الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

العشرون : قالوا إذا استأجره على حفر بئر فلا بد من تعيين الأرض وقدر نزول البئر وسعتها وهل المراد بالتعيين المشاهدة أو ما هو أعم ، فيشمل الوصف الرافع للجهالة ، احتمالان : وقد ذكروا في استيجار الأرض للحرث نحو ذلك ، وبعضهم ذكر هنا المشاهدة بخصوصها مع ذكره التعيين بقول مطلق في الأرض ، وبعضهم عكس.

وكيف كان فإنه لا يخفى أن المشاهدة إنما تأتي على ظاهر الأرض دون الباطن وارتفاع الجهالة باعتبار معرفة صلابة ظاهر الأرض ورخاوتها لا يغني عما يتجدد بعد الحفر من الزيادة على ذلك ، والنقيصة مما لا يمكن معرفته ، الا بالعمل.

وبه يظهر أن الوصف أضبط من المشاهدة إذا أمكن اطلاع المستأجر على الباطن بكثرة الممارسة ، قالوا : ولو انهارت أو بعضها لم يلزم الأجير إزالة ذلك ، بل ذلك على المالك ، لأن الأجير قد أتى بما استوجر عليه ، وامتثل ما تضمنه العقد ، ولا يكلف بما زاد عليه ولو حفر بعض البئر ثم تعذر حفر الباقي لصلابة الأرض أو مرض الأجير أو نحو ذلك ، فالمشهور أن له من الأجرة المسماة في العقد بنسبة ما عمل الى المجموع ، فيستحق من الأجرة المسماة بتلك النسبة ، وطريق معرفة ذلك أن يقوم جميع العمل المستأجر عليه ، ويقوم ما عمله منفردا ، وينسب الى المجموع فينسب أجرة مثل ما عمل إلى أجرة مثل المجموع ، ويستحق الأجير من المسمى بتلك النسبة.

الا أنه روى في الكافي والتهذيب عن أبى شعيب المحاملي عن الرفاعي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ثم عجز ، قال : يقسم عشرة على خمسة وخمسين جزء فما أصاب واحدا فهو للقامة الأولى ، والاثنين للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٣٣ ح ٢٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٨٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٤ ح ٢.

٦٠١

الحساب إلى العشرة ، ورواه في الكافي بطريق آخر عن أبي شعيب عن الرفاعي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قبل رجلا يحفر بئرا عشر قامات بعشرة دراهم فحفر قامة ، ثم عجز فقال : جزء من خمسة وخمسين جزء من العشرة دراهم».

والظاهر أن مبنى هذه الرواية على تزايد الصعوبة في الأرض ، فكل قامة نزلت أصعب عما فوقها فلهذا جعل عليه‌السلام لكل واحدة زيادة على ما فوقها بجزء ، فأمر بقسمة العشرة دراهم على خمسة وخمسين جزء ، فللقامة الأولى جزء ، وللثانية جزان ، وللثالثة ثلاثة ، وللرابعة أربعة ، وللخامسة خمسة ، وللسادسة ستة ، وللسابعة سبعة ، وللثامنة ثمانية ، وللتاسعة تسعة ، وللعاشرة عشرة ، وإذا ضممت هذه الأجزاء الموزع عليها بعضها إلى بعض وجدتها خمسة وخمسين ، بلا زيادة ولا نقصان.

والظاهر أن الأصحاب إنما أعرضوا عن هذه الرواية من حيث ابتنائها على هذا الأمر الخاص مع أنها حكم في واقعة معينة ، فلا يتعدى ، ولهذا أن الشيخ في النهاية اقتصر على نقل الرواية ولم يذكرها بطريق الفتوى ، كما هي قاعدته في الكتاب المذكور ، فلا يتعين كون ذلك قولا في المسئلة كما يفهم من عبارة الشرائع ، حيث قال : وفي المسئلة قول آخر مستند إلى رواية مهجورة.

وفي المبسوط قد وافق الأصحاب فيما أفتوا به هنا ، فقال : فان لم يمكن حفره ، انفسخ العقد فيما بقي ولا ينفسخ فيما حفر على الصحيح من الأقوال ، ويقسط المسمى على أجرة المثل ، لأن الحفر يختلف ، فحفر ما أقرب من الأرض أسهل ، لأنه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد أصعب ، فإن كان أجرة المثل على ما بقي عشرة وفيما حفر خمسة أخذ ثلث المسمى ، وقد روى أصحابنا في مثل هذا مقدار ما ذكرناه في النهاية.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٢٢ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٤ ح ١.

٦٠٢

وقال ابن إدريس : الأولى ما ذكره الشيخ في المبسوط وهو المعتمد ، وتحمل الرواية على ما إذا كانت الإجارة في ذلك الوقت فتقسط كذلك ، والله سبحانه العالم.

الحادية والعشرون : في الاستيجار للإرضاع والكلام فيها يقع في مواضع : الأول : الظاهر أنه لا خلاف في جواز استيجار المرأة للرضاع مدة معينة بإذن الزوج ، وإنما الخلاف فيما لو كان بغير اذنه ، فقيل : بالجواز ، والظاهر أنه هو المشهور وذهب في المبسوط والخلاف الى العدم ، قال : لأنه لا دليل على صحتها ولأن المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح ، فلا يجوز لها ان تعقد لغيره فيخل ذلك بحقوق زوجها ، وتبعه ابن إدريس وجماعة.

والظاهر أن القول الأول أقوى ، لأنها عاقلة مالكة لمنافعها من رضاع وغيره ، وعموم أدلة الوفاء بالعقود كتابا وسنة شامل لها ، نعم متى نافى ذلك شيئا من حقوق الزوج المواجبة عليها امتنع ذلك بلا إشكال ، للمنافاة وسبق حقه ، وبه يظهر ما في تعليله الثاني من قوله لأن المرأة معقود على منافعها ، فإنه على إطلاقه ممنوع ، إذ الزوج لا يملك سوى منافع الاستمتاع ، كذا ما في تعليله الأول من عدم الدليل ، فان الدليل كما سمعت ظاهر في المدعى ، وتخصيصه يحتاج الى دليل ، وغاية ما ثبت من الدليل الدال على التخصيص ما إذا أوجب ذلك الإخلال بحقوق الزوج الواجبة عليها.

ثم انه لو وقعت الإجارة على الوجه المذكور ، ومنع ذلك شيئا من حقوقه ، فهل يحكم ببطلان العقد أن الزوج يتسلط على الفسخ؟ قولان : وبالأول صرح العلامة في القواعد ، والثاني اختياره في المسالك ، وهو الأوفق بقواعد الأصحاب ، ولو سبق الاستيجار للرضاع على النكاح ، فلا اعتراض للزوج ، لاستحقاق منفعة الرضاع ، وملكها قبل عقده بها ، وله الاستمتاع بما فضل عن ذلك ، فلو تضرر الصبي بترك الرضاع باستمتاع الزوج كان للولي منع الزوج لما عرفت من تقدم حقه ، أما مع عدم التضرر فلا.

٦٠٣

وهكذا الكلام فيما لو استأجر السيد أمته للإرضاع ، ثم زوجها قالوا : وكل موضع يمنع فيه الزوج من الاستمتاع لأجل الرضاع ، فإنه تسقط النفقة عنه في تلك المدة ، لعدم التمكين التام.

الثاني : هل يشترط ذكر الموضع الذي يقع فيه الإرضاع؟ قيل : نعم ، وتردد فيه في الشرائع ، وعللوا الاشتراط بأن مواضع الإرضاع تختلف بالسهولة والصعوبة ، والنفع ، فان بيت المرضعة أسهل عليها ، وبيت الولي أوثق له ، وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم صلاحيتها لتأسيس الأحكام الشرعية كما عرفت فيما تقدم ، ووجه التردد من حيث ما ذكروا من أن الأصل عدم الاشتراط ، قال في المسالك : والأقوى الاشتراط ، ولا يخفى ما فيه ، والتمسك بالأصل أقوى مستمسك حتى يقوم دليل على الخروج عنه ، والخروج عنه بهذه التعليلات مجازفة ظاهرة ، سيما مع ما عهد من ارتضاع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإطلاق الأخبار الواردة باستئجار الظئير.

الثالث : قد صرح الأصحاب بأنه لا بد في صحة عقد الإجارة على الإرضاع من مشاهدة الصبي المرتضع ، قيل : ويكفى الوصف أيضا وزاد اخرون اشتراط مشاهدة المرضعة.

والظاهر أن الجميع تقييد للنصوص من غير دليل ، وكأنهم بنوا في ذلك بالنسبة إلى الصبي على اختلاف كثرة ما يشرب وقلته بالنسبة إلى صغره وكبره ، وبالنسبة إلى المرضعة إلى اختلاف النساء في الصفات المأمور بها ، والمنهي عنها في الأخبار من الوضائة ، والحسن ، والرعونة ، والحماقة ، والقبح ، ونحو ذلك ، مما قيل بتأثيره في الولد ، وهو وان كان كذلك ، الا أن إطلاق أخبار الاسترضاع يدفعه.

الرابع : منع في المبسوط من جواز أن يستأجر الرجل زوجته لإرضاع ولده وجوز ذلك بعد البينونة لأنها أخذت عوضا منه في مقابلة الاستمتاع ، وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، وسوغه المرتضى وابن إدريس

٦٠٤

قال في المختلف : وهو المعتمد ، لنا الأصل الجواز ، وقوله تعالى (١) «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» الاية وهو عام والعوض المأخوذ ليس في مقابلة التمكين ، بل في مقابلة الإرضاع ، وسواء منع شيئا من حقوقه أم لا ، لأنه رضي بذلك ، وقد تقدم جوازه مع الرضا ، انتهى.

أقول : ويؤيده أن الرضاع غير واجب على الأم ، كما صرحوا به ودل عليه النصوص أيضا ، والزوج لا يملك منها ، سوى منافع الاستمتاع ، فتكون فيما سوى ذلك كالأجنبية فارضاعها له مع عدم التبرع به موجب للأجرة ، كالأجنبية ، ويدل عليه قوله عزوجل (٢) « فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وما رواه في الكافي والفقيه (٣) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام «عن الرضاع؟ قال : لا تجبر الحرة على رضاع الولد وتجبر أم الولد». وتحقيق الكلام في ذلك يأتي في محله اللائق به إنشاء الله تعالى.

الخامس : قال في المبسوط : لو استأجر ظئرا للإرضاع لم يلزمها غيره ، وان شرط في العقد الحضانة مع الرضاع لزمها الأمران ، فترضع المولود وتراعى أحواله في تربيته وخدمته ، وغسل ثيابه وخرقه وغيرها من أحواله.

وقال ابن الجنيد ، وإذا شورطت على الرضاع فقط لم يكن عليها غير ذلك إلا أن يكون قد اشترط دفع الصبي إليها أي إلى منزلها ، فيكون عليها تخريجه وغسل ثيابه وما لا بد للصبي منه ، إلا أن تشترط هي لذلك أجرة على وليه.

قال في المختلف بعد نقل ذلك : وتفصيل ابن الجنيد جيد ، إذ الظاهر والعرف يقضى أن الصبي إذا كان في منزلها اضطر إلى الحضانة ، وكانت لازمة لها انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٣٣.

(٢) سورة الطلاق ـ الاية ٦.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٨ ح ٢٤ ، التهذيب ج ٦ ص ٤٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٧٥ ح ١.

٦٠٥

السادس : لا إشكال في بطلان الإجارة بموت الصبي المرتضع لفوات ما تعلق العقد باستيفاء المنفعة له ، وأما موت المرضعة فيبني على الاستيجار لها من التعيين والإطلاق فإن كان الاستيجار بعينها وخصوصها فلا إشكال في البطلان ، وعليه يحمل إطلاق من أطلق البطلان بموتها ، والحكم في موتها والحال كذلك كالدابة المستأجرة للركوب ، وان كان الاستيجار في الذمة بمعنى أن عليها تحصيل هذا العمل بنفسها أو غيرها ، فالظاهر بقاء الإجارة كما في نظائر هذا القسم من الإجارات المتعلقة بالذمة ، وحينئذ فيؤخذ ما يقوم به من تركتها لأنها صارت مشغولة الذمة بذلك ، كسائر الديون المتعلقة بالذمة ، فإنها بعد فوات الذمة ينتقل الى المال ، ويتعلق به كما صرحوا به فيؤخذ أجرة المثل لما بقي من المدة من أصل مالها ، ويدفع الى ولي الطفل.

واحتمل بعض الأصحاب وجوب استيجار وليها على الإرضاع من مالها ، قال : لأن الواجب في ذمتها هو الإرضاع ولم يتعذر ، وإلا لانفسخت الإجارة ، وأما موت الأب فيبني على الخلاف المتقدم في بطلان الإجارة بموت المستأجر وعدمه ، وقد تقدم أن الأظهر العدم.

والعجب من ابن إدريس حيث أنه ممن اختار القول بعدم بطلان الإجارة بموت المستأجر ، وحكم هنا ببطلان الإجارة بموت أب المرتضع محتجا بالإجماع على أن موت المستأجر يبطلها ، والمسئلة في الموضعين واحدة ، وانما هذه من جزئيات تلك المسئلة فما ذكره تحكم محض ، وتناقض صرف ، نعم ذكر بعض محققي الأصحاب أنه لو كان الولد معسرا واستأجر الأب عليه بمال في ذمته أو في ذمة الأب ولم يخلف الأب تركة ، توجه جواز فسخها ، لا أنها تبطل بذلك وهو جيد.

السابع : قال الشيخ : إذا استأجر الظئر للإرضاع بالنفقة والكسوة صح مع علم المقدار بالنفقة والكسوة ، وكذا قال ابن إدريس ، وقال في المختلف بعد

٦٠٦

نقل ذلك : وهو جيد ، لأن الجهالة في أحد العوضين مبطلة ، وكذا لو استأجر أجيرا بطعامه ، ثم نقل عن ابن الجنيد أنه قال لا بأس باستئجار الإنسان بطعامه وكسوته ، كالظئر والغلام وان لم يسم قدر اللبن من الظئر ، ولا قدر الطعام للأجير ، ثم قال العلامة : أما قدر اللبن فجيد ، لأن ذلك مجهول لا يمكن ضبطه وأما طعام الأجير فممنوع ، انتهى.

أقول : ويمكن الاستدلال لابن الجنيد برواية سليمان بن سالم (١) المتقدمة في المسئلة الثامنة عشرة لدلالتها على جواز الاستيجار بالنفقة من غير تعيين كما تضمنه السؤال الأول والثاني منها ، ويكون حكم النفقة مستثنى من قاعدتهم المذكورة ان ثبتت ، سيما مع ما عرفت مما قدمناه في غير موضع من انخرام هذه القواعد المشهورة بينهم بالأخبار ، وان كانوا تارة يردون الأخبار في مقابلتها ، وتارة يرتكبون تخصيصها بها ، والله سبحانه العالم.

الثامن : قد عرفت من تعريف الإجارة كما قدمنا ذكره في صدر الكتاب ـ أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم ، أو تمليك المنفعة بعوض ، ـ أن الإجارة واستحقاق الأجرة إنما تقع على المنافع ، لا الأعيان ، وحينئذ فيكون إجارة المرأة للإرضاع خارجة عن قاعدة الإجارة ومستثناة بالنص ، آية ورواية ، لقوله عزوجل (٢) «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» والنصوص الواردة بذلك ، وهي كثيرة تأتي إنشاء الله تعالى في محلها اللائق بها من كتاب النكاح ، فان متعلق الإجارة والذي استحقت المرأة به الأجرة هنا هو اللبن ، وهو عين تالفة بالإرضاع ، فيكون المعاوضة عليه خارجة عن قانون الإجارة ، قالوا : ومثل ذلك الاستيجار للصبغ ، واستيجار البئر للاستسقاء منها ، فان المستوفي في الجميع إنما هو من الأعيان ، وبعضهم تكلف للتفصي عن ذلك بالنسبة إلى الإرضاع أن المنفعة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٠ ح ١.

(٢) سورة الطلاق ـ الاية ٦.

٦٠٧

التي تعلقت بها الإجارة هي حملها للولد ووضعه في حجرها ووضع الثدي في فمه ونحو ذلك ، لا نفس اللبن.

ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف السخيف ، فإنه لا يخفى أن الغرض الذاتي والمطلب الأصلي من الاستيجار إنما هو اللبن ، وهذه الأشياء إنما هي تابعة ، أو مقدمات لذلك ، فالأظهر أن يقال : ان هذه المواضع المذكورة مستثناة بالنصوص من قانون الإجارة ، وكم مثل ذلك في الأحكام ، هذا ان ثبت كون ما ادعوه قانونا كليا وقاعدة مطردة ، مع أنا لم نقف له على دليل أزيد من ورود النصوص في أفراد الإجارات بذلك ، وهو لا يستلزم الحصر فيما ورد ، الا مع عدم وجود نص بخلافه ، فإنه يمكن ادعاء ذلك قاعدة كلية ، على نحو القواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب ، وهذه القاعدة ان ثبتت هنا ، فهي من هذا القبيل ، وإلا فإني لم أقف على خبر يدل على أن القاعدة في الإجارة ما ادعوه ، والله سبحانه العالم.

الثانية والعشرون :اختلف الأصحاب في جواز اجارة الدراهم والدنانير ، فقال في المختلف والقواعد والمبسوط : بالجواز ، قال للانتفاع بها مع بقاء عينها ، مثل أن ينثرها ويسترجعها أو يضعها بين يديه فيتجمل بها وغير ذلك ، وقال ابن إدريس : يصح لأنه لا مانع منه ، ثم قال : والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه أنه لا يجوز ، إجارتها ، لأنه في العرف المعهود لا منفعة لها إلا بإذهاب أعيانها ، ولأنه لا يصح وقفها ، فلو صح إجارتها صح وقفها ، نعم تصح اجارة المصاغ منهما ، وقال في موضع آخر : لا خلاف في أنه لا يجوز وقفها ، لأن الوقف لا يصح الا في الأعيان التي يصح الانتفاع بها مع بقاء عينها ، فإذا جاز إجارتها جاز وقفها ، وهو لا يجوز ، ولأن من غصب مائة دينار وبقيت في يده سنة لم يلزمه الحاكم بأجرة ، واعترضه في المختلف بالمنع عن الملازمة بين الوقف والإجارة ، فإن الوقف يصح إجارته ، ولا يصح وقفه ، نعم كلما يصح إعارته يصح إجارته ، والمنع من عدم إلزام الغاصب بالأجرة ، ثم قال والتحقيق أن نقول ان كان لها منفعة مقصودة

٦٠٨

حكمية صحت إجارتها ، وإلا فلا ، انتهى.

وفيه أن ظاهر منعه من عدم إلزام الغاصب بالأجرة هو أن لها منفعة فيجب عليه الأجرة في مقابلة المنفعة التي فوتها على المالك ، مع أن ظاهر كلامه التوقف ، حيث رتب الجواز على وجود المنفعة وعدمه ، ولم يحكم بشي‌ء من الأمرين وقد صرح بالاستشكال في بعض كتبه ، وجزم بالجواز في بعض ، وظاهر الشرائع أيضا التردد في ذلك ، حيث عبر بما عبر به في المختلف ، وشيخنا في المسالك حيث اختار جواز إجارتها ، وعدلها منافع تترتب على ذلك ، كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى وحمل تردده على الشك في الاعتداد بتلك المنافع وعدمه ، قال (رحمة الله عليه) : لما كان شرط العين المؤجرة إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها ، وكان الغرض الذاتي من هذين النقدين لا يتم إلا بذهابهما وربما فرض لهما منافع مع بقاء عينهما ، بان يتزين بهما ، ويتجمل ويدفع عن نفسه ظاهر الفقر والفاقة ، فإن دفع ذلك غرض مطلوب شرعا ، حتى كان الأئمة عليهم‌السلام يقترضون أموالا ويظهرونها للناس ، أو يدفعونها إلى عمال الصدقة مظهرين أنها زكاة أموالهم ، ليظهر بذلك غناهم ، ومن جملة الأغراض المقصودة بها أيضا نثرها في الأعراس ثم تجمع ، والضرب على سكتها ونحو ذلك فكان القول بجواز إجارتها قويا ، وربما أشعر كلام المصنف بالتردد في ان هذه المنافع ، هل يعتد بها وتقوم بالمال على وجه تجوز الإجارة أم لا ، لتعليقه الجواز على شرط تحقق المنفعة مع أنها مشهورة ، وما ذاك إلا للشك في الاكتفاء فيه بها ، انتهى.

أقول : ويدل على ما ذكره من إظهار التجمل بذلك ، والقرض لذلك وفعلهم عليهم‌السلام ذلك جملة من الإجبار ، ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الا على مولا آل سام (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان الناس يروون أن لك مالا كثيرا ، فقال : ما يسؤنى ، ذلك ، ان أمير المؤمنين عليه‌السلام مر ذات يوم على ناس شتى من

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٣٩ ح ٨ ، الوسائل ج ٣ ص ٣٤٣ ح ٣.

٦٠٩

قريش ، وعليه قميص مخرق ، فقالوا : أصبح علي عليه‌السلام لا مال له فسمعها أمير المؤمنين عليه‌السلام فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره ، ولا يبعث الى انسان شيئا وأن يؤفره ثم قال له : بعه الأول فالأول واجعلها دراهم ، ثم اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث لا يرى ، وقال للذي يقوم عليه : إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها ثم بعث الى رجل منهم يدعوهم ثم دعى بالتمر فلما صعد ينزل بالتمر ضرب برجله فانتثرت الدراهم ، فقالوا : ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال : هذا مال من لا مال له ، ثم أمر بذلك المال فقال : انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم فانظروا ماله ، وابعثوا اليه ،». فروى في حديث آخر (١) مثله وفيه أن القائل كان طلحة والزبير ، وروى في الكتاب المذكور أيضا عن أبي بصير (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أناسا بالمدينة قالوا : ليس للحسن عليه‌السلام مال ، فبعث الحسن عليه‌السلام الى رجل بالمدينة فاستقرض منه ألف درهم فأرسل بها الى المصدق ، فقال : هذه صدقة مالنا : فقالوا : ما بعث الحسن بهذه من تلقاء نفسه إلا وله مال.

وروى فيه عن عبد الأعلى (٣) مولى آل سام قال : «ان علي بن الحسين عليه‌السلام اشتدت حاله حتى تحدث بذلك أهل المدينة ، فبلغه ذلك فتعين ألف درهم ثم بعث بها الى صاحب المدينة ، وقال ، هذه صدقة مالي».

وبذلك يظهر قوة ما قواه ، لانه متى كان إظهار الغنى بين الناس مستحبا كما دلت عليه هذه الأخبار حتى أنهم عليهم‌السلام كانوا يقترضون لذلك فاستيجار الدراهم والدنانير لذلك مستحب ، والمنفعة ظاهرة ، بل مندوب إليها ، والظاهر أن تردد من تردد ممن قدمنا ذكره ، إنما هو لعدم حضور ما ذكر ببالهم ، لا لعلمهم بذلك ، وإنما حصل لهم الشك في أنه هل يعتد بهذه المنافع أم لا؟

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ٤٤٠ ح ١١ ، الوسائل ج ٣ ص ٣٤٣ ح ٢ وص ٣٤٢ ح ١.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٤٤٠ ح ١٣ ، الوسائل ج ٣ ص ٣٤٣ ح ٤.

٦١٠

ثم انه على تقدير القول بجواز إجارتها ، فهل يشترط تعيين جهة الانتفاع بها أم لا؟ قولان : وبالأول قال في الخلاف والمبسوط ، وبالثاني قال : ابن إدريس ، وهو ظاهر جملة ممن تأخر عنه.

قال في الخلاف والمبسوط : إذا استأجر دراهم أو دنانير وعين وجه الانتفاع بها كان على ما شرط ، وصحت الإجارة ، وان لم يعين بطلت الإجارة ، وكانت قرضا لأن العادة في دنانير الغير ودراهمه أن لا ينتفع بها إلا على وجه القرض ، وإذا أطلق الانتفاع رجع الإطلاق على ما يقتضيه العرف.

وقال ابن إدريس : لو قلنا أنه تصح الإجارة سواء عين جهة الانتفاع أو لم يعين كان قويا ، ولا يكون قرضا لأنه استأجرها منه ، ومن المعلوم أن العين المستأجرة لا يجوز التصرف بإذهاب عينها ، بل في منافعها فيحمل الإطلاق على المعهود الشرعي ، ثم قال ، والذي يقوى في نفسي بعد هذا كله بطلان إجارتها.

وأجاب في المختلف عن كلام ابن إدريس انتصارا للشيخ بأن الشيخ عول على العرف وقد ثبت في العرف الشرعي انصراف الإجارة إلى الأعيان فيما الغالب فيه تناولها دون المنافع ، كاستيجار المرضعة ، والشاة للحلب ، وأجرة الحمام ، وكذا هنا ، لما كانت المنفعة المقصودة الانتفاع بأعيانها كانت الإجارة قاضية ، بجواز إتلافها وحينئذ تصير قرضا بالإتلاف ، وبعد هذا فالوجه على تقدير صحة الإجارة ، عدم جواز الإتلاف كغيرها من الأعيان.

أقول : لا يخفى ما في جواب العلامة من تطرق النظر اليه ، وأن الحق انما هو ما ذكره ابن إدريس ، وذلك لأن الإجارة نصا وفتوى انما تنصرف الى المنافع ، والدراهم والدنانير لها منافع كما عرفت ، فلا يحتاج الى تعيينها كغيرها من سائر الأعيان المستأجرة ، وإطلاق الإجارة انما ينصرف الى المنافع التي هي المعهود الشرعي ، كما ذكره ابن إدريس ، وأما صحة الإجارة في استيجار المرضعة ونحوها فإنما جرى على خلاف قاعدة الإجارة ، بنص خاص ، فصار مستثنى من حيث

٦١١

النص ، لا أن ذلك عرف شرعي ، وما نحن فيه لا نص فيه ، فلا وجه لجعله في عدادها ، وجعله من جملة أفرادها ، ودعواه كون ذلك عرفا شرعيا ليس في محله ، إذ المتبادر وهو اطراده في جميع الأفراد ، وشيوعه في جميع المواد ، وما نحن فيه مما حكمت بصحة الإجارة مع استيفاء الأعيان منها ، ليس كذلك بلى هو مقصور على ما ورد النص به من فردين أو ثلاثة ، ولهذا قدمنا في المنحة حيث لا نص عليها من طريقنا وانما هو من طريق العامة أن عدها فيما ذكروه ليس في محله.

وبالجملة فإنه لما كان مقتضى الإجارة نصا وفتوى انما هو التسلط على المنفعة خاصة ، فجواز التسلط على العين يحتاج الى دليل آخر ، نعم قام الدليل عليه في تلك المواضع المذكورة ، فصارت مستثناة بذلك ، وما لم يقم عليه دليل فلا يجوز الخروج به عن قاعدة الإجارة ، وهذا هو الذي اختاره في آخر كلامه ، وبذلك يظهر أن جوابه عن كلام ابن إدريس انما هو مجرد تعصب عليه ، كما هي عادته غالبا في الكتاب المذكور ، والله سبحانه العالم.

الثالثة والعشرون : لو وجد المستأجر بالعين المستأجر عيبا يوجب الرد ، وكان جاهلا به وقت العقد تخير بين الفسخ والرضا بالأجرة المسماة من غير أرش على المشهور ، ووجه التخيير أن العيب المذكور في العين موجب للنقص في المنفعة ، فيجوز له الفسخ دفعا للضرر عن نفسه ، وللتدليس عليه ، ولأن مقتضى العقد صحة العوضين ، فلا يلزم بدونها ، فمن ثم جاز له الفسخ ، وحينئذ وله الالتزام بالعيب لأنه تصرف في ماله باختياره.

وفي المسالك أن له الفسخ وان استوفى بعض المنفعة ، قال ولا يرد أنه مع استيفاء البعض يكون قد تصرف ، وهو يسقط خيار العيب ، لأن المراد بالتصرف حقيقة في العوض الذي صار للمتصرف وهو هنا المنفعة ، وما لم يستوفه منها لم يتصرف فيه وانما حصل التصرف في المستوفي ، ولأن الصبر على العيب ضرر منفي ، انتهى.

والظاهر أنه غير خال من شوب الإشكال ، فإن الظاهر من كلامهم في كتاب

٦١٢

البيع أن التصرف انما هو عبارة عن وضع اليد على المبيع ، أو الثمن باستيفاء بعض منافعه ، أو استعلامها كركوب الدابة ، ولمس الجارية وتقبيلها وحلب الشاة ولبس الثوب ونحو ذلك ، فاستيفاء بعض من منفعة المستأجر تصرف في أصل المنفعة قياسا على ما ذكرناه ، لا أنه يختص التصرف بما استوفاه كما ذكره ، وان كان هو الفرد الحقيقي ، إلا أن مقتضى ما ذكرناه مما عدوه تصرفا أعم منه كما لا يخفى.

وأما ما ذكره من أن الصبر على العيب ضرر منفي ، ففيه أن ما ذكروه من الحكم المذكور غير منصوص ، ويمكن أن يقال : بان له الأرش حينئذ كما في خيار العيب متى تصرف في المبيع ، على أن هذا الإيراد يختص بالقول المشهور وأما على القول الآخر الآتي من الأرش مع الرضا فلا ورود له كما لا يخفى.

ثم ان ظاهر كلام الأكثر هو ما ذكرناه آنفا من التخيير بعد ظهور العيب بين الفسخ والرضا بالأجرة ، وذهب جماعة منهم المحقق الثاني والشهيد الثاني الى أن له مع الرضا الأرش فهو مخير عندهم بين الفسخ والرضا بالأرش.

قال في الروضة بعد قول المصنف وفي الأرش نظر ما لفظه : من وقوع العقد على هذا المجموع وهو باق ، فاما أن يفسخ أو يرضى بالجميع ، ومن كون الجزء الفائت أو الوصف مقصودا للمستأجر ولم يحصل وهو يستلزم نقص المنفعة التي هي أحد العوضين ، فيجبر بالأرش وهو حسن.

أقول : فيه ما عرفت من أن أصل المسئلة غير منصوص ، والظاهر انهم ذكروا هذا الحكم هنا قياسا على البيع من انه متى ظهر عيب بالمبيع تخير المشترى بين الفسخ وبين الالتزام مع الأرش ، مع أن الأخبار ثمة لا تدل على ما ذكروه كما حققناه في البيع ، وانما هو موردها مع ظهور العيب الخيار خاصة ، وأما الأرش فإنما هو مع التصرف ، وأما تعليله هنا فعليل ، فان ما ذكره من ضرره هنا بنقص المنفعة يجبر بالفسخ الذي هو أحد فردي التخيير ، ولا ينحصر في الأرش.

نعم لو لم يكن له الفسخ فان ما ذكره متجه ، لكن الأمر ليس كذلك ،

٦١٣

وكيف كان فان ثبوت الأحكام الشرعية بمثل هذه التقريبات العقلية لا يخلو من المجازفة في أحكامه عزوجل التي قد استفاضت النصوص بالنهي عن القول فيها بغير علم منه عزوجل أو من نوابه (صلوات الله وسلامه عليهم).

ثم انه قال في المسالك تفريعا على ما اختاره من وجوب الأرش : وطريق معرفته أن ينظر إلى أجرة مثلها سليمة ومعيبة ، وينظر الى التفاوت بينهما ، ويرجع من المسمى بتلك النسبة ، ولا يخفى أنه متى اختار الفسخ فان لم يمض من المدة ماله أجرة فلا اشكال ، وان مضت مدة كذلك ، فعليه من المسمى بنسبة ذلك من المدة.

هذا كله فيما إذا كانت الإجارة واردة على عين ، أما لو كانت في الذمة ودفع له عينا معيبة فالواجب إبدالها ولا فسخ هنا ، الا أن يتعذر البدل لعدم وجوده أو لتغلب الموجر وعدم إمكان جبره فيفسخ المستأجر ، ويرجع الى ماله ، والله سبحانه العالم.

الرابعة والعشرون : الظاهر أنه لا خلاف في تضمين الصناع من المكارين والملاحين والقصارين وسائر الصناع لما جنته أيديهم ، سواء كان نقصا في العين أو تلفا ، وان كان حاذقا واحتاط واجتهد ، وانما الخلاف فيما لو تلفت بغير فعله. وغير تفريطه وظاهر جماعة منهم الشيخ المفيد والمرتضى القول بالضمان ، والمشهور وهو قول الشيخ وأتباعه وابن إدريس ومن تأخر عنه العدم.

قال الشيخ المفيد : القصار والخياط والصباغ وأشباههم من الصناع ضامنون لما جنته أيديهم على السلع ، ويضمنون ما تسلموه من المتاع الا أن يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفاعه أو تقوم لهم بينة بذلك ، والملاح والمكاري والجمال ضامنون للأمتعة الا أن تقوم لهم بينة بأن الذي هلك منه بغير تفريط منهم ولا تعد فيه ، وقال المرتضى : مما انفردت به الإمامية القول بأن الصناع كله كالقصارين والخياط ومن أشبههما ضامنون للمتاع الذي يسلم إليهم ، الا أن يظهر هلاكه ويشتهر

٦١٤

بما لا يمكن دفعه. أو تقوم به بينة بذلك ، وهم أيضا ضامنون لما جنته أيديهم على المتاع بتعد وغير تعد ، وسواء كان الصانع مشتركا أو غير مشترك ، ثم فسر معناهما.

وقال في المختلف والمبسوط والنهاية : لا ضمان عليهم الا فيما يهلك مما أفسدوه أو يكون بشي‌ء من جهتهم أو بتفريط منهم وما أشبه ذلك ، فان هلك من غير ذلك لم يكن عليهم شي‌ء من ذلك ، وبه قال أبو الصلاح وسلار.

وقال ابن إدريس : اختلف أصحابنا في تضمين الصناع والمكارين والملاحين فقال بعضهم : هم ضامنون لجميع الأمتعة وعليهم البينة ، الا أن يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفاعه ، مثل الحريق العام والغرق والنهب كذلك ، فأما ما جنته أيديهم على السلع فلا خلاف بين أصحابنا أنهم ضامنون له ، وقال الفريق الآخر من أصحابنا وهم الأكثرون المحصلون : أن الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم على الأمتعة أو فرطوا في حفاظه ، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة وهو الأظهر والعمل عليه ، لأنهم أمناء سواء كان الصانع منفردا أو مشتركا.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه اختيار الشيخ ، لنا الأصل براءة الذمة وعدم الضمان ، فإن أيديهم ليست عادية ، وهم أمناء فلا يتعلق بهم ضمان ، إلا مع تعد أو تفريط ، كالمستودع وغيره.

أقول : وعلى هذا القول جرى المتأخرون ، والواجب أولا نقل الأخبار المتعلقة بهذا المقام ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه ببركتهم عليهم‌السلام فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (١) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال سألته عن القصار يفسد قال : كل أجير يعطى الأجر على أن يصلح فيفسد فهو ضامن». وما رواه في التهذيب عن أبى الصباح الكناني (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٣٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٠ ح ٤٥ ، وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ١ وص ٢٧٤ ح ١٣.

٦١٥

عن القصار هل عليه ضمان؟ قال : نعم كل من يعطى الأجر ليصلح فيفسد فهو ضامن».

وما رواه في الفقيه عن حماد عن الحلبي (١) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يعطى الثوب ليصبغه فيفسده ، فقال : كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى الصباح (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الثوب أدفعه الى القصار فيخرقه؟ قال : أغرمه فإنك إنما دفعته اليه ليصلحه ، ولم تدفعه ليفسده».

وعن إسماعيل بن الصباح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القصار يسلم اليه المتاع فخرقه أو غرقه أيغرمه؟ قال : نعم غرمه ما جنت يداه فإنك إنما أعطيته ليصلح ، لم تعط ليفسده».

هكذا اسناد الخبر في نسخ التهذيب وربما وجد في بعضها عن إسماعيل عن أبي الصباح وهو الظاهر ، كما هو في سند سابق هذا الخبر ، ويحتمل في إسماعيل أنه ابن عبد الخالق ، أو ابن الفضل الهاشمي.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (٤) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام رفع اليه رجل استأجر رجلا ليصلح له بابه فضرب المسمار فانصدع الباب فضمنه أمير المؤمنين عليه‌السلام».

أقول : وهذه الأخبار كلها موافقة لما اتفق عليه الأصحاب من ضمان ما جنته يد الصانع ، وان كان لا عن تعمد ، وان ذلك قاعدة كلية في كل من أعطى الأجر ليصلح فأفسد فإنه ضامن.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ١ من باب ٧٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٢٠ ح ٤٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٢١ ح ٥٠.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٤١ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٥ ح ١٩ وص ٢٧٣ ح ٨ وص ٢٧٤ ح ١٠.

٦١٦

ومنها ما رواه في الكافي عن الحلبي (١) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال في الغسال والصباغ : ما سرق منهما من شي‌ء فلم يخرج (منه) على أمر بين أنه قد سرق ، وكل قليل له أو كثير «فهو ضامن» ، فان فعل فليس عليه شي‌ء «وان لم يفعل» ولم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعى عليه فقد ضمنه ان لم يكن له على قوله بينة». ورواه في الفقيه مثله ، وكذا الشيخ في التهذيب ، وزاد فيه وعن رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق قال : هو مؤتمن».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال في الغسال والصباغ : ما سرق منهم من شي‌ء فهو ضامن». أقول : يعنى إذا ادعى السرقة كما هو ظاهر الخبر الأول.

وما رواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قصار دفعت اليه ثوبا فزعم أنه سرق من بين متاعه ، فقال : عليه أن يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه ، وليس عليه شي‌ء ، وان سرق متاعه كله فليس عليه شي‌ء.

وعن السكوني (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضمن القصار والصائغ والصباغ احتياطا على أمتعة الناس ، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشي‌ء الغالب».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن مرار عن يونس (٥) قال : «سألت الرضا عليه عليه‌السلام عن القصار والصائغ أيضمنون؟ قال : لا يصلح الناس الا أن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٢ ليس في الكافي كلمة «فهو ضامن» وكذا كلمة «وان لم يفعل» التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦١ الباب ٧٦ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٢.

(٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٥.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٤٠ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ٢ وص ٢٧٤ ح ٥ و ٦ وص ٢٧٣ ح ٩.

٦١٧

يضمنوا ، قال : وكان يونس يعمل به ويأخذ».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن مسمع (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الأجير المشارك هو ضامن الا من سبع أو غرق أو حرق أو لص مكابر».

وما رواه في التهذيب عن زيد بن علي (٢) عن آبائه عليه‌السلام أنه أتى بحمال كان عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمنها إياه ، وكان يقول كل عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن ، فسألته ما المشترك؟ فقال الذي يعمل لي ولك».

وكذا ما رواه في الكافي والفقيه عن الحلبي (٣) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأل رجل جمال استكري منه إبل وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فإهراق ما فيه ، فقال انه ان شاء أخذ الزيت ، وقال : انه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة».

وما رواه في التهذيب عن الشحام (٤) قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل جمال اكترى منه إبل و «بعثت» معه بزيت الى نصيبين فزعم أن بعض «زقاق» الزيت انخرق فإهراق فقال له : ان شاء أخذ الزيت وان زعم أنه انخرق فلا يقبل إلا ببينة عادلة».

وما رواه في الفقيه عن حماد (٥) عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في جمال يحمل معه الزيت فيقول قد ذهب أو أهرق أو قطع عليه الطريق ، فان جاء ببينة عادلة أنه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شي‌ء ، والا ضمن».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٦ ح ٢٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٢ ح ٥٨.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٣٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٢٩ ح ٣٥ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٢ ح ٤ مع اختلاف يسير.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ١ ب ٧٦ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٧ ح ٤ وص ٢٧٩ ح ١٣ وص ٢٧٦ ح ١ وص ٢٨٠ ح ١٦.

٦١٨

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل حمل مع رجل في سفينة طعاما فنقص قال هو ضامن ، قلت : انه ربما زاد قال : تعلم أنه زاد فله شيئا؟ قلت : لا قال : هو لك.

أقول : وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة ، ساطعة المقالة ، فيما ذهب اليه المفيد والمرتضى.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) «قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضمن القصار والصائغ احتياطا على أموال الناس ، وكان أبى عليه‌السلام يتطول عليه إذا كان مأمونا». وروى في الفقيه مرسلا قال : وقال عليه‌السلام : كان أبي يضمن القصار والصواغ ما أفسد ، وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يتفضل عليهم». (٣).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير (٤) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء وإن كان غير مأمون فهو ضامن».

وما رواه في التهذيب والفقيه عن أبي بصير (٥) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين ، (فيجيئون) بالبينة ، ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا وفي رجل استأجر حمالا فكسر الذي يحمل أو يهريقه فقال على نحو من العامل : إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٣٠ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٢٠ ح ٤٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٢ ح ٨.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ٣.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٦ ح ٢٦ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٣ ح ١٢.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٣ وفيه «فيخوف» بدل «فيجيئون» ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٣ ح ٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٧ ح ٢ وص ٢٧٢ ح ٤ وص ٢٧٨ ح ٧ وص ٢٧٤ ح ١١.

٦١٩

وإن كان غير مأمون فهو ضامن.».

وما رواه في التهذيب (١) عن بكر بن حبيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه ، وان اتهمته أحلفته».

أقول : يعني بالنسبة إلى دعوى التلف كما هو سياق الأخبار الآتية ، ومنها بالإسناد المتقدم (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطيت جبة الى القصار فذهبت بزعمه ، قال : ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شي‌ء».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن الصفار (٣) «قال كتبت الى الفقيه عليه‌السلام في رجل دفع ثوبا الى القصار ليقصره ، فدفعه الى قصار غيره ليقصره ، فضاع الثوب هل يجب على القصار أن يرده إذا دفعه الى غيره ، وان كان القصار مأمونا؟ فوقع عليه‌السلام : هو ضامن له ، إلا أن يكون ثقة مأمونا».

وما رواه في التهذيب عن حذيفة بن منصور (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع فتطلب نفسه أن يغرمه لأهله ، أيأخذونه؟ قال : فقال لي : أمين هو؟ قلت : نعم ، قال : فلا يأخذون منه شيئا» ، وعن حذيفة بن منصور (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أن معاذ بن كثير وقيسا أمرانى أن أسألك عن جمال حمل لهم متاعا بأجر ، وأنه ضاع منه حمل قيمته ست مائة درهم وهو طيب النفس لغرمه لأنه ضياعته ، قال : يتهمونه؟ قلت : لا قال : لا يغرمونه».

وما رواه في التهذيب عن معاوية بن عمار (٦) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الصباغ والقصار؟ قال : ليس يضمنان».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢١ ح ٤٩.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٢ ح ٥٦ و ٥٧.

(٥ و ٦) التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٣٦ ص٢٢٠ ح ٤٦ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٥ ح ١٦ و ١٧ و ١٨ وص ٢٧٩ ح ١٢ وص ٢٧٤ ح ١٤.

٦٢٠