الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

على خلاف ذلك.

وأورد على هذا القول في المسالك أيضا بأن شرط الاتصال يقتضي عدمه ، لأن كل واحد من الأزمنة التي تشتمل عليها مدة الإجارة معقود عليه ، وليس متصلا منها بالعقد ، سوى الجزء الأول ومتى كان اتصال باقي الأجزاء غير شرط ، فكذا اتصال الجميع ، انتهى ،

وظني ضعفه ، فان الزمان المشترط في العقود المحدد عندهم بتعيين زمان الابتداء والانتهاء أمر واحد لا تعدد فيه ، واتصاله وانقطاعه إنما هو بالنظر الى طرفيه لا إلى أجزائه المركب منها ، والا لم يتم وصفه بالاتصال أو الانقطاع كما لا يخفى ، وبالجملة فإني لا يظهر لي وجه صحة ما أورده ، والمشهور هو الجواز مع عدم الاتصال ، وهو الأظهر لما عرفت.

أما مع الإطلاق فيبتني على ما سيأتي في القول الثاني وقيل : ان الإطلاق يقتضي الاتصال ، فلو لم يعين مبدأ اقتضى العقد كون ابتدائها متصلا بالعقد ، فيكون أولها من آخر العقد ، لأنه مقتضى العرف ، حتى ادعى بعضهم بأنه صار وضعا عرفيا ، فكأنه قال آجرتك شهرا يكون أوله حين الفراغ من العقد ، وهو جيد ان ثبت ما ادعوه من دلالة العرف على ما ذكروه ، وإلا بطل للجهالة ، وظاهر جملة من الأصحاب كالمختلف والمسالك ذلك ، وهو يؤذن بالشك في دلالة العرف على ما ادعوه ، قال في المسالك : والأقوى الجواز مع الإطلاق ، إن دل العرف على اقتضائه الاتصال ، ونحوه في المختلف.

وأما القول بأن الإطلاق يقتضي الاتصال مطلقا كما يظهر من عبارتي الشرائع والإرشاد ، ففيه أنه أعم من ذلك ، والعام لا يدل على الخاص ، الا أن يكون هناك قرينة على إرادته فلا نزاع.

وبالجملة فالقول بذلك على إطلاقه ضعيف ، وأضعف منه دعوى الجواز مع الإطلاق مطلقا ، كما يظهر من ابن إدريس ، وابن البراج ، قال في المختلف :

٥٨١

قال الشيخ : إذا استأجر الدار شهرا ولم يقل من هذا الوقت وأطلق بطلت ، وقال ابن البراج وابن إدريس : بجوازه ، والتحقيق أن نقول ان كان العرف في الإطلاق يقتضي الاتصال ، فالحق ما قاله ابن البراج ، وان كان لا يقتضيه فالحق ما قاله الشيخ ، لحصول الجهالة على التقدير الثاني دون الأول ، انتهى وهو جيد.

واحتمل المحقق الأردبيلي في صورة الإطلاق مع عدم اقتضاء العرف الاتصال الصحة أيضا وقال : يحتمل الصحة والاختيار الى العامل ما لم يؤد الى التأخير المخل عرفا مثل أن يستأجر العمل من دون تعيين ، والأصل وعموم الأدلة دليله ، ثم قال : وكذا لا يبعد البطلان مع الإطلاق ، ومع اقتضائه الاتصال أو القيد إذا كان المنفعة بعد العقد مستحقة للغير ، لأنه كإجارة المستأجرة ، ويحتمل في الإطلاق كون الابتداء بعد خروج تلك المدة خصوصا مع جهل الموجر ، فينصرف كون أولها إلى المدة التي تجوز إجارته ، عملا بمقتضى عموم أدلة صحة الإجارة ، وأصل عدم اشتراط كون أولها من حين العقد ، وخرج ما لم تكن تلك المدة مستحقة ، باقتضاء العرف مع الإمكان ، وبقي الباقي فتأمل انتهى.

أقول : هذا ملخص كلامهم في هذه المسئلة وأنت خبير بأني لم أقف على نص في هذا المقام ، لا في أصل المسئلة ، ولا في شي‌ء من فروعها ، الا أن الظاهر من جملة من الروايات الواردة في نكاح المتعة ، هو أن الإطلاق يقتضي الاتصال.

ففي رواية أبان بن تغلب (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام كيف أقول إذا خلوت بها ، قال تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا وارثة ، ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا وكذا درهما ، وتسمى من الأجر ما تراضيتما عليه ، قليلا كان أو كثيرا فإذا قالت : نعم فهي امرأتك ، وأنت أولى الناس بها». الحديث.

وفي رواية هشام بن سالم (٢) قال : قلت : كيف نتزوج المتعة قال : تقول :

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٤٥٥ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٦٥ ح ٧٠ الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٦ ح ١ و ٣.

٥٨٢

يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها».

وفي معناها رواية أخرى له أيضا ونحوها روايات آخر أيضا والتقريب فيها أنها على تعددها قد اشتركت في إطلاق العقد ، وعدم ذكر الاتصال مع حكمهم عليهم‌السلام بصحة العقد ، وترتب الأحكام عليه ، فلو لا أن الإطلاق يقتضي الاتصال لما حكموا عليهم‌السلام بالصحة في ذلك ، سيما رواية أبان وقوله فيها فإذا قالت : نعم فهي امرأتك فإنها صريحة في أنه بعد تمام العقد تترتب المنفعة ، وحل النكاح ، ومن المعلوم أن دائرة النكاح أضيق من الإجارة ، لما تكاثر في الأخبار من الحث على الاحتياط في الفروج لما يترتب عليه من النسل الى يوم القيمة ، وهم قد اعترفوا بأن دائرة الإجارة أوسع من البيع ، فكيف النكاح ، والمتعة في التحقيق من قبيل المستأجرة كما يشير إليه جملة من أحكامها ، وبه يظهر قوة ما قدمنا نقله عن الفاضلين ، ويمكن حمل كلام ابن البراج وابن إدريس عليه بأنهما إنما جوزا العقد مع الإطلاق لذلك ، وان لم يصرحا كما صرح المحقق ، وما ادعوه من الجهالة على تقدير الإطلاق ليس في محله ، وكذا ما قيل : من أنه عام والعام لا يدل على الخاص ، فان الجميع لا تعويل عليه ، بعد ما عرفت من دلالة النصوص على ما ذكرنا ، ومما يؤيد القول المشهور من الصحة لو عين شهرا متأخرا عن العقد ما ورد مثله في المتعة أيضا في رواية بكار بن كردم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يلقى المرأة فيقول لها : زوجيني نفسك شهرا ولا يسمى الشهر بعينه ، ثم يمضي فيلقاها بعد سنين ، قال ، فقال له شهره ان كان سماه ، وان لم يكن سماه فلا سبيل له عليها ، وهي صريحة في المراد ، والله سبحانه العالم.

الثانية عشر : إذا أسلم المؤجر العين المستأجرة للانتفاع بها ومضت مدة يمكن الانتفاع فيها ، واستيفاء المنفعة ولم ينتفع المستأجر بها لزمت الأجرة ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٦٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٦٧ ح ٧٥.

٥٨٣

للزوم العقد ، وتسليم الموجر ، وإنما التقصير في ترك الانتفاع من المستأجر ، ويؤيد ذلك ما رواه في الفقيه والكافي عن إسماعيل بن الفضل (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل استأجر من رجل أرضا فقال آجرتها كذا وكذا على أن أزرعها فان لم أزرعها أعطيك ذلك ، فلم يزرع الرجل فقال : له أن يأخذه بماله ، ان شاء ترك ، وإن شاء لم يترك».

قالوا : ولا فرق في ثبوت الأجرة عليه بالتسليم ، ومضى المدة المذكورة بين كون الإجارة صحيحة أو فاسدة ، بناء على القاعدة المشهورة عندهم من أن كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، ولكن مع الفساد يلزم أجرة المثل عما فات من المنافع في يده.

قالوا : وفي حكم التسليم ما لو بذل العين فلم يأخذها المستأجر حتى مضت المدة التي يمكن الاستيفاء فيها ، فإنها تستقر الأجرة ، الا أنه لا بد من تقييده بالصحيحة ، والوجه فيه من حيث عدم القبض وظهور بطلان الإجارة ، واستقرار الأجرة في الصحيح أو المثل إنما يثبت من حيث صحة العقد الموجب لذلك ، وهو هنا غير حاصل قالوا وإذا استأجره لقلع ضرسه فمضت المدة التي يمكن إيقاع ذلك فيها ، فلم يقلعه المستأجر استقرت الأجرة ، أما لو زال الألم عقيب العقد سقطت الأجرة ، والوجه في الأول ظاهر ، لأن الأجير سلم نفسه للعمل ، وامتنع المستأجر من غير عذر ، فإن الأجرة تستقر بالعقد والتمكين ، والوجه في الثاني بطلان الإجارة بالبرء وزوال الألم ، لأن متعلق الإجارة الموجب للصحة هو تحصيل المنفعة واللازم هنا إنما هو الضرر بإدخال الألم المنهي عنه شرعا وعرفا ، فلا يصح الاستيجار هنا كما لا يصح الاستيجار على قطع يده من غير سبب موجب لذلك ، نعم لو كان ثمة سبب كما إذا كانت مستأكل يخاف من سريان الضرر الى الصحيح منها ، فإنه يجوز والله سبحانه العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٧ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٥ ح ٥ مع اختلاف يسير الوسائل ج ١٤ ص ٤٩٠ ح ١ وج ١٣ ص ٢٥٨ ح ١.

٥٨٤

الثالثة عشر : لو استأجر شيئا فعرض له التلف فاما أن يكون للجميع أو البعض قبل القبض أو بعده أو لم يعرض له التلف ، ولكن عرض له نقصان في المنفعة أو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كلها.

فههنا صور : الأولى : أن تتلف العين المستأجرة لاستيفاء المنافع منها قبل القبض ، ولا إشكال في بطلان الإجارة ، لأن استيفاء المنفعة أحد العوضين ، فإذا فات قبل قبضه بطل كما في البيع ، فاستيفاء المنفعة هنا كالقبض في البيع ، كما أن استيفاء البعض كقبض بعض المبيع.

الثانية : ان تتلف العين بعد القبض وقبل استيفاء شي‌ء عن المنافع ، والحكم كما تقدم من بطلان الإجارة ، لفوات أحد العوضين.

الثالثة : أن يكون التلف بعد القبض واستيفاء بعض المنفعة والحكم فيها أنه يصح فيما قبضه ، ويبطل فيما بقي ومثله ما لو تجدد فسخ الإجارة والحال كذلك ، ويرجع من الأجرة ما قابل المتخلف ، ويقسط المسمى على جميع المدة.

قال في المسالك : وحيث يبطل البعض يقسط المسمى على جميع المدة ، ويثبت للماضي ما قابله منها ، ثم أن كانت متساوية الأجزاء فظاهر ، والا فطريق التقسيط أن يقوم أجرة مثل جميع المدة ثم تقوم الأجزاء السابقة على التلف وينسب الى المجموع فيؤخذ من المسمى بتلك النسبة.

الرابعة : أن يتلف بعض العين خاصة فالحكم في التالف كما تقدم ويتخير عندهم في الباقي بين الفسخ لتبعيض الصفقة وبين إمساك الحصة بقسطها من الأجرة.

الخامسة : لو لم يتلف شي‌ء منها ولكن نقصت المنفعة بحدوث عيب كان ينقص ماء الأرض وماء الرحى أو عرجت الدابة أو مرض الأجير أو نحو ذلك ، والحكم أنه يثبت الفسخ للمستأجر كما هو المشهور.

قال ابن البراج : إذا استأجر رحى وآلتها وقل الماء الى ان أضر ذلك بالطحن ، وهو يطحن على ذلك نظرت في الضرر ، فان كان ضررا فاحشا كان له

٥٨٥

ترك الإجارة ، وان كان غير فاحش ، كانت الإجارة لازمة له ، قال في المختلف : بعد نقل ذلك عنه ، والأجود ان له الفسخ ، سواء كان الضرر فاحشا أو غير فاحش ، لأنه يتضرر ، وقد قال عليه‌السلام (١) «لا ضرر ولا ضرار».

ثم أنه قال : فإن استأجر رحى بآلتها فانكسر أحد الحجرين أو الدوارة كان له فسخ الإجارة ، فإن عمل صاحب الرحى ما انكسر من ذلك وفسد قبل الفسخ لم يكن له بعد ذلك الفسخ ، ولكن يرفع عنه من الأجير بحساب ذلك ، فان اختلفا في مبلغ العطلة كان القول قول المستأجر الا أن ينكر الموجر ذلك ، والأجود أن له الفسخ بتبعض الصفقة ، انتهى.

السادسة : ما لو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كما لو استأجر أرضا للزراعة الا أنه قد استولى عليها الماء بحيث لا ينحسر عنها مدة يمكن فيها الزراعة ، والظاهر أنه لا إشكال في بطلان الإجارة ، لأن من شروط الإجارة ان يكون للعين نفع يترتب عليها ، فكأنه استأجر ما لا نفع فيه ، فهو تضييع للمال ولو كانت مما ينقطع عنها الماء أحيانا ، فإن علم مقدار ما ينقطع عنها الماء ، وتصلح للزراعة ، فالظاهر أنه لا إشكال في الصحة ، وإلا فلا للجهالة الموجبة للغرر ، والله سبحانه العالم.

الرابعة عشر : قالوا : يشترط تعيين المحمول بالمشاهدة أو الكيل أو الوزن والمراكب والمحمل وقدر الزاد ، وليس له البدل مع الفناء الا بالشرط ، ومشاهدة الدابة المركوبة أو وصفها وتعين وقت المسير ليلا أو نهارا.

أقول : تفصيل البحث في هذه الجملة هو أن يقال ، لا ريب في معرفة هذه المذكورات وتعيينها لترتفع بذلك الجهالة الموجبة للغرر الموجب للبطلان في العقود ، فأما بالنسبة إلى المحمول على الدابة ، فلا بد في اعتباره بأحد الثلاثة المذكورة في كل ما يناسبه ، الا أن بعض محققي المتأخرين صرح بأنه لا يكفي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٦٤ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٤٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.

٥٨٦

ذلك على الإطلاق كما هو ظاهر كلامهم ، فأوجب في المشاهد امتحانه باليد تخمينا لوزنه ان كان في ظرف ، لما في الأعيان من الاختلاف في الثقل والخفة مع التفاوت في الحجم ، وأوجب في المعتبر بأحد الأمرين الآخرين أنه لا بد من ذكر جنسه ، للاختلاف الفاحش باختلاف الأجناس ، وان اشتركت في كونها مكيلة أو موزونة قال : فان القطن معتبر من جهة انتفاخه ودخول الريح فيه فيزداد ثقله في الهواء والحديد يجتمع على موضع من الحيوان ، فربما عقره ، وتحميل بعض الأجناس أصعب من بعض ، والحفظ في بعضها كالزجاج أصعب ، وملخص الكلام في ذلك هو أنه لما كان الضابط التوصل في معرفة المجهول إلى ما يرفع الجهالة ، فلا بد من ذكر الجنس مع التقدير بأحد الأمرين المذكورين ، ليرتفع الجهالة بحذافيرها وهو حسن.

وأما بالنسبة إلى المراكب والمحمل فللاختلاف بالثقل والخفة فلا بد في الراكب من الاعتبار بالمشاهدة أو الوزن مع عدمها ، قالوا : وفي الاكتفاء فيه بالوصف من فخامة وضحامة وطول وقصر ونحو ذلك وجهان أجودهما ذلك مع افادته للوصف التام الرافع للجهالة ، ولا بد في المحمل بكسر الميم الثانية كمجلس ، واحد المحامل ، وهو شقان يوضعان على البعير ، يجلس فيهما المتعادلان ، من الاعتبار بالمشاهدة ، أو الوزن مع ذكر الطول والعرض ، لاختلافها في السهولة والصعوبة ، الا أن يكون متعارفا معلوما لا جهالة فيه فيصرف إليه الإطلاق ، وكذا الحكم أيضا في الآلات التي يصحبها المسافر ، كالقربة والسفرة ، والإداوة ونحو ذلك ، فإنه لا يكفي مجرد ذكرها ، بل لا بد من معرفة قدرها وجنسها الا مع جريان العادة بالحمل من غير مضايقة في ذلك.

وأما بالنسبة إلى الزاد فلما عرفت أيضا فلا بد من تعيين قدره ، لترتفع الجهالة وأما أنه ليس له بدله بعد الفناء الا مع الشرط ، فان المتبادر من الزاد هو ما يستغنى به المسافر في طريقه ويكفيه وهو قد اشترطه ، والمراد بفنائه يعنى بالأكل

٥٨٧

المعتاد ، وحينئذ لو فنى والحال هذه فإنه ليس له إبداله ، لأن مرجع تقصيره الى فعله بنفسه ، أما لو كان فناه بنحو آخر كضيافة غير معتادة أو أكل غير معتاد أو سرقة أو سقط منه في الطريق فإنهم صرحوا بان له إبداله تنزيلا للإطلاق على المعتاد المتعارف ، ويكون حكم البدل حكم المبدل في ذلك ، هذا كله مع عدم شرط الأبدال ، وإلا فلا إشكال في الأبدال عملا بالشرط المذكور.

وأما بالنسبة الى مشاهدة الدابة أو وصفها مع عدم المشاهدة فلما في عدم ذلك من الجهالة لما علم من اختلاف الدواب في القوة والضعف والحزونة والسهولة وزاد بعضهم أيضا اشتراط الذكورة والأنوثة إذا كانت للركوب ، فان الأنثى أسهل والذكر أقوى ، قال : ويحتمل العدم ، لان التفاوت بينهما يسير فلم يكن معتبرا في نظر الشارع ، هذا فيما لو كانت الإجارة معينة.

أما لو كانت في الذمة بمعنى أنه استأجر للحمل على دابة إلى الموضع الفلاني فإنه لا يحتاج إلى وصف ، ولا مشاهدة ، بل الواجب عليه حمله ، وإيصاله إلى الموضع المذكور كيف اتفق على وجه لا يتضرر به ، فيضمن مع الضرر.

وأما بالنسبة إلى تعيين وقت السير ، فلاختلاف الناس في ذلك الوقت الموجب للجهالة ، فإن كانت هناك عادة يبنى عليها في سلوك تلك الطريق وجب الرجوع إليها واكتفى بها لانصراف الإطلاق إليها ، وإلا وجب تعيين الوقت لما ذكرناه.

نعم يشكل التعيين إذا اختلف السير ولم يمكن التعيين إليهما كطريق الحج فان مقتضى تحقيق بيان السير عدم صحة الاستيجار فيها ، الا أن يستقر العادة بسير مخصوص في تلك السنة ، بحسب ما يناسبها عادة ، من السير ، ولهذا أنه منع في التذكرة من الاستيجار في الطريق التي ليس لها منازل مضبوطة ، إذا كانت مخوفة لا يمكن ضبطها باختيارها ، والله سبحانه العالم.

الخامسة عشر : قد صرح جملة من الأصحاب بأن كلما يتوقف عليه توفية المنفعة فهو على الموجر كالقتب والزمام والحزام والسرج أو البردعة في الدابة ،

٥٨٨

ورفع المحمل ، وشد الأحمال وحطها ، والقائد والسائق إن شرطه مصاحبته ، والمداد في الكتابة والخيوط في الخياطة ونحو ذلك ، وعلل بتوقف المنفعة الواجبة عليه بالعقد على ذلك فيجب من باب المقدمة ، وقيل : ان الواجب على المؤجر انما هو العمل ، لأن ذلك هو المقصود من اجارة العين ، أما الأعيان فلا تدخل في مفهوم الإجارة على وجه يجب أداءها لأجلها إلا في مواضع نادرة ، ثبتت على خلاف الأصل ، كالرضاع ، والاستحمام ، والخيوط للخياطة ، والصبغ للصباغة ، والكش للتلقيح ، وحينئذ فالأقوى الرجوع الى العرف ، فان انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر لما عرفت.

أقول : الظاهر هو التفصيل في المقام بأن يقال : ان بعض هذه الأشياء على الموجر بلا اشكال ولا خلاف فيما أعلم ، مثل عمارة الحيطان والسقوف والأبواب ونحو ذلك ، في إجارة المساكن ، ومجرى المياه ونحو ذلك في إجارة الأرضين ، والرحل والقتب ونحو ذلك مما تقدم في إجارة الدابة ، وضابطه كلما جرت العادة للتوطئة به للركوب وبعضها على المستأجر بغير خلاف يعرف ، ولا اشكال يوصف كالحبل لاستقاء الماء ، والدلو والبكرة ، وبعض قد وقع الخلاف فيه كالخيوط للخياطة ، والمداد للكتابة ، والصبغ للصباغة ، والكش للتلقيح ، وقد جزم في الشرائع بأنها على الموجر ، ومثله في اللمعة بالتقريب المتقدم ، حيث قالا كلما يتوقف عليه توفية المنفعة فعلى الموجر ، ومثل له في النهاية من ما قدمنا ذكره في صدر المسئلة ، ومثل له في الشرائع بالخيوط في الخياطة والمداد في الكتابة ، وظاهر المسالك والروضة الرجوع في ذلك الى العرف ، فان انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر بالتقريب المتقدم ، وجزم في الشرائع بدخول المفتاح في إجارة الدار معللا له بأن الانتفاع يتم به ، وهذا منه ، بناء على ما قدمنا نقله عنه من الكلية.

وفيه أن التعليل بتمامية الانتفاع لا يتم كليا لأنه قد صرح سابقا على هذا الكلام في الشرط الرابع بأنه يلزم مؤجر الدابة كلما يحتاج إليه في إمكان الركوب من الرحل والقتب وآلته والحزام والزمام ، قال : وفي رفع المحمل وشده تردد ،

٥٨٩

أظهره اللزوم ، وحينئذ فكيف يتم ما ذكره هنا كليا.

ويؤيده ما صرحوا به من أن المنقول لا يدخل في إجارة الثابت الا مع العادة أو التبعية ، ولهذا قال في المسالك بناء على ما قدمنا نقله عنه : عن عدم العمل بالكلية المذكورة ، والأولى التعليل بأنه تابع للغلق المثبت ، بل هو كالجزء منه ، وهذا بخلاف مفتاح القفل ، فلا يجب تسليمه ولا القفل لانتفاء التبعية ، انتهى.

ثم انه قد صرح في المسالك بأنه يعتبر القائد والسائق مع العادة لهما ، أو لأحدهما ، وكذا يجب إعانته على الركوب والنزول ، اما برفعه ان كان يمكنه ذلك وهو من أهله ، أو ببرك الجمل ان كان عاجزا أو قادرا ، ولكن لا تقتضي له العادة بذلك ، كالمرأة والشيخ الكبير والمريض ، ولو كان المستأجر قويا يتمكن من فعل ذلك بنفسه لم يجب إعانته ، كل ذلك مع اشتراط المستأجر على الأجير المصاحبة أو قضاء العادة بها ، أو كانت الإجارة للركوب في الذمة.

أما لو كانت مخصوصة بدابة معينة ليذهب بها حيث شاء ولم يقض العادة بذلك ، فجميع الأفعال على الراكب ، انتهى ولا بأس به والله سبحانه العالم.

السادسة عشر : لو أجر الدابة لدوران الدولاب افتقر الى مشاهدته ، أو وصفه بما يرفع الجهالة ، وكذا يشترط معرفة البئر بالمشاهدة أو الوصف ان أمكن ، وكذا لا بد من تقدير العمل بالزمان كيوم ونحوه ، الا أن يستأجر على أن يملأ بركة معينة معلومة بالمشاهدة أو المساحة.

قالوا : ولا يكفي المشاهدة في سقي البستان عن تعيين الزمان ، لحصول الاختلاف بقرب عهده بالماء ، وعدمه ، وبرودة الهواء وحرراته ، ولو آجر الدابة لحرث جريب معلوم ، فان كانت الإجارة لحرث مدة كفى تعيين المدة وتقديرها ، ولا يعتبر معرفة الأرض ، ولكن لا بد من تعيين الدابة المستعملة في الحرث إما بالمشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة ، والا فلا بد من مشاهدة الأرض أو وصفها.

٥٩٠

وعن التذكرة : الاعتبار بالمشاهدة ، ولم يكتف بالوصف محتجا بأنها تختلف فبعضها صلب ، فيصعب حرثه على البقر ومستعملها وبعضها رخو يسهل ، وبعضها فيه حجارة يتعلق بها السكة ، ومثل هذا الاختلاف انما يعرف بالمشاهدة ، دون الوصف ، وأنت خبير بما فيه ، فان ما ذكره من هذه الأشياء إنما تعرف بالوصف لا المشاهدة ، لأن المشاهدة انما تقع على ظاهر الأرض ، وهذه الأشياء انما هي في باطنها والوصف آية عليها ، لأن المالك قد يطلع من باطنها على ما لا يظهر بالمشاهدة لظاهرها ، فيصفها بذلك.

وبالجملة فإن ما ذكره من الاطلاع على هذه الأشياء لا يظهر بالمشاهدة ، وإنما يظهر بالعمل والحرث في الأرض ، وهو فرع صحة الإجارة ، ويمكن التوصل الى ذلك باختيارها بالحفر في مواضع من الأرض على وجه يرفع الغرر.

السابعة عشر : إذا استأجر دابة للسير عليها فهنا أحكام ، منها : أنه لو أسرع في السير عليها زيادة على عادة أمثالها بحسب نوعها ووصفها في تلك الطريق ، أو ضربها زيادة على العادة ، أو كبحها باللجام من غير ضرورة ، ضمن ، لأن ذلك تعد باعتبار حمل الإطلاق على المعتاد ، وظاهر التذكرة على ما نقل عنها المنع من الضرب مطلقا ، حيث حكم بالضمان بالضرب مطلقا محتجا بأن الإذن مشروط بالسلامة ، وفيه أن مقتضى الإجارة الوقوف على العادة ، وعدم حصول التعدي إلا بتعديها ، والضرب المعتاد لا يستلزم ضمانا.

والمراد بكبح الدابة باللجام جذبها به ، لتقف عن السير ، قال في الصحاح : كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام ، لكي تقف ، ولا تجري.

ومنها أنه لو مات الدابة انفسخ العقد ، ان وقع على دابة معينة ، بخلاف ما لو كان المستأجر عليه في الذمة ، بمعنى كون الإجارة مطلقة كالاستيجار على الركوب ، فإنه يجب عليه ركابه على دابة غيرها الى تمام المقصد ، ولا تتعين المطلقة بالتعيين والتسليم بحيث يكون الركوب منحصرا فيها ، ولهذا يجوز

٥٩١

للمالك تبديلها.

والظاهر ان تعذر استيفاء المنفعة المشروطة على الوجه المتعارف لمرض أو ضعف أو نحو ذلك في معنى الموت أيضا ، فينفسخ الإجارة في صورة التعيين ، ويحتمل الأبدال خصوصا مع التراضي ، والظاهر أيضا أنه لا خصوصية للدابة في الصورة المذكورة ، بل يجرى الحكم في الراكب والحمل المعين ، فينفسخ العقد بتلفهما ، ومنه تلف الصبي المرتضع في صورة الاستيجار لارضاعه.

ومنها أن ظاهر كلام جملة من الأصحاب أنه لا بد من تعيين الراكب إذا كان الاستيجار للركوب بمشاهدته أو وصفه ، وعلل باختلاف الأغراض في الراكب.

قال في التذكرة بعد ان اشترط المعرفة بالمشاهدة ونقل عن بعض الشافعية الاكتفاء بالأوصاف الرافعة للجهالة ما صورته : والأصل في ذلك أن نقول : إذا أمكن الوصف التام القائم مقام المشاهدة كفى ذكره عنها ، والا فلا ، ثم أنه يجوز للمستأجر أن يركب غيره إذا كان الاستيجار للركوب من غير تخصيص أحد بكونه هو الراكب ، الا أنهم صرحوا بأنه يشترط في الغير الذي له أن يركبه أن يكون مساويا أو أخف ، ولو كان أثقل لم يجز إلا بالاذن ، والا كان ضامنا فيأثم ويضمن ، وكذا في صورة التخصيص بأحد ، لو خالف أثم وضمن.

أقول : الحكم بما ذكروه في صورة التخصيص ظاهر للمخالفة ، وأما في صورة الإطلاق فاشتراط ما ذكروه مشكل ، لصحيحة علي بن جعفر (١) عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال : ان كان اشترط أن لا يركبها غيره ، فهو ضامن لها ، وان لم يسم فليس عليه شي‌ء». فإنه كما ترى ظاهرة في أنه مع الإطلاق يجوز له إركاب غيره مساويا أو أخف أو أثقل ، فإن ترك الاستفصال دليل العموم في المقام ، كما

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩١ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٥ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ح ١.

٥٩٢

هو متفق عليه بينهم ، وهي أيضا ظاهرة في عدم ما ذكروه من اشتراط المشاهدة أو الوصف في الراكب كما قدمنا نقله عنهم بالتقريب المذكور ، والظاهر جريان هذه الأحكام المذكورة في استيجار البيت للسكنى من إطلاق وتقييد ، وما يتفرع عليهما بتقريب ما تقدم.

ومنها أن الظاهر من كلام جملة من الأصحاب أنه يجب على المستأجر سقي الدابة وعلفها فلو أهمل ضمن ، بمعنى أن ذلك لازم له من ماله بدون الشرط من غير ان يرجع به على المالك.

وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الثاني في شرح القواعد وجوب ذلك على المالك الا مع الشرط ، لأن الأصل عدم الوجوب على غيره ، ثم ان كان حاضرا معه والا استأذنه في الإنفاق ورجع عليه أو الحاكم مع تعذره ، حسب ما تقدم في الرهن والوديعة.

وظاهرهم الاتفاق مع عدم حضور المالك على وجوب قيام المستأجر بذلك ، لوجوب حفظ الدابة من حيث كونها نفسا محترمة ، ووجوب حفظ مال الغير إذا كان تحت يده ، وإنما الخلاف في الرجوع على المالك بالتفصيل المتقدم وعدمه ، والمسئلة لا يخلو من اشكال ، لعدم دليل واضح من النصوص في هذه المجال ، وان كان القول الثاني لا يخلو من رجحان لتأيده بالأصل ، ويمكن أن يستفاد ذلك من صحيحة أبي ولاد الآتية في المقام إنشاء الله تعالى لقوله (١) عليه‌السلام لما قال السائل إني قد علفته بدراهم فلي عليه علفه ، فقال : عليه‌السلام لا انك غاصب». ومفهومه أنه لو لم يكن غاصبا فان له طلبه من المالك في الصورة المفروضة ، لأنه إنما نفي استحقاقه للمطالبة من حيث الغصب ، الا أنه لا يخلو من خدش أيضا أقول : والظاهر أن الكلام في نفقة الأجير كذلك ، وسيأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ح ١.

٥٩٣

ومنها ما إذا استأجر دابة واستوفي حقه منها وأمسكها بعد مضي المدة فهل الواجب عليه ردها وأنه مع إمساكها وعدم ردها يكون ضامنا لها ولنفقتها ، أو أنه لا يجب عليه الرد وانما يجب عليه رفع اليد عنها إذا أراد صاحبها استرجاعها؟ قولان : وقد مضى تحقيق الكلام في ذلك في الموضع الخامس من المطلب الأول من هذا الكتاب.

ومنها أنه إذا استأجر دابة إلى موضع معين فتجاوز الى ما زاد عليه فعليه أجرة المثل في الزيادة ، وضمان العين ان تلفت ، والأرش ان نقصت ، لأنه غاصب وليس له الرجوع بما أنفق عليها مدة الغصب ، ولو اختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه ، أو بينته ، والأصل في هذه الأحكام ما رواه في الكافي في الصحيح عن أبى ولاد (١) قال : «اكتريت بغلا الى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه الى النيل فتوجهت نحو النيل ، فلما أتيت النيل خبرت أنه قد توجه الى بغداد ، فأتبعته فلما ظفرت به وفرغت مما بيني وبينه رجعت الى الكوفة ، وكان ذهابي ومجي‌ء خمسة عشر يوما فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلل منه ما صنعت ، وأرضيه فبذلت له خمسة عشر درهما فأبى أن يقبل فتراضينا بأبي حنيفة ، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل ، فقال لي : وما صنعت بالبغل؟ قلت : قد دفعته اليه سليما ، قال : نعم بعد خمسة عشرة يوما ، قال : فما تريد من الرجل قال : أريد كرى بغلي فقد حبسها خمسة عشر يوما ، فقال : لا أرى لك حقا لأنه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه الى النيل ، والى بغداد ، فضمن قيمة البغل ، وسقط الكرى ، فلما رد الرجل البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكرى ، قال : فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته بما أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئا وتحللت منه ، وحججت في تلك

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٥ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ح ١.

٥٩٤

السنة فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما أفتى به أبو حنيفة فقال : لي في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها ، وتمنع الأرض بركتها ، قال : فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت قال : أرى أن له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إياه ، قال : فقلت جعلت فداك : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنك غاصب ، فقلت : أرأيت لو عتب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ، قال : نعم قيمة البغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز فقال : عليك قيمة ما بين الصحيح والمعيب يوم ترده عليه ، قلت : فمن يعرف ذلك قال : أنت وهو ، إما أن يحلف هو على القيمة فتلزمك ، وان رد اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين كرى كذا وكذا فيلزمك ، قلت : اني كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحللني فقال : إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع اليه وأخبره بما أفتيك به ، فان جعلك في حل بعد معرفته ، فلا شي‌ء عليك بعد ذلك ، قال : أبو ولاد فلما انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري وأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله عليه‌السلام وقلت له : قل ما شئت أعطيكه فقال : قد حببت الي جعفر بن محمد عليه‌السلام ووقع في قلبي له التفضيل. وأنت في حل وان أحببت أن أرد عليك الذي أخذته منك فعلت».

أقول : ما دل عليه الخبر من أن القول في القيمة مع التلف قول المالك بيمينه ، خارج عن مقتضى القواعد الشرعية ، لأنه مدع ، ووظيفته البينة ، ومع عدمها فالقول قول المستأجر بيمينه ، لأنه منكر ، ومن ثم اختلف الأصحاب هنا في ذلك ، فذهب في النهاية إلى العمل بالخبر ، وجعل مقصورا على مورده ، وهو الدابة ، وذهب ابن إدريس الى أن القول قول المستأجر لأنه منكر ، ولم يفرق بين الدابة وغيرها ، وتبعه المتأخرون كالفاضلين ونحوهما غيرهما ،

٥٩٥

وأطرحوا الخبر من البين ، والمسئلة لا تخلو من الاشكال ، وان كان ما ذهب اليه الشيخ لا يخلو عن قوة لصحة الخبر ، وصراحته ، فيخصص به عموم القاعدة المذكورة ، كما خصصوها في مواضع عديدة.

وما تضمنه الخبر من أنه مع التلف يضمن قيمة البغل يوم خالفه يؤيد القول المشهور في المسئلة ، وهي ما إذا تعدى في العين المستأجرة فإنه يضمن قيمتها وقت العدوان ، تنزيلا له منزلة الغاصب ، فإنه يضمن ، قيمة المغصوب يوم الغصب.

وقيل ، انه يضمن أعلى القيم من حين العدوان إلى حين التلف.

وقيل : قيمتها يوم التلف ، وما أفتى به أبو حنيفة في هذه المسئلة مبني على مذهبه من أنه يملكها بالضمان ، فيذهب الضمان بالأجر ، وخالفه الشافعي ووافق الإمامية ، وانما حكم عليه‌السلام في الخبر بأجرة المثل من الكوفة ، لأنه لم يقطع من الطريق المستأجر عليها شيئا ، لأنه عدل عنها من قنطرة الكوفة إلى النيل ، فلا يستحق من المسمى شيئا ، ولو كان قد قطع منها شيئا أخذ من الأجرة بالنسبة.

وفي الخبر أيضا دلالة على بطلان الصلح مع عدم تمكنه من أخذ حقه ، لأن حقه هنا ثابت شرعا ولكن فتوى أبي حنيفة قد حال بينه وبين أخذه ، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال كما تقدم في كتاب الصلح ، والله سبحانه العالم.

الثامنة عشر : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب بل وغيرهم في جواز إجارة الآدمي وان كان على كراهة بالنسبة إلى إجارته نفسه ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب ، ولا فرق بين الحر والمملوك ، ولا بين الذكر والأنثى ، وأنه متى كانت أنثى فالظاهر أنه يحرم على المستأجر منها جميع ما يحرم عليه قبل الإجارة ، الا أن العلامة في القواعد والمحقق الثاني في شرحه قد صرحا باستثناء النظر إلى المملوكة بإذن المولى ، واستشكل فيه بعض محققي متأخري المتأخرين ، لعموم الدليل ، فإنه ليس بعقد ولا تملك ، الا أن يجعل الاذن تحليلا وهو جيد.

٥٩٦

وبالجملة فإن عقد الإجارة انما حلل الخدمة والعمل وأباحهما ، وأما غيرهما مما هو محرم قبل الإجارة فإنه يبقى على تحريمه واختلفوا في نفقة الأجير المستأجر للسعي في حوائج المستأجر فقيل : بأنها على الأجير وهو اختيار العلامة في التذكرة والقواعد وشيخنا في المسالك ، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي أيضا ، وهو مذهب ابن إدريس ، وعلل بأن العقد انما وقع على العمل بأجرة معينة ولم يقتضي العقد سواها ، فإدخال غيرها في مقتضى العقد المذكور يحتاج الى دليل ، ولا دليل.

نعم لو كان ثمة عادة مستمرة أو قرينة صريحة أو شرط ذلك على المستأجر فلا إشكال في ذلك ، وقيل : بأنها على المستأجر الا أن يشترطها على الأجير ، وبه صرح في الشرائع والإرشاد وجماعة من الأصحاب أو لهم النهاية وعلل باستحقاق المستأجر جميع منافعه المانع من النفقة ، لأنه متى كان زمانه مستوعبا بالعمل للمستأجر لم يبق له زمان يحصل فيه ما يحتاج اليه من النفقة ، ورد بأن استحقاق منافعه لا يمنع من وجوب النفقة في ماله الذي من جملته الأجرة.

واستدل ايضا على ذلك بما رواه الكليني والشيخ عن سليمان بن سالم (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل استأجر رجلا بنفقة ودراهم مسماة على أن يبعثه إلى أرض ، فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر ، فنظر الأجير الى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه الذي يدعوه ، فمن مال من تلك المكافاة؟ أمن مال الأجير أم من مال المستأجر؟ فقال : ان كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله ، والا فهو على الأجير ، وعن رجل استأجر رجلا بنفقة مسماة ، ولم يفسر شيئا على أن يبعثه إلى أرض أخرى فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب أو الحمام فعلى من؟ قال على المستأجر».

ورده بعض محققي متأخري المتأخرين بضعف السند ، بالراوي المذكور ، فإنه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٢ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٠ ح ١.

٥٩٧

مهمل في كتاب الرجال ، وعدم الصراحة في المدعى ، قال : بل ربما حملت على الشرط ، قال في المسالك بعد ذكر القول بالوجوب على المستأجر والأقوى أنه كغيره لا يجب نفقته إلا مع الشرط ويمكن حمل الرواية مع سلامتها عليه.

أقول : ولعل وجهه أن الاستيجار بالنفقة في قوة شرطها على المستأجر وكيف كان فالرواية المذكورة لما فيه من الإجمال والتدافع فما اشتملت عليه من المقال لا يخلو الاعتماد عليها من الاشكال.

وبيان ذلك أن مقتضى قوله في السؤال الأول ، وكذا في الثاني استأجره بنفقته أن ما ينفقه في تلك المدة انما هو من ذلك المبلغ الذي وقع الاستيجار به وجعله المستأجر نفقة له ، فلا يستحق الرجوع به لأنه في معنى المشروط على المستأجر ، فيكون من مال المستأجر ، ومقتضى قوله في السؤال الأول ان كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله ، هو أن النفقة على المستأجر بمعنى أنه يرجع بها الأجير على المستأجر ، لأن حاصل معنى الكلام المذكور أن الأجير بعد أن اضافه ذلك الرجل الذي من أصحابه أراد أن يكافيه ، فنظر الى ما ينفقه على نفسه في تلك المدة لو لم يضفه ، فدفعه إلى ذلك الرجل مكافأة له ، والامام عليه‌السلام حكم بأنه ان كان جلوسه في الضيافة لمصلحة المستأجر فما دفعه مكافأة على المستأجر يرجع به عليه ، والا فهو على الأجير ، بمعنى أنه لا يرجع به ، وهو وان كان ظاهرا فيما ادعاه المستدل بالرواية ، إلا انه ينافيه ما تقدم في صدر الخبر من أنه استأجره بنفقة ودراهم ، فان الظاهر أن المعنى فيه أنه استأجره بشي‌ء ينفقه على نفسه ، ودراهم في مقابلة السعي في عمله ، وتحصيل غرضه ، ومقتضاه أنه لا يرجع بما أنفقه سواء أكله أو أعطاه مكافأة أو غيرها ، على أن تلك المكافاة انما كانت تبرعا من الأجير فهو من ماله ، وهذه منافاة أخرى ، وظاهر الخبر أيضا اشتمل على ما لا يقوله الأصحاب من الإجمال في النفقة المستأجر بها ، فإنهم يوجبون التعيين لرفع الجهالة ، ودفع الغرر.

٥٩٨

قال في التذكرة والقواعد لا يجوز الاستيجار بنفقته وطعامه ما لم يعين.

وقال في التذكرة : ولا يجوز أرطال من الخبز لعدم جواز السلم عندنا فيه ، فلا تجوز بالإجارة ، وقال في موضع آخر : إذا استأجر في موضع أجيرا بطعامه وكسوته فان قدرا ذلك وعلماه صح العقد وان لم يقدراه بطل العقد الى أن قال ولا فرق بين أن يستأجره بالنفقة والكسوة وبين أن يجعلهما جزء من الأجرة وإذا استأجره بهما صح إجماعا ووصفهما كما يوصف في السلم وان لم يشترط طعاما ولا كسوة فنفقته وكسوته على نفسه ، انتهى.

وبالجملة فالموافق لقواعدهم هو وجوب التعيين لدفع الجهالة والغرر اللذين يوجبون الاحتراز عنهما في العقود.

بقي الكلام في السؤال الثاني «فإن حملت النفقة» وان كان خلاف ظاهر الخبر على ما يدخل فيه أجرة غسل الثياب والحمام ونحو ذلك مما يحتاج إليه الإنسان غالبا ، فينبغي حمل قوله على المستأجر على معنى أنها من النفقة التي استوجر بها ، والا فلا معنى لكونها على المستأجر يرجع بها الأجير عليه ، مع كونه استأجره بها ، وان حملت على أن المراد بها ما عدا ذلك من المأكل والملبس ونحوهما ، وهو الظاهر من سياق الخبر ، فظاهر كون تلك الأشياء على المستأجر هو أن الأجير يرجع بها على المستأجر ، لعدم دخولها فيما استوجر به وهو النفقة.

وفيه دلالة على أنه لو لم يستأجره بالنفقة بل بأجرة في الجملة ولم يشترط النفقة عليه ، فإنه يرجع بالنفقة كما ادعاه المستدل بالخبر ، لأنه إذا كان له الرجوع بمثل أجرة غسل الثياب والحمام فله الرجوع بما يحتاج إليه في الأكل واللبس بطريق أولى لأنها أضر البتة ، وهنا إنما امتنع الرجوع بها من حيث أنه استوجر بها فمع عدم الاستيجار بها وعدم شرطها على المؤجر يرجع بها على المستأجر ، وحينئذ يمكن أن يجعل ذلك لموضع الاستدلال بالخبر المذكور ، والله سبحانه العالم.

٥٩٩

التاسعة عشر : صرح بعض الأصحاب بأنه لو استأجره لعمل من الأعمال كالكتابة والخياطة ونحوهما من الأعمال التي يختلف فيهما العمال بالجودة والحسن وعدمهما والسرعة والبطؤ ونحوهما ، فإنه لا يصح جعل الإجارة مطلقة بأن يكون في الذمة ، بمعنى تحصيل العمل بمن شاء لما يعلم من الاختلاف الكثير بين العمال فيما ذكرناه ، فيتجهل العمل ويحصل الغرر ، بل يجب تعيين العامل سواء كان هو المؤجر أو غيره ، إذا أمكن حصول النفقة منه ، للانضباط بذلك وارتفاع الغرر ، وكذا يجب تعيين الضائع إذا استأجره مدة ، بمعنى أن يعمل له هذا العمل في مدة محدودة بلا زيادة ولا نقيصة ، لأنه مع الإطلاق وتفاوت العمال في السرعة والبطؤ واختلافهم في ذلك كثيرا يحصل الغرر أيضا ، وبتعيين العامل ومعرفة ما هو عليه من السرع والبطؤ في عمله يزول ذلك.

ولو استأجره على عمل معين كنسخ هذا الكتاب المعين وخياطة هذا الثوب المخصوص ، فإنه من حيث كون المانع ما ذكرنا أولا هو اختلاف الصناع في السرعة والبطؤ الموجب للزيادة في العمل والنقيصة ، فإن الظاهر أنه تصح الإجارة في هذه الصورة المفروضة ، لأن هذا الاختلاف غير قادح هنا ، فان الغرض حصول هذا العمل المعين ، أما من حيث كون المانع هو تفاوتهم في الصنعة وبالجودة ، والرداءة ، فإنه لا يصح هنا بل لا بد من تعيين الصانع ليرتفع هذا الغرر.

قال في المسالك بعد ذكر المصنف أصل المسئلة : وهذه المسئلة قل من تعرض لها غير المصنف ، نعم ذكرها الشافعي في كتبهم.

أقول : قد عرفت آنفا أن أكثر هذه التعريفات في الكتب المتقدمة والآتية وان وقعت من الشيخ والمرتضى والعلامة وغيرهم ، الا أنها كلها مأخوذة من كتب العامة أخذوا منها ما استحسنوه ، وكتب متقدمي أصحابنا إنما اشتملت على مجرد نقل الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار ، والله سبحانه العالم.

٦٠٠