الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

اعنى حوالة المشتري البائع بالثمن كما مر في المسألة الاولى ، وحوالة البائع الأجنبي بالثمن على المشترى.

وتوضيحه أن صحة الحوالة فرع استحقاق البائع الثمن ، وثبوته له على كل من التقديرين المذكورين ، ومع تبين بطلان البيع من أصله يظهر عدم استحقاق البائع الثمن في ذمة المشترى في نفس الأمر.

والتحقيق أن الحوالة وقعت باطلة من أصلها ، الا أنه انما انكشف البطلان بظهور بطلان البيع ، وعدم استحقاق الثمن ، فيكون بطلان البيع كاشفا عن بطلانها ، وحينئذ فإن كان البائع بالنسبة إلى المسألة الأولى أو المحتال بالنسبة إلى الثانية لم يقبض ، فليس له القبض بظهور البطلان كما عرفت ، وان كان قد قبض ، فإن للمشتري أن يرجع عليه بذلك ، وللمشتري أيضا الرجوع في المسئلة الثانية (١) على البائع بما قبضه محتاله ، لانه قد وفى عنه ما في ذمته للمحتال ، وهو الأجنبي ، فقبضه منسوب اليه ، وليس للمشتري الرجوع في المسألة الاولى ، وهي ما إذا أحال المشتري البائع بالثمن على شخص آخر على ذلك الشخص الأخر المحال عليه لصدور القبض باذنه ، وانما يرجع على البائع. والله العالم.

المقصد الثالث في الكفالة :

المفهوم من جملة من الاخبار كراهة الكفالة والتأكيد في المنع منها ، فروى في الكافي عن حفص بن البختري (٢) في الصحيح قال : «أبطأت عن الحج ، فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أبطأ بك عن الحج؟ فقلت : جعلت فداك تكفلت برجل فخفر بي فقال : مالك والكفالات ، أما علمت أنها أهلكت القرون الاولى ، ثم قال : ان قوما أذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوفا شديدا ، فجاء

__________________

(١) وهي ما إذا أحال البائع أجنبيا على المشترى بالثمن ، ووجه رجوعه على البائع ان البائع إنما أحال بالثمن على المشترى للأجنبي ، لأنه مشغول الذمة للأجنبي ، فيكون المشترى قد أدى عنه ما في ذمته باذنه ، فيرجع به عليه حينئذ ، فعلى هذا يتخير بين الرجوع على البائع وعلى محتاله. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٣ ح ١ باب الكفالة والحوالة.

٦١

آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا فانزل الله عزوجل عليهم العذاب ، ثم قال تبارك وتعالى : خافوني واجترأتم على». والخفر نقض العهد.

وروى الشيخ في التهذيب عن أبى الحسن الخزاز (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لأبي العباس الفضل بن عبد الملك : ما منعك عن الحج؟ قال : كفالة تكفلت بها قال : مالك والكفالات أما علمت أن الكفالة هي التي أهلكت القرون الاولى».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) وقال الصادق (عليه‌السلام): الكفالة خسارة غرامة ندامة».

وبإسناده عن إسماعيل بن جابر (٣) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، انه قال : لا تتعرضوا للحقوق ، فاذ ألزمتكم فاصبروا لها».

وروى الشيخ بإسناده عن داود الرقى (٤) قال : قال : أبو عبد الله (عليه‌السلام) مكتوب في التورية كفالة ندامة غرامة».

والبحث في هذا المقصد يقع في مواضع : الأول ـ الكفالة هي التعهد بالنفس بمعنى التزام إحضار المكفول متى طلبه المكفول له ، فهي متعلقة بثلاثة ، الكفيل وهو هنا بمعنى الفاعل وان كانت هذه الصيغة تصلح للمفعول أيضا ، الا أنهم انما أرادوا به هنا الكافل ، والمكفول له ، والمكفول ، ولا ريب في اعتبار رضى الأولين ، ولا خلاف فيه أيضا لأن الكفالة من جملة العقود اللازمة المتوقفة على الإيجاب والقبول ونحوهما.

قال في التذكرة : ولا بد فيه من صيغة دالة على الإيجاب والقبول ، فيقول الكفيل : كفلت لك بدن فلان ، أو أنا كفيل بإحضاره ، أو كفيل به أو بنفسه ، أو ببدنه. أو بوجهه أو برأسه ، لأن ذلك يعبر به عن الجملة وحينئذ فلا بد من وقوعها بين اثنين ، وهما الكفيل والمكفول له ، ولا بد من رضاهما.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ٦.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٠٣ ح ٦٧.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ ح ٩ والروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٥٤ الباب ٧.

٦٢

أما الكفيل فلانه ملتزم للحق ، وهو غير صحيح الا برضاه ، وأما المكفول له فلانه صاحب الحق ، فلا يجوز إلزامه شيئا إلا برضاه ، وبهما يتم العقد.

وأما المكفول فالمشهور أنه لا يعتبر رضاه ، لوجوب الحضور عليه متى طلبه صاحب الحق وان لم يكن ثمة كفالة ، والكفيل انما هو بمنزلة الوكيل حيث يأمره المكفول له بإحضاره ، فغاية الكفالة هي حضور المكفول حيث يطلب.

وظاهر العلامة في التذكرة الإجماع على ذلك ، حيث قال : تصح الكفالة وان كرهها المكفول عند علمائنا ، مع أنه نقل غير واحد من أصحابنا عن الشيخ في أحد قوليه (١) أنه يشترط رضاه ، وقواه هو أيضا في التحرير ، وبه قال ابن إدريس أيضا ، ونقل عنهم الاحتجاج على ذلك بأنه إذا لم يأذن فيها أو يرضى بها لم يلزمه الحضور مع الكفيل ، فلم يتمكن من إحضاره ، ولا تصح كفالته لأنها بغير المقدور عليه ، وهذا بخلاف الضمان ، لإمكان تأديته من مال غيره بغير اذنه ، ولا يمكن أن ينوب عنه في الحضور.

ورد ذلك بأن مدار هذا الاستدلال على عدم وجوب الحضور معه بغير رضاه ، وهو ممنوع ، لان المستحق متى طلبه وجب عليه الحضور وان لم يكن مكفولا كما قدمنا ذكره ، وهو مما لا خلاف فيه ، والغرض من الكفالة له راجع الى التزام الكفيل بإحضاره متى طلبه المكفول له ، ومتى ثبت وجوب الحضور عليه بعد الطلب وان لم يكن مكفولا ، فإنه لا يجب في صورة الكفالة أيضا ، لأن الكفيل انما هو بمنزلة الوكيل في طلب الإحضار ، وبالجملة فضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى على الناظر. والله العالم.

الثاني ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن الكفالة تصح حالة ومؤجلة ، للأصل ، ولان الحضور حق شرعي فلا يمنعه الحلول ، ومنع الشيخ في

__________________

(١) قال في المبسوط : إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل عليه مال أو يدعى عليه مالا. يصح الا انها لا تصح إلا بإذن من يكفل عنه وتبعه ابن البراج ، وابن حمزة وابن إدريس ، قال في المختلف : ولم يشترط باقي علمائنا ذلك ، وهو المعتمد ، لنا الأصل ولانه لا يشترط رضاه في كفالة المال ، فكذا البدن ، انتهى. منه رحمه‌الله.

٦٣

النهاية والشيخ المفيد الكفالة الحالة ، قالا : لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل معلوم ، وتبعهما ابن حمزة ، وهو الظاهر من كلام السلار ، ولابن البراج قولان ، وسوغ في المبسوط الحالة ، وبه قال ابن إدريس وجملة المتأخرين لما تقدم.

ثم انه متى اشترط الأجل وجب أن يكون معلوما كما في غير هذا الموضع لما في الجهالة من الغرر ، إذ ليس له وقت يستحق المطالبة فيه كغيره من الآجال ولا خلاف في ذلك الا لبعض العامة ، حيث جوز أن يكون الأجل هنا مجهولا ، لاشتمال الكفالة على التبرع فيتسامح فيها كالعارية.

ورد بأن العارية غير لازمة فلا يقدح فيها الأجل المجهول ، لجواز المطالبة بالمستعار في الأجل وان كان معلوما.

الثالث ـ للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضار المكفول عاجلا ان كانت الكفالة مطلقة أو معجلة ، وبعد الأجل ان كانت مؤجلة ، فإن أحضره وسلمه فقد بري‌ء ، وإلا وجب حبسه حتى يحضره أو يؤدى ما عليه ، كذا ذكره بعض الأصحاب.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا الحكم ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن عمار (١) في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أتى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) برجل تكفل بنفس رجل فحبسه وقال أطلب صاحبك».

ورواه الشيخ في التهذيب عن عمار بن مروان (٢) عن جعفر عن أبيه عن على عليهم‌السلام مثله.

وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) أن عليا (عليه‌السلام) أتى برجل كفل برجل بعينه فأخذ بالمكفول فقال : احبسوه حتى يأتي بصاحبه».

وما رواه في الفقيه عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة (٤) قال : «قضى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس ، وقال له : أطلب

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٥ ح ٦.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٤.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٥٤ ح ١ وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٥٦ الباب ٩.

٦٤

صاحبك ، وقضى (عليه‌السلام) أنه لا كفالة في حد».

وفي كتاب الفقه الرضوي (١) على ما نقله عنه في كتاب بحار الأنوار روى إذا كفل الرجل بالرجل حبس الى أن يأتي بصاحبه.

أقول : وهذه الاخبار على تعددها لم يتضمن أزيد من حبسه حتى يحضر المكفول ، والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد قيدوا التسليم بكونه تسليما تاما ، بمعنى أنه لو اشترط الوقت والمكان في العقد فلا بد من أن يكون التسليم في ذلك الوقت وذلك المكان المشترطين ، والا لم يكن تسليما تاما ، ونحوهما في بلد العقد ولو مع الإطلاق ، لانصراف الإطلاق إليه عندهم ، وأن لا يكون للمكفول مانع من تسليمه ، بأن يكون في يد ظالم أو متغلب يمنعه منه ، أو في حبسه ، أو يكون المكفول قويا والمكفول له ضعيفا لا يتمكن من وضع اليد عليه ونحو ذلك ، فإذا سلمه كذلك كان تسليما تاما موجبا لبرائته وخلو عهدته.

ولو لم يتسلمه المكفول له والحال هذه قيل : سلم الى الحاكم ان أمكن ، وبرء أيضا ، وان لم يكن أشهد عدلين بإحضاره إلى المكفول له وامتناعه من قبضه ، وقيل بالاكتفاء بالإشهاد بدون التسليم الى الحاكم وان قدر عليه ، لان مع وجود صاحب الحق لا يلزم دفعه الى من ينوب عنه من حاكم وغيره.

وعندي أيضا في وجوب الاشهاد نظر ، لعدم الدليل عليه في المقام : كما أنه لا دليل على التسليم للحاكم أيضا ، الا أن يراد بذلك براءة الذمة عن المطالبة بالإحضار مرة أخرى ، والا فهو في حد ذاته من غير ملاحظة ذلك لا وجه له في كل من الموضعين ، هذا ما يتعلق بالكفيل إذا سلم.

أما لو امتنع التسليم فقد عرفت من الاخبار المتقدمة أن للحاكم حبسه حتى يحضره ، والأصحاب قد ذكروا هنا أن للحاكم حبسه حتى يحضره ، وله عقوبته عليه كما في كل ممتنع عن أداء الحق.

وفيه أن غاية ما دلت عليه الاخبار المتقدمة هو الحبس حتى يحضره ، وهذا كاف في عقوبته فلا معنى لعقوبته زيادة على ذلك ، لعدم الاذن فيه شرعا ثم انهم

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٨.

٦٥

ذكروا أنه ان سلمه بعد ذلك فلا كلام ، وان أبى وبذل ما عليه فقد صرح الشيخ :

وجمع منهم المحقق في الشرائع وغيره كما قدمنا الإشارة إليه ببراءة ذمته من الكفالة لحصول الغرض من الكفالة.

ورد بأنه على تقدير تمامه انما يصح فيما يمكن أخذه من الكفيل كالمال ، ولو لم يكن كذلك كالقصاص وزوجية امرأة والدعوى بعقوبة توجب حدا ، فلا بد من إحضاره.

وذهب جمع من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة إلى أنه لا يتعين على المكفول له قبول الحق ، بل له إلزامه بالإحضار مطلقا ، وهذا هو ظاهر الاخبار التي قدمناها ، كما أشرنا إليه ذيلها ، وأصحاب هذا القول عللوا ما ذكروه بعدم انحصار الأغراض في أداء الحق ، وقد يكون له غرض لا يتعلق بالأداء ، أو بالأداء من الغريم لا من غيره ، وخصوصا فيما له بدل ، فإنه بدل اضطراري ، لا عين الحق الذي يتعلق الغرض غالبا بحصوله.

وأنت خبير بما في هذا التعليل العليل من تطرق المناقشة ، فإن البناء على هذه الأغراض انما يصح فيما لو كانت حقوقا شرعية لا مجرد التشهي ، والكفالة انما وقعت وترتبت على حق شرعي.

والأظهر في التعليل انما هو الوقوف على ظاهر الاخبار المتقدمة ، حيث أن ظاهرها انحصار الحق في إحضار المكفول ، وأنه لا تبرئ الذمة إلا بإحضاره ، وقبول ما بذله عنه من المال المطلوب عنه على تقدير كون متعلق الكفالة المال انما هي معاملة أخرى بمنزلة الصلح ، يتوقف على رضى الطرفين.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو تراضيا على قبول المال كما ذكرنا فبذله الكفيل وقبله المكفول له ورضى به عن حقه الذي تعلقت به الكفالة ، فهل يرجع بما دفعه على المكفول عنه؟ قالوا : ان كان قد كفل باذن الغريم ، أو أدى باذنه وان كان كفل بغير اذنه فله الرجوع عليه ، وان انتفى الأمران ، فإن أمكنه إحضاره فلم يحضره لم يرجع عليه ، وكذا ان كفل بغير اذنه ، وأدى بغير اذنه مع تمكنه من مراجعته ، لأن الكفالة لم تتناول المال اختيارا فيكون كالمتبرع ، وان تعذر عليه إحضاره رجع

٦٦

عليه مع اذنه في الكفالة ، وفي رجوعه مع عدمه نظر ، وظاهرهم أنه يرجع أيضا كذا ذكره في المسالك.

وفيه أن ظاهر صدر كلامه أنه إذا كفل باذن الغريم فله الرجوع مطلقا ، وظاهر كلامه بعد ذلك أنه لا يرجع مع الاذن في الكفالة إلا مع تعذر الإحضار ، فلو أمكن الإحضار لم يرجع ، وهذا هو الا وفق بقواعدهم ، لأن الاذن في الكفالة انما يقتضي تسليم المكفول دون المال ، فمتى أمكن إحضاره ودفع عنه المال والحال هذه ، فإنه لا معنى لرجوعه به عليه ، لانه كالمتبرع كما تقدم. نعم لو تعذر الإحضار أمكن ذلك لظهور المانع. والله العالم.

الرابع ـ قال الشيخ في النهاية : ومن ضمن غيره إلى أجل وقال : ان لم آت به كان على كذا وحضر الأجل لم يلزمه إلا إحضار الرجل ، فان قال : على كذا الى كذا ان لم أحضر فلانا ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال.

وقال ابن حمزة ان قدم ضمان المال على الكفالة ، وعجز عن التسليم يلزمه المال ، وان قدم الكفالة على ضمان المال لزمه إحضاره دون المال.

وقال ابن البراج : ان قال ان لم أحضره في وقت كذا فعلى كذا ، فقد قدم ذكر الوقت وأخر ذكر المال لم يجب عليه إذا حضر الأجل إلا إحضاره دون المال ، وان كان قال : على كذا ان لم أحضره في وقت كذا فقدم ذكر المال وأخر ذكر الوقت ، وجب عليه إذا حضر الأجل ولم يحضره ـ المال الذي ذكره.

وقال ابن إدريس : الفرق أنه ان بدأ بضمان المال ، فقال : على المال المعين الى كذا ان لم أحضره ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال ، وان بدأ بضمان النفس ، فقال : ان لم أحضره عند حلول الأجل كان على كذا ، وحضر الأجل لم يلزمه إلا إحضار الرجل دون ما ذكره من المال ، لانه بدأ بضمان النفس قبل المال وافترق الأمران.

وقال ابن الجنيد : إذا قال الكفيل لطالب الحق : مالك على فلان فهو على دونه الى يوم كذا ، وأنا كفيل لك بنفسه صح الضمان على الكفيل بالنفس ، وبالمال ان لم يؤد المطلوب الى الطالب الى ذلك الأجل وسواء قال له عند الضمان : ان لم يأتك به أو لم يقل ذلك ، فان قدم الكفالة بالنفس ، وقال أنا كفيل لك بنفس فلان

٦٧

الى يوم كذا ، فان جاء بمالك عليه وهو ألف درهم ، والا فأنا ضامن للألف ، صحت الكفالة بالنفس ، وبطل الضمان للمال ، لان ذلك كالقمار والمخاطرة ، وهو كقول القائل ان طلعت الشمس غدا فمالك على فلان غريمك وهو ألف درهم على ، الذي قد اجمع على أن الضمان لذلك باطل.

قال العلامة في المختلف : وعندي في هذه المسئلة نظر ، ثم قال : وقول ابن الجنيد أنسب. (١)

أقول : والأصل في هذه المسئلة ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن أبى العباس (٢) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل كفل لرجل بنفس رجل فقال : ان جئت به والا فعليك خمسمائة درهم ، قال : عليه نفسه ، ولا شي‌ء عليه من الدراهم ، فان قال : على خمسمائة درهم ان لم أدفعه إليك قال : تلزمه الدراهم ان لم يدفعه اليه». هكذا في رواية الكافي ، وفي رواية الشيخ في التهذيب هكذا» فقال : ان جئت به ، والا فعلى خمسمائة درهم» الخبر.

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبى العباس (٣) في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يتكفل بنفس الرجل إلى أجل ، فان لم يأت به فعليه كذا وكذا درهما ، قال : ان جاء به الى الأجل فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبدا الا أن يبدأ بالدراهم ، فان بدأ بالدراهم فهو لها ضامن ان لم يأت به الى الأجل الذي أجله».

وقد أطال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الكلام في هذه المسئلة ينقل ما وقع

__________________

(١) قال في المسالك بعد أن نقل عن العلامة في هذه المسئلة قولا غريبا نقله عن ابنه فخر المحققين : وقد صار للعلامة وحده في هذه المسئلة أربعة أقوال ، هذا أحدها ، والثاني قوله في القواعد بلزوم المال في الثانية مطلقا ، والثالث في التحرير والتذكرة بلزوم المال ان لم يحضره ، والرابع في المختلف مذهب ابن الجنيد وهو قول يحتاج تقريره مع تطويل فأعرضنا عنه هنا ، انتهى. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٤ ح ٣ ـ التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ ح ١٠.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٥٤ ح ٤ والتهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٥ هما في الوسائل ج ١٣ ص ١٥٧ ح ١ و ٢.

٦٨

فيها من الأقوال ، والمناقشة في كل منها ، ووجه الإشكال في الخبرين المذكورين ، وخروجهما عن مقتضى القواعد.

ونحن نذكر هنا ملخص ذلك ليتضح به الحال ، ويظهر به ما في الخبرين المذكورين من الاشكال ، وذلك فان ظاهر الخبرين الاشتمال على حكمين مختلفين ، ومسئلتين متغايرتين باعتبار الفرق بين تقديم الجزاء على الشرط ، وتأخيره عنه ، مع أن ذلك لا مدخل له في اختلاف الحكم ، لان الشرط وان تأخر فهو في حكم المتقدم ، الا أن الجماعة جمدوا على النص ، ومع ذلك فإن جملة منهم لم يقفوا على قيوده ، فان الشيخ والمحقق في الشرائع (١) والعلامة في الإرشاد والقواعد ذكروا لزوم المال في المسئلة الثانية غير مقيد بقيد ، مع أنه مقيد في الخبرين بقوله في الاولى ان لم يدفعه اليه ، وفي الثانية بقوله ان لم يأت به الى الأجل الى آخره ، وقد تفطن لذلك المحقق في النافع ، فقال : كان ضامنا للمال ان لم يحضره إلى الأجل ، وكذلك العلامة في التحرير والتذكرة.

ثم ان جملة منهم جمدوا على النص ولم يلتفتوا الى تعليل في دفع ما اشتمل عليه من المخالفة ، لمقتضى القواعد كما هو طريقة الشيخ في النهاية ، ومنهم من التجأ الى أن الحكم في المسئلتين إجماعي ، ومع ذلك فإنه منصوص ، فلا يمكن العدول عنه بمجرد التباس الفرق بين الصيغتين ، وعلى هذا بنى الشيخ ابن فهد في المهذب ، وتبعه المحقق الشيخ على في شرح القواعد.

وفيه نظر لعدم تحقق الإجماع المذكور (٢) ومنهم من اكتفى بمجرد الدعوى

__________________

(١) قال في الشرائع : ولو قال : ان لم أحضره كان على كذا لم يلزمه إلا إحضاره دون المال ، ولو قال : على كذا الى كذا ان لم أحضره وجب عليه ما شرط من المال. وقال في الإرشاد : ولو قال : ان لم أحضره كان على كذا لزمه الإحضار خاصة ، ولو قال : على كذا الى كذا ان لم أحضره وجب المال ، انتهى. منه رحمه‌الله.

(٢) وتوضيحه ان أحدا لم يدع الإجماع في المسئلة ، والموجود كلامهم في المسئلة جماعة يسيرة من الأصحاب والباقون لم يتعرضوا للكلام فيها بالكلية مع ان العلامة كما تقدم نقل كلامه في المختلف وتنظر في ذلك ، ثم قال الى كلام ابن الجنيد المخالف لما ذكروه وقد عرفت أيضا اختلاف قولي المحقق في الشرائع والنافع في ذلك ، فدعوى الإجماع والحال كما عرفت مجازفة محضة. منه رحمه‌الله.

٦٩

كابن إدريس على ما تقدم في كلامه ، وهو فرق بمجرد الدعوى لا يتحصل له فائدة ، ولهذا قال المحقق في نكت النهاية في رده : ان الشرط متقدم على المشروط طبعا فلا عبرة بتأخره وضعا ، ومنهم من علل ذلك بعلة ظنها وافية بالمراد ، خالية عن الإيراد ، كالشيخ (رحمة الله عليه) حيث ذكر أن السر في لزوم المال إذا قدمه براءة ذمة المضمون عنه ، فيمتنع الكفالة ، وإذا قدم الكفالة كان الضمان المتعقب لها لكونه معلقا على شرط باطلا ، ولمنافاة الضمان صحة الكفالة وهذا السر الذي أظهره ناش من عبارة العلامة في القواعد والإرشاد ، والمحقق في الشرائع (١) حيث أطلقوا لزوم المال في المسئلة الثانية ، وقد عرفت مما قدمنا ذكره أنه في الرواية مشروط بعدم إحضاره ، فتكون الكفالة أيضا صحيحة ، وان تأخرت عن ذكر المال.

هذا مع أنه مع تقديم المال قد جعل ضمانه مشروطا بعدم إحضاره ، فكيف يقال : ببراءة ذمة المضمون عنه حتى تمتنع كفالته؟ وما هذا الا رجوع الى فرق ابن إدريس الذي لم يجد نفعا ، ومع تقديم الكفالة قد ذكر في الرواية أنه ان جاء به الى الأجل فليس عليه مال ، ومفهوم الشرط أنه ان لم يجي‌ء به لزمه المال ، فدل بمفهومه على خلاف ما ذكره الجماعة ـ وأبدأوه من الفرق الا أن لا يقولوا بمفهوم الشرط.

أقول : لا يخفى ان فهم هذا الحكم الذي ذكروه واختلفوا التفصي عن صحته من الرواية الأولى انما يتم على تقدير رواية الشيخ لها في التهذيب كما تقدم ذكره وأما على رواية الكافي فإن الظاهر أن القائل بقوله «ان جئت به والا فعليك خمسمائة درهم» انما هو المكفول له خاطب بذلك الكفيل ، كما هو ظاهر سياق الرواية ، وحينئذ فقوله (عليه‌السلام) : «عليه نفسه ولا شي‌ء عليه من الدراهم» ظاهر ، لان مقتضى الكفالة إحضار المكفول خاصة ، وما اشترطه عليه المكفول له لغو من القول ، لا عبرة به ، ولا أثر يترتب ، وحينئذ فلا تكون هذه الرواية من

__________________

(١) وانهم ذكروا أنه مع تقديم ذكر الكفالة في العبارة ، فالواجب الإحضار ، دون المال ، والرواية دلت بالمفهوم الشرطي على أنه ان لم يجي‌ء بالرجل إلى الأجل فعليه المال فإطلاق لزوم الكفالة بمجرد تقديمها في العبارة لا وجه له لما دل عليه النص من التفصيل في ذلك. منه رحمه‌الله.

٧٠

المسئلة في شي‌ء.

بقي قوله في تتمة الرواية ، «فإن قال» يحمل على قول الكفيل ، بمعنى أنه ان قال ذلك وألزم نفسه المبلغ المذكور لزمه ان لم يدفعه ، وما ربما يقال : ـ من أنه يخالف المشهور ، من أن مقتضى الكفالة أداء المال ان لم يحضر المكفول ـ مردود بما قدمنا ذكره ، من أن غاية ما يفهم من أخبارها المتقدمة انما هو إحضار المكفول خاصة ، غاية الأمر انهما إذا اصطلحا وتراضيا بدفع المال صح ذلك ، والا فالحق الذي أوجبته الكفالة انما هو الإحضار خاصة.

نعم يبقى الإشكال بالنسبة الى الخبر الثاني ، قال في الوافي ـ ونعم ما قال ، بعد ذكر الخبرين المتقدمين على الترتيب الذي قدمناه ونقله الرواية الأولى بما في الكافي ـ ما لفظه : بيان الفرق بين الصيغتين في الخبرين غير بين ولا مبين ، وقد تكلف في ابدائه جماعة من أصحابنا بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، صونا لهما من الرد ، وقد ذكره الشهيد الثاني في شرحه للشرائع ، من أراد الوقوف عليه وعلى ما يرد عليه فليرجع اليه ويخطر بالبال أن مناط الفرق ليس تقديم الشرط على الجزاء وتأخيره عنه ، كما فهموه ، بل مناطه ابتداء الكفيل بضمان الدراهم من قبل نفسه مرة ، وإلزام المكفول له بذلك من دون قبوله أخرى كما هو ظاهر الحديث الأول والحديث الثاني ، وان كان ظاهره خلاف ذلك الا أنه يجوز حمله عليه ، فان قول السائل «فان لم يأت به فعليه كذا» (١) ليس صريحا في أنه قول الكفيل ، وعلى تقدير إبائه عن هذا الحمل يحمل على وهم الراوي ، أو سوء تقريره ، فان صدر الخبرين واحد ، والسائل فيهما واحد ، هذا على نسخة الكافي كما كتبناه.

وأما على نسخة التهذيب الذي نشأت فيها تكلفات الأصحاب فلا يتأتى هذا التوجيه ، فان الحديث فيه هكذا «رجل تكفل لرجل بنفس رجل ، فقال : ان جئت به والا فعلى خمسمائة درهم» الحديث ، والظاهر أنه من غلط النساخ والعلم عند الله. انتهى.

أقول : بل الظاهر انه من سهو قلم الشيخ ، فإنه لا يخفى على من نظر الكتاب

__________________

(١) الأظهر في العبارة ان نقول إلزام المكفول له الكفيل بذلك من دون قبوله ، ولعله سقط من النسخة التي عندنا. منه رحمه‌الله.

٧١

المذكور بعين التأمل ، فإنه قلما يخلو حديث من أحاديثه من التغيير أو التبديل أو التحريف في السند أو المتن. والله العالم.

الخامس ـ قالوا : من أطلق غريما من يد صاحب الحق قهرا ضمن إحضاره أو أداء ما عليه ، ولو كان قاتلا لزمه إحضاره أو دفع الدية. والوجه في وجوب الإحضار في كل من المسئلتين أنه بإطلاقه الغريم قهرا غاصب ، فعليه ضمان ما غصبه بإحضاره ، لأن اليد المستولية يد الشرعية مستحقة وبه يتحقق الغصب ، ويبتنى عليه الضمان بالإحضار.

وأما الوجه في أداء ما عليه في المسئلة الاولى فإنهم عللوه بأنه بإطلاقه له غصبا فاللازم له اما إرجاعه وتسليمه ، أو أداء ما عليه من الحق الذي بسببه ثبتت اليد عليه.

والظاهر أنه يبنى على ما تقدم في الكفيل الممتنع من الإحضار وتسليم المكفول ، فان قلنا بالتخيير بين الإحضار ودفع ما عليه ثم ما ذكروه هنا ، والظاهر أن القائل به هنا بنى على ذلك في تلك المسئلة.

وان قلنا : بأن الحق الذي اقتضته الكفالة انما هو الإحضار خاصة والرضى بما عليه معاملة أخرى ، تتوقف على التراضي لم يتجه ما ذكروه هنا من التخيير ، وبالنسبة إلى دفع الدية في المسئلة الثانية هو الحيلولة أيضا بينه وبين غريمه.

ولكن الظاهر تقييد ذلك بعدم التمكن من إحضاره وان كان ظاهر كلامهم الإطلاق ، ولم أقف في المقام على خبر الا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن حريز (١) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» قال : سألته عن رجل قتل رجلا عمدا فرفع إلى الوالي فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه ، فوثب عليهم قوم فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء ، فقال : أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا بالقاتل ، قيل فان مات القاتل وهم في السجن ، قال : فان مات فعليهم الدية يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول».

وهذا الخبر كما ترى ظاهر الدلالة ، في أن حكم المسئلة الثانية انما هو حبس من أطلق للقاتل حتى يحضره ، ولا تعرض فيه لما ذكروه من التخيير بين إحضاره ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٨٦ ح ١ ـ التهذيب ج ١٠ ص ٢٢٣ ح ٨ ـ الفقيه ج ٤ ص ٨٠ ح ١٥ الوسائل ج ١٩ ص ٣٤ : الباب ١٦.

٧٢

وبين دفع الدية والامام (عليه‌السلام) انما أوجب عليه الدية بعد موت القاتل وعدم إحضاره ، فهو ظاهر في أنه مع حيوة القاتل فليس الحكم إلا إحضاره وتسليمه الى أولياء الدم ، وهو موافق لما تقدم من أخبار الكفالة من حيث أن مقتضاها انما هو إحضار المكفول ، دون أداء ما عليه كما ادعاه جملة منهم.

ومنه يفهم أيضا حكم المسئلة الاولى ، وأن الحكم فيها انما هو إحضاره لا أداء ما عليه ، لان مرجع المسئلتين إلى أمر واحد ، وهو من أطلق من عليه حق من يد غريمه قهرا ، فإنه يضمنه ، ويجب عليه إحضاره وتسليمه لمن أخذه من يده ، وأن للحاكم أن يحبسه كما يحبس الكفيل حتى يحضره.

بقي الكلام في أنهم قالوا في المسئلة الاولى : وحيث يؤحذ المال لا رجوع له على الغريم إذا لم يأمره بدفعه ، إذ لم يحصل من الإطلاق ما يقتضي الرجوع ، وهو جيد لو ثبت جواز أخذ المال ، الا أنه لا دليل عليه كما عرفت.

وقالوا في الثانية : لا فرق بين كون القتل عمدا وغيره ، إذ القصاص لا يجب الا على المباشر ، فإذا تعذر استفاؤه وجبت الدية ، كما لو هرب القاتل عمدا أو مات ، ثم ان استمر القاتل هاربا ذهب المال على المخلص ، وان تمكن الولي منه وجب عليه رد الدية إلى الغارم وان لم يقبض من القاتل ، لأنها انما وجبت لمكان الحيلولة وقد زالت ، وعدم القتل الان مستند الى اختيار المستحق (١).

أقول : وفي هذا أيضا ما في سابقه ، فان وجوب الدية على المخلص انما ثبت في صورة موت القاتل خاصة ، كما عرفت من الخبر المتقدم ، بمعنى أن المخلص له لم يسلمه حتى مات ، والا فمع حياته فالحكم انما هو إحضاره ، فيحبس المخلص له حتى يحضره.

__________________

(١) بمعنى أنه بعد الهرب أخذ الولي الدية من المخلص فان استمر على هربه ذهب ما دفعه المخلص ، وان تمكن منه الولي فلا ريب في رده الدية إذا اختار القصاص ، وكذا يجب عليه ردها لو لم يتخير القصاص ، لأنه إنما أخذها من حيث الحيلولة ، وقد سقطت بعد رؤيته فيرجع بالدية على القاتل ، ويجب ردها على المخلص ، هذا حاصل كلامه ، وفيه ما عرفت في الأصل. منه رحمه‌الله.

٧٣

فقوله «انه مع تعذر استيفاء القصاص يجب الدية ، كما لو هرب القاتل عمدا أو مات» ، مسلم بالنسبة إلى الموت خاصة ، دون الهرب ، فإنه لا دليل على أخذ الدية في الصورة المذكورة ، وبه يظهر ما في تفريعه على ذلك بقوله «ثم ان استمر القاتل هاربا» الى آخره.

وقالوا أيضا لو كان تخليص الغريم من يد كفيله وتعذر استيفاء الحق من قصاص أو مال وأخذ المال أو الدية من الكفيل كان له الرجوع على الذي خلصه لعين ما ذكر في تخليصه من يد المستحق.

وفيه أيضا ما عرفت من أن الواجب بمقتضى النصوص في هذه الصورة انما هو حبس المخلص حتى يحضر الغريم الذي خلصه ويدفعه الى الكفيل ، ثم ان الكفيل يدفعه الى المكفول له ، وليس على الكفيل أن يغرم المال كما ادعوه ، حتى أنه يرجع به بعد ذلك على الذي خلصه.

نعم قد ورد ذلك كما عرفت في صورة موت الغريم ، ويحتمل قريبا إجرائه في كل موضع تعذر فيه تحصيل الحق من الغريم ، لا مطلقا كما ادعوه ، وقد تقدم في الموضع الثالث ان الواجب على الكفيل بمقتضى الأخبار المذكورة ثمة انما هو الإحضار خاصة دون أداء ما على الغريم.

وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام كله مبنى على وجوب الأداء على الكفيل في الكفالة ، والمخلص في صورة هذا الموضع ، وقد عرفت ما فيه ، وأنه مع عدم الدليل عليه مدفوع بالأخبار الواردة ثمة وهنا أيضا. والله العالم.

السادس ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في وجوب كون المكفول معينا ، فلو قال : كفلت أحد هذين لم يصح ، وكذا لو قال : كفلت بزيد أو فلان ، وكذا لو قال : كفلت بزيد فان لم آت به فبعمرو ، لاشتراك الجميع في الجهالة ، وإبهام المكفول فتبطل لان الغرض من الكفالة هو وجوب إحضار المكفول متى طلبه المكفول له وإذا لم يعلم المكفول بعينه لم يستحق المطالبة بإحضاره.

وفي الصورة الثالثة ما يوجب البطلان ـ زيادة على الجهالة ـ من تعليق كفالة عمرو على شرط ، وهو عدم الإتيان بزيد فتبطل من هذا الوجه أيضا ، وكفالة زيد

٧٤

ليست متعينة ، لأن الكفيل جعل نفسه في فسحة بإحضار عمرو ان اختار ، فيرجع الى الإبهام كالسابق ، هكذا قرروه.

والتحقيق أن يقال : ان الكفالة من العقود اللازمة الموجبة لاشتغال الذمة فيجب الوقوف فيها على ما ورد به الشرع ، وقرره من المواضع التي تتحقق فيه ، وهو ما إذا كان المكفول متعينا معلوما ، وأما ما عداه فلا يصح ، لعدم الدليل عليه.

السابع : قال الشيخ في المبسوط : إذا تكفل مؤجلا صح ، فإن أحضره قبل الأجل وسأله تسلمه نظر ، فان كان لا ضرر عليه لزمه تسلمه ، وان كان عليه ضرر لم يجب ، وتبعه ابن البراج على ذلك.

والمشهور بين المتأخرين وبه صرح المحقق والعلامة وغيرهما هو عدم الوجوب ، لانه غير التسليم الواجب ، حيث أن وجوبه مشروط بحلول الأجل ، فحقه مخصوص بحلول الأجل ، فلا يجب أن يقبض غير حقه ولا يعتديه.

ومثله ما لو شرط تسليمه في مكان أو قلنا باقتضاء الإطلاق الانصراف الى موضع العقد ، فسلمه في غيره وان انتفى الضرر أو كان أسهل ، كذا قالوا ، ولو سلمه الكفيل الا أن المكفول له لا يمكنه تسلمه وقبضه ، لكونه ممنوعا بيد قاهر لم يبرأ الكفيل ، لأن براءة مشروطة بالتسليم التام كما تقدم بيانه في الموضع الثالث ، فلا يعتبر بالتسليم الممنوع معه من استيفاء الحق بقاهر أو غيره.

ولو كان في حبس الحاكم الشرعي لم يمنع ذلك تسليمه ، للتمكن من استيفاء الحق ، بخلاف ما إذا كان في حبس الجائر ، والفرق بينهما واضح في الأغلب ، فإن الحاكم الشرعي لا يمنع من إحضاره ومطالبته بالحق ، بخلاف الجائر ، فإنه قد يمنع ، فلا بد من التقييد بمنعه ، والا فلو فرض أن المكفول له قادر على تسلمه من حبس الجائر ، لصحبة كانت بينه وبينه ، أو قوة المكفول له أو نحو ذلك ، فإنه في قوة عدم الحبس بالكلية ، والأصحاب انما أطلقوا الحكم بناء على الغالب من عدم تسلمه تاما لو كان في حبس الجائر.

ثم انه لو كان في حبس الحاكم الشرعي فطلبه الكفيل من الحاكم أمر الحاكم بإحضاره ، وحكم بينهما فان انفصلت الحكومة بينهما رده الى الحبس

٧٥

بالحق الأول ، ولو توجه عليه حق يوجب الحبس حبسه أيضا بالحقين معا ، وتوقف فكه على خلاصه من الحقين معا.

الثامن ـ المشهور في كلام جملة منهم أنه إذا تكفل بتسليمه في موضع معين وجب عملا بالشرط ولا يبرء بالدفع في غيره.

وقال الشيخ في المبسوط : إذا تكفل على أن يسلمه إليه في موضع ، فسلمه في موضع آخر ، فان كان عليه مؤنة في حمله الى موضع التسليم لم يلزم قبوله ، ولا يبرء الكفيل ، وان لم يكن عليه مؤنة ولا ضرر لزمه قبوله ، كما ذكرنا في الأجل سواء وتبعه ابن البراج في ذلك.

ورد الأصحاب بما ردوا به قوله في سابق هذا الموضع من أن حقه انما هو في ذلك الموضع المشترط ، فلا يجب عليه القبول في غيره ، لانه ليس حقه ، وأما إذا تكفل بتسليمه مطلقا ولم يعين موضعا فظاهرهم أن الإطلاق ينصرف الى بلد العقد ، لانه المفهوم ، وقد تقدم الكلام في ذلك في فصل السلم في كتاب البيع (١) ويشكل ما ذكروه بما لو كان محل العقد مكانا لا رجوع لهما اليه كبرية أو بلد غربة ، يقصدان مفارقته ، ونحو ذلك ، الا أن تدل القرائن على استثناء مثل ذلك ، وخروجه عن الإطلاق.

ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط : أنه إذا أطلق موضع التسليم وجب التسليم في موضع الكفالة ، ثم نقل عن ابن حمزة أنه يلزمه التسليم في دار الحاكم أو موضع لا يقدر على الامتناع ، ورده قال : لنا انه إطلاق لموضع التسليم فتعين موضع العقد كالسلم ، ولعدم أولوية بعض الأمكنة.

التاسع ـ إذا كان المكفول غائبا ، والكفالة حالة أو مؤجلة ، وحل الأجل وهو غائب ، فإن كان الغائب ممن يعرف موضعه ولم ينقطع خبره انتظر بقدر ما يمكن الذهاب اليه والعود به ، وان لم يعرف له خبر ولا موضع وصار مفقود الخبر لم يكلف الكفيل بإحضاره ، لتعذره وعدم إمكانه ، ولا شي‌ء عليه ، لانه لم يقصر في الإحضار ليؤخذ بالمال ، كما ذكره جملة منهم ولم يضمن المال ، فلا يتعلق به شي‌ء.

العاشر ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا تكفل رجلان ببدن رجل لرجل ، فسلمه

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣١.

٧٦

أحدهما لم يبرء الأخر ، لأنه لا دليل عليه ، ولتغاير الحقين ، وتبعه ابن حمزة وابن البراج.

والمشهور في كلام المتأخرين برأيه الأخر ، لأن المقصود تسليمه له وقد حصل ، بل لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي بري‌ء الكفيل من الكفالة ، لحصول الغرض فكيف مع تسليم أحد الكفيلين ـ فإنه أولى.

وتظهر الفائدة لو هرب بعد التسليم الأول ، فعلى المشهور لا حق للمكفول له ، وعلى قول الشيخ ومن تبعه له الرجوع على الكفيل الثاني ، لبقاء حقه عليه ، ثم انه على تقدير القول المشهور هل يشترط في تسليم أحد الكفيلين وحده قصد تسليمه عنه وعن شريكه؟ أم يكفي الإطلاق؟ بل يكفى تسليمه عن نفسه احتمالان : ويأتي مثلهما فيما لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي ، ويأتي مثله أيضا في وجوب قبول المكفول له وقبضه عمن لم يسلم ، إذ لم يجب عليه قبول الحق ممن ليس له عليه أو بدله ـ ومن حصول الغرض وهو التسليم.

وظاهر إطلاق الأصحاب القائلين بهذا القول هو الاجتزاء به مطلقا في هذه المسئلة ، وسيأتي الكلام في ذلك بالنسبة الى غير هذه الصورة.

ولو انعكس الفرض بأن تكفل رجل لرجلين برجل ، ثم سلمه الى أحدهما لم يبرء من الأخر عند الأصحاب ، قالوا : والفرق بين هذه الصورة وسابقتها ـ بناء على القول المشهور من براءة الجميع ـ هو أن عقد الكفالة في هذه الصورة وقع مع اثنين ، فهو بمنزلة عقدين ، كما لو تكفل لكل واحد منهما على انفراده ، وكما لو ضمن دينين لشخصين ، فأدى أحدهما ، فإنه لا يبرء من دين الأخر.

أقول : والأظهر في التنظير انما هو كالمال المشترك بين اثنين في ذمة آخر ، فإنه لا يبرئ بالدفع الى أحد الشريكين ، الا أن يكون وكيلا عن الأخر في القبض ، فيكون المتسلم هنا أصالة من نفسه ، ووكالة عن الأخر. بخلاف الصورة السابقة ، فإن الغرض من كفالتهما إحضاره ، وقد حصل وان كان بفعل أحدهما فتبطل الكفالة لحصول الغرض منها.

الحادي عشر ـ لو قال الكفيل : أبرأت المكفول ، فأنكر المكفول له ، فان كان للكفيل بينة تثبت دعواه فلا اشكال ، وان لم تكن بينة فاليمين من طرف المكفول له فاما أن يحلف على بقاء حقه أو يرد اليمين على الكفيل ،

٧٧

فان حلف برأ من دعوى الكفيل عليه ، وتثبت الكفالة ، ثم ان جاء الكفيل بالمكفول فادعى البراءة أيضا لم تكف اليمين الأولى التي حلفها المكفول له للكفيل ، بل عليه له يمين أخرى ، لأنها دعوى ثانية لا تعلق له بالدعوى الأولى ، فإن الدعوى الاولى في ثبوت الكفالة وعدمها ، وان لزمها برأيه المكفول لو ثبتت ، والدعوى الثانية في ثبوت الحق وعدمه.

وان رد المكفول له اليمين على الكفيل فحلف برأ من الكفالة ، ولا يبرء المكفول من المال ، وان كان اللازم من يمينه ذلك ، الا أن الدعويين مختلفان ، ولأن الإنسان لا يبرء بيمين غيره.

نعم في صورة الدعوى بين المكفول والمكفول له لو حلف المكفل اليمين المردودة عليه بأنه بري‌ء الذمة من دعوى المكفول له برأ المكفول والكفيل ، لانه متى ثبت بها براءة الذمة بطلت الكفالة ، وان كان قد حلف المكفول له للكفيل أولا على عدم الإبراء ، لسقوط الحق بيمين المكفول وتصير في حكم ما لو أدى الحق فتبرئ ذمته ، وتبطل الكفالة كما ذكرناه.

الثاني عشر ـ قالوا : إذا مات المكفول برأ الكفيل ، وكذا لو جاء المكفول وسلم نفسه الى المكفول له.

أقول : أما الحكم الأول فوجهه واضح ، لان متعلق الكفالة النفس وقد فاتت بالموت ، والإحضار المذكور في الكفالة انما ينصرف الى حال الحياة ، لأنه الفرد الشائع الذي يترتب عليه الأحكام فيحمل عليه الإطلاق.

قال : بعض محققي متأخري المتأخرين ، وكأنه مجمع عليه بين الأصحاب والغرض من ذكره انما هو الرد على بعض العامة ، حيث أوجبوا المال على الكفيل ، الا أنه قال في المسالك : هذا كله إذا لم يكن الغرض الشهادة على صورته ، والا وجب إحضاره ميتا مطلقا ، حيث يمكن الشهادة عليه بأن لا تكون قد تغيرت بحيث لا تعرف ، ولا فرق في ذلك بين كونه قد دفن وعدمه ، لان ذلك مستثنى من تحريم نبشه. انتهى.

أقول : ما ذكره من الفرع المذكور قد نقله العلامة في التذكرة عن بعض الشافعية ، ورده ، ولا بأس بنقل ملخص كلامه في هذه المسئلة في الكتاب قال (قدس‌سره)

٧٨

إذا مات المكفول به بطلت الكفالة ولم يلزم الكفيل شي‌ء عند علمائنا ، ثم نقل ذلك عن جملة من علماء العامة ، ثم نقل عن جملة منهم القول بوجوب المال على الكفيل ، معللين ذلك بأن الكفيل وثيقة على الحق ، فإذا تعذر استيفاء الحق ممن عليه استوفى من الوثيقة كالرهن.

ثم رده بالفرق بين الموضعين المذكورين ، ثم قال : وقال بعض الشافعية : لا تبطل الكفالة ، ولا ينقطع طلب الإحضار عن الكفيل ، وهو أصح قولي الشافعية عندهم ، بل عليه إحضاره ما لم يدفن وقلنا بتحريم النبش لأخذ المال إذا أراد المكفول له إقامة الشهادة على صورته ، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت.

ثم رده بأنه ليس بجيد ، قال : لأن الكفالة على الإحضار إنما يفهم منها إحضاره حال الحياة ، وهو المتعارف بين الناس ـ والذي يخطر بالبال ، فيحمل الإطلاق عليه.

ويمكن كما احتمله بعض المحققين حمل كلامه في المسالك على ما إذا اشترط إحضاره ميتا لأجل الاشهاد في عقد الكفالة.

وأما الحكم الثاني فالظاهر أنه لا إشكال في صحته ، وبرأيه الكفيل لو سلم نفسه تسليما تاما ، لحصول الغرض به بأي نحو كان ، وقيده في التذكرة بما إذا سلم نفسه من جهة الكفيل ، فلو لم يسلم نفسه من جهته لم يبرء الكفيل ، لانه لم يسلمه ، ولا أحد من جهته ، وأطلق في موضع آخر من الكتاب البراءة كما هو ظاهر عبائر كثير من الأصحاب ، وهو الأظهر.

قال في المسالك : وهو أجود ، وبه جزم المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ولو سلمه أجنبي عن الكفيل فلا خلاف ولا اشكال ، ولو لم يكن عنه فالوجهان المتقدمان. وجزم في التذكرة هنا بالتفصيل ، بأنه ان كان عن الكفيل صح وبرئت ذمة الكفيل ، والا فلا ، قال : لانه لا يجب على المكفول له قبوله ، الا أن يكون التسليم صادرا عن اذن الكفيل ، محتجا بعدم وجوب قبض الحق الا ممن هو عليه ، لكن لو قبل برء الكفيل.

قال في المسالك ونعم ما قال : وفي كل هذه الفروع نظر ، وإطلاق المصنف وجماعة يقتضي عدم الفرق ، ولعله أوجه.

٧٩

وكلام التذكرة مختلف ، وسياقه يقتضي التفريع عند الشافعية ، وأنه لا يرتضيه ، الا أن عبارته وقعت مختلفة.

الثالث عشر ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بترامي الكفالة ، كما تقدم مثله في الضمان والحوالة ، لأنه لما كان ضابط جواز الكفالة ثبوت حق على المكفول وان لم يكن مالا صح كفالة الكفيل من كفيل ثان ، لان الكفيل الأول عليه حق المكفول له ، وهو إحضار المكفول الأول ، وهكذا القول في كفالة كفيل الكفيل ، وهكذا في المرتبة الثالثة وما بعدها ، وهو المراد بالترامي ، الا أنه يختلف حكم الإحضار في هذه المراتب ، فإنه متى أحضر الكفيل الأخير في هذه المراتب المتعددة مكفولة برء من الكفالة خاصة ، وبقي على مكفولة إحضار من كفله ، وهكذا ، ولو أحضر الكفيل الأول مكفوله برء الجميع. لأنهم فروع عليه ، وهكذا لو أحضر الكفيل الثاني الكفيل الأول بري‌ء هو ومن بعده من الكفلاء للفرعية عليه كما عرفت ، ونحو ذلك لو أبرء المكفول له الأول غريمه ، وهو المكفول الأول بري‌ء جميع من تأخر عنه ، لزوال الكفالة بسقوط الحق بالإبراء ، ولو أبرء بعض أصحاب هذه المراتب غيره من حق الكفالة ، بمعنى أنه أسقط عنه حق الكفالة ، برء كل من كان بعده دون من كان قبله.

ومتى مات واحد منهم برء من كان فرعا عليه فبموت من عليه الحق يبرؤن جميعا ، وبموت الكفيل الأول يبرء من بعده ، وبموت الثاني يبرء الثالث ومن بعده دون من يكون قبله ، وهكذا بعد موت الثالث يبرء من بعده ، ولا يبرئ الأولان ، كل ذلك لما عرفت من الفرعية في المتأخر ، فيسري إليه الإبراء دون المتقدم.

وقد تقدم في الضمان والحوالة وقوع الترامي والدور فيهما ، والترامي هنا قد عرفت صحته ، وأما الدور ، فإنه لا يصح هنا ، لان حضور المكفول الأول يوجب براءة من كفله ، وان تعدد ، فلا معنى لمطالبته بإحضار من كفله كذا أفاده شيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقده) في المسالك. والله العالم.

الرابع عشر ـ لا يخفى أنه حيث أن الغرض من الكفالة إحضار ذات المكفول ، فالواجب في عقد الكفالة الإتيان بلفظ يدل على ذلك ، ولا خلاف ولا اشكال فيما

٨٠