الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

وما رواه في التهذيب والفقيه عن جعفر بن عثمان (١) قال : «حمل أبي متاعا الى الشام مع جمال فذكر أن حملا منه ضاع. فذكرت ذالك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال : أتتهمه؟ قلت : لا قال : لا تضمنه».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن خالد بن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الملاح أحمل معه الطعام ثم أقبضه منه فينقص ، قال إن كان مأمونا فلا تضمنه».

أقول : هذا ما حضرني من أخبار المسئلة ، وليس فيها ما يدل على القول المشهور إلا ظاهر الرواية الأخيرة ، والشيخ قد حملها على ما إذا كانا مأمونين ، وهو جيد.

وأما ما يدل على قول المفيد والسيد فجملة من الأخبار التي عرفت ، وأنت إذا رددت هذه الأخبار التي تلوناها عليك بعضها إلى بعض وحملت مطلقها الى مقيدها ، ظهر لك أن الحكم بالنسبة إلى دعوى التلف أنه ان كان أمينا غير متهم فلا ضمان عليه ، والا فهو ضامن ، الا أن يقيم البينة ، أو يكون لأمر ظاهرا في دعواه.

وبه يظهر أن إطلاق كل من القولين المتقدمين ليس في محله ، والعلامة في المختلف حيث اختار قول المشهور كما قدمنا نقله عنه حمل ما نقله من الاخبار الدالة على قول المفيد والمرتضى على التفريط والتعدي ، جمعا بين الأدلة ، أو على تأخير المتاع عن الوقت المشترط ، وان كان نوع تفريط ، لما رواه الكاهلي (٣) في الحسن عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن القصار يدفع اليه الثوب واشترط عليه أن يعطيه في وقت ، قال : إذا خالف وضاع الثوب بعد الوقت فهو ضامن».

وأنت خبير بما فيه من التعسف المستغنى عنه ، فإنه لا إشعار في شي‌ء

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٢٨ و ٢٩.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٣٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٨ ح ٦ وص ٢٧٧ ح ٣ وص ٢٧٣ ح ٧.

٦٢١

من تلك الأخبار بما ادعاه من التعدي والتفريط ، بل هي ظاهرة الدلالة في المدعى وما ادعاه من الحمل على تأخير المتاع أبعد ، إذ لا إشعار في شي‌ء منها بذلك ، بل هي ظاهرة في أن الضمان إنما هو من حيث التلف ، وان كان لا عن تعد ولا تفريط والوجه في الجمع إنما هو ما قلناه ، لتكاثر الأخبار به كما عرفت.

واستند في المسالك حيث اختار القول المشهور إلى أصالة البراءة ولأنهم أمناء فلا يضمنون بدون التفريط ، قال : وفي كثير من الأخبار دلالة عليه ، وفيه أن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل ، وقد عرفته مما ذكرناه من الأخبار الساطعة في ذلك على وجه لا تقبل الإنكار الا من حيث قصور التتبع لها ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، وأما ما ذكره من أنهم أمناء فلا يضمنون الا مع التفريط ، فهو وان كان كذلك في جملة من المواضع ، الا أنه من الجائز خروج هذا الحكم من تلك المواضع ، لأن الإجارة على هذا الوجه نوع معاوضة ، فيجب إيصال كل عوض الى مستحقه أو بدله ، الا أن يعلم بأحد الوجهين المتقدمين تلفه بغير تفريط ولا تعد ، ولهذا ان أخبار هذه المسئلة على كثرتها وتعددها كما عرفت خالية عن ذلك ، فإنها على تعددها واستفاضتها وصحتها وضم بعضها الى بعض صريحة في الضمان إلا مع كون الأجير ثقة مأمونا غير متهم كما عرفت ، ولا إشعار في شي‌ء منها ، فضلا عن الظهور بكون الضمان مستندا الى التفريط أو التعدي ، وإنما رتب فيها على مجرد التلف ، ولكنهم لعدم التتبع التام للأخبار يقعون فيما يقعون فيه ، والحكم كما ذكرنا واضح بحمد الله سبحانه.

ثم ان الظاهر أن ما دل عليه صحيح الحلبي ومرسل الفقيه من التفضل والتطوع بعدم الضمان ، ينبغي حمله على ذينك الإمامين عليهما‌السلام بمعنى أنه إذا وقع ذلك في مالهما لا يضمنون العامل جمعا بين الأخبار ، لما عرفت من قول أمير المؤمنين والرضا عليهما‌السلام «لا يصلح الناس الا أن يضمنوا احتياطا على أموال الناس» بمعنى أن الحكم الشرعي تضمينهم ، فإنهم متى عرفوا ذلك احتاطوا في

٦٢٢

حفظ أموال الناس خوف الغرم ، ولو حمل الخبران الأولان على أن المراد بهما أنهما عليهما‌السلام يحكمان بالتفضل والتطوع بالنسبة إلى الناس ، لحصلت المنافاة والمعارضة بين الأخبار ، على أن صحيح الحلبي صريح في أن تطوله عليه‌السلام بعدم الضمان إنما هو في صورة ما إذا كان مأمونا ، وحينئذ فيرجع الى الأخبار الأخيرة الدالة على قيد المأمونية ، ويحمل إطلاق تفضل على بن الحسين عليه‌السلام على ذلك ، وبه يزول الاشكال وان حمل على غيرهما من الناس ، والله سبحانه العالم.

الخامسة والعشرون : في إجارة المملوك ، والكلام فيها يقع في مواضع : الأول : فيما إذا آجر المولى عبده أو آجر العبد نفسه باذن مولاه فأفسد ، فلا خلاف ولا إشكال في لزوم ذلك للمولى ، لمكان إذنه ، لأن الإذن في الإجارة يقتضي الالتزام بلوازمها التي من جملتها الضمان هنا ، لكن الخلاف إنما هو في أنه هل يختص الضمان بكسب العبد ، لأن الصانع لما كان ضامنا لما يفسده في ماله ، والعبد لا مال له ، تعلق الضمان بكسبه ، وعلى هذا لو زادت الجناية على الكسب لم يلزم المولى شي‌ء أو يكون الضمان علي المولى؟ مطلقا قولان : وبالثاني قال في النهاية وأبو الصلاح.

قال في النهاية : من استأجر مملوك غيره من مولاه ، فأفسد المملوك شيئا أو أبق قبل أن يفرغ من عمله كان مولاه ضامنا لذلك ، وقال ابن إدريس : يكون ضامنا لبقية الأجرة دون أرش ما أفسده.

أقول : وكلام ابن إدريس لا يخلو من إجمال ، فإنه يحتمل أن يراد به أن أرش الجناية لا يضمنه السيد من ماله ، ولا من كسب العبد ، وحينئذ فيكون هذا قولا ثالثا في المسألة ، ولم أقف على من نقله عنه ، ويحتمل أن يراد به أنه لا يضمنه المولى من ماله ، وان ضمنه من كسب العبد ، كما هو القول الأخر في المسئلة ، الا أنه لا يخلو من بعد ، وكلام أبى الصلاح على نحو كلام الشيخ.

والذي يدل على ما ذهب اليه الشيخ ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة

٦٢٣

وأبي بصير (١) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل كان له غلام استأجره منه صائغ أو غيره قال : ان كان ضيع شيئا أو أبق فمواليه ضامنون». وظاهر المختلف حمل الرواية على أن الضمان المراد ضمان الموالي من كسب العبد لا من أموالهم ، ولا يخفى بعده ، وفصل في المسالك وقال : والأصح أن الإفساد ان كان في المال الذي يعمل فيه من غير تفريط تعلق بكسبه ، كما ذكروه ، وان كان بتفريط تعلق بذمته يتبع به إذا أعتق ، لأن الاذن في العمل لا يقتضي الاذن في الإفساد.

نعم لو كان باذن المولى تعلق به ، وعليه تحمل الرواية ، وان كان بجناية على نفس أو طرف تعلق برقبة العبد ، وللمولى فدائه بأقل الأمرين من القيمة أو الأرش ، سواء كان باذن المولى أم لا ، انتهى.

وفيه أولا أن ظاهر قوله «نعم لو كان باذن المولى تعلق بالمولى ، يعطي أن حكمه بتعلقه بكسب العبد في صورة عدم التفريط والتعدي ، والتعلق بذمته في صورة التفريط مبنى على أن الاستيجار بدون اذن المولى ، وهو خلاف فرض أصل المسئلة وذلك فإن البحث هنا في المسئلة إنما بنى على ما قدمنا ذكره من اجارة المولى عبده أو إجارة العبد نفسه باذن المولى ، وثانيا أنه مع عدم الإذن فإنه لا ريب في بطلان الإجارة ، فلا يترتب عليها شي‌ء مما ذكر من الضمان ، لأن تصرف المستأجر في العبد بدون اذن مولاه غصب محض ، لا يستحق ضمانا ، ويحتمل أن المراد أنه لو أذن المولى للعبد في الإفساد فيكون الضمير في كان راجعا إلى الإفساد ، وهو وان كان معنى صحيحا في حد ذاته ، الا أن حمل الرواية على ذلك في غاية البعد.

وبالجملة فإن فهمي القاصر ـ عن ادراك معنى صحيح لهذا الكلام ـ خاسر ، وكيف كان فإنه لا يخفى ما في الحكم بتعلق حكم الضمان بذمته ، وأنه يتبع به إذا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٠٢ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٣ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٩ ص ١٨٣ ح ١.

٦٢٤

أعتق من الاشكال ، لما فيه من الضرر على المالك ، فإنه قد يتعمد العبد الجناية على مال المالك ، ويفرط فيه فيسرق لعلمه بأنه لا يؤاخذ به الا بعد العتق ، مع أنه قد لا يعتق بعد موت المالك ، أو يكون فقيرا بعد العتق ، وكيف يصح ارتكاب هذا الضرر ، مع عدم وجود دليل عليه ، والرواية ظاهرة الدلالة بإطلاقها على ضمان المولى مطلقا ، ويؤيدها أن المولى بوصفه عبده وإجارته لمثل هذه الأمور التي لا يحسنها في قوة المدلس ، فيجب عليه الضمان.

وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النص المذكور ، كما ذكره الشيخ ومن تبعه ، والخروج عنه بغير دليل شرعي سوى هذه التخريجات مشكل ، والله سبحانه العالم.

الثاني : لو آجر السيد عبده ثم أعتقه فلا خلاف في صحة الإجارة والعتق ، أما الإجارة فظاهر ، لأن منافع العبد لمولاه حال ملكه ، فيجوز له نقلها بالإجارة كمنفعة نفسه ، فإنه يوجر نفسه غيره ، وأما العتق فكذلك أيضا ، فإنه مالك لرقبته ، والعتق مورده رقبة المملوك ، والمنافع وان كانت تابعة للرقبة الا أنه قد سبق ملكها ، أو ملك بعضها بعقد الإجارة ، غاية الأمر أن العتق إنما صادف الرقبة دون منافع مدة الإجارة ، فتزول السلطنة عن الرقبة ، والمنافع التي لم تدخل تحت الإجارة ، وهو مما لا خلاف ولا اشكال فيه.

وإنما الخلاف في أنه هل يرجع المملوك على مولاه بأجرة المثل عن تلك المدة التي آجره فيها أم لا؟ قال ابن إدريس ومثله الشيخ في المبسوط : إذا آجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح ، وهل يرجع على السيد يأجره المثل لما يلزمه من الخدمة بعد الحرية؟ قيل : فيه قولان : أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك المدة ، والآخر لا يلزمه ، وهو الصحيح لأنه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة ، وربما علل الرجوع بأن إزالة الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته ، فإذا سبق نقل المولى لها فاتت العين ، فيرجع العبد على المولى بعوضها ، وهو أجرة المثل ، وضعفه ظاهر

٦٢٥

مما تقدم ، فان تصرف المولى بالإجارة في تلك المنافع لا ريب في صحته ، وعدم ترتب ضمان عليه في ذلك واستحقاق المستأجر لتلك المنافع مما لا ريب فيه أيضا ، والعتق إنما صادف ازالة الرق عن الرقبة مسلوبة المنافع تلك المدة ، فقول القائل المذكور أن الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته إنما يتم ، فيما إذا صادف العتق ازالة الرق من الرقبة ومنافعها ، لا فيما نحن فيه ، ولهذا لو أعتقه وشرط عليه خدمته مدة معينة صح ذلك ، كما أن المنفعة هنا لا يقتضي العتق ملك العبد لها لمكان الشرط ، كذلك فيما نحن فيه للسبق ، فان المالك قد آجرها سابقا وهذه الصورة أولى بعدم مطالبة العبد من صورة الشرط.

وبالجملة فإن ضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى ، ومن المحتمل قريبا أن هذا القول إنما هو للعامة كما هو مؤمى عبارة المبسوط ، فإنه لم ينسب الى أحد من أصحابنا صريحا ، والظاهر أن الأصحاب إنما نقلوا الخلاف من هذه العبارة ، بقي الكلام هنا في شي‌ء آخر أيضا وهو نفقة العبد في مدة الإجارة.

قال في المسالك بعد البحث في الحكم المتقدم : إذا تقرر ذلك فنفقة تلك المدة إذا لم تكن مشروطة على المستأجر ، هل يجب على مولاه ، أو في كسبه ، أو في بيت المال ان كان؟ أوجه : من انتفائها من العبد ، لاستغراق وقته في الخدمة ، وعن المستأجر لانتفاء الشرط ، فلم يبق لها محل الا السيد ، ولأنه ملك عوض المنفعة تلك المدة ، ومن انتفاء المقتضي ، للإنفاق ، وهو الملك ، وقد زال ومن أن النفقة مقدمة على حق كل أحد كما في المديون والمعسر ، فيخرج من الكسب مقدمة على حق المستأجر ، والأقوى الأخير لزوال ملك السيد وعجزه عن نفسه ، ولبطلان الحصر وعدم استلزام تملك عوض منفعة تلك المدة النفقة ، وإنما تقدم النفقة على حق الغير من مال المكتسب ، وبيت المال معد للمصالح ، وهو من جملتها ، ومع تعذره فهو من الواجبات الكفائية على سائر المكلفين ، انتهى.

أقول : قد تقدم نقل الخلاف في نفقة الدابة إذا آجرها المالك هل هي على

٦٢٦

المستأجر أو المالك؟ والإنسان إذا آجر نفسه هل نفقته على نفسه ، أو المستأجر ، ومحل الاشكال هنا إنما يتوجه على القول بكون النفقة على المالك في الأول ، وعلى الموجر نفسه في الثاني ، وأما على تقدير كونها على المستأجر أصالة كما هو أحد القولين أو بالشرط على القول الثاني فلا اشكال ، ولهذا انه لما كان مذهب شيخنا الشهيد الثاني هو أن النفقة على المالك ، والموجر نفسه ، جعل محل الاشكال فيما لو لم يكن مشروطة على المستأجر ، وقد استشكل في ذلك أيضا جمع من الأصحاب منهم العلامة في الإرشاد ، ووجه الاشكال كما ذكره هنا من أنه ملك عوض المنفعة تلك المدة واستوفاه ، فيلزمه النفقة ، ومن أنه بالعتق خرج عن ملكه ، المقتضى لوجوب الإنفاق ، فيزول وجوب الإنفاق.

وبالجملة فالمسئلة محل اشكال ، لخلوها من النص ، وان كان ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني لا يخلو عن قرب ، بناء على الأخذ بهذه التقريبات المتداولة في كلامهم ، لأنه نفاها عن المستأجر من حيث عدم الشرط ، بناء على مذهبه في المسئلة كما أشرنا اليه ، وعن السيد لتبعية وجوب النفقة للملك ، وعدم ثبوت الاستلزام المدعى ، وعن العبد ، لاستغراق وقته في الخدمة ، وتقديمها من الكسب ـ على حق المستأجر ، قياسا على المديون ، والمعسر ـ إنما يتم لو كان له مال مكتسب ، وقد عرفت أنه لانتقال منافعه إلى المستأجر واستغراق وقته في الخدمة لا مال له ، فلا وجه لإيجابها في كسبه ، إذ لا كسب له ، فلم يبق الا الرجوع الى بيت المال ان كان ، أو المؤمنين وجوبا كفائيا ، والله سبحانه العالم.

الثالث : قال في المختلف : إذا استأجر العبد سنة ، ثم مات بعد مضي نصفها ، قال الشيخ وتبعه ابن إدريس : يصح فيما مضى ، ويبطل فيما بقي ، وله المطالبة بأجرة المثل ، فان تساويا أخذه ، وان كان أجرة الباقي أكثر استحق الزيادة ، مثل أن يكون أجرة الماضي مائة ، والباقي مأتين ، فإنه يستحق عليه مأتين ، وبالعكس ، وهذا القول فيه نظر ، بل الحق أن ينسب المسمى إلى أجرة المثل ،

٦٢٧

ويقسط ما قابل المتخلف ، وكأن مراد الشيخ ذلك ، انتهى.

السادسة والعشرون : قد صرح الأصحاب بأنه لا يضمن صاحب الحمام الا ما أودع وتعدى أو فرط فيه ، وهو كذلك ، اما أنه لا يضمن بغير الإيداع فظاهر ، لأن الأصل براءة الذمة من وجوب حفظ مال الغير مع عدم الالتزام به حتى لو نزع المغتسل ثيابه ، وقال احفظها ولم يقبل لم يجب عليه الحفظ ، وأما أنه مع الإيداع لا يضمن الا بالتفريط أو التعدي ، فلأنه أمين محض ، وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الوديعة ، ويدل على ذلك أيضا ما رواه

المشايخ الثلاثة مرسلا (١) في بعض عن الباقر عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، ومسندا في بعض عن غياث بن إبراهيم (٢) «عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام ان أمير المؤمنين عليه‌السلام أتى بصاحب حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه ، وقال : إنما هو أمين».

قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين لعل المعنى أنه يحفظها بمحض الأمانة ، وليس ممن يعمل فيها أو يأخذ أجرة على حفظها ، فهو محسن لا سبيل عليه ، ويمكن أن يقال : خصوص هذا الشخص كان أمينا غير متهم ، فلذا لم يضمنه ، والأول أظهر انتهى.

أقول : بل الظاهر أن الثاني أظهر إذ مجرد وضع الثياب عنده من غير أن يظهر منه ما يدل على قبول أيتمانها لا يدل على كونه أمينا يترتب عليه ما يترتب على سائر الأمناء من عدم الضمان الا مع التفريط ، وقد تقدم ذلك في كتاب الوديعة.

وما رواه في التهذيب عن السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن عليا عليه‌السلام كان يقول لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب ، لأنه إنما أخذ الجعل على الحمام ، ولم يأخذ على الثياب».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٦٣ ح ١٠.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٠ ح ١.

(٣) الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ٣ الباب ٢٨ من أبواب أحكام الإجارة التهذيب ج ٦ ص ٣١٤ ح ٨٦٩ ، الرواية بهذا المتن بعينها هي رواية إسحاق بن عمار ولم نقف على هذا المتن عن طريق السكوني.

٦٢٨

وما رواه في قرب الاسناد عن أبي البختري (١) عن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام «عن علي عليه‌السلام أنه كان لا يضمن صاحب الحمام ، وقال : إنما يأخذ أجرا على الدخول الى الحمام».

وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن عليا عليه‌السلام كان يقول لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب».

السابعة والعشرون : قال في الخلاف : إذا آجر الأب أو الوصي الصبي أو شيئا من ماله صحت الإجارة إجماعا ، فإن بلغ الصبي قبل انقضاء المدة كان له ما بقي ولم يكن للصبي فسخه ، لان العقد على غير البالغ وعلى ماله وقع صحيحا بلا خلاف فمن ادعى أن له الفسخ بعد البلوغ فعليه الدلالة ، وتبعه ابن إدريس في ذلك.

وقال في المبسوط : ان له فسخها فيما بقي وقيل : انه ليس له ذلك ، وهو الأقوى ، قال في المختلف : والحق أن له الفسخ ، لنا أن الولاية تابعة للصغر ، وقد زال فتزول الولاية ، والعقد تابع لها ، فيزول بزوالها ، ولأنه لو عقد عليه مدة يعلم بلوغه في بعضها بطلت في الزائد ، فكذا في المجهول مع وقوعه ، لأن العلم والجهل لا مدخل لهما في ثبوت الولاية وعدمها ، انتهى.

أقول : وينبغي أن يعلم أن هنا صورتين : إحديهما أن يأجره مدة يعلم بلوغه ورشده قبل انقضائها ، كأن يأجره وهو ابن عشر سنين ، مدة سبع سنين ، ولا خلاف هنا فيما أعلم أن الإجارة لازمة فيما قبل البلوغ والرشد ، وأما بعدهما فإنه يكون موقوفا على إجازة الصبي ، لأن زمان الولاية عليه وعلى ماله ما قبل الأمرين المذكورين ، فلا إشكال في لزوم الإجارة في تلك المدة ، وأما بعد حصول الأمرين المذكورين فلا اشكال ولا خلاف في زوال الولاية عنه وحينئذ فلا إشكال في توقف

__________________

(١) قرب الاسناد ص ٧١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ٢ الباب ٢٨ من أبواب أحكام الإجارة.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٣١٤ ح ٨٦٩.

٦٢٩

صحة الإجارة والحال هذه على إجازته ، لأن العقد في هذه المدة الزائدة يصير بمنزلة الفضولي.

الثانية : ان يأجره في مدة لا يعلم ذلك ، الا أنه اتفق حصوله في أثناء المدة وهذه الصورة هي محل الخلاف ، فظاهر كلام الشيخ المذكور هو صحة الإجارة في جميع المدة صحة لازمة لوقوع الإجارة من أهلها في محلها في وقت لا يعلم لها مناف ، فتستصحب. وظاهر العلامة هو الصحة كذلك إلى حين اجتماع الشرطين المذكورين ، لانتفاء المانع ، وأما بعد حصولهما فإنه يكون الحكم كما في سابق هذه الصورة ، لأن زمان الولاية ما قبل الكمال ، فيكون نفوذ التصرف مقصورا عليه ، وفي الشرائع تردد في هذه الصورة لما عرفت من تدافع التعليلين المذكورين ، وفي المسالك قوى قول العلامة أقول : والمسئلة بالنسبة الى هذه الصورة كغيرها من المسائل الغير المنصوصة محل اشكال ، وأما بالنسبة إلى الصورة الأولى فإنه لا ريب في صحة الإجارة ولزومها قبل حصول الشرطين المذكورين ، وأما بعدهما فان قلنا بصحة العقد الفضولي كما هو المشهور ، وأجاز الصبي فكذلك ، وان قلنا بالبطلان كما هو المختار فالحكم ظاهر ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى مذهب العلامة ومن تبعه في الصورة الثانية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن أكثر الأصحاب الذين تعرضوا لهذه المسئلة ومنهم الشيخ والفاضلان انما ذكروا بالنسبة إلى زوال الولاية بالبلوغ خاصة ، مع أنه لا خلاف في ضم الرشد اليه ، فلو بلغ ولم يكن رشيدا فالولاية باقية ، ففي الصورة الأولى لو آجره مدة يعلم بلوغه فيها ولا يعلم رشده ، بل كان مجهولا فان الحكم فيها كما في الثانية ، أما إذا كان معلوما كأن يكون متميزا قبل البلوغ ، فإنه يكون الحكم كما ذكروه ، ومنه يعلم أن الصورة الثانية أعم من أن لا يعلم بلوغه ولا رشده أو يعلم بلوغه ولا يعلم رشده ، ثم اتفق حصولهما ، ولو تلف الصبي بعد تسليم المستأجر له وكذا غيره ممن تستأجره للعمل عنده لم يضمنه ، ولا فرق هنا بين الصغير والكبير ، والحر والعبد ، فان كل من يسلم أجيرا ليعمل له فتلف لم يضمنه ،

٦٣٠

لأنه قبضه لاستيفاء منفعة مستحقة لا يمكن تحصيلها إلا بإثبات اليد عليه فكان أمانة في يده ، قالوا : ولا فرق بين تلفه مدة الإجارة وبعدها.

أقول : أما تلفه مدة الإجارة فلا ريب فيه ، وأما بعدها لو كان صبيا أو مملوكا فهو مبني على ما هو المشهور ، كما تقدم في الموضع الخامس من المطلب الأول من هذا الكتاب (١) من أن العين المستأجرة من دابة أو صبي أو مملوك بعد تمام المدة هل يجب على المستأجر ردها الى المالك ، فلو أخرها ضمن ، ووجب عليه نفقتها أولا يجب عليه ذلك الا بعد طلب المالك ، والا فقبل ذلك انما يجب عليه رفع اليد عنها ، والتخلية بين المالك وبينها ، قولان : أشهرهما الثاني ، والكلام هنا مبني على هذا القول والله سبحانه العالم.

الثامنة والعشرون : المشهور في كلام المتقدمين أن من تقبل عملا لم يجز أن يقبله غيره بنقيصة ، الا أن يحدث فيه حدثا يستبيح به الفضل ، وقيل ، بالكراهة واختاره في المسالك ، والظاهر أنه قول أكثر المتأخرين.

ومن الأخبار الدالة على المشهور ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) «عن أحدهما عليهما‌السلام أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه؟ قال : لا إلا أن يكون قد عمل فيه شيئا».

وما رواه التهذيب في الصحيح عن أبي حمزة (٣) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر يربح فيه؟ قال لا» : وما رواه المشايخ الثلاثة عن الحكم الخياط (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أني أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه بأقل من ذلك لا أزيد على أن أشقه قال : لا بأس بذلك ، ثم قال : لا بأس فيما تقبلت من عمل ثم استفضلت فيه».

__________________

(١) ص ٥٤٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٥ ، هما في الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٥ ح ١ و ٤.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٥ ح ٢.

٦٣١

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أتقبل الثياب أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال : أليس تعمل فيها قلت : أقطعها واشتري لها الخيوط قال : لا بأس».

وعن علي الصائغ (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أتقبل العمل ثم أقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين فقال : لا يصلح ذلك الا أن تعالج معهم فيه قلت : فإني أذيبه لهم ، قال : فقال ذاك عمل فلا بأس».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل الخياط يتقبل بالعمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل قال : لا بأس قد عمل فيه».

هذا ما حضرني من أخبار المسئلة ، وكلها كما ترى ظاهرة الدلالة في القول الأول ، وهو الذي عليه المعول ، ثم انه ينبغي أن يعلم أن جواز دفعه الى غيره مشروط بما إذا كان العمل في الذمة بأن يحصل له هذا العمل بنفسه أو غيره ، أما لو كان الاستيجار على فعله بنفسه فإنه لا يجوز له الدفع الى غيره ، ثم انه على تقدير الأول هل يكون ضامنا بدفعه الى الغير بدون اذن المالك صرح ابن إدريس بذلك ، والمشهور خلافه ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المسئلة الرابعة من مسائل هذا المطلب (٤).

التاسعة والعشرون : اختلف الأصحاب في جواز الإجارة بأكثر مما استأجر إذا لم يحدث فيه حدثا فقيل بالتحريم ، وهو المشهور بين المتقدمين ، وقيل بالجواز على كراهة وهو المشهور بين المتأخرين ، وتقدم تحقيق القول في ذلك في صدر كتاب المزارعة (٥).

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٥٩ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ٨ ـ الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٦.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ٩ وص ٢١٠ ح ٦ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٦ و ٧ و ٥.

(٤) ص ٥٦٣.

(٥) ص ٢٩٢.

٦٣٢

الثلاثون : اختلف الأصحاب في جواز إجارة الأرض بالحنطة والشعير مما يخرج منها ، فقيل : بالتحريم ، وقيل : بالكراهة ، وقد تقدم أيضا تحقيق الكلام في ذلك في الموضع المشار إليه.

الحادية والثلاثون : إذا دفع الى غيره سلعة ليعمل له فيها عملا كالقصار والغسال ونحوهما فقد صرح المحقق بأن له أجرة المثل بشرط أحد الأمرين ، إما كون العامل من عادته أن يأخذ الأجرة على مثل ذلك العمل ، أو كون ذلك العمل مما له أجرة في العرف والعادة المستمرة ، وعن العلامة أنه اعتبر كون العمل له أجرة عادة خاصة.

ويتخرج على ذلك صور أربع : الأولى : ما إذا حصل الشرطان المذكوران في كلام المحقق ، والأجرة ثابتة على كلا القولين.

الثانية : انتفاؤهما معا ولا أجرة على القولين ، ولا فرق حينئذ بين كون العمل متقوما بأجرة وعدمه ، إذا لم يكن له في العادة أجرة ، ولا أعد العامل نفسه لها.

الثالثة : أن يكون العمل مما له أجرة بحسب العادة ، ولكن ليس من عادة العامل الاستيجار له ، والأجرة ثابتة على القولين أيضا لأن هذا أحد شرطي المحقق وهو الذي اقتصر عليه العلامة.

الرابعة : عكس هذه الصورة بأن يكون من عادته الاستيجار له الا أن العمل ليس مما له أجرة بحسب العادة ، والأجرة ثابتة على مذهب المحقق ، دون العلامة ، ورجح مذهب المحقق في هذه المسئلة بأن الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة مملوكة ، للمأمور ، متقومة بالمال ، فوجب ثبوتها على الآمر كالاستيجار معاطاة ، واللازم استيفاء عمل محترم بالأمر ، فلا يحل بدون العوض إلا بإباحة مالكه ، ولم يتحقق وهو جيد.

٦٣٣

المطلب الرابع في جملة من أحكام التنازع

منها التنازع في أصل الإجارة ، والقول في ذلك قول المنكر منهما بيمينه ، سواء كان المالك أو الأجير ، لأن الأصل العدم ، والحكم اتفاقي نصا وفتوى ، بقي الكلام في أنه لا يخلو اما أن يكون هذا التنازع قبل التصرف واستيفاء المنافع كلا أو بعضا ، أو بعده ، وعلى الأول لا إشكال في رجوع كل مال الى صاحبه ، وعلى الثاني فلا يخلو اما أن يكون مدعى الإجارة المالك أو المتصرف ، فان كان المدعى المالك ، والحال أن المتصرف حلف على إنكار الإجارة ، انتفت الإجارة ، وعلى المتصرف أجرة المثل ، عوض ما تصرف فيه ، فان كان أجرة المثل زائدة على ما يدعيه المالك من المسمى في العقد بزعمه ، فإنه لا يجوز له أخذ الزيادة ، لاعترافه بأن المسمى في العقد أقل من ذلك ، فلا يستحق أزيد منه ، وان وجب على المتصرف دفعها لو لم يدفعها سابقا ، وحرمت المطالبة بها ان دفعها سابقا ، وان كان المسمى بزعم المالك زائدا على أجرة المثل ، فان هذه الزيادة تنتفي بانتفاء الإجارة بعد اليمين ، فليس للمالك طلبها ، ولا يجب على المنكر دفعها ، وان دفعها سابقا استرجعها ، وان كان مدعى الإجارة هو المتصرف ، والمالك ينكرها ، وينكر الاذن في التصرف مطلقا ، فقد عرفت أن القول قوله بيمينه ، وحينئذ إذا حلف انتفت الإجارة ، واستحق أجرة المثل لما تصرف فيه المستأجر بزعمه ، فله المطالبة بها ان لم يكن قبض قدرها سابقا ، وان زادت عن المسمى بزعم المستأجر ، لأن المسمى قد بطل بانتفاء الإجارة ، وصار الحكم هو أجرة المثل ، وأما لو زاد المسمى فإنه لا يجوز له أخذه لإنكاره الإجارة وبطلانها باليمين ، وان كان يجب على المستأجر دفعه لاعترافه به ، ولو قبض المسمى سابقا لم يكن للمستأجر المطالبة بالزائد لاعترافه به ، وان كان المالك يعترف أيضا بأنه لا يستحقه ، ويضمن المستأجر العين في هذه الصورة ، لثبوت كون التصرف غصبا ، بخلاف الأولى التي يدعي المالك فيها

٦٣٤

الإجارة ، فإن العين باعترافه أمانة في يد المستأجر ، نعم لو أنكر الإجارة واعترف بالإذن في التصرف ، فلا ضمان أيضا للخروج عن الغصب بالاذن ، والله سبحانه العالم.

ومنها التنازع في قدر العين المستأجرة بان ادعى المستأجر انك آجرتني الدار بأجمعها بمأة درهم ، فقال المالك بل أجرتك بيتا خاصا منها بمأة درهم ، والمشهور أن القول قول المنكر لأصالة عدم وقوع الإجارة على الزائد عما يعترف به المالك ، وقيل بالتحالف هنا ، لأن كلا منها مدع ومنكر فالمستأجر يدعى استيجار الدار كملا ، والمالك ينكر ذلك ، والمالك يدعي إجارة البيت خاصة ، والمستأجر ينكر ذلك.

وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل الى هذا القول ، قال رحمة الله عليه : وأما المستأجر فالظاهر فيه التحالف ، لأنه بإنكار أحدهما وحلفه لم ينقطع الدعوى والنزاع ، إذ قد ينقلب الحالف ويدعى الاستيجار في العين الأخرى ، فلا بد من سماع دعواه ، ورده على وجه شرعي وليس الا بأن يكون القول قول منكره مع اليمين ، وكذا هو الظاهر في دعوى قطعه قباء وقميصا ، ولعل المصنف لم يذكر التحالف بناء على عدم دعوى الآخر ، وأما مع دعواه فالظاهر التحالف فتأمل ، انتهى.

وحاصله ان ما ذكروه هنا من أن القول قول منكر الزيادة بيمينه لا يحسم مادة النزاع ، لأنه متى حلف المالك الذي هو منكر لاجارة الدار كملا انتفت الإجارة المدعاة ، لكن لو رجع على المستأجر وادعى عليه اجارة البيت بتلك الأجرة التي اتفقا عليها ، والمستأجر ينكر ذلك ، لأنه إنما يدعي الدار كملا لا بيتا منها خاصة ، فلا بد من المخرج من هذه الدعوى ، وليس الا بحلف المستأجر لإنكاره تلك الدعوى ، فيكون القول قوله بيمينه ، وهو كلام وجيه.

وفي المسالك بعد أن نقل هذا القول إجمالا قال ، والأقوى ما اختاره المصنف لاتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت ، وعلى استحقاق الأجرة المعينة ، وان كان

٦٣٥

توزيعها يختلف بحسب الدعوى ، إنما الاختلاف في الزائد فيقدم قول منكره ، وضابط التحالف أن لا يتفقا على شي‌ء كما لو قال : آجرتك الشي‌ء الفلاني ، فقال : بل الفلاني ، أو آجرتك البيت فقال : بل الحمام ، ومثله ما تقدم في البيع إذا اختلفا في قدر المبيع ، وفي تعينه ، فالقول بالتحالف هنا دون البيع غير جيد ، انتهى.

وفيه ما عرفت آنفا من أن هذا إنما يتم لو لم يرجع المالك ، ويدعي على المستأجر ما ذكره من اجارة ذلك البيت المخصوص وإلا فإنه بعد دعواه هذه لا مخرج منها إلا أن يحلف المستأجر ، فمادة الاشكال ودفع القيل والقال لا يتم الا بالتحالف ، على أن ما ذكره من اتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت ، وعلى استحقاق الأجرة المعينة مما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وان كان الأمر كما ذكره بالنسبة إلى ظاهر الدعويين ، الا أنه متى حلف المالك على نفي اجارة الدار وانتفت الإجارة ، والمستأجر لا يدعى البيت ، بل ينكره فأي ثمرة لهذا الاتفاق ، بل لا وجود له ، وهكذا الكلام في الأجرة ، وما ذكره من الاستناد الى ما تقدم في البيع وأنه كيف يقال بالتحالف هنا دون البيع ، ففيه أن القول بالتحالف ثمة أيضا موجود ، وان كان خلاف ما يختاره كما هنا (قدس‌سره) وقد قدمنا نقله في جملة من صور الاختلاف بين المتبايعين في المطلب الرابع في اختلاف المتبايعين من الفصل الرابع في أحكام العقود (١).

وأما ما ذكره من القاعدة في التحالف فانى لم أقف عليها إلا في كلامه في هذا الموضع ، وفي كتاب البيع ، ولا يحضرني الآن شي‌ء من الأخبار الواردة بالتحالف ، ولعل هؤلاء القائلين بالتحالف لا يثبتون هذه القاعدة ، على أنه بناء على ما ذكرناه من وجه التحالف في الصورة المذكورة ، فإنها ترجع الى هذه القاعدة أيضا لأنهما لم يتفقا على شي‌ء ، وان أوهم تصوير المسئلة ذلك في بادى الرأي ، لأنه متى كان المالك يدعي إجارة البيت خاصة ، والمستأجر ينكره ، والمستأجر يدعي إجارة

__________________

(١) ج ١٩ ص ١٩٠.

٦٣٦

الدار كملا ، والمالك ينكره ، فهو من قبيل الأمثلة التي ذكرها ، ولا مخرج من هاتين الدعويين الا بالتحالف ، كما لا يخفى ، والله سبحانه العالم.

ومنها ما لو اختلفا في رد العين المستأجرة فإنه لا إشكال في أن القول هنا قول المالك بيمينه ، لأنه منكر ، والأصل عدم الرد ، والمستأجر قبض لمصلحة نفسه ، فلا يقبل قوله في الرد مع مخالفة الأصل ، وبهذا فرقوا بينه وبين الودعي حيث أن المشهور في الودعي أن القول قوله في الرد ، وعللوه بأنه قبضه لمصلحة المالك فهو محسن محض ، «و ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » والتحقيق في الفرق بين الودعي والأجير إنما هو ما قدمناه في كتاب العارية من أن قبول قول الودعي إنما هو من حيث كونه أمينا ، وقد دلت الأخبار التي قدمناها في كتاب الوديعة على أن الأمين ودعيا كان أو غيره من الأمناء يقبل قوله فيما يدعيه بغير اليمين ، وان كان المشهور بينهم ضم اليمين.

وأما الأجير فإنهم وان ادعوا أنه أمين فهو غير مسلم ، كما تقدمت الإشارة إليه في المسئلة الرابعة والعشرين ، لأنه عامل بأجرة ، فهو من قبيل المعاوضات ، وبالجملة فإنه غير داخل في إطلاق تلك الأخبار ، وحينئذ فيرجع في حكمه الى القاعدة المتفق عليها ، وهي أن البينة على المدعي ، واليمين على المنكر ، بخلاف الودعي وغيره ممن يكون أمينا ، فإنه يعمل فيه بمقتضى تلك الأخبار ، وبها تخصص أخبار تلك القاعدة المتفق عليها ، الا أنهم لعدم وقوفهم على الأخبار التي قدمناها في الوديعة ، إنما عللوا قبول قول الودعي بما ذكروه هنا ، من أنه محسن ، «وليس على المحسنين من سبيل» بخلاف من قبض لنفع نفسه ، وهو تعليل عقلي اصطلحوا عليه ، ولا دليل عليه في الأخبار.

ومنها ما لو اختلفا في قدر الأجرة فقال الشيخ في المزارعة من الخلاف : الذي يليق مذهبنا أن تستعمل فيه القرعة فمن أخرج اسمه حلف ، وحكم له به ، لإجماع الفرقة على «أن كل مشتبه يرد إلى القرعة» وقال في المبسوط : إذا

٦٣٧

اختلفا في قدر المنفعة بأن يقول : أكريتها شهرا ، أو يقول : إلى الكوفة ، فيقول : بل الى شهرين أو الى بغداد ، وفي الأجرة قال قوم : يتحالفان ، وقال قوم : ان كان قبل مضي المدة تحالفا ، وان كان بعدها في يد المكترى لم يتحالفا وكان القول قول المكترى ، كما في البيع القول قول المشتري إذا كانت السلعة تالفة ، وهذا هو الذي يقتضيه مذهبنا ، وان قلنا يرجعان إلى القرعة ، فمن خرج اسمه حلف وحكم له به كان قويا ، وقال ابن الجنيد : إذا اتفقا في المدة والمكان واختلفا في الأجرة فكل منهما يدعي ما يجوز بمثله في الإجارة في العرف ، كان الأجير مدعيا فضل أجرة في مال المستأجر ، وعليه البينة ، وكذلك ان اختلفا في الجنس ، فيقول الأجير قفيز حنطة ، ويقول المستأجر خمسة دراهم ، هذا إذا انقضت المدة أو ركبت الدابة ، وان كان قبل العمل أو الركوب ، ولم تقم بينة ولم يسأل أحدهما يمين الآخر تحالفا وانفسخت الإجارة.

وقال ابن البراج : ان لم تكن بينة تحالفا ، فان نكل أحدهما عن اليمين كان القول قول الآخر مع يمينه ، فان حلفا جميعا أو نكلا معا عن اليمين انفسخ العقد في المستقبل ، وكان القول قول مالك الدار مع يمينه في الماضي ، فان لم يحلف كان له أجرة مثلها عما سكنه المستأجر.

وقال ابن إدريس : القول قول المستأجر وعلى المالك البينة ، وقال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال ، ثم قول ابن إدريس أخيرا : وهو الوجه ، لنا أنه منكر ، ولو أقام كل منهما بينة قدمت بينة المدعي ، لأن القول قول المنكر وللتحالف وجه ، لأن كل واحد منهما مدع باعتبار ، وكذا القرعة ، وقد تقدما في البيع.

أقول : والمشهور بين المتأخرين هو ما ذكره ابن إدريس ، وهو الأنسب بمقتضى قواعدهم ، لأنهما قد اتفقا على العقد ، وعلى انتقال العين المستأجرة والمدة ، وثبوت الأجرة التي يدعيها المستأجر ، وانما الخلاف فيما زاد عنها ، فأحدهما

٦٣٨

يدعيه ، والآخر ينكره ، والأصل عدمه ، فالقول قول المنكر بيمينه ، إلا أن المسئلة لما كانت خالية من النص فللاشكال فيها مجال.

وبالجملة فإن المسئلة هنا جارية عندهم على ما تقدم في البيع من الاختلاف في قدر الثمن ، وقد تقدم نقل الأقوال فيها كما هنا ، إلا أن ثمة نص ، لكنه مخالف لمقتضى قواعدهم ، فأخذ به بعض ، وأطرحه آخر ، وقد تقدم تحقيق الكلام فيه ثمة.

وأنت خبير بأن قول جملة هؤلاء الفضلاء بالتحالف في المسئلة فتوى أو احتمالا مما يوهن الضابطة التي ادعاه الشهيد الثاني في التحالف ، وأنها ليست ضابطة كلية ، للاتفاق على وقوع العقد والمدة والعين المستأجرة مع أن هؤلاء قالوا : بالتحالف فيها ، والضابطة المذكورة تضمنت أن لا يتفقا على شي‌ء ، فلو كان الأمر كذلك لما خرج عنها جملة هؤلاء الفضلاء من العلامة ومن قبله ، فان العلامة هنا وان رجح ما ذهب اليه ابن إدريس إلا أن ظاهره احتمال التحالف ، والقرعة كما هو أحد الأقوال المذكورة.

ومنها ما لو اختلفا في التلف فظاهر جملة من المتأخرين وهو قول الخلاف وجملة من أتباعه : أنه لا ضمان على المستأجر ، بل القول قوله بيمينه ، لأنه أمين وقيل : بالضمان ، وأن القول قول المالك ، إلا أن يقيم المستأجر على ما ادعاه البينة ، أو يكون المدعى مشهورا ظاهرا : وقد تقدم الكلام في هذه المسئلة ، ونقل الأقوال والأخبار المتعلقة بها كملا ، والكلام فيها بما رزق الله سبحانه فهمه منها في المسئلة الرابعة والعشرين.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة لاختيار القول الثاني ما صورته : وقيل : القول قولهم مع اليمين ، لأنهم أمناء وهو أشهر الروايتين ، وكذا لو ادعى المالك التفريط فأنكروا القول بضمانهم

٦٣٩

مع عدم البينة هو المشهور ، بل ادعى عليه الإجماع ، والروايات مختلفة ، والأقوى أن القول قولهم مطلقا ، لأنهم أمناء ، وللأخبار الدالة عليه ، ويمكن الجمع بينها وبين ما دل على الضمان بحمل تلك على ما لو فرطوا أو أخروا المتاع عن الوقت المشترط ، كما دل عليه بعضها ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه بعد الإحاطة بما قدمنا تحقيقه في المسئلة المذكورة ، وذلك فان روايات المسئلة بعد حمل مجملها على مفصلها ومطلقها على مقيدها ، لا تخرج عن ثلاثة أقسام ، فقسم منها تضمن أن كل ما جنته يد الصانع والعامل سواء كان عن تفريط أم لا فهو ضامن ، وأن ذلك قاعدة كلية في كل من أعطى الأجر ليصلح ، فأفسد.

وقسم منها تضمن أن مع دعوى التلف فإنه يضمن ، إلا أن يقيم البينة أو يكون التلف ظاهرا مشهورا كالغرق والحرق والغارة ، ونحو ذلك.

وقسم منها تضمن أنه مع دعوى التلف فان كان ثقة مأمونا غير متهم ، فلا ضمان عليه ، وإلا فهو ضامن ، وكل من الأقسام الثلاثة اشتمل على روايات عديدة ، وليس فيها ما يدل على ما ادعاه وغيره ممن قال بهذا القول ، سوى رواية واحدة وهي صحيحة معاوية بن عمار (١) ، وقضية الجمع بين الأخبار تقييدها بما دلت عليه اخبار المسئلة ، كما ذكره الشيخ ، وبذلك يظهر لك ما في قوله أن القول قولهم بيمينهم وهو أشهر الروايتين ، فإنه ليس في أخبار المسئلة على كثرتها وتعددها سوى رواية معاوية بن عمار المذكورة ، فمن اين هذه الشهرة ، فإن أراد الروايات الواردة في غير هذه المسئلة كالواردة في الوديعة ونحوها مما يدل على ان الأمين لا يضمن ، وأن القول قوله ، فهو مسلم ولكن روايات هذه المسئلة خاصة ، وكلها على كثرتها متفقة على الضمان الا مع البينة ، أو ظهور الأمر ، أو كونه ثقة مأمونا ، وتلك الروايات مطلقة ، ومقتضى القاعدة تقديم العمل بهذه الروايات وتخصيص تلك

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٤ ح ١٤.

٦٤٠