أوائل تهذيبه والحقّ أنّ الاعتراض المذكور يضعف بتأخّر تأليف العدّة عن التهذيب فما في العدة ، كأنّه عدول عما في التهذيب.

(٢) انظر : المصدر من صفحة : ١٥٣ ـ ١٩٧.

٢٣١

توضيح وتحقيق

هل روي هؤلآء المشائخ الثّلاثة عن الضعفاء؟

وهل ثبت عن الشّيخ الطّوسي ما يخالف ادّعائه في حقّ ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة؟

أمّا الأوّل ، فقد ثبت أنّ ابن أبي عمير روي عن جماعة ضعفاء ، منهم : يونس بن ظبيان ، والمفضل بن صالح ، والمفضل بن عمر ، ومحمّد بن سنان ، وعلي بن أبي حمزة ، وأبو البختري ، وهب بن وهب ، وعلي بن حديد ، وعمرو بن جميع ، والحسين بن أحمد بن المنقري ، وغيرهم.

كما ثبت أنّ صفوان روي عن : صالح النيلي ، ويونس بن ظبيان ، وعلي بن أبي حمزة وأبو جميلة ومحمّد بن سنان وغيرهم.

وكما ثبت أنّ البزنطي روي عن الحسن بن علي بن أبي حمزة وعن أبيه ، وعن أبي جميله وعن المفضل بن صالح وغيرهم.

ومجموع من روي عنهم هؤلآء المشائخ الثّلاثة رحمه‌الله ربّما يبلغ إلى : ٦٠٠ شخصا ، وقيل :

إلى أكثر من سبعمائة شخص.

لكن هنا أجوبة عن ذلك حتّى لا تضر هذه الموارد ، بأن هؤلآء الثّلاثة لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

الجواب الأوّل :

إنّ نسبة من ثبت في حقّهم التضعيف بالنسبة إلى من لم يثبت فيه الضعف ، من الّذين روي عنهم ، قليلة جدّا بحيث لا تضرّ بالإطمئنان ، فكأنّ تلك الموارد بمنزلة الشّاذ غير قابلة للاعتناء ، كما في نسبة الواحد إلى المائة أو الألف.

أقول :

هذا البيان يكفي لصحّة الكلية المذكورة بحسب العرف ، ولا يكفى لحجيتها ؛ إذ في كلّ مورد يحتمل أنّ الرّاوي من الشّاذ النادر ، فيكون ضعيفا فلا يجوز الأخذ برواياته ...

الجواب الثّاني :

من سيّدنا الأستاذ الحكيم قدّس سره في مستمسكه (١) لكنّه مع كونه خلاف ظاهر كلام الشّيخ رحمه‌الله ردّ لادعاء الشّيخ وتسليم للإشكال ، لا أنّه جواب له وسيأتي نقله.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى : ١ ، ٤٢٤ و ٤٢٦.

٢٣٢

الجواب الثالث :

إنّ هؤلآء المشائخ الثّلاثة إنّما رووا عن الضعاف في زمان وثاقتهم دون حال انحرافهم.

أقول :

دفع الإشكال بهذا الاحتمال ، ضعيف ، خارج عن البحث العلمي ، لا سيّما إذا لم يثبت إنّ الرّاوي له حالة استقامة وحالة انحراف.

الجواب الرابع :

أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يثقون بهم أنفسهم ، ولا يعتبر أن يكونوا من الموثوق بهم عند غيرهم ، وهذا نظير ما أجاب بعض أهل السنّة عن ادّعاء مسلم صاحب الصحيح ، حيث ادّعي إنّ روايات كتابه مقبولة عند الكلّ ، فقال : أي : باعتقاد مسلم إنّها مقبولة عند الكلّ.

وفيه إنّه خلاف ظاهر كلام الشّيخ ، وثانيا أنّه لا يجدي ولا ينفع شيئا ، فإنّا مأمورون بالعمل باخبار من نثق به لا بأخبار من يثق به أحد هؤلآء الثّلاثة.

والحاصل : الحاسم أنّ الوثاقة بمعنى الصدق ـ على ما سبق ـ وليس يعقل أن يكون لهم نظر خاصّ فيه ، بحيث يرى أحد هؤلآء صدق أحد ولا يراه كذلك ، غيرهم من الرجاليّين.

وسيأتي في كلام سيّدنا الأستاذ الحكيم رحمه‌الله توجيه آخر لهذا الوجه.

فالصحيح : عدم الاعتماد على نقل الشّيخ في حقّ هؤلآء المشائخ الثّلاثة.

وأمّا جواب السؤال الثاني ، ففي التهذيب (١) بعد نقل مرسلة ابن أبي عمير : فأوّل ما فيه أنّه مرسل ، وما هذا سبيله لا يعارض به الإخبار المسندة.

وهكذا عن الاستبصار.

والجواب أنّ هذا لا يناقض ما ذكره بعد ذلك في العدّة فإنّ التهذيب مقدّم تأليفا على العدّة ، فهو عدول عن الرأي ، وهذا واضح يقبح إنكاره.

فإنّ قلت :

إنّ الشّيخ لم يذكر في التهذيبين عدم حجيّة المرسلتين مطلقا ، بل في حال التعارض وباب التعارض ، له حكم خاص؟

__________________

(١) التهذيب : ٨ / ٣٦٠ ، ح ١٦٤ ، طبعة مكتبة الصدوق ، وفي نسخة اخرى : ٢٣٣ ، ح : ٩٣٢.

٢٣٣

قلت :

إنّ الشّيخ قدّس سره ابتلى بالتناقض ظاهرا في هذا المقام ، فلاحظ كلامه في البحث الثامن والثلاثين.

نعم ، الشّيخ خالف ادّعائه في حقّ هؤلآء الثّلاثة من جهة اخرى ، وهي أنّه ضعف عدّة من الرّواة الّذين روى بعض هؤلآء الثّلاثة عنهم ، فإذا كان الشّيخ ـ وحتّى النجّاشي وغيره ـ معتقدا ضعف بعض هؤلآء المروي عنهم ، فكيف يصحّ له أنّ يدعي أن هؤلآء الثّلاثة لا يرسلون ولا يروون إلّا عن ثقة؟

وكيف يجوز لغير الشّيخ أن يعتمد عليهم في خصوص مسانيدهم المجهولة؟

مثلا : أنّ الشّيخ ضعّف الحسين بن أحمد المنقري في رجاله في أصحاب موسى بن جعفر عليه‌السلام وضعّف عمرو بن جميع في أصحاب الصّادق عليه‌السلام وأبا البختري في فهرسته مع أنّ ابن أبي عمير روي عنهم ، وهكذا.

وفي الأخير ننقل كلام سيدنا الأستاذ الحكيم قدّس سره في مستمسكه (١) إيضاحا للمقام :

ورواية محمّد بن أبي عمير عنه ـ أي : زيد النرسي ـ لا توجب ذلك ـ أي وثاقته ـ وإن قيل إنّه لا يروى إلّا عن ثقة ؛ إذ لا يبعد كون المراد منه الوثاقة في خصوص الخبر الّذي رواه ـ ولو من جهة القرائن الخارجيّة ـ لا كون الرّاوي ثقة في نفسه ، وإلّا لأشكل الأمر في كثير من الموارد الّتي روي فيها محمّد بن أبي عمير عن المضعفين ، مضافا إلى بنائهم على عدم كفاية روايته في توثيق المروي عنه ، كما يظهر من ملاحظة الموارد الّتي لا تحصى ، ومنها المقام فإنّهم لم ينصوا على وثاقه زيد بمجرّد رواية محمّد بن أبي عمير عنه.

وأيضا فإنّ الظاهر أنّ عدم الرّواية إلّا عن الثّقة ليس مختصّا بمحمّد ، والبزنطي ، وصفوان الّذين قيل فيهم ذلك بالخصوص.

فقد قال الشّيخ رحمه‌الله في عدّته في مبحث الخبر المرسل :

سوت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، وغيرهم من الثقات الّذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به ، وبين ما أسنده غيرهم : ولذلك عملوا بمراسيلهم.

بل الظاهر أنّ كثيرا من رواة الحديث كذلك ، لاختصاص الحجيّة عندهم بخبر الثّقة ، وليس نقلهم للرّوايات من قبيل نقل القضايا التأريخيّة ، وإنّما كان للعمل والفتوى ، فما لم يحصل لهم الوثوق بالرّواية لا ينقلوها ، بل يطعنون على من ينقلها.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى : ١ / ٤٢٥ و ٤٢٦.

٢٣٤

فلاحظ ما حكى عن أحمد بن محمّد بن عيسى من إخراجه البرقي من قمّ ؛ لأنّه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، فلو كان هذا المقدار كافيا في البناء على وثاقة الرّاوي لم يبق لنا راو إلّا وهو ثقة إلّا نادرا.

نعم ، الرّواية عن شخص تدلّ على الوثوق بروايته ، لكن ذلك قد لا يوجب الوثوق لغيره.

وبذلك اتّضح الفرق بين الشّهادة بوثاقة الرّاوي والرواية عنه فتكفي الأولى في قبول خبره ولا تكفي الثانية في قبوله ، فضلا عن إثبات وثاقة الرّاوي في نفسه ؛ لأنّ الظاهر في الأوّلى الاستناد إلى الحسّ أو ما يقرب منه ، فيكون حجّة ولا يظهر من الثانية ذلك ؛ ولذلك نجد أكثر الرّوايات الضعيفة غير مقبولة عند الأصحاب وفي سندها الثقات والأجلّاء ، لعدم حصول الوثوق لهم من مجرّد ذلك ، لاحتمال كون وثوق رجال السند حاصلا من مقدّمات بعيدة يكثر فيها الخطأ.

ومن ذلك يظهر الإشكال في إثبات وثاقة زيد النرسي برواية جماعة من الأجلاء لكتابه ، كما قيل.

ومثله في الإشكال : ما قيل من أنّ محمّد بن أبي عمير من أصحاب الإجماع ، والمعروف بينهم أنّ المراد به الإجماع على قبول الرّواية ، إذا كان أحدهم في سندها وإن رواها بواسطة المجهول ، كما يدلّ على ذلك عبارة العدّة المتقدّمة ، فإنّ المراد من غيرهم من الثقات ما يشمل أصحاب الإجماع قطعا ؛ ولأجلها يضعّف إحتمال أنّ المراد من الإجماع المتقدّم صحّة روايتهم فقط.

وعلى هذا فرواية النرسي يجب العمل بها ، لرواية محمّد بن أبي عمير إيّاها وإن لم تثبت وثاقة النرسي.

وجه الإشكال : أنّ الإجماع المذكور وإن حكاه الكشّي رحمه‌الله وتلقاه من بعده بالقبول ، لكن ثبوته وحجّيته بهذا المقدار محلّ تأمّل.

كيف وجماعة من الأكابر توقّفوا عن العمل بمراسيل ابن أبي عمير؟

وأمّا غيره من أصحاب الإجماع ، فلم يعرف القول بالاعتماد على مراسيله ، حتّى استشكل بعضهم في وجه الفرق بينه وبين غيره في ذلك.

وما ذكره الشّيخ رحمه‌الله في عبارته المتقدّمة غير ظاهر عندهم. وأيضا فإنّ الظاهر أنّ الوجه في الإجماع المذكور ما علم من حال الجماعة من مزيد التثبت والاتقان والضبط ، بنحو لا

٢٣٥

ينقلون إلّا عن الثقات ـ ولو في خصوص الخبر الّذي ينقلونه ـ فيجيء فيه الكلام السّابق من أنّ الوثوق الحاصل من جهة القرائن الاتّفاقيّة غير كاف في حصول الوثوق لنا على نحو يدخل الخبر في موضوع الحجيّة كليّة.

وبالجملة : لو كان الإجماع المدعي ظاهرا في ذلك ، فكفايته في وجوب العمل بالخبر الّذي يرويه أصحاب الإجماع ، مع عدم ثبوت وثاقة المروي عنه ، أو ثبوت ضعفه لا يخلو من إشكال ، فلاحظ وتأمّل. انتهى كلامه رفع مقامه.

القول الخامس : حجيّة مراسيل الكافي لثقة الإسلام الكليني رضي‌الله‌عنه

أقول : وهو مجرّد حسن ظنّ.

القول السادس : حجيّة مراسيل الصدوق قدس‌سره كما عن الحرّ والسبزواري والبهائي (١) رحمه‌الله وغيرهم. ويأتي تفصيله في البحث الثّاني والأربعين.

أقول : يفهم وجه هذين القولين وضعفهما ممّا مرّ وما يأتي.

القول السابع : ما نقل عن المحقّق الحلّي في خمس معتبره (٢) من حجيّة المراسيل بشروط منها : خلوّه عن المعارض ، ومنها : خلوّه عن المنكر ، ومنها : عدم ردّه من جانب الفضلاء ، ومنها : كون المرسل الناقل شيعيّا.

وهل يعتبر مع ذلك موافقته لفتوى علماء الشّيعة عنده أم لا إليك نص عبارته بتمامها :

الذي ينبغي العمل به اتّباع ما نقله الأصحاب وأفتى به الفضلاء ، وإذا سلم النقل عن المعارض ، ومن المنكر لم يقدح إرسال الرّواية الموافقة لفتواهم ، فإنّا نعلم ما ذهب إليه أبو حنيفة والشّافعي ، وإن كان الناقل عنهم ممّن لا يعتمد على قوله ، وربّما لم يعلم نسبته إلى صاحب المقالة ، ولو قال إنسان : لا أعلم مذهب أبي هاشم في الكلام ولا مذهب الشّافعي في الفقه ؛ لأنّه لم ينقل مسندا كان متجاهلا ، وكذا مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ينسب إليهم بحكاية بعض شيعتهم سواء أرسل أو اسند ، إذا لم ينقل عنهم ما يعارضه ولا ردّه الفضلاء منهم.

نقول لهذا المحقّق الفقيه عميق النظر وسيع الاطلاع رضي‌الله‌عنه :

نمنع التجاهل إذا لم يكن النقل محفوفا بقرينة خارجيّة فإنّ خبر الواحد لا يكون مفيدا للعلم ، فكيف يكون مدعي عدمه متجاهلا؟

__________________

(١) مقباس الهداية : ٤٩.

(٢) وسائل الشّيعة : ٢٠ / ٧٣ ، الطبعة المتوسطة.

٢٣٦

بل يكون محقّا في دعواه ، ولعلّ مراد المحقّق المسائل العامّة المشهورة الظاهرة.

وعلى الجملة : إذا حصل الاطمئنان بصدور الرّواية المرسلة الجامعة لما ذكره من الشّروط من المعصوم فهو ، وإلّا فلم يوجد دليل على حجيّتها في كلامه وفي كلام غيره نخضع له ، وله تفصيل آخر يأتي في آخر هذا البحث.

القول الثامن : ما عن الفاضل المقداد في تنقيحه من حجيّة مراسيل الشّيخ الطوسي قدّس سره بحجّة أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة ، وهو أعلم بما قال.

وبمثله قيل في : حقّ النجّاشي ، وابن عقيل ، والإسكافي ، والكلّ نشأ من حسن الظّن.

أقول التّاسع : ما عن الشّهيد رضي‌الله‌عنه في محكي غاية المراد بأنّ مراسيل الثقات من الأصحاب مقبولة معتمدة.

وقال الفاضل المامقاني :

أراد بالثقات من وثقوه ولم ينصوا بأنّه يروي عن الضعفاء ، وحينئذ فتعتدل جملة من المراسيل لعدم قصور هذه الشّهادة من التّوثيقات الرجاليّة فلا تذهل. (١)

أقول :

هذا الكلام من مثل الشّهيد عجيب فإنّه رحمه‌الله يعلم إنّ الثقات يروون عن الضعفاء والمجهولين ، كما يروون عن الثقات والصادقين ، فكيف يكون مراسيلهم حجّة ، ولست أتوّقع صدور مثل هذا الكلام من مثل هذا الجليل النّبيل وأمثاله.

وأمّا ما ذكره المامقاني رحمه‌الله ، ففيه إنّ سكوتهم عن رواية شخص عن الضعفاء دليل على أنّه لم يرو عن الضعفاء كثيرا ، لا أنّه لم يرو عن ضعيف أصلا ، وعليه فلا تلبس المراسيل لباس الحجيّة.

وأمّا عدم قصور هذه الشّهادة عن التّوثيقات الرجاليّة ، ففيه أنّه واضح الضعف فإنّ كلام الشّهيد رحمه‌الله اجتهاد حدسي لا يجوز العمل به لمجتهد آخر ، بل للكلّ ؛ لبطلان تقليد الميت ابتداء ، وهذا بخلاف الإخبار عن حسّ ، فإنّه حجّة كما مرّ.

ولعلّ مراد الشّهيد من الثقات الثقات المعيّنون الّذين ادّعي الإجماع على قبول مراسيلهم ، ولكنّه أيضا عندنا غير تامّ ، كما سبق مفصّلا.

ثمّ إنّه ربّما يقال : إنّ المرسل ـ كالصدوق رحمه‌الله ـ إذا أرسل الرّواية بلفظ : روي عن

__________________

(١) خاتمة تنقيح المقال : ٣ / ٩٩.

٢٣٧

الإمام فهو ليس بحجّة ، وأمّا إذا أرسله بلفظ : قال الإمام ، فهو حجّة ؛ إذ لو لا صحّة الطريق لم يجز له نسبة المضمون إلى الإمام ، لأنّه افتراء محرّم.

ويردّه إنّ هذا لا يثبت صحّة الطريق عند غير الصدوق مثلا ، وإنّما يثبت الصحة المعتبرة باجتهاد الصدوق فقط ، فلا يجوز لغيره الاعتماد عليها ؛ لاختلاف المباني الاجتهاديّة والحالات النفسيّة.

القول العاشر : ما عن السّيد المحقّق الداماد رحمه‌الله في محكي الرواشح السماويّة من أنّه إذا قيل في الحديث رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام فهو ، أمّا محمّد بن حمزة التميمي الفاضل الثّقة ، وهو الّذي روي في الفقيه عنه الحديث المتضمّن لحدّ كثرة السهو ، أو محمّد بن أبي حمزة الثمالي الممدوح ، وهو الّذي يروي عنه ابن أبي عمير ومحمّد بن سنان ، وأمّا ثعلبة بن ميمون أبو إسحاق الفقيه النحوي ، ثمّ قال : فهذه فايدة جليلة قد أخذتها واستفدته من كتاب الرجال للشيخ رحمه‌الله.

أقول :

لا تحضرني الرواشح حتّى أطمئن بصدور هذه العبارة بعينها من السّيد المذكور ، وعلى تقدير وجودها ، ليته ذكر محلّ الأخذ والاستفادة من رجال الشّيخ ، وعلى كلّ فعندي هذا القول غريب.

القول الحادي عشر : ما ذكره المحدّث الحرّ العاملي من أنّ الرّوايات المتواترة الدّالة على حجيّة خبر الثّقة مطلقة وعامّة ، فما يرويه الثّقة يحكم بصحته سواء رواه مرسلا أو مسندا ، عن ثقة ، أو ضعيف ، أو مجهول ... ومن المعلوم قطعا أنّ الكتب الّتي أمروا عليهم‌السلام بالعمل بها كان كثير من رواتها ضعفاء ومجاهيل ، وكثير منها مراسيل. (١)

وفيه إنّ حجيّة نقل الثّقة وتصديقه إنّما هو فيما يخبر فقط لا ثبوت قول المعصوم ، ولو بتوسط ضعيف أو مجهول ، فإذا قال الثقة : قال الإمام كذا ، وكذا نصدّقه في إخباره عن المعصوم عليهم‌السلام. وإذا قال : قال فلان ، قال : الإمام كذا ، نصدّقه في إخباره عن فلان لا عن الإمام عليه‌السلام فإذا كان فلان ضعيفا أو مجهولا أو مهملا ، فلا معنى للحكم بثبوت قول العصوم بقول هذا الضعيف أو المجهول ، ولا إطلاق ولا عموم يفيان بإثباته قطعا ، وهذا فليكن واضحا وظاهرا بأدني التفات.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ٢٠ / ٩٣.

٢٣٨

وأمّا الكتب المأمور بها ، فإنّ أراد من الأمر بها الأمر المستفاد من الرّوايات المتواترة الدّالة على حجّيه قول الثّقة ، فقد عرفت ما فيه ، وإن أراد الأمر الخاصّ بالعمل ببعض الكتب ، فمع فرض صحّة هذا الأمر سندا ، تصبح المرسلات والضعاف سندا مسندات معتمدة ؛ لأجل الأمر الثّاني بنفس المتون ، وهذا لا يدلّ على حجيّة المرسل بوجه ، كما لا يدلّ على حجيّة نقل الضعيف والمجهول وإلّا بطل علم الرجال من أصله ، فما نسجه موهون جدّا.

القول الثّاني عشر : حجّيّة مرسلات الحلّي في مستطرفات سرائره ، وسيأتي وجهها ونقده إن شاء الله في بحث مستأنف.

القول الثالث عشر : حجّيّة المرسلات الّتي عمل بها المشهور ، أي : استندوا إليها في مقام الفتوى ، فلا يكفي مجرّد مطابقتها للفتاوي ، كما أنّ المعتبر من الشّهرة الشّهرة بين القدماء دون المتأخّرين ، وهذا هو الكلام الشّائع ، إنّ الشّهرة جابرة وكاسرة ، أي : أنّ عمل المشهور برواية ضعيفة جابر لضعفها ، وإعراض المشهور عن رواية معتبرة موهن وكاسر لاعتبارها ، كما ذهب إليه المشهور أو الأشهر.

واستدلّ له بأنّ القدماء كانوا أقرب إلى زمان الأئمّة عليهم‌السلام وكانوا أعرف بالقرائن اللفظيّة والحاليّة ، وخفاء القرائن عليهم أقلّ منه على غيرهم ، فلعلّهم وقفوا على ما لم نقف عليه ، فعملهم بالرواية الضعيفة يكشف عن قرينة دالّة على صحتّها ، وإعراضهم عن الرّواية المعتبرة يكشف عن خلل فيها. (١)

أقول : هذا الاستدلال ممنوع صغرى وكبرى.

أمّا منع الصّغرى ، فلأنّه لا سبيل لنا إلى إحراز استناد مشهور القدماء إلى الرّواية غالبا ؛ إذ ليس بأيدينا الكتب الاستدلاليّة للقدماء ، حتّى أنّه لم يصل إلينا كتاب ابن أبي عقيل وكتاب ابن الجنيد ، اللذين قيل : إنّهما ألّفا بشكل استدلالي ، بل ليس للمشهور المتقدّمين كتب فتوائيّة حتّى نقف على فتاويهم.

وللشهيد الثّاني كلام طويل ذكره في درايته (٢) وإليك بعضه :

هذا إنّما يتمّ لو كانت الشّهرة متحققة قبل زمن الشّيخ ، والأمر ليس كذلك فإنّ من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقا ، كالسيّد المرتضى ، والأكثر

__________________

(١) إذا ثبت علمهم بوجود الرّواية ولم يكن إعراضهم عن الرّواية المذكورة ؛ لأجل المناقشة في دلالتها ، أو ترجيح غيرها عليها ، ولغير ذلك من العمليات الاجتهاديّة.

(٢) الدراية : ٢٧ و ٢٨.

٢٣٩

على ما نقله جماعة ، وبين جامع للأحاديث من غير التفات إلى تصحيح ما يصحّ ورد ما يرد ...

فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشّيخ على وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقّق ، ولما عمل الشّيخ بمضمونه في كتبه الفقهيّة جاء من بعده العلماء ، واتّبعه منهم عليها الأكثر ، تقليدا له إلّا من شذّ منهم ، ولم يكن فيهم من يسبر الأحاديث وينقب عن الأدلّة بنفسه ، سوى الشّيخ المحقّق ابن إدريس ؛ وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقا ... ومثل هذه الشّهرة ـ أي : بعد الشّيخ ـ لا تكفي في جبر الخبر الضعيف ...

وأمّا الكبرى فيرد عليها ، إنّه لا ملازمة بين اعتمادهم على قرينة جابرة أو كاسرة ، واعتمادنا عليها ، فلعلّها لو وصلت إلينا لم نرها صالحة للاعتماد عليها.

ويقول سيّدنا الأستاذ الحكيم قدّس سره في حقائق الاصول :

المحتمل بدوا في أدلّة حجيّة الخبر أحد أمور ثلاثة :

الأوّل :

حجيّة الخبر المظنون بصدوره بالنظر إلى نفس السند ، مثل كون الرّاوي ممّن يظّنّ بصدقه.

الثّاني :

حجيّة مظنون الصدور ولو بالنّظر إلى ما هو خارج عن السند ، مثل عمل الأصحاب به واعتمادهم عليه.

الثالث :

حجيّة ما هو أعمّ من ذلك وما هو مظنون الصحّة ، ومطابقة مؤدّاه للواقع ، ولو بالنظر إلى الخارج ، كما لو كان الخبر موافقا لفتوى المشهور وإن لم يعتمدوا عليه ، كخبر الدّعائم والرضوي ونحوهما.

وظاهر المصنّف ـ صاحب الكفاية ـ استظهار الثالث من أدلّة الحجيّة ولا يخلو من تأمّل ، بل المتيقّن هو الأوّل ، وإن كان الثّاني أظهر. (١)

أقول : المتيقّن من الأحاديث الواردة في حجيّة الخبر ، هو حجيّة خبر العادل ، والأقوى حجيّة خبر الثّقة من جهة بناء العقلاء ، ولا يعتبر فيه حصول الظّن الفعلي ، نعم ، لا شكّ في حجيّة الخبر الموثوق به ، ولو لأجل الشّهرة وغيرها ، وأمّا الخبر المظنون بصدقه فهو غير معتبر ، فإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

ويمكن أن يستدلّ لأصل القول السّابق بما ذكره الشّيخ الأنصاري رحمه‌الله في رسائله بعد بيان أدلّة حجيّة خبر الواحد : والإنصاف أنّ الدال منها لم يدلّ إلّا على وجوب العمل بما يفيد

__________________

(١) حقائق الأصول : ٢ / ٢١٧.

٢٤٠