الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

لو خرج بعضه فإنه يرجع على الضامن بما قابل المستحق ، وكان في الباقي بالخيار ، فان فسخ رجع بما قابله على البائع خاصة.

أقول : أما الكلام فيما إذا خرج الجميع مستحقا فظاهر ، وأما فيما لو خرج بعضه مستحقا فإنه يطالب الضامن بحصته من الثمن ، وذلك فان ثمن ذلك البعض حيث أن البائع باعه ، وهو لا يستحقه بقي في ذمة البائع وقت البيع ، فصح ضمانه.

ولو قلنا بصحة بيع الفضولي توقف على اجازة المالك لذلك البعض ، فان أجازه صح ، وان لم يجز فالحكم كما ذكر ، ثم ان المشترى يتخير بين الفسخ لتبعيض الصفقة ، وبين الرضا على الوجه المذكور ، فان فسخ في الباقي رجع بثمنه على البائع خاصة على المشهور ، لعدم تناول الضمان له ، فان ثبوت ثمن هذا الباقي انما حصل بعد الفسخ ، لا حال الضمان ، ومن شرط الضمان كما تقدم اشتغال الذمة بالمضمون حال الضمان.

ونقل عن الشيخ الخلاف هنا ، والقول بجواز الرجوع على الضامن للجميع قال في المختلف : إذا خرج بعض المبيع مستحقا رجع المشترى على الضامن للعهدة بما قابل المستحق من الثمن ، فان فسخ البيع لتبعيض الصفقة ، قال الشيخ : رجع بما قابل الباقي أيضا على الضامن ان شاء ، وليس بجيد ، لنا انه حصل بسبب متأخر وهو الفسخ المتجدد بعد البيع ، فلا يرجع به على الضامن لعدم دخوله في ضمانه ، لانه لم يجب وقت الضمان ، احتج الشيخ : بأن السبب فيه الاستحقاق الذي حصل في بعضه ، والجواب المنع ، بل السبب الفسخ ، انتهى.

أقول : قد تقدم في مسألة الرجوع بالأرش بسبب العيب ان الأشهر الأظهر الرجوع به على الضامن ، لوجود سبب الاستحقاق وقت الضمان ، فإنه ضمنه ، والمبيع معيب يستحق للمشتري فيه الأرش ، لأنه عوض من ذلك الجزء الفائت من المبيع وما نحن فيه كذلك كما ذكره الشيخ ، فان تبعيض الصفقة الذي هو سبب الفسخ الناشئ من استحقاق بعض المبيع كان متحققا وقت المبيع ، والقائل ـ بعدم جواز الضمان هنا ـ عليه بيان الفرق بين الموضعين ، فإنهما من باب واحد لا يعرف بينهما فرق ، وبذلك يظهر أن المسألة لا تخلو من الاشكال ، والله العالم.

٤١

المسألة الثالثة ـ قالوا لو ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناء أو غرس لم يصح ، لانه ضمان ما لم يجب ، والمراد أنه حيث كان للمشتري التصرف فيما يشتريه بالبناء والغرس ونحو ذلك ، فلو خاف ظهور كون المبيع مستحقا ويذهب ما يغرسه فيه ويبنيه مجانا فضمن له ضامن أنه ان ظهر كونه مستحقا وقلع المالك الغرس وهدم البناء فهو ضامن لدرك ذلك ، هل يصح هذا الضمان أم لا؟ الوجه أنه لا يصح ، لانه ضمان ما لم يجب ، لانه حين الضمان لم يكن مستحقا للأرش على البائع ، وانما استحقه بعد القلع ، وخراب البناء ، المتأخرين عن وقت الضمان.

والمراد بالدرك الذي ضمنه الضامن هو الأرش الذي يلزم للمشتري في مثل هذه الصورة ، وهو تفاوت ما بين قيمة تلك الأشجار ، والبناء مثبتة ومقلوعة ، ويأتي على ما تقدم من صحة الضمان مع تقدم سبب الاستحقاق صحة الضمان هنا ، لانه وان كان الأرش غير مستحق الا بعد القلع وهو الذي بنى عليه عدم الضمان كما عرفت ، الا أن سببه كان موجودا وقت الضمان ، وهو كون الأرض مستحقة للغير ، فينبغي جريان الاحتمال السابق فيما نحن فيه ، وحيث انه قد تقرر وعلم أنه إذا ظهرت الأرض مستحقة وقد بنى المشتري فيها أو غرس ، فأزال المالك ما أحدثه فإن له الرجوع على البائع بالأرش كما تقدم ، فلو ضمن البائع والحال هذه درك ذلك.

فهل يصح الضمان ، قيل : نعم ، لانه لازم بنفس العقد ، وكأنه أريد انه لازم بالعقد ضمن أم لم يضمن ، فضمانه يصير مؤكدا.

وأورد عليه بأنه لا يلزم من ضمانه لكونه بايعا مسلطا له على الانتفاع مجانا ضمانه ، لعقد الضمان ، مع عدم شرائطه التي من جملتها كونه ثابتا حال الضمان ، فعدم الصحة أولى.

وبذلك يظهر أنه ليس الخلاف في ثبوته على البائع أم لا فإنه ثابت عليه بغير اشكال كما تقدم ، بل الخلاف انما هو في ثبوته بسبب الضمان ـ وان كان ثابتا بدونه ، بمعنى أن كلا منهما سبب على حده ، ويظهر الفائدة فيما لو أسقط المشتري عن البائع حق الرجوع بسبب البيع ، فإنه يبقى له الرجوع بسبب الضمان لو قلنا بصحته كما لو كان له خياران فأسقط أحدهما فإن له الفسخ بالاخر ان شاء ، والله العالم.

٤٢

المسألة الرابعة ـ إذا اختلف الضامن والمضمون له في قبض مال الضمان وادعى الضامن دفعه مع كون ضمانه باذن المضمون عنه ، وأنكر المضمون له ذلك فان مقتضى القاعدة أن القول قول المضمون له بيمينه ، لانه منكر ، والأصل عدم الدفع فها هنا أحوال :

الأولى ـ هذه الحال ومقتضاها أنه ليس للضامن رجوع على المضمون عنه بشي‌ء لأنه انما يرجع عليه بما غرمه ، وهنا لم يتحقق غرمه ، واستحقاق الرجوع مشروط به وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون ضمانه بالاذن وعدمه ، وانما قيدنا بالاذن أولا ليترتب الأحكام الاتية عليه ، إذ لا تهمة مع التبرع ـ ولا رجوع.

الثانية ـ أن يشهد المضمون عنه للضامن بأنه دفعه ، بشرط عدالته وعدم تطرق التهمة إليه ، فإنه تثبت شهادته على القول بدفعه ، والوجه فيه أن شهادته بذلك متضمنة للشهادة على نفسه ، حيث انه لما كان الضمان باذنه موجبا لرجوع الضامن عليه فشهادته بالأداء شهادة على نفسه ، وشهادة لغيره فتسمع ، الا أن يتطرق إليها التهمة.

وقد فرضوا للتهمة صورا ، منها ـ أن يكون الضامن قد صالح على أقل من الحق ، فيكون رجوعه انما هو بذلك الأقل ، فشهادة المضمون عنه له بذلك تجر الى نفسه نفعا ، فان ذلك إذا لم تثبت يبقى مجموع الحق في ذمته للضامن.

ورد ذلك بأنه يكفي في سقوط الزائد عن المضمون عنه اعتراف الضامن بذلك ولا حاجة الى الثبوت بالبينة كما سيأتي ، وعلى هذا تندفع التهمة فتقبل الشهادة.

قالوا : ومنها أيضا أن يكون الضامن معسرا ثم يعلم المضمون له بإعساره ، فإن له الفسخ حيث لا تثبت الأداء ، ويرجع المضمون له على المضمون عنه ، فيدفع بشهادته عود الحق إلى ذمته.

ومنها أن يكون الضامن قد تجدد عليه الحجر بالفلس ، والمضمون عنه عليه دين ، فإنه يوفر بشهادته مال الضمان ، فيزداد ما يضرب به.

الثالثة ـ أن لا يكون شهادة المضمون عنه مقبولة لأحد الوجهين المتقدمين ، فيحلف المضمون له ، فإنه متى حلف كان له مطالبة الضامن ، ويرجع الضامن على المضمون عنه بما ادعى أنه أداه أولا ، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه ، وأن ما أخذ

٤٣

منه بعد اليمين انما هو ظلم وعدوان ، مع موافقة المضمون عنه له على ذلك ، وينبغي أن يعلم أن رجوعه بما دفعه أولا مقيد بأن يكون مساويا للحق أو أقل منه ، وإلا رجع بأقل الأمرين لأنه لا يستحق الرجوع بأزيد من الحق.

الرابعة ـ لو لم يشهد المضمون عنه قالوا : يرجع الضامن بما أداه أخيرا ، لأنه لم يثبت ظاهرا أداء سواه ، هذا إذا لم يزد على ما ادعاه أولا ولا على الحق ، وإلا رجع بالأقل من الثلاثة ، لأن الأقل ان كان هو ما غرمه أولا فلزعمه أنه لا يستحق سواه ، فإن الثاني ظلم ، وان كان الأقل ما غرمه ثانيا ، فلانه لم يثبت ظاهرا سواه ، وان كان الأقل هو الحق ، فلأنه انما يرجع بالأقل من المدفوع والحق ، هذا.

أقول : وعندي في الفرق بين هذه الصورة وسابقتها تأمل. حيث حكم في هذه بالرجوع بما أداه أخيرا لما ذكروا في سابقتها بما أداه أولا لما تقدم ، مع إمكان إجراء كل من العلتين بل في كل من الموضعين.

وبالجملة فالغرض من التطويل بهذه الأحكام مع عدم النصوص فيها من أهل الذكر (عليهم‌السلام) تشحيذ الأذهان والافهام ، والاطلاع على تفريعاتهم في كل مقام ، مع أن جملة منها لا يمكن استنباطه من القواعد الشرعية ، والضوابط المرعية ، والعمل على الاحتياط ، في كل حكم خلا من النصوص. والله العالم.

المسألة الخامسة : إذا كان له على رجلين مال ، فضمن كل منهما صاحبه ، فإنه لا إشكال في صحة هذا الضمان من استكمال شرائطه المتقدمة ، وعلى هذا يتحول ما كان على كل واحد منهما الى صاحبه ، وحينئذ فإن تساوى المالان وكان ضمان كل واحد بسؤال الأخر ولم يتغير وصف الدين بالحلول والتأجيل ، ففائدة هذا الضمان تعاكسهما في الأصالة والفرعية.

ومما يترتب على ذلك ، ما لو أبرء المضمون له أحدهما ، فإنه يبرء الأخر ، وهذا الإبراء انما ينصرف الى ما ضمنه عن صاحبه ، لانه هو الباقي في ذمته للمضمون له ، والا فأصل المال الذي دفعه قد انتقل بالضمان إلى ذمة صاحبه ، فلا معنى للإبراء منه كما تقدم ، وحينئذ فإذا أبرأه من مال الضمان لم يكن له الرجوع على صاحبه ، لانه لا يرجع عليه الا بما اغترمه عنه ، والحال أنه لم يغرم شيئا بسبب الإبراء ، فمن

٤٤

أجل ذلك برئت ذمة الأخر من ذلك.

وأما ما اشتغلت به ذمة الأخر من مال الضمان الذي ضمنه عن ذلك الذي أبرأه المضمون له ، فهو باق في ذمته فبراءة ذمة الأخر انما هو مما كان عليه لا مما ضمنه ، وانما يتحول ما كان على كل واحد الى صاحبه مع ضمانهما دفعة ، ورضى المضمون له بهما فلو رد أحدهما واجتمع الحقان على الأخر ، وكذا لو ضمنا على التعاقب اجتمعا على الأخير الا أن يحصل التخصيص. (١)

المسألة السادسة ـ إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال ، أو أبرأه من بعضه لم يرجع على المضمون عنه الا بما اداه ولو أبرأ من بعضه لم يرجع على المضمون عنه الا بما أداه ولو أبرأه منه كملا لم يرجع بشي‌ء ، وكذا لو دفع الضامن عرضا عما في ذمته للمضمون له ، فإنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمته السوقية ومن أصل الدين.

قال في المسالك : ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد رضى المضمون له بالعرض عن دينه بغير عقد ، وبين ان يصالحه الضامن به عن ماله ، فلو كان ثوبا يساوى مأة وصالحه عن الدين وهو مائتان لم يرجع إلا بقيمة الثوب هذا إذا أجرى البيع على العرض بنفس المال المضمون له.

أما لو صالحه عليه في المثال بمأتين مطلقا ثم تقاصا فالمتجه رجوعه بالمأتين لأنها تثبت له في ذمته بغير الاستيفاء ، وانما وقع الأداء بالجميع ، ويحتمل الرجوع بقيمته خاصة ، لأن الضمان وضع للإرفاق ، وتوقف في التذكرة في ذلك. انتهى.

أقول : وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في الموضع الخامس والموضع العاشر من البحث الأول.

__________________

(١) ووجهه أنه إذا ضمن زيد ما في ذمة عمرو انتقل ما في ذمة عمرو إلى ذمة زيد مع ما كان في ذمة زيد أولا ، وحينئذ فإذا ضمن عمرو ما في ذمة زيد انتقل جميع ما في ذمة زيد من الدين الذي عليه أولا ومال الضمان الذي ضمنه عن عمرو كله إلى ذمة عمرو ، أما لو خصص الضمان فان قال : ضمنت ما في ذمتك من المال الذي استدنته من فلان اختص الضمان به ، وهذا فائدة القيد الذي رووناه في الأصل منه رحمه‌الله.

٤٥

المسألة السابعة ـ قد صرح الأصحاب بجواز ترامى الضمان ودوره ، بان يضمن ضامن ثم يضمن عنه آخر وهكذا الى عدة ضمناء ، ولا مانع منه لتحقق شرطه ، وهو ثبوت المال في ذمة المضمون عنه ، وهو هنا كذلك ، وحينئذ فيرجع كل ضامن على من ضمن عنه إذا كان الضمان باذنه بما أداه عنه ، ويصح دوره ، بأن يضمن الأصل ضامنه ، أو ضامن ضامنه وان تعدد ، فيسقط بذلك الضمان ، ويرجع الحق كما كان ، ويترتب عليه أحكامه ، كما لو وجد المضمون له الأصل. الذي صار ضامنا معسرا مثلا.

فان له الفسخ والرجوع الى الضامن السابق ، وقد يختلفان بأن يضمن الحال مؤجلا ، وبالعكس كما تقدم في الموضع السابع من البحث الأول ، وقد تقدم نقل خلاف الشيخ في ذلك. والله العالم.

المقصد الثاني في الحوالة

والبحث فيها يقع في مسائل الأولى : قيل الحوالة عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى ذمة مشغولة بمثله ، وفي التذكرة : عرفها بأنها تحويل الحق من ذمة إلى ذمة ، ولم يشترط في الذمة المحول إليها الاشتغال بمثل المال المحول ، إدخالا للحوالة على البري‌ء في التعريف المذكور ، وظاهر التعريف الأول خروجه ، مع أنهم عدوا الحوالة على البري‌ء من هذا الباب ، وأورد على العلامة في تعريفه في التذكرة ـ بأنه وان قصد بإسقاط هذا القيد المحاولة لإدخال هذا الفرد لئلا ينتقض التعريف في عكسه ، الا أنه وقع فيما هو أصعب منه ، لشموله حينئذ للضمان بالمعنى الأخص لأن المال يتحول فيه من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، فانتقض في طرده.

وأجاب عنه المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) ، بأن المراد كما هو الظاهر التحويل من ذمة المحول الذي هو المحيل لا مطلقا ، قال : على أنه ليس أصعب ، لأن التعريف بالأعم جائز عند المتقدمين ، بخلاف الأخص فإنه غير جائز عند أحد فقوله في شرح الشرائع : فوقع فيما هو أصعب منه محل التأمل ، انتهى.

ثم ان في تعريفهم لها بأنها تحويل الحق أو تحويل مال ، ما يشير الى أن الحوالة ناقلة للمال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، ومن أجل ذلك سميت حوالة.

٤٦

قال في التذكرة : الحوالة عقد لازم ، فلا بد فيها من إيجاب وقبول ، كغيرها من العقود ، والإيجاب كل لفظ يدل على النقل والتحويل مثل أحلتك وقبلتك واتبعتك ، والقبول ما يدل على الرضا نحو رضيت وقبلت ، ولا تقع معلقة بشرط ولا صفة ، بل من شرطها التنجيز ، فلو قال : إذا جاء رأس الشهر أو ان قدم زيد فقد أحلتك عليه لم يصح ، لأصالة البراءة وعدم الانتقال ، ولا يدخلها خيار المجلس. لانه مختص بالبيع ، وليست بيعا عندنا ، وهل يدخلها خيار الشرط ، منع منه أكثر العامة ، والحق جواز دخوله لقولهم (١) (عليهم‌السلام): «كل شرط لا يخالف الكتاب والسنة فإنه جائز» ، ولو قال : أحلنى على فلان ، فقال أحلتك ، افتقر الى القبول ، ولا يكفي الإيجاب ، انتهى.

أقول : قد عرفت في غير موضع ولا سيما في كتاب البيع مما في اشتراطهم للإيجاب والقبول ونحوهما من الشروط التي أوجبوها في العقود من عدم الدليل على ذلك ، بل إطلاق الاخبار وعبارات العقود المذكورة فيها تردد جميع ما ذكروه ، وأن الأمر في العقود أوسع مما ضيقوه ، والظاهر أيضا تطرق المناقشة الى ما ذكره من عدم جواز كونها معلقة على شرط ، لعدم الدليل عليه ، ولعموم (٢) «المسلمون عند شروطهم» ، والله العالم.

الثانية ـ لا يخفى أن أركان الحوالة ثلاثة : المحيل ، والمحتال ، والمحال عليه ويعتبر رضا الثلاثة عند الأصحاب ، أما المحيل فموضع وفاق ، قال في التذكرة :

يشترط في الحوالة رضى المحيل ، وهو الذي عليه الحق إجماعا ، فلو اكره على أن يحيل فأحال بالإكراه لم يقع الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافا ، فان من عليه الحق مخير من جهات القضاء ، فله أن يقضى من أي جهة شاء ، لا يتعين عليه بعض الجهات قهرا.

وأما المحتال فالوجه في اعتبار رضاه أن حقه ثابت في ذمة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمة أخرى إلا برضاه ، والحكم في ذلك أيضا إجماعي كما صرح به في التذكرة ، فقال : يشترط رضاء المحتال عند علمائنا أجمع ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، ثم ذكر نحو ما ذكرناه من التعليل.

__________________

(١ ـ ٢) الوسائل ج ١٢ الباب ٦ ـ من أبواب الخيار ص ٣٥٣.

٤٧

وأما المحال عليه فالمشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) اعتبار رضاه أيضا ، (١) بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ، قال في المختلف : احتج الشيخ على ما اختاره بأن الإجماع واقع على صحة الحوالة مع رضى المحال عليه ولا دليل على صحتها من غير رضاه ، ولأن إثبات المال في ذمة الغير مع اختلاف الغرماء في شدة الاقتضاء وسهولته تابع لرضاه.

ويمكن أن يجاب بأن نفى الإجماع نفى دليل خاص ، ونفى الخاص لا يستلزم نفى العام ، مع أن الأصل يقتضي الصحة لقوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) ، ونمنع اعتبار رضاه كما لو باعه ، ولم نقف على حديث ـ يتضمن ما ادعاه علمائنا في هذا الباب ، مع أن الشيخ المفيد لم يذكر اعتبار رضى المحال عليه ، بل عبارته تشعر بعدم اعتبار رضاه ، ثم نقل العبارة المذكورة ، ثم قال : وكذا قال الشيخ في النهاية.

أقول : لا يخفى أنه وان لم يرد في الاخبار ما يقتضي رضى أحد من هذه الثلاثة المذكورة ، الا أن ما علل به رضى الأولين مضافا الى الإجماع على ذلك لا يخلو من قوة ، وأما ما علل به الأخير فهو ظاهر الضعف عند التأمل ، ومثله أيضا ما قيل : من أن الأصل بقاء المال في ذمة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب.

والتحقيق كما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، أن المحيل قد أقام المحتال مقامه في القبض بالحوالة ، فلا وجه لافتقاره الى رضاء من عليه الحق ، كما لو وكله في القبض منه ، بخلاف الأولين لما عرفت.

__________________

(١) المفهوم من كلام العلامة في التذكرة أيضا عدم الخلاف في ذلك حيث قال : في أصحابنا من يشترط رضى الثلاثة ، وقال في موضع آخر : ويشترط عندنا رضى المحال عليه ، ثم نقل الخلاف عن بعض العامة فقط ، وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه ، مع انه في المختلف كما نقلناه في الأصل خالف في ذلك ، وتبعه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، وهو الأقرب كما أوضحناه في الأصل ، ويشير أيضا الى وجود الخلاف في المقام ، ما في عبارة ابن حمزة على ما نقله في المختلف ، حيث قال : تصح الحوالة بشروط عشرة الى أن قال : ورضى المحال عليه على الصحيح ، قال في المختلف وهو يشعر بوجود قول لبعض أصحابنا ينافيه وانه لا يعتبر رضاه ، انتهى وبذلك يظهر ما في كلام المحقق الأردبيلي حيث انه نسب الخلاف في هذه المسألة إلى الشهيد الثاني في المسالك خاصة مع اعترافه بنقل الشيخ الإجماع وفيه ما عرفت. منه رحمه‌الله.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ١.

٤٨

واختلاف الناس في الاقتضاء لا يمنع مطالبة المستحق ومن يعينه لذلك ، والتوقف على رضاه محل البحث ، فأخذه في الدليل مصادرة محضة.

قوله : ولأن إثبات المال في ذمة الغير تابع لرضاه ، بمعنى أن نقلة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه يتوقف على رضاه ، يمكن دفعه ، بأنا نمنع من اقتضاء الحوالة النقل ، وانما هي إيفاء لما في ذمة الغير ، فلا تقصر عن بيعه كما أشار إليه العلامة فيما تقدم من جوابه عن كلام الشيخ ، وأصالة بقاء الحق معارضة بأصالة عدم الاشتراط ، والاستصحاب انقطع بما ذكرناه ، خصوصا مع اتفاق الحقين جنسا ووصفا.

نعم لو كانا مختلفين وكان الغرض استيفاء مثل الحق المحال ، توجه اعتبار رضى المحال عليه ، لأن ذلك بمنزلة المعاوضة الجديدة ، فلا بد من رضى المتعاوضين ، ومع ذلك لو رضى المحتال بأخذ جنس ما على المحال عليه ، زال المحذور.

وبذلك يظهر قوة القول بعدم اشتراط رضى المحال عليه ، الا في صورة اختلاف المال المحال ، مع ما في ذمة المحال عليه ، وعدم رضا المحتال بأخذه ، لما عرفت.

تنبيهات الأول ـ ينبغي أن يعلم أنه على تقدير القول المشهور من اعتبار رضى الثلاثة فإن اعتبار رضى المحال عليه ليس على حسب رضى الآخرين ، فان الآخرين ركنا العقد الذي لا يتم إلا بالإيجاب والقبول ، فالإيجاب من المحيل والقبول من المحتال ، ويعتبر في عقدها عند الأصحاب ما يعتبر في غيره من العقود من اللفظ والمقاربة ونحوهما بخلاف المحال عليه ، فإنه يعتبر رضاه كيف اتفق ، مقارنا أو متراخيا ، أو متقدما أيضا ، لحصول الغرض المطلوب منه على كل من هذه الوجوه.

الثاني ـ لا يخفى أنه على ما اخترناه من القول بعدم اعتبار رضى المحال عليه ، انما يتجه فيما إذا كان مشغول الذمة بمال المحيل ، أما لو كان بري‌ء الذمة وقلنا بصحة الحوالة كما هو أصح القولين ـ فإنه يشترط رضاه إجماعا.

الثالث ـ ان ما تقدم من الإجماع على اشتراط رضى المحيل في صحة الحوالة مخصوص بما إذا لم يتبرع عنه متبرع بوفاء الدين الذي عليه ، أما لو تبرع المحال عليه بالوفاء فإنه لا تعتبر رضى المحيل قطعا ، لانه وفاء دينه وضمانه بغير اذنه ،

٤٩

والعبارة عنه أن يقول المحال عليه للمحتال : احتلت بالدين الذي لك على فلان على نفسي ، فيقبل ، وفي هذه الصورة انما يشترط رضى المحتال والمحال عليه ويقومان بركن العقد.

الثالثة ـ المشهور انه مع تحقق الحوالة فإنه يبرأ المحيل من حق المحتال من غير أن يتوقف على الإبراء بل يبرئ بمجرد الحوالة ، وذهب الشيخ : في النهاية وابن الجنيد والشيخ المفيد وابن البراج وابن حمزة وأبو الصلاح الى توقف ذلك على الإبراء زيادة على الحوالة ، وقال ابن إدريس ومن تأخر عنه : بالأول.

ويدل على ما ذهب اليه المشايخ المتقدم ذكرهم : ما رواه ثقة الإسلام والشيخ بأسانيد فيها الصحيح عن زرارة (١) عن أحدهما (عليهما‌السلام) في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل آخر فيقول له : الذي احتال : برئت من ما لي عليك ، قال : إذا أبرأه فليس له أن يرجع اليه ، وان لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله».

وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكروه : والمفهوم منها أن الحوالة لا تفيد نقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، لانه مع حصول النقل بالحوالة لا يصادف الإبراء محلا.

هذا ان تأخر الإبراء عن الحوالة ، والا لم يصادف الحوالة محلا ، ولا خلاف بين الأصحاب في أن الحوالة تفيد نقل المال إلى ذمة المحال عليه ، وأن المحتال ليس له الرجوع على المحيل.

وعلى ذلك تدل الاخبار ، ومنها ما رواه في الكافي (٢) عن منصور بن حازم قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه قال : لا يرجع عليه أبدا الا أن يكون قد أفلس قبل ذلك».

وما رواه الصدوق في الفقيه (٣) عن أبي أيوب أنه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١١ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٤ ح ٤.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ٣ وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ الباب ١١ ص ١٥٨ ح ٢ و ٣ و ١.

٥٠

عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه؟ قال : لا يرجع عليه أبدا الا أن يكون قد أفلس قبل ذلك».

وما رواه في التهذيب (١) عن عقبة بن جعفر عن أبى الحسن (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرجل يحيل الرجل بمال على الصيرفي ثم يتغير حال الصيرفي أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضى فقال : لا».

وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في نقل الحوالة وبراءة ذمة المحيل بعد الحوالة ، للمنع من رجوع المحتال عليه معتضدة باتفاق الأصحاب على ذلك.

وبالجملة فان كلا من الحوالة والبراءة موجب لخلو ذمة المحيل ، فأيهما سبق كان الثاني لاغيا ، لا أثر له.

وبه يظهر ما في الرواية المذكورة من الاشكال ، ومخالفة القواعد الشرعية (٢) وقد تأولها الأصحاب بتأويلات بعيدة ، أقلها بعدا ما ذكره في المسالك ، وهو أن الإبراء في الخبر كناية عن قبول المحتال الحوالة ، فمعنى قوله برئت من مالي عليك أنى رضيت بالحوالة الموجبة للتحويل ، فبرئت أنت فكنى عن الملزوم باللازم وهكذا القول في قوله : ولو لم يبرأه فله أن يرجع ، لان العقد بدون رضاه غير لازم ، فله أن يرجع فيه.

ومذهب جمهور العامة في هذه المسألة موافق لمذهب أصحابنا في عدم التوقف على البراءة ، ويمكن حملها على التقية ، لا بهذا الاعتبار ، بل باعتبار ما قدمناه في المقدمة الاولى من المقدمات المذكورة في صدر كتاب الطهارة من أنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يقصدون المخالفة في الأحكام تقية وان لم يكن بها قائل من العامة محافظة على الشيعة لو اتفقوا على نقل الأحكام عنهم كما تقدم تحقيقه ثمة ، فإن الخبر كما عرفت : فيه من الاشكال ، ومخالفة القواعد المتفق عليها ما يمنع من العمل به.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٢ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٥٨ ح ٤.

(٢) منها ما إذا ظهر إعسار المحال عليه حل الحوالة فإن له الرجوع على المحيل إذا لم يبرءه ، ومنها ما إذا اشترط المحيل البراءة فإنه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه فلا يخفى فيه من البعد عن سياق الخبر وان كان في حد ذاته جيدا الا ان فهم ذلك من الخبر انما هو من قبيل الألغاز والمعما. منه رحمه‌الله.

٥١

وما ذكر من التأويلات لا يخلو من التعسف ، وليس بعد ذلك الا ما ذكرناه. والله العالم.

الرابعة ـ قد صرح جملة من الأصحاب ، والظاهر أنه المشهور ، بجواز الحوالة على البري‌ء للأصل ، فان الأصل الجواز ، والأصل أيضا عدم اشتراط شغل ذمة المحال عليه بمال المحيل.

والشيخ في المبسوط في أول كتاب الحوالة جوزها على من ليس عليه شي‌ء للمحيل ، ثم قوى في آخره المنع ، ولم ينقل المنع هنا عن غير الشيخ.

قال في المسالك : ومبنى القولين على أن الحوالة هل هي استيفاء أو اعتياض؟ فعلى الأول يصح دون الثاني ، لأنه ليس على المحال عليه شي‌ء يجعل عوضا عن حق المحتال.

أقول : لا يخفى أن الوارد من الاخبار في هذه المسئلة ، وهو ما قدمناه في سابق هذه المسئلة ، وليس غيره في الباب دالا بظاهر إطلاقه على صحة الحوالة ، أعم من أن يكون المحال عليه مشغول الذمة أو بريئا ، فالأظهر في الاستدلال على هذا الحكم هو الاستناد إلى إطلاق الاخبار المذكورة ، وعدم التعويل على هذه الاعتبارات المتكلفة ، والله العالم.

الخامسة ـ من شروط الحوالة رضى الثلاثة المتقدم ذكرهم ، وقد عرفت الكلام في الاتفاق على المحيل والمحتال ، والخلاف في المحال عليه.

ومنها كمالهم وعدم الحجر عليهم ، وأكثرهم لم يذكر هذا الشرط وكأنه لظهوره والاكتفاء بذكره في أمثال هذا المقام من الضمان ونحوه.

ومنها أنه يشترط ملاءة المحال عليه أو العلم بإعساره وقت الحوالة ، فلو قبل الحوالة جاهلا بحاله ثم بان إعساره وقت الحوالة كان له فسخ الحوالة ، والرجوع على المحيل ، ويدل عليه ما تقدم من رواية منصور بن حازم (١) ورواية أبي أيوب (٢). ولو كان وقت الحوالة مليا ثم تجدد له الإعسار فلا خيار ، وتدل عليه رواية عقبة بن جعفر المتقدمة (٣) ومفهوم الروايتين المذكورتين أيضا حيث منعتا من

__________________

(١) ص ٥٠.

(٢) ص ٥٠.

(٣) ص ٥١.

٥٢

الرجوع بعد الحوالة مطلقا الا في صورة إفلاسه وقت الحوالة.

ولو انعكس الفرض المذكور بأن كان وقت الحوالة معسرا ثم تجددت الملائة قبل أن يفسخ المحتال ، فهل يزول الخيار أم لا؟ اشكال ، لزوال الضرر المترتب على الإعسار ، فيزول الخيار ، ومن ثبوت الخيار أولا فيستصحب ، لان الموجب للخيار ليس هو الإعسار مطلقا ، ليزول بزواله بل الإعسار وقت الضمان وهو ، متحقق فيثبت حكمه ، ورجحه في المسالك ، فقال : بأن الأقوى ثبوت الخيار لذلك.

ومنها ثبوت المال في ذمة المحيل للمحتال إجماعا ، فلو لم يكن المحيل مشغول الذمة للمحتال لم تصح الحوالة ولم تتحقق.

نعم لو أحال على شخص والحال هذه فان كان ذلك الشخص المحال عليه غير مشغول الذمة ، فإن هذه الحوالة تصير وكالة في القرض منه. فهي وكالة ، وان كانت بهذا اللفظ : فإنها جائزة بكل لفظ دل على ذلك ، وان كان مشغول الذمة فهي وكالة أيضا ، لكن في الاستيفاء.

وبالجملة فإن ما لم يكن ثابتا في الذمة لا تجزى الحوالة فيه ، وان وجد سببه كمال الجعالة قبل العمل ، فإنه لا يصح احالة الجاعل به للمجعول له ، لعدم ثبوته ، أما لو أحال به المجعول له على الجاعل لمن له عليه دين ثابت ، فإنه يجوز ، بناء على القول بصحة الحوالة على البري‌ء.

ومنها أن يكون المال المحال معلوما عند المحيل ، فلو أحاله بمال مجهول عنده كما لو أحاله بماله من الدين لم يصح للغرر ، ولأن الحوالة اما أن تكون اعتياضا أو استيفاء وعلى الأول فلا يصح على المجهول ، كما أنه لا يصح بيعه ، وعلى الثاني فإنه انما يمكن استيفاء المعلوم.

قال في التذكرة : ويحتمل هنا (١) الصحة ، ويكون على المحال عليه للمحتال ما يقوم به البينة ، كما قلنا في الضمان ، ولا فرق في اشتراط كونه معلوما بين أن

__________________

(١) أى على تقدير كونه استيفاء. منه رحمه‌الله.

٥٣

يكون مثليا كالطعام ، أو قيميا كالعبد والثوب خلافا للشيخ (١) وجماعة حيث منعوا من جواز الحوالة بالقيمي ، لكونه مجهولا.

ورد بأنه معلوم بالوصف المصحح للبيع ، والواجب فيه القيمة وهي مضبوطة أيضا تبعا لضبطه ، فلا مانع مع شمول عموم الأدلة.

ومنها سبق اشتغال ذمة المحال عليه عند بعض ، وهو من قال بعدم جواز الحوالة على البري‌ء ، وأما على ما قدمناه من القول بالجواز فإنه لا وجه لهذا الشرط.

ومنها انه يشترط تساوى المالين جنسا ووصفا تفصيا من التسلط على المحال عليه ، إذ لا يجب أن يرفع الا مثل ما عليه ، وتردد المحقق في الشرائع في هذا الشرط.

قال في التذكرة : من مشاهير الفقهاء وجوب تساوى الدينين ، أعنى الدين الذي للمحتال على المحيل ، والدين الذي للمحيل على المحال عليه جنسا ووصفا وقدرا ، فلو كان له دنانير على شخص فأحاله عليه بدراهم لم يصح ، لئلا يلزم التسلط على المحال عليه بما لا يستحق ، وأما قدرا (٢) فلا يجوز التفاوت بمعنى

__________________

(١) قال الشيخ في المبسوط : انما تصح الحوالة في الأموال التي هي ذوات الأمثال ، ونحوه كلام ابن حمزة ، وقال ابن الجنيد : الحوالة جائزة بسائر ما يصح السلم فيه من الأمتعة مع من تجوز ذلك معه ولم يذكر الشيخ المفيد ولا السلار ولا ابن إدريس ذلك ، قال في المختلف : والمعتمد عدم الاشتراط كما قال ابن الجنيد : أصالة صحة العقد عدم اشتراط كونه مثليا ، احتج المانعون بأنه مجهول ، والجواب المنع من الجهالة ، بل ربما يوصف به السلم ، قال الشيخ في الخلاف : نمنع كونه مجهولا ، لأنه لا بد أن يكون معلوما يعنى الحيوان بوصفه وسمنه وجنسه ، فان لم يكن كذلك لم يصح الحوالة ، انتهى ، منه رحمه‌الله.

(٢) أقول : المراد بقوله وأما قدرا الى آخره أنه لو كان للمحيل في ذمة المحال عليه عشرة ، وللمحتال في ذمة المحيل خمسة ، فلا يحيل تلك الخمسة على تلك العشرة ، بمعنى أنه يأخذ تلك العشرة عوض هذه الخمسة ، وكذا بالعكس لما علله به في التذكرة قال : ان هذا العقد للإرفاق ولا لإيصال كل حق الى مستحقه ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حط شي‌ء ، والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، انتهى. نعم على تقدير التفاوت بين الدينين يجوز الحوالة بالمساوي كأن يحيل إليه في الصورة الأولى بخمسة من تلك العشرة ، قال في التذكرة : وللشافعية وجه في الإحالة بالقليل على الكثير أنها جائزة ، وكان المحيل يتبرع بالزيادة منه رحمه‌الله.

٥٤

الحوالة بالزائد على الناقص وكذا العكس ومع التفاوت يجوز بالمساوي ، وأما الأجل فيجوز الحال بالحال ، والمؤجل بمثله وبالحال والا بعد بالأنقص لا العكس ، لأنه تأجيل حال. نعم لو شرط في الحوالة في الحالين عدم القبض الا بعد أشهر مثلا يجوز ، لدليل وجوب العمل بالشرط. انتهى.

كذا نقل عنه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ، والظاهر أنه نقل بالمعنى لمخلص ما ذكره في الكتاب المذكور ، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة.

أقول : وتفصيل الكلام في المقام هو أن الشيخ (رحمة الله عليه) وجماعة ذهبوا الى اشتراط تساوى المالين أى المال المحال به ، والمال المحال عليه جنسا ووصفا ، لأن حقيقة الحوالة تحويل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فإذا كان الدين الذي على المحيل دراهم مثلا ، والدين الذي على المحال عليه دنانير ، فكيف يصير حق المحتال على المحال عليه دراهم ، ولم يقع عقد يوجب النقل من الدنانير التي في ذمته الى الدراهم.

والجواب عن ذلك أنه متى قيل باشتراط رضى المحال عليه كما هو المشهور أو لم نقل ثمة به ، ولكن نقوله في هذا المقام حيث أنها معاوضة تتوقف على رضاه كما أشار إليه العلامة في المختلف ، حيث أنه ممن منع اشتراط رضاه ، ولكن أوجبه في هذا المقام ، حيث أنها معاوضة.

وكذا إذ قلنا بجواز الحوالة على البري‌ء ـ كما هو الأشهر الأظهر مما عرفت فيما تقدم ـ فإنه لا وجه لما ذكروه من المنع بالكلية ، ومتى جاز الحوالة على البري‌ء الذي لاحق عليه بالكلية ، فلأن يجوز على من عليه حق مخالف اولى ، وغاية ما يلزم هو مخالفة الحق المحال به لما هو عليه ، وهذا لا يصلح للمنع ، لأن الحوالة ان كانت استيفاء ، فالاستيفاء يجوز بالجنس وغير الجنس مع التراضي على ذلك ، وان كانت اعتياضا فكذلك ، لجواز المعاوضة على المختلفين وهذه المعاوضة هنا ليست من قبيل المعاوضة في البيع ، حتى يعتبر فيها التقابض ونحوه مما اعتبر في البيع ، بل هي معاوضة مبنية على الإرفاق والمسامحة.

٥٥

وبالجملة فإنه متى حصل التراضي من الجانبين كما هو المفروض فلا مانع والتسلط الذي التجأوا إليه في المنع انما يتم مع عدم التراضي والمفروض وجوده ، نعم لو قلنا بعدم جواز الحوالة على البري‌ء اتجه ما ذكروه. والله العالم.

السادسة ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في جواز ترامى الحوالات ودورها ، لحصول شرائط الصحة ، وعدم المانع فكما تصح الاولى تصح الثانية والثالثة ، وهكذا لعين ما ثبت به صحة الاولى ، فلو أحال المديون زيدا على عمرو ثم أحال عمرو زيدا على خالد ، ثم أحال خالد زيدا على بكر صح ، وهذا في صورة تعدد المحيل والمحال عليه ، فان كلا منهم ما عدا الأول محيل ومحال عليه ، مع اتحاد المحتال ، فان المحتال في جميع هذه الفروض واحد ، وهو زيد ، ويجوز أن يرجع الأخير منهم على المديون الأول ، ويحيل عليه ، أما بأن تكون ذمته مشغولة بدين لمن أحال عليه ، أو بناء على جواز الحوالة على البري‌ء فيصح دورها ، ومثله (١) باقي الحوالات السابقة.

السابعة ـ لو أحال عليه فقبل الحوالة وأدى ثم رجع على المحيل بما أداه مدعيا براءة ذمته من مال المحيل ، وادعى المحيل اشتغال ذمته ، وأنه انما أحال عليه من حيث كونه مشغول الذمة بماله ، فان قلنا بجواز الحوالة على البري‌ء كما هو أظهر القولين ، وأشهرهما ، فإن القول هنا قول المحال عليه بيمينه ، لانه منكر لاشتغال الذمة ، وان اعترف بصحة الحوالة ، فإن صحتها لا تستلزم شغل الذمة لما عرفت من جوازها على البري‌ء ، فيرجع بما أداه على المحيل بعد اليمين ، وان قلنا بأن الحوالة مشروطة بشغل ذمة المحال عليه فوجهان :

أحدهما ـ أنه لا يقبل قوله في نفى شغل الذمة ، لأن الحوالة تقتضي شغلها ، حيث أن الحوالة لا تصح الا مع شغل الذمة كما هو المفروض ، وهو موافق على الحوالة.

وبالجملة فالمنكر وان كان معه أصالة عدم شغل الذمة ، الا أن ذلك يقتضي

__________________

(١) المراد مثل ذلك في الحوالة على البري‌ء أو مشغول الذمة فإنك قد عرفت صحة الحوالة على البري‌ء فيما تقدم ، فهو جائز في كل موضع تصح الحوالة فيه بدون ذلك.

منه رحمه‌الله.

٥٦

بطلان الحوالة على هذا التقدير ، ومدعى الدين يدعى صحتها ، ومدعى الصحة عندهم مقدم ، وعلى هذا فلا تسمع دعوى المحال عليه ، ولا يرجع على المحيل بشي‌ء ، وثانيهما ـ أن يقال : ان هنا أصلين تعارضا ، أصالة عدم شغل الذمة مع المحال عليه وأصالة صحة العقد مع المحيل فتساقطا ، وبقي مع المحال عليه أنه أدى عن المحيل باذنه ، فيرجع عليه حينئذ على التقديرين (١).

واستحسنه في المسالك ثم اعترضه بأن الاذن في الأداء انما وقع في ضمن الحوالة ، وإذا لم يحكم بصحتها لا يبقى الاذن مجردا ، لانه تابع فيستحيل بقاؤه بدون متبوعه.

ثم أجاب بأن الاذن وان كان واقعا في ضمن الحوالة الا أنه أمر يتفقان على وقوعه ، وانما يختلفان في أمر آخر ، فإذا لم يثبت لا ينتفي ما وقع الاتفاق منهما عليه ، انتهى.

ومنه يظهر أن الأقرب الى الاعتبار هو كون القول قول المحال عليه مطلقا وهو اختيار المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) أيضا في شرح الإرشاد ، والله العالم.

الثامنة ـ قالوا : إذا أحال المشتري البائع بالثمن ثم رد المبيع بعيب سابق فهل تبطل الحوالة؟ لأنها تبع للبيع ، فيه تردد ، فان لم يكن البائع قبض المال فهو باق في ذمة المحال عليه للمشتري ، وان كان البائع قبضه فقد بري‌ء المحال عليه ، ويستعيده المشترى من البائع.

أما لو أحال البائع أجنبيا بالثمن على المشترى ، ثم فسخ المشترى بالعيب أو بأمر حادث لم تبطل الحوالة ، لأنها تعلقت بغير المتبايعين ، ولو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في الموضعين.

أقول : تفصيل إجمال هذا الكلام وبيان ما اشتمل عليه من الأحكام يقع في مواضع الأول ـ فيما إذا أحال المشتري البائع بالثمن على شخص آخر ، ثم رد المبيع بعيب سابق وفسخ العقد ، فهل تبطل الحوالة أم لا؟ قد تردد في ذلك المحقق

__________________

(١) أى على تقدير صحة الحوالة على البري‌ء ، أو اشتراط شغل الذمة في صحة الحوالة وعدم جواز الحوالة على البري‌ء. منه رحمه‌الله.

٥٧

في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد.

ومنشأ التردد من جهة ما ذهب اليه الشيخ : من بطلان الحوالة في الصورة المذكورة ، معللا ذلك بأن الحوالة تابعة للبيع ، فإذا بطل البيع بطلت ، لاستحالة وجود التابع من جهة ما هو تابع بدون متبوعه ، ومن أن الحوالة ناقلة للمال إلى ذمة المحال ، عليه ، فقد انتقل ما في ذمة المشترى من المال الذي هو ثمن المبيع للمحتال إلى ذمة المحال عليه ، فلا يبطله الفسخ المتأخر ، لأن الفسخ انما يبطل العقد من حينه لا من أصله.

وربما بنى التردد ايضا وحصول الوجهين المذكورين على أن الحوالة هل هي استيفاء ما على المحيل؟ ـ نظرا الى عدم اشتراط القبض فيها ولو كان الحقان من الأثمان ، بمعنى أن المحتال استوفى دينه الذي على المحيل بمجرد الحوالة من غير أن يقبض منه شيئا ، ولو كانت اعتياضا كان ذلك بيع دين بمثله.

ولتحقق برأيه الأخر وهو المحيل بمجرد الحوالة ، وعلى هذا تبطل الحوالة ، لأنها نوع إرفاق (١) وإذا بطل الأصل بطل مهية الإرفاق ، كما لو اشترى شيئا بدراهم مكسرة وتطوع بأداء صحاح عوضها ثم فسخ ، فإنه يرجع عليه بالصحاح ، ولا يقال : انه يطالب بمثل المكسرة ليبقي التطوع بحاله ، لأن التطوع انما بنى على البيع ، والبيع قد انفسخ وبطل ، فيبطل ما تفرع عليه ، أو ان الحوالة اعتياض لا استيفاء نظرا إلى أنه لم يقبض نفس حقه ، بل أخذ بدله عوضا عنه ، وهو معنى الاعتياض ، وعلى هذا لا تبطل كما لو اعتاض البائع عن الثمن ثوبا ثم فسخ ، فإنه يرجع بالثمن لا بالثوب.

أقول : وهذا الوجه الأخير الذي بنى عليه التردد نقله العلامة في التذكرة عن الشافعية : بالاحتمالين المترتبين عليه ، وظاهره وكذا ظاهر جملة من الأصحاب ، التوقف هنا ، لاقتصارهم على نقل الأوجه المذكورة في المسألة ، والخلاف المنقول عن الشيخ من غير أن يرجحوا شيئا وهو في محله.

__________________

(١) وجه كونها نوع إرفاق أنه يستحق الثمن في ذمته فالواجب دفع عين الثمن ، وقبول الحوالة إرفاق بالمحيل ومسامحة له ، فإذا كان بناء الحوالة على الإرفاق والمسامحة للمحيل ، فحين بطل البيع بالفسخ تبعه ما يترتب عليه من الإرفاق فيبطل حسب ما ذكر في المثال المذكور في الأصل منه رحمه‌الله.

٥٨

وينبغي أن يعلم أنه لا فرق فيما ذكر من الحكم المذكور بالوجوه المتقدمة ، بين كون الرد بالعيب بعد قبض المبيع أو قبله ، ولا بين أن يتفق الرد بعد قبض المحتال مال الحوالة أو قبله ، ولا بين الفسخ بخيار العيب أو غيره من أنواع الخيار ، والإقالة والفسخ بالتحالف ونحو ذلك مما لا يبطل البيع من أصله.

ولكن المتأخرين من الأصحاب مثلوا بالعيب تبعا لمن فرض المسألة ، وكذا لا فرق بين العيب السابق على البيع أو اللاحق على وجه يجوز الفسخ ، كالعيب قبل القبض وقبل انقضاء الثلاثة في الحيوان ، لاشتراك الجميع في العلة الموجبة للحكم المذكور في الصورة المفروضة في كلام من فرضها ، وأصل هذه الفروض والفروع في هذه المسألة وأمثالها كله من كلام العامة ، كما لا يخفى على من لاحظ التذكرة ، وأصحابنا كالشيخ : وأتباعه جروا عليها.

الثاني ـ أنه متى قلنا ببطلان الحوالة كما هو أحد الوجهين المتقدمين بأي سبب من السببين المتقدمين أيضا ، فإن كان المحتال وهو البائع قد قبض المال من المحال عليه فقد برئت ذمة المحال عليه ، ويستعيده المشترى من البائع ان كان موجودا بعينه ، ولو تلف لزمه بدله وان تلف بغير تفريط ، لانه مضمون عليه حيث أنه قبضه عوضا عن الثمن ، وليس للمحتال رده على المحال عليه ، فان رده عليه فللمشتري مطالبته ، وان كان لم يقبض فليس له قبضه ، لبطلان الحوالة ، فيبقى في ذمة المحال عليه لصاحبه ، وهو المشترى كما كان.

فلو خالف المحتال وقبضه بعد بطلان الحوالة لم يقع عنه لبطلان حقه. وهل يقع للمشتري قالوا : فيه وجهان (١)؟ ومتى قلنا بصحة الحوالة كما هو الوجه الأخر ، فإن كان البائع قد قبض برأ المحال عليه ، ورجع المشترى على البائع ، ولا يتعين حقه فيما قبضه ، وان لم يكن قد قبض فله القبض ، وللمشتري الرجوع عليه ، قبل

__________________

(١) منشأهما من أن الحوالة متضمنة للإذن في القبض ، فان قلنا أن الاذن يبطل ببطلان الحوالة ، لأنه متى كان من لوازمها فإنه يتبعها وجودا وعدما ، فإذا بطلت بطل ، لاستحالة تخلف اللازم عن ملزومه ، وان قلنا بأن الإذن الضمني لا يبطل ببطلان ما كان في ضمنه كما هو أحد القولين فيه ، كما ذكروه في الشركة والوكالة وتحقيق ذلك في باب الوكالة ، ان شاء الله تعالى. منه رحمه‌الله.

٥٩

القبض لأن الحوالة كالمقبوض ، ومن ثم يسقط حق حبس المبيع لو أحال المشتري البائع بالثمن.

قيل : ويحتمل عدم جواز رجوعه الى أن يقبض ، لعدم وجود حقيقة القبض ، وان وجد ما هو بمعناه في بعض الأحكام.

أقول : من المحتمل قريبا أن ترتب الرجوع على القبض أو ما في معناه لا يظهر له وجه وجيه ، لأن الحوالة بناء على ما هو المفروض من القول بصحتها أمر منفك عن البيع غير مترتب عليه صحة وبطلانا ، فيعمل في الحوالة بما هو مقتضاها من قبض المحتال من المحال عليه متى أراد ، رجع عليه المشتري أو لم يرجع ، وفي البيع ما يقتضيه من رجوع المشترى بالثمن بعد الفسخ على البائع ، قبض مال الحوالة أم لم يقبض. والله العالم.

الثالث ـ لو أحال البائع أجنبيا بالثمن على المشترى ثم فسخ المشترى بالعيب أو بأمر حادث لم تبطل الحوالة لما ذكر من التعليل ، وهو تعلق الحوالة هنا بغير المتبايعين ، بخلاف المسألة المتقدمة ، وهي حوالة المشتري البائع بالثمن ، فإن الحوالة متعلقة بالمتبايعين ، وهذا هو وجه الفرق بين المسألتين.

وبيان الفرق ان الحق في تلك المسألة كان مختصا بالمتبايعين بسبب البيع ، فإذا بطل السبب بطل ما يترتب عليه ، بخلاف حوالة الأجنبي ، فإنه لا تعلق له بالبيع ، ولا بصحته ولا ببطلانه ، وان حكمنا ببطلان البيع بعد الفسخ ، حيث أن الثمن صار مملوكا لذلك الأجنبي المحتال قبل فسخ العقد ، ونقل عن الشيخ : هنا الإجماع على عدم بطلان الحوالة ، قيل : ويحتمل ضعيفا البطلان هنا أيضا ، لأن استحقاق المحتال فرع استحقاق المحيل ، فإذا بطل حق المحيل بطل تابعه ، ووجه ضعفه أنه تابعه حين الحوالة لا بعد ذلك ، لإفادتها الملك حين وقعت بغير معارض.

أقول : وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون المحتال قد قبض أم لا ، لان الناقل للملك الحوالة ، لا القبض ، وحينئذ فإن المحتال يرجع على المشترى بما أحيل له به من الثمن لو لم يقبضه ، والمشترى بعد الفسخ يرجع به على البائع.

الرابع ـ لو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في كل من الموضعين المذكورين ،

٦٠