الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

لو قال : كفلت لك فلانا أو أنا كفيل به ، أو بإحضاره ، وفي حكم لفظ ذاته ، لفظ نفسه وبدنه ، لان الجميع بمعنى واحد في العرف العام ، وان اختلفت تحقيقا في الحقيقة.

انما الكلام في مثل لفظ الرأس والوجه ، بأن يقول : كفلت لك برأسه ـ أو بوجهه ، فظاهر جملة من الأصحاب كالعلامة والمحقق وغيرهما ، بل الظاهر أنه المشهور بينهم صحة الكفالة ، لأن هذين اللفظين مما يعبر بهما عن الجملة.

والحق بهما العلامة في التذكرة الكبد والقلب ، وكل عضو لا تبقى الحياة بدونه ، والجزء المشاع كالثلث والربع ، قال : لانه لا يمكن إحضار المكفول الا بإحضاره كله ، وتنظر في ذلك بعض محققي المتأخرين ، قال : أما الأول فإن العضوين المذكورين وان كانا قد يطلقان على الجملة ، الا أن إطلاقهما على أنفسهما خاصة أيضا شائع متعارف ، ان لم يكن أشهر ، وحمل اللفظ المحتمل للمعنيين على الوجه المصحح ـ مع الشك في حصول الشرط وأصالة البراءة من لوازم العقد غير واضح.

نعم لو صرح بإرادة الجملة من الجزء اتجهت الصحة ، كإرادة أحد معنيي المشترك ، كما أنه لو قصد الجزء بعينه لم يمكن الحكم بالجملة قطعا ، بل كالجزء الذي لا يمكن الحياة بدونه ، وبالجملة فالكلام عند الإطلاق وعدم قرينة تدل على أحدهما ، فعند ذلك لا يصح تعليل الصحة بأنه قد يعبر بذلك عن الجملة.

وأما الثاني وهو الاجزاء التي لا يعيش بدونها وما في حكمها ، فلان إحضاره وان كان غير ممكن بدونها ، الا أن ذلك لا يقتضي صحة العقد ، لان المطلوب من الكفالة هو المجموع ، أو ما يطلق عليه كما في السابق على تقدير ثبوته.

أما إذا تعلق ببعضه فلا دليل على صحته ، وان توقف إحضار الجزء المكفول على الباقي لأن الكلام ليس في مجرد إحضاره ، بل في إحضاره على وجه الكفالة الصحيحة ، فوجوب إحضار ما لا يتعلق به الكفالة يترتب على صحة كفالة الجزء الذي تعلقت به ، وذلك الجزء ليس هو المطلوب شرعا بل في الجملة ، فلا يتم التعليل ، ولا إثبات الأحكام الشرعية المتلقاة من الشرع بمثل هذه المناسبات ،

٨١

ولو جاز إطلاق هذه الاجزاء على الجملة مجازا لم يكن ذلك كافيا ، لكونه غير متعارف مع أن المتعارف ما قد سمعت ، وحينئذ فالقول بعدم الصحة أوضح.

وأما الجزء الذي تبقى الحياة بعد زواله ، ولا يطلق عليه اسم الجملة كاليد والرجل فعدم الصحة فيه أشد وضوحا ، كما جزم به بعضهم ، واستشكل فيه في القواعد مما ذكر ، ومن عدم إمكان إحضاره على حالته بدون الجملة ، فكان كالرأس أو القلب ، ولا يبعد القول بالصحة لمن يقول بها فيما سبق وان كان الحكم فيه أضعف. انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد وجيه ،

أقول : لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة ، أن هذه الفروع وما وشحت به من التعليلات كلها من كلام العامة ، وقد تبعهم فيه أصحابنا ، واختلفوا باختلافهم وعللوا بتعليلاتهم ، وهكذا في جملة هذه الفروع الغريبة مما تقدم في الكتب المتقدمة ، وما يأتي كلها انما جروا فيها على نهج أولئك ، فإنه لا يخفى على من طالع مصنفات قدمائنا (رضوان الله عليهم) انهم لا يذكرون غير مجرد الاخبار ، وهذا التفريع وتكثير الفروع في الأحكام الشرعية مبدء كان من الشيخ تبعا لكتب المخالفين في مبسوطه وخلافه ، وتبعه من تأخر عنه نسأل الله عزوجل المسامحة لنا ولهم من زلات الاقدام ، ومداحض الافهام. والله العالم بحقائق الأحكام ونوابه القائمون بمعالم الحلال والحرام.

٨٢

كتاب الصلح

وهو عقد شرع لقطع التجاذب ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. قال الله عزوجل (١) «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» وقال عزوجل (٢) «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما».

وروى في الكافي عن حفص ابن البختري (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الصلح جائز بين الناس».

وروى في الفقيه مرسلا (٤) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا».

وروى في البحار (٥) نقلا عن كتاب الإمامة والتبصرة مسندا عن مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه‌السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الحديث.

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٢٨.

(٢) سورة الحجرات الآية ٩.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٥.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٢١ ح ١.

(٥) البحار ج ١٠٣ ـ ص ١٧٨ ـ ح ٢ ـ والوسائل ج ١٣ ص ١٦٤ الباب ٣ من كتاب الصلح.

٨٣

وروى في الكافي عن هشام بن سالم (١) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : لأن أصلح بين اثنين أحب الى من أن أتصدق بدينارين.

وعن المفضل (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي».

وعن أبي حنيفة سائق الحاج (٣) قال : من بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا الى المنزل ، فأتينا فأصلح بيننا بأربعمائة درهم ، فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه. قال لنا : أما أنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله (عليه‌السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شي‌ء أن أصلح بينهما وأفتدى بها من ماله ، فهذا من مال أبي عبد الله (عليه‌السلام). ، الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام ، وسيأتي شطر منها في بعض الأحكام.

وما ذكرنا هنا من الآيتين وبعض الاخبار وان لم يكن صريحا في هذا العقد المخصوص الذي هو محل البحث في هذا الكتاب ، الا أنه صالح لشموله وإدخاله في ذلك.

إذا عرفت ذلك فالبحث في هذا الكتاب يقع في مطلبين :

الأول ـ في جملة من الأحكام ، وفيه مسائل الاولى ـ الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أنه لا يشترط في صحة الصلح سبق نزاع ، بل لو وقع ابتداء على عين بعوض معلوم صح ، وأفاد نقل كل من العوضين كما في البيع ، لإطلاق الأدلة الدالة على جوازه من غير تقييد بالخصومة ، كالحديث النبوي المتقدم ، وصحيحة حفص بن البختري المتقدمة. (٤)

وصحيحة محمد بن مسلم (٥) عن الباقر (عليه‌السلام) أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحدكم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي فقال : لا بأس بذلك إذا

__________________

(١ و ٢ و ٣) في الكافي ج ٢ ص ٢٠٩ باب الإصلاح بين الناس ح ٢ أيضا في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٢ ح ١ و ٣ و ٤.

(٤) ص ٨٣.

(٥) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ والوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

٨٤

تراضيا ، وصحيحة منصور بن حازم (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين الحديث كما في سابقه وزاد وطابت به أنفسهما.

وصحيحة الحلبي (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) وغير واحد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح ، فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس».

وصحيحة الحلبي (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعطى أقفزة من حنطة معلومة يطحنها بدراهم ، فلما فرغ الطحان من طحنه نقد الدراهم ، وقفيزا منه وهو شي‌ء اصطلحوا عليه فيما بينهم ، قال : لا بأس به ، وان لم يكن ساعره على ذلك». الى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في المراد.

هذا والأصل في العقود الصحة ، للأمر بالوفاء ، لا يقال : انهم قد عرفوه كما قدمنا ذكره بأنه عقد شرع لقطع التجاذب ، وهو مستلزم لتقدم الخصومة ، لأنا نقول : أولا أن الظاهر أن هذا التعريف انما وقع من العامة ، وتبعهم أصحابنا فيه ولهذا ان بعض العامة شرط فيه تقدم الخصومة ، فلا تقوم به حجة في الخروج عن ظواهر الأدلة المشار إليها ، وثانيا أنه مع الإغماض عن ذلك ، فإنه لا يلزم من كون أصل مشروعيته لذلك أنه لا يكون الا كذلك ، الا ترى أنه قد ورد في وجوب العدة وأصل مشروعيتها التعليل باستبراء الرحم ، مع وجوبها في جملة من المواضع المقطوع فيها ببراءة الرحم ، كمن طلق زوجته أو مات عنها بعد مفارقته لها سنين عديدة ، ونحوه ما ورد من تعليل استحباب غسل الجمعة بالتأذى من روائح الأنصار إذا حضروا الجمعة ، فتأذى الناس بريح آباطهم ، فأمروا بالغسل لدفع تأذى الناس بذلك ، مع ما استفاض من استحباب الغسل وان كانت رائحته كرائحة المسك ، الى غير ذلك.

وبالجملة فإن الخلاف في هذا المقام انما هو من العامة ، نعم اختلف أصحابنا في كونه عقدا برأسه أو فرعا على غيره ، فالمشهور الأول وان أفاد في ذلك فائدة غيره

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ و ٢.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١ وص ١٦٦ ح ٣ وص ١٦٩ ح ١.

٨٥

ومجرد افادته فائدة غيره لا يستلزم فرعيته عليه.

وذهب الشيخ في المبسوط إلى أنه فرع على عقود خمسة ، فجعله فرع البيع إذا أفاد نقل الملك بعوض معلوم ، وفرع الإجارة إذا وقع منفعة مقدرة بمدة معلومة بعوض معلوم ، وفرع الهبة إذا تضمن ملك العين بغير عوض ، وفرع العارية إذا تضمن إباحة منفعة بغير عوض ، وفرع الإبراء إذا تضمن إسقاط دين أو بعضه.

والأصحاب ردوه بأن افادة عقد فائدة عقد آخر لا تقتضي كونه من أفراده ، مع دلالة الدليل على استقلاله بنفسه ، كغيره من العقود.

ويظهر الفرق بين القولين : أنه على المشهور عقد لازم لدخوله في عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وعلى قول الشيخ يلحقه حكم ما ألحق به من العقود في ذلك الفرد الذي ألحق به.

أقول : لا يخفى أن ما ذهب اليه الشيخ هنا قد تبع فيه الشافعي حسبما نقل عنه ، قال في التذكرة : الصلح عند علمائنا أجمع عقد قائم بنفسه ، ليس فرعا على غيره ، بل أصل في نفسه ، منفرد في حكمه ، ولا يتبع غيره في الأحكام ، لعدم الدليل على تبعية الغير ، والأصل في العقود الأصالة.

وقال الشافعي : انه ليس بأصل منفرد بحكمه ، وانما هو فرع على غيره ، وقسمه على خمسة أضرب ، ضرب فرع البيع ، وهو أن يكون في يده عين أو في ذمته دين فيدعيها انسان فيقر له بها ثم يصالحه على ما يتفقان عليه ، وهو جائز فرع على البيع ، بل هو بيع عنده ، يتعلق به أحكامه.

وضرب هو فرع الإبراء والحطيطة ، وهو أن يكون له في ذمته دين فيقر له به ثم يصالحه على أن يسقط بعضه ، ويدفع اليه بعضه وهو جائز وهو فرع الإبراء.

وضرب هو فرع الإجارة ، وهو أن يكون له عنده دين أو عين فصالحه عن ذلك على خدمة عبد أو سكنى دار فيجوز ذلك ويكون فرع الإجارة.

وضرب هو فرع الهبة ، وهو أن يدعى عليه دارين أو عبدين وشبههما فيقر له بهما ويصالحه من ذلك على إحديهما ، ويكون هبة للأخرى.

وضرب هو فرع العارية ، وهو أن يكون في يده دار فيقر له بها ويصالحه

٨٦

على سكناها شهرا وهو جائز ويكون ذلك عارية. انتهى.

والعجب من دعوى العلامة هنا الإجماع من أصحابنا أجمع أنه عقد قائم بنفسه ، ليس فرعا على غيره ، مع ما عرفت من تصريح الشيخ بما نقله عن الشافعي من الفرعية من المواضع الخمسة ، واشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب ، ومنهم هو (قدس‌سره) في المختلف ، حيث نسب فيه القول بالأصالة إلى المشهور ، ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه فرع لغيره.

وكيف كان فهذا القول بمحل من الضعف والقصور ، فالاعتماد على القول المشهور ، لعدم الدليل على هذه الدعوى ، فإن الأصل في جميع العقود من صلح وغيره هو كون ذلك العقد أصلا برأسه ، وجعله في حكم غيره أو فرعيته عليه فيلحقه أحكام غيره يحتاج الى دليل واضح.

ومن هنا أنكر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) كون قول الشيخ في المبسوط بذلك مذهبا له ، وانما هو نقل لقول العامة ، واستند في ذلك الى دعوى الإجماع في التذكرة ، وهو عجيب منه (قدس‌سره) وكأنه لم يلاحظ كتاب المبسوط في هذا المقام ، فان عبارته صريحة في كونه مذهبه ، حيث قال بعد ذكر الأدلة الدالة على مشروعية الصلح من الآيات والروايات : ما صورته فإذا ثبت هذا فالصلح ليس بأصل في نفسه ، وانما هو فرع لغيره ، وهو على خمسة أضرب ، أحدها فرع البيع ، وثانيها فرع الإبراء ، ثم ساق الكلام في هذه الخمسة الى أن قال : إذا ورث رجلان من مورثهما مالا فصالح أحدهما صاحبه على نصيبه من الميراث بشي‌ء يدفعه إليه ، فإن هذا الصلح فرع البيع يعتبر فيه شرائط البيع ، فما جاز في البيع جاز فيه ، وما لم يجز فيه لم يجز فيه ، الا أنه يصلح بلفظ الصلح ، ومن شرط صحة البيع أن يكون معلوما ، ثم ذكر جملة من شروط البيع وأحكامه ، ومنها خيار المجلس الا أنه قال في آخر الكلام ، ويقوى في نفسي أن يكون هذا الصلح أصلا بنفسه ، ولا يكون فرع البيع ، فلا يحتاج الى شروط البيع ، واعتبار خيار المجلس على ما بيناه فيما مضى ، ثم ساق الكلام في باقي الأقسام ، وكلامه (قدس‌سره) ظاهر بل صريح في كون ذلك مذهبا له ، لا نقلا لمذهب العامة كما توهمه المحقق المذكور.

٨٧

لكنه كما ترى قد صرح بالرجوع عن ذلك في صورة الفرعية على البيع ، وقال : بأن الأقوى عنده أنه أصل برأسه في هذه الصورة مع اشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب بالفرعية في البيع وغيره ، كما لا يخفى على من وقف على كلامهم ، وكأنهم لم يراجعوا الكتاب المذكور ، واعتمدوا في ذلك على نقل بعضهم عن بعض ، والافاق العبارة كما ترى صريحة في العدول عن مذهبه في هذه الصورة بخصوصها ، فينبغي المراجعة في أمثال هذه المقامات ، وعدم الاعتماد على النقول ، وان كانت من مثل هؤلاء الفحول ، والمعصوم من عصمه الله تعالى فيما يفعل ويقول. والله العالم.

المسئلة الثانية ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بصحة الصلح مع الإقرار والإنكار ، إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.

أقول : أما الحكم الأول فلا خلاف فيه عندهم ، قال في التذكرة : يصح الصلح على الإقرار والإنكار معا سواء كان المدعى به دينا أو عينا عند علمائنا أجمع ، وبه قال أبو حنيفة واحمد انتهى.

وقال في المسالك ـ بعد قول المصنف يصح مع الإقرار والإنكار ـ هذا عندنا موضع وفاق.

ونبه بذلك على خلاف الشافعي حيث منعه مع الإنكار ، نظرا إلى أنه عاوض على ما لم يثبت له ، فلا تصح المعاوضة ، كما لو باع مال غيره ، ونحن نمنع بطلان المعاوضة على ما لم يثبت بالصلح ، فإنه عين المتنازع ، والفرق بينه وبين البيع ظاهر ، فان ذلك تصرف في مال الغير بغير إذنه ، بخلافه هنا ، ولان معنى شرعيته عندنا وعنده على قطع التنازع وهو شامل للحالين. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن صحة الصلح مع الإقرار والاعتراف بالمدعى مما لا اشكال فيها لمعلوميته عند صاحبه : ولا فرق بين أن يصالح عنه بأقل ، أو أكثر أو ما ساواه ، للمعلومية في الجميع ، وحصول التراضي من الطرفين.

إنما الإشكال في صورة الإنكار بأن يدعى شخص على غيره دينا أو عينا فينكر المدعى عليه ، فتقع المصالحة بينهما اما بمال آخر ، أو ببعض المدعى أو غير ذلك من منفعة وغيرها ، فإنه باعتبار الإنكار ، واختلاف الخصمين في ذلك نفيا وإثباتا يحتمل أن

٨٨

يكون المدعى محقا : والمدعى عليه مبطلا في إنكاره ، وأنه مشغول الذمة في الواقع ، فالصلح هنا وان أفاد قطع النزاع بحسب الظاهر ـ وعدم صحة الدعوى بعد ذلك ، لصحته بحسب الظاهر ـ الا أنه لا يفيد براءة ذمة المدعى عليه مما يزيد على مال الصلح ، فيما لو فرض أنه صالحه على أقل مما في ذمته في الواقع ، أو بعض العين أو المال الأخر ، بل يبقى مشغول الذمة بالباقي وانما تبرأ ذمته بقدر ما دفعه خاصة.

وتدل على ذلك صحيحة عمر بن يزيد (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ، ثم صالح ورثته على شي‌ء ، فالذي أخذته الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، وان هو لم يصالحهم على شي‌ء حتى مات ولم يقض عنه فهو للميت يأخذه به».

حتى أنه لو كانت الدعوى على عين في يده وصالح عنها بأقل من قيمتها فالعين بأجمعها في يده مغصوبة ، ولا يستثني له منها مقدار ما دفع ، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر. ويحتمل أن يكون المدعى مبطلا والمدعى عليه محقا في إنكاره ، وأنه بري‌ء الذمة في الواقع ، فان الصلح وان صح ظاهرا ، لكنه لا يصح بحسب الواقع ، ولا يستبيح للمدعى ما دفع اليه من مال الصلح ، لأنه أكل مال بالباطل ، والمدعى عليه انما دفعه اليه افتداء من هذه الدعوى الكاذبة ، أو خوف الضرر على نفسه وماله لو لم يفعل ، ومثل هذا لا يعد عن تراض يحصل به الإباحة.

نعم لو كانت الدعوى مستندة الى شبهة وقرينة تخرج بها عن الكذب المحض ، كما لو وجد المدعى بخط مورثه أن له على فلان مالا أو شهد له من لا يثبت الحق بشهادته شرعا ولم يكن المدعى عالما بالحال ، وانما ادعى بناء على هذا الفرض ، وتوجهت له اليمين على المدعى ، فصالحه على إسقاط اليمين بمال أو قطع المنازعة ، فالظاهر هنا صحة الصلح في نفس الأمر ، واستحقاق ما يأخذه من مال الصلح ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أيضا.

وبالجملة فالحكم بالصحة في صورة الإنكار مراد بها ما هو أعم من الصحة

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١١ ـ الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ ح ٤.

٨٩

بحسب ظاهر الشرع دون نفس الأمر تارة كما عرفت ، ومن الصحة ظاهرا وواقعا فيما إذا حصل الصلح على مقدار ما في الذمة ، كما في الصورة الاولى (١).

وأما الحكم الثاني وهو قولهم «الا ما أحل حراما أو حرم حلالا» فهو عين ما صرح به الحديث النبوي المتقدم ، وفسر الأصحاب تحليل الحرام بالصلح على استرقاق حر أو استباحة بضع لا سبب لإباحته إلا الصلح ، أو يشربا أو أحدهما الخمر ونحو ذلك.

وبالجملة ما يكون محرما في حد ذاته ، ويراد تحليله وإباحته بالصلح ، وتحريم الحلال بأن لا يطأ أحدهما حليلته أو لا ينتفع بماله ، أو نحو ذلك مما هو حلال له في حد ذاته ، وانما يراد تحريمه بالصلح.

وعلى هذا فالاستثناء متصل ، لان الصلح على هذا باطل ظاهرا وواقعا ، وربما فسر بصلح المنكر على بعض المدعى أو منفعته أو بدله مع كون أحدهما عالما ببطلان الدعوى : كما تقدم بيانه ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، لما عرفت من الحكم بصحة الصلح هنا ظاهرا ، وانما بطلانه بحسب الواقع ونفس الأمر ، والحكم بالصحة ، والبطلان انما يتوجه الى الظاهر ، فلا يصح أن يكون الاستثناء متصلا ، ويحتمل كونه متصلا بالنظر الى الواقع ، وهذا المثال يصلح للأمرين معا فإنه محل للحرام بالنسبة إلى الكاذب (٢) ومحرم للحلال بالنسبة إلى المحق. والله العالم.

المسألة الثالثة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يصح الصلح مع العلم بالمتنازع فيه وجهله ، دينا كان أو عينا ، وما ذكروه من الصلح مع العلم فلا ريب في صحته ، لارتفاع الجهالة ، وحصول التراضي ، وان كان يبقى الكلام في المبطل منهما باعتبار الاستحقاق واقعا وعدمه ، فيجري فيه ما تقدم في سابق هذه المسألة.

__________________

(١) وهي احتمال ان يكون المدعى محقا والمدعى عليه مبطلا في إنكاره. منه رحمه‌الله.

(٢) فان الكاذب أخذ ما لا يستحقه واقعا بهذا الصلح وصار حلالا له بحسب الظاهر من هذا الصلح ما لا يستحقه واقعا من المال الذي يدعيه. منه رحمه‌الله.

٩٠

واما مع الجهل فيحتمل أن يكون مرادهم به كما ذكره جملة من المتأخرين ما كان ناشئا عن عدم إمكان العلم ، بحيث يتعذر عليهما استعلامه ، لا مطلقا للزوم الغرر المنهي عنه شرعا ، ولوالدي العلامة (قدس‌سره وروحه ونور ضريحه) في هذا المقام تفصيل حسن ، يحسن ذكره وان طال به زمام الكلام ، فإنه من أهم المهام ، قال (عطر الله مرقده وأعلى في جوار أئمته صلوات الله عليهم مقعده) بعد كلام في المقام : إذا عرفت هذا فنقول الصلح اما ان يقع على معلوم عند المتصالحين أو مجهول عندهما ، أو معلوم عند أحدهما ومجهول عند الأخر.

وعلى الثاني فاما أن يتعذر معرفته مطلقا ، أو في الحال فقط مع إمكان معرفته في وقت آخر. أو يمكن معرفته مطلقا.

وعلى الثالث فالعالم فيه اما أن يكون هو المستحق ، أو من عليه الحق ، فإن كان الأول فاما أن يقع الصلح بأكثر من حقه أو لا ، فان كان الثاني فاما أن يعلم الغريم المستحق بمقدار حقه أو لا ، ومع عدم إعلامه فاما أن يصالحه بأقل من حقه أو لا فهذه تسع صور :

الاولى ـ أن يكون المدعى معلوما عند كل من المتصالحين ، والحكم فيه بالصحة واضح ، لارتفاع الجهالة والغرر فيه ، ولا فرق بين كون المدعى عينا أو دينا ، وكون الصلح بمقدار مال المدعى من الحق أو أقل منه أو أكثر ، مع حصول الرضا الباطني من كل منهما لصحة المعاوضة ظاهرا وباطنا.

الثانية ـ أن يكون مجهولا عندهما وكان مما يتعذر معرفته والإحاطة به منهما مطلقا عينا كان أو دينا كوارث يتعذر العلم بحصته ، ودين غير معلوم الجنس أو الكم ، وقفيز من دقيق حنطة أو شعير ممتزج ، وكصبرة من طعام أتلفها شخص على آخر ، ولم يعلما بقدرها ، ففي هذه كلها يصح الصلح ظاهرا وفي نفس الأمر ويفيد نقل الملك وإبراء الذمة ، وان كان على المجهول كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم).

بل ظاهر عبارة الشهيد الثاني في المسالك الإجماع على جوازه ، وذلك لان إبراء الذمة أمر مطلوب ، والحاجة إليه ماسة ، ولا طريق اليه الا هذا الصلح

٩١

ويدل على صحته أيضا عموم الآية كقوله تعالى (١) «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» والاخبار كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في حسنة حفص بن البختري (٣) «الصلح جائز بين الناس».

وخصوص صحيحة محمد بن مسلم (٤) عن الباقر (عليه‌السلام) ، وصفوان عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «انهما قالا في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحدكم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا».

فان الظاهر من الروايات عدم إمكان العلم والمعرفة بقدر ذلك الطعام من كل منهما كما هو واضح.

الثالثة ـ أن يكون مجهولا عندهما ولكن لا يتعذر العلم به ، بل يمكن معرفته مطلقا ، فهذا لا يصلح الصلح عليه قبل العلم به على الأظهر ، لحصول الجهل فيه والغرر الموجب للضرر بالزيادة والنقيصة مع إمكان التحرز عنه ، بل لا بد من العلم به أولا بالكيل في المكيل ، والوزن في الموزون ، والعد في المعدود والذرع في المذروع ، فلو صالحه على صبرة من طعام من غير كيل ولا وزن لم يصح كما قد سبق ، لان الاستعلام فيه ممكن.

وكذا ظرف البر والأرز ، ووعاء التمر ونحوه لا يصلح عليه الا بعد معرفة كيله أو وزنه مثلا ، ومن هذا القبيل الصلح على نصيب شخص من عين أو ميراث مع جهلهما به وإمكان العلم بقدره وتعيينه بعد الملاحظة والمراجعة ، وان كان في الحال ، فان الصلح والحال هذه غير صحيح لا ظاهرا ولا باطنا ، ولا يفيد تمليكا

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٢٨.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٥.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ ـ الفقيه ج ٣ ص ٢١ وذيل رواية منصور وطابت به أنفسهما ح ٢ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٤ ح ٢ و ١ وص ١٦٥ ح ١.

٩٢

ولا إبراء ، وعموم الآية والاخبار الدالة على جواز الصلح بين المسلمين مخصص بما لا غرر فيه ولا جهالة ، للنهى عن ذلك في الخبر كما عرفته.

الرابعة ـ أن يكون مجهولا عندهما ، والعلم به ممكن في الجملة ، لكنه متعذر لعدم الميزان والمكيال في الحال ، ومساس الحاجة الى الانتقال ، وقد استقرب جمع من الأصحاب منهم الشهيد (قدس‌سره) في الدروس والشيخ المقداد في التنقيح والشهيد الثاني في المسالك صحة الصلح ، والحال هذه ، ووجهه تعذر العلم به في الحال مع اقتضاء الضرورة ، ومساس الحاجة لوقوعه ، والتضرر بتأخيره وانحصار الطريق في نقله فيه مع تناول عموم الآية ، والاخبار السالفة.

ومن هذا القبيل أيضا الصلح على نصيب شخص من ميراث أو عين يتعذر العلم بقدره في الحال ، مع إمكان الرجوع في وقت آخر إلى فرضي أو عالم به مع مسيس الحاجة الى نقل النصيب في الحال.

الخامسة ـ أن يكون مجهولا عند المستحق ومعلوما عند الأخر ، وهو من عليه الحق ولم يعلمه بقدره ، وصالحه بأقل من حقه ، وذلك كتركة موجودة يعلمها الذي هو في يده ويجهلها الأخر ، وكذا كل من له نصيب من ميراث أو غيره لا يعلم به ، ويعلم به خصمه إذا صالحه بأقل منه من غير اعلامه ، سواء كان من عليه الحق منكرا ظاهرا أو مقرا بمقدار ما صالح به أو أقل منه ، فان الصلح حينئذ غير صحيح ، والمعاوضة في نفس الأمر باطلة ، والواجب عليه اعلام صاحب الحق ، فإن رضي بالصلح بالأقل ، والا وجب إيصال حقه اليه بتمامه ، فأما الصلح قبل الاعلام فهو حرام ، لا يثمر تمليكا ـ لو كان المدعى عينا ـ ولا إبراء من الباقي لو كان دينا حتى لو صالح على العين بمال آخر فهي بأجمعها في يده مغصوبة ، ولا يستثني له مقدار ما دفع ، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر.

والذي يدل على عدم صحة هذا الصلح وجوازه ـ مضافا الى ما فيه من الغرر والخدع المنهي عنه وكونه من قبيل الصلح الذي أحل حراما وحرم حلالا ـ ما رواه على بن أبي حمزة (١) قال : «قلت لأبي الحسن» (عليه‌السلام) : رجل يهودي

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ٣ ـ الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ ح ٢.

٩٣

أو نصراني كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات ، أيجوز لي ان أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ قال : لا يجوز حتى تخبرهم». ونحوها صحيحة عمر بن يزيد (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» قال : إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ثم صالح ورثته على شي‌ء : فالذي أخذته الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة الحديث». وموثقته (٢) أيضا» وقال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه». نعم هذا الصلح مع فساده وعدم صحته في نفس الأمر ، هو صحيح بحسب ظاهر الشرع ، كما صرح به جماعة من الأصحاب ، منهم الشيخ على بن عبد العالي في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في شرح الشرائع ، فيحكم به على كل واحد منهما ، ولا يجوز لهما الخروج عن مقتضاه ظاهرا ، لعدم العلم بكون من عليه الحق مبطلا في صلحه خادعا فيه ، واحتمال كونه محقا فيكون حاله مشتبها ، فلا يكون صلحه باطلا في الظاهر ـ وان كان على مجهول.

نعم لو انكشف أمره ظاهرا بعد الصلح ، بحيث علم مقدار المدعى ، أو زيادته على ما صالح عليه ، أو اعترف هو بذلك اتجه بطلان الصلح حينئذ ظاهرا أيضا ، ووجب عليه تسليم المدعى ظاهرا لظهور شغل ذمته ، وبطلان المعاوضة ظاهرا وباطنا ، هذا إذا لم يكن من له الحق قد رضى باطنا بالصلح بالأقل ، أما لو رضى به باطنا كان الصلح صحيحا في نفس الأمر حينئذ كما قطع به العلامة (قدس‌سره) في التذكرة ، وحينئذ فلا يجوز له أخذ ما زاد عن مال الصلح ، وان علم الزيادة لحصول الرضا منه باطنا بذلك الأقل عوضا عن حقه ، وان كثر فيكون العبرة في إباحة الباقي بالرضا الباطن ، لا بالصلح.

ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة الحلبي (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١١ والكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٦ و ٧ و ٨.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ ح ٤ وص ١٥٣ ح ١ وص ١٦٦ ح ٣.

٩٤

فهي دالة بإطلاقها الشامل لذلك كما هو ظاهر.

السادسة ـ ان يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق ، ولم يعلم قدره لكن صالحه بمقدار حقه أو أكثر ، وقد صرح جمع من الأصحاب منهم الشهيد الثاني في شرح الشرائع بصحة الصلح حينئذ ، وان كان على مجهول ، لانتفاء الغرر والخدع فيه ، مع أن العبرة بوصول حقه اليه لا بالصلح ، وأما اشتراط الاعلام في صحة الصلح كما في خبر على بن أبي حمزة السالف فالظاهر أنه مخصوص بما إذا أريد الصلح بالأقل ، لأنه مظنة الغرر والخدع ، فمع وقوع الاعلام بقدره ينتفي الغرر والخدع رأسا أما مع المصالحة بتمام الحق أو أكثر منه فلا خدع فيه قطعا ، فلا يجب فيه الاعلام مع دخوله في عموم الأدلة الدالة على جواز الصلح بين المسلمين.

السابعة ـ أن يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق ، ولكن أعلمه بقدره ولا شك في جواز الصلح وصحته حينئذ ، سواء صالحه بمقدار حقه أو بأقل مع الرضا به لحصول العلم وارتفاع الجهالة وحصول الرضا ، وعموم أدلة جواز الصلح. والله العالم.

الثامنة : أن يكون معلوما عند المستحق مجهولا عند الأخر فصالحه بأكثر من حقه الذي له في الواقع ، لقصد التخلص من دعواه لم يصح هذا الصلح في نفس الأمر ، ولم يستبح به ما زاد عن حقه الذي له في الواقع ، لبطلان المعاوضة في نفس الأمر ، وان كانت صحيحة بحسب ظاهر الشرع ، كما سبق نظيره ، فالظاهر أن ذلك باطل مع عدم الرضا الباطني من الغريم ، لكونه حينئذ من قبيل أكل المال بالباطل ، أما مع رضاه بالصلح كذلك باطنا فالظاهر صحة الصلح حينئذ ، واباحة ذلك للزائد عن حقه لطيب نفسه به ، والظاهر أن العبرة حينئذ في إباحة ذلك الزائد بالرضا به ، لا بالصلح كما سبق مثله.

التاسعة ـ الصورة بحالها ولكن صالحه بقدر حقه أو أنقص ، ولا شك في صحة الصلح فيها ظاهرا وباطنا. والله العالم. انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه ، ورفع فيها مقامه.

أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من هذه الصور التسع بالتقريبات التي ذيلها

٩٥

بها ظاهر ، الا أن ما ذكره في الصورة الثالثة مما يمكن تطرق المناقشة إليه ، فإن مرجع استدلاله الى تخصيص عمومي الآية والاخبار ـ الدالة على صحة الصلح في مثل هذه الصورة ـ بالأخبار الدالة على النهى عما يشتمل على الغرر والجهالة في المعاوضة.

والتحقيق أن يقال : لا ريب أن هنا عمومين قد تعارضا ، وهما عموم أخبار الصلح الدال على دخول مثل هذه الصورة ، وعموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة الشامل للصلح وغيره من المعاوضات ، وليس تخصيص عموم أخبار الصلح ـ بعموم أخبار النهي عن الغرر ليتم ما ذكره ـ بأولى من تخصيص عموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة بأخبار الصلح ، فيقال : حينئذ بصحة الصلح في هذه الصورة وان استلزم الغرر والجهالة كما أن ذلك حاصل في الصورة الثانية والرابعة ، ولا بد لترجيح أحدهما على الأخر من دليل ، ويمكن ترجيح الثاني بظهور عموم أخبار الصلح مع تكاثرها وتعددها على وجه يشمل الصورة المذكورة ، بخلاف ما دل على النهى عن الغرر والمجهول ، فانا لم نقف فيه على رواية صريحة ، وان تكرر دورانه في كلامهم ، وتداول على رؤوس أقلامهم.

وقد تقدم في كتاب البيع قول جملة من الأصحاب بصحة بيع المجهول في جملة من المواضع ، ودلت جملة من الاخبار على الصحة أيضا في مواضع ، وقد حققنا البحث ثمة على وجه يظهر منه أنه ليس ذلك بقاعدة كلية ، ولا ضابطة جلية كما ادعاه جملة منهم ، وبذلك يظهر لك أن الأظهر هنا هو ترجيح عموم أخبار الصلح وإبقائها على عمومها ، والتخصيص فيما دل على النهى عن الغرر والمجهول ، فإنه إذا ثبت صحة العقد مع الجهل والغرر في البيع الذي هو أكثر شروطا وأضيق مدخلا ثبت في الصلح بطريق أولى ، لأنه موضوع على المسامحة والمساهلة ، ولأن العمدة فيه كما هو المفهوم من أخباره هو التراضي من الطرفين ، اما ظاهرا وباطنا. فيصح حينئذ كذلك أو ظاهرا خاصة فتختص الصحة بالظاهر ، والتراضي في موضع النزاع حاصل ظاهرا وباطنا.

ويؤيد ما قلناه ما هو ظاهر من كلام جملة من متقدمي المتأخرين كالمحقق والعلامة وغيرهما من الحكم بصحة الصلح مع العلم والجهل مطلقا ، كما قدمناه

٩٦

في صدر المسئلة.

قال في التذكرة : لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدرا ولا جنسا ، بل يصح سواء علما قدر ما تنازعا عليه وجنسه أو جهلاه ، دينا كان أو عينا ، وسواء كان إرثا أو غيره عند علمائنا أجمع ، ثم استدل بالأدلة العامة من آية ورواية على صحته مع الجهل ، ولم يفصل في أثناء كلامه بين ما يمكن استعلامه وما لا يمكن ، وهو ظاهر فيما قلناه.

والأظهر منه ما صرح به المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام : ولا بد أن يكون معلوما ليندفع الغرر ، ولكن الظاهر أنه يكفى العلم به في الجملة. اما بوصفه أو بمشاهدته ، ولا يحتاج الى الكيل والوزن ومعرفة أجزاء الكرباس والقماش والثياب ، وذوق المذوقات وغير ذلك مما يعتبر في البيع ونحوه ، للأصل وعدم دليل واضح على ذلك ، وعموم أدلة الصلح المتقدم ، ولان الصلح شرع للسهولة والإرفاق بالناس ليسهل إبراء ذمتهم ، فلا يناسبه الضيق ولانه مبنى على المسامحة والمساهلة ، واليه أشار بقوله ويكفي المشاهدة في الموزون وان خالف فيه البعض.

قال في الدروس : والأصح أنه يشترط العلم في الموضعين إذا أمكن ، وقال في موضع آخر : ولو تعذر العلم بما صولح عليه جاز ، الى قوله : ولو كان تعذر العلم لعدم المكيال والميزان في الحال ومساس الحاجة الى الانتقال ، فالأقرب الجواز وهو مختار شارح الشرائع أيضا ، ولا نعرف له دليلا ، وما تقدم ينفيه ، ويؤيده التجويز عند التعذر ، فان ذلك لا يجوز في البيع عندهم ، فتأمل ، انتهى. ثم أمر بالاحتياط وهو كما ترى أظهر ظاهر فيما ادعيناه مؤيد لما قدمناه.

وبالجملة فالظاهر هو الصحة في الصورة المذكورة لما عرفت ، والاحتياط لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الرابعة ـ لا يخفى أن أركان الصلح أربعة ، المتصالحان ، والمصالح عليه ، وهو مال الصلح ، والمصالح عنه ، وهو المتنازع فيه لو كان ثمة نزاع.

أما المتصالحان فإنه لا خلاف كما نقله في التذكرة في أنه يشترط فيهما

٩٧

الكمال ، بأن يكون كل واحد منهما بالغا عاقلا جائز التصرف فيما وقع الصلح عليه.

وأما المصالح عليه فإنه يشترط فيه صحة التملك ، فلو كان خمرا أو خنزيرا أو استرقاق حر أو إباحة بضع محرم قبل ذلك لم يصح ، لما تقدم في الحديث النبوي وكما لا يقع هذه الأشياء مالا للصلح لا يقع مصالحا عنه ، والجميع محرم بما تقدم من النص النبوي.

ومن شرائطه العلم بما يقع الصلح عنه عند بعض كالشهيدين في الدروس والمسالك ، وقد تقدم الكلام فيه.

ومن شروطه رضا المتصالحين ، فلا يقع مع الإكراه إجماعا ، كغيره من العقود ولقوله عزوجل (١) «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» فما لم يكن عن التراضي فإنه أكل مال بالباطل ، ومن صور الإكراه ما لو كان له على غيره حق مالي فأنكره المديون ، فصالحه المالك على بعضه ، توصلا إلى أخذ بعض حقه ، فإنه وان صح الصلح ظاهرا الا أنه لا يصح واقعا ، ولا تحصل به براءة ذمة المديون من الحق الباقي في ذمته ، سواء عرف المالك قدر الحق أم لا ، وسواء ابتدء المالك بطلب الصلح أم لا ، وقد تقدم تحقيق ذلك في الصور المتقدمة في سابق هذه المسئلة.

ومتى استكملت شروطه صار لازما من الطرفين عملا بعموم أدلة الوفاء بالعقود المقتضى لذلك الا ما خرج بدليل من خارج ، ويجي‌ء على قول الشيخ الجواز في بعض موارده ، كما إذا كان فرع العارية التي هي جائزة ، والهبة على بعض الوجوه وقد عرفت ضعفه ، نعم لو اتفقا على فسخه بمعنى الإقالة من ذلك العقد كما في البيع وأوقعا صيغة التقابل انفسخ.

المسئلة الخامسة ـ إذا وقع الصلح بين شريكين على أن يكون الربح والخسران على أحدهما ، وللآخر رأس ماله صح ، والأصل في هذا الحكم ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين وعليهما دين ، فقال أحدهما لصاحبه :

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٥٨ ح ١ ـ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٧ ـ الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٧ ـ الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

٩٨

أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى ، فقال : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرط يخالف كتاب الله عزوجل فهو رد الى كتاب الله عزوجل ، ورواه في الفقيه والتهذيب ، الا أنه قال : «وكان من المال دين وعين» ،. ولم يقل وعليهما دين ورواه في التهذيب بسند آخر عن الحلبي (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، الا أنه قال : «وكان المال دينا». ولم يذكر العين ولا عليهما دين ، ورواه في التهذيب أيضا بسند آخر عن داود الأبزاري (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، الا أنه قال : «وكان المال عينا ودينا» ،. قال في المسالك بعد قول المصنف (قدس الله روحهما) نحو ما قدمنا من العبارة المذكورة ما هذا لفظه : هذا إذا كان عند انتهاء الشركة وارادة فسخها لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة والخسران على من هو عليه بمنزلة الإبراء ، أما قبله فلا لمنافاته وضع الشركة شرعا والمستند صحيحة أبي الصباح ، ثم ساق الرواية المذكورة الى أن قال : وهذا الخبر مشعر بما شرطناه من كون الشرط عند الانتهاء ، لا كما أطلقه المصنف. انتهى.

أقول : وقد تقدمه في ذلك المحقق الشيخ على في شرح القواعد ، فإنه قيد إطلاق عبارة المصنف فقال بعد ذكرها هذا إذا انتهت الشركة وأريد فسخها ، وللمناقشة في ذلك مجال ، فإنه لا يخفى أنه وان كان هذا الشرط مما ينافي الشركة الا أن هذا شأن أكثر الشروط ، فان مقتضى عقد البيع اللزوم من الطرفين ، فلا يجوز لأحدهما فسخه بغير سبب موجب ، مع أنه يصح لأحدهما اشتراط خيار الفسخ بلا خلاف ، ولا ريب أنه مناف لمقتضى العقد الذي هو اللزوم من الطرفين (٣) ودعوى أن في

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٥ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٥٣ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

(٣) قال في الدروس : لو اصطلح الشريكان عند ارادة الفسخ جاز أن يأخذ أحدهما رأس ماله ، والأخر الباقي ربح أو توى للرواية الصحيحة ولو جعل ذلك في ابتداء الشركة ، فالأقرب المنع ، لمنافاته موضوعها والرواية لم تدل عليه ، انتهى ، أقول فيه ما عرفت في الأصل من ثبوته بالأخبار الدالة على وجوب الوفاء بها وان نافى موضوع الشركة فإنه بمنزلة الاستثناء فيه كما عرفت من مثال خيار الفسخ في البيع المنافي لمقتضى البيع وهو اللزوم من الطرفين وقد تقدم في كتاب البيع ما يشير الى ما ذكرناه ايضا. منه رحمه‌الله.

٩٩

الرواية إشعار بما شرطه من ان ذلك القول عند انتهاء الشركة ، وارادة فسخها ـ ممنوع فإن غاية ما تدل عليه كون هذا الشرط وقع بعد الشركة والعمل بالمال المشترك ، حتى صار بعضه أو كله دينا ، وهذا لا يلزم منه ارادة الفسخ ، وأنه آخر الشركة ، بل يمكن أن يكون هذا الكلام وقع في الأثناء بأنهم لما اشتركوا على العمل بذلك المال بمقتضى الشركة من كون الزيادة للجميع ، والنقص على الجميع ، اشترط بعضهم هذا الشرط في الأثناء واستمروا على الشركة بهذا الشرط ، ولعل في قوله (عليه‌السلام) «لا بأس إذا اشترطا» ما يشير اليه ، بمعنى أنه لا بأس بالشركة على هذا الوجه ، فيستمران على العمل بالشركة على هذا الوجه الذي اشترط ، والا فلو كان المراد انما هو ما ذكره من أن هذا القول عند انتهاء الشركة وارادة فسخها ، فإنه لا وجه للتعبير بالشرط ، بل كان ينبغي أن يقول لا بأس إذا تراضيا بذلك ، فان لفظ الشرط انما يناسب استمرار العقد ، بأن يكون العقد باقيا بهذا الشرط ، لا انقطاعه وتمامه كما لا يخفى. وبذلك يظهر صحة إطلاق من أطلق في العبارات المذكورة والله العالم.

المسئلة السادسة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الكتاب أحكاما لا أعرف لذكرها فيه وجها ، لعدم صدق العنوان فيها ، وانما ذكرتها تبعا لهم في المقام.

منها أنه لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما ، وادعى الأخر أحدهما كان لمدعيهما معا درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ،

ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن عبد الله بن المغيرة (١) عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الأخر : هما بيني وبينك فقال : اما الذي قال : هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له وانه لصاحبه ويقسم الأخر بينهما.

وما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن أبي حمزة (٢) عمن ذكره

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٢ ح ٨ ـ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١٢.

(٢) المصدر ص ٢٩٢ ح ١٦ وهما في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٩ : الباب ٩.

١٠٠