الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

ذلك الفعل ، فإن كان مجردا عن المدة خاصة فبنفسه ، والا تخير بينه وبين غيره ، فيقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة المباشرة ، وفرع عليه منع صحة الإجارة الثانية في صورة التجرد عن المدة مع المباشرة ، كما منع في الأجير الخاص ، وما تقدم في الإجارة للحج مؤيد لذلك ، فإنهم حكموا بعدم صحة الإجارة الثانية مع اتحاد زمان الإيقاع نصا أو حكما كما لو أطلق فيهما أو عين في أحدهما بالنسبة الأولى ، وأطلق في الأخرى ، ولا ريب أن ما ذكره أحوط ، وان كان وجهه غير ظاهر ، لعدم دليل يدل على الفورية ، وعموم الأمر بالإيفاء بالعقود ونحوه لا يدل بمطلقه على الفور عندهم ، وعند غيرهم من المحققين ، سلمنا لكن الأمر بالشي‌ء إنما يقتضي النهي عن ضده العام ، وهو الأمر الكلي لا الأفراد الخاصة ، سلمنا لكن النهي في غير العبادات لا يدل على الفساد عندهم ، والإسناد الى ما ذكر من الحج ليس بحجة بمجرده ، ويتفرع على ذلك وجوب مبادرة أجير الصلاة الى القضاء بحسب الإمكان وعدم جواز اجارة نفسه ثانيا قبل الإتمام ، وأما تخصيص الوجوب بصلوات مخصوصة وأيام معينة فهو من الهذيانات الباردة والتحكمات الفاسدة ، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى والله سبحانه العالم.

الثانية : لا خلاف ولا إشكال في أنه تملك الأجرة بنفس العقد ، لاقتضاء صحة المعاوضة نقل الملك في كل من العوضين من أحدهما إلى الأخر ، كما في البيع وسائر عقود المعاوضات اللازمة ، والإجارة منها ، لكن لا يجب تسليم الأجرة إلا بتسليم العين المستأجرة ان كانت الإجارة على عين ، أو تمام العمل ان كانت الإجارة على عمل ، ولا يجوز تأخيرها مع الطلب ، والحال كذلك ، ومما يدل عليه بالنسبة إلى تمام العمل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الجمال والأجير قال : لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته».

وعن شعيب (٢) قال تكارينا لأبي عبد الله عليه‌السلام قوما يعملون في بستان له ،

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ١١ الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٦ ح ١ و ٢.

٥٦١

وكان أجلهم إلى العصر فلما فرغوا قال لمعتب : أعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم».

والظاهر أن ذكر جفاف العرق كناية عن السرعة في الإعطاء وبالجملة فإن الأجرة تتعلق بذمة المستأجر بمجرد العقد ، ولكن لا يجب التسليم الا يعد أحد الأمرين المذكورين ، وأما قولهم يجب تسليم الإجارة مع الإطلاق ، فالظاهر أن المراد به أول وقت وجوب الدفع ، الذي هو عبارة عن تسليم العين ، أو الفراغ من العمل.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف ويجب تعجيلها مع الإطلاق ومع شرط التعجيل ما صورته ـ : المراد بتعجيلها مع الإطلاق في أول أوقات وجوب دفعها ، وهو تمام العمل ، وتسليم العين المؤجرة ، لأن بتسليم أحد العوضين تسلط على المطالبة بالأجرة بمقتضى المعاوضة الموجبة للملك ، ثم انه على تقدير ما ذكرنا من أنه لا يجب التسليم الا بعد أحد الأمرين المذكورين ، قالوا : لو كان المستأجر وصيا لم يجز له التسليم قبل ذلك الا مع الأذن صريحا أو بشاهد الحال ، ولو فرض توقف العمل على الأجرة كالحج مثلا وامتنع المستأجر من التسليم والظاهر كما استظهره في المسالك أيضا جواز الفسخ ، ولو شرط التعجيل في الأجرة لم يزد على ما اقتضاه الإطلاق كما عرفت من أنه يجب التعجيل مع الإطلاق.

نعم يفيد ذلك تأكيدا ويتفرع عليه تسلط الموجر على الفسخ لو شرط ذلك في مدة مضبوطة ، فأخل به ، ونحوه لو شرط القبض قبل العمل ، أو تسليم العين المؤجرة ، فإنه يصح عملا لعموم أدلة لزوم الشروط في العقود اللازمة ، ويتسلط على الفسخ مع الإطلاق به كما في غيره ، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب البيع ، وتقدم القول بعدم تسلطه على الفسخ ، بل الواجب رفع الأمر إلى الحاكم ، وجبره على القيام بالشرط ، فليرجع في تحقيق ذلك من أحب الوقوف على الخلاف في المسئلة الى ما قدمناه ثمة (١).

__________________

(١) ج ١٩ ص ٣٤.

٥٦٢

ولو شرط التأجيل في الأجرة صح أيضا بشرط ضبط المدة وكذا لو شرطها نجوما بأن يدفع العين أو يعمل العمل ولا يطالب بالأجرة إلى الأجل المعين ، أو يقسطها فيجعل لكل أجل قسطا معلوما منها ، فإنه لا مانع من ذلك عملا بعموم الأدلة ، وعدم ظهور المانع ، وكذا لا فرق بين الإجارة الواردة على عين معينة ، أو الإجارة المطلقة الواردة على ما في الذمة ، ولا خلاف عندنا في شي‌ء من هذه الأحكام ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : قالوا : لو وجد بالأجرة عيبا سابقا على وقت القبض ، فإن كان الأجرة مطلقة وهي المضمونة تخير بين الفسخ وأخذ العوض وان كانت معينة تخير بين الفسخ والأرش ، وعلل الأول بأن المطلق يتعين بتعيين المالك ، وقبض المستحق كالزكاة فحينئذ له الفسخ ، لكون المعينة معيبة ، وله الأبدال بالصحيح الذي هو مقتضى العقد ، وهو المشار اليه بالعوض.

والتحقيق ما ذكره جملة من محققي المتأخرين أن مقتضى الإطلاق الحمل على الصحيح ، وهو أمر كلي لا ينحصر في المدفوع ، ودعوى تعينه بما ذكر ممنوع ، وقضية ذلك حينئذ أنه لا فسخ هنا ، وإنما له العوض ، نعم لو تعذر العوض توجه الفسخ ، وتخير بينه وبين الرضا بالمعيب مع الأرش عوض ما فات بالعيب لتعين المدفوع اليه ، من حيث تعذر عوضه ، كما هو الحكم في الثاني وهو ما إذا كانت معينة ، فإنه يتخير كما قدمنا نقله عنهم بين الفسخ والرضا به مع الأرش ، من حيث أن تعينه مانع من البدل ، كما تقدم في كتاب البيع ، ودليله ظاهر مما تقدم في بيع المعيب (١) الا أن لقائل أن يقول : باختصاص هذا الحكم بالبيع ، كما هو مورد الدليل.

وظاهرهم أنه لا دليل هنا على ما ذكروه الا الحمل على البيع ، وفيه ما لا يخفى ، فمن الجائز هنا انحصار الحكم في الفسخ خاصة ، والى هذا يميل كلام

__________________

(١) ج ١٩ ص ٧٩.

٥٦٣

المحقق الأردبيلي حيث قال ـ بعد قول المصنف وإذا كانت معينة له الفسخ أو الأرش ـ : كان دليله ظاهر مما تقدم في بيع المعيب ، أو يمكن اختصاص البيع بالحكم لدليله ، ويكون هنا الفسخ فقط ، بل ويمكن الانفساخ أيضا ، لعدم وقوع الرضاء به ، انتهى وهو جيد والله سبحانه العالم.

الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو استأجر دارا أو دابة أو غيرهما من الأعيان فإن له أن يؤجرها على غيره إذا لم يشترط عليه المالك استيفاء المنفعة بنفسه ، ونقل الإجماع في التذكرة عليه ، وقيده جملة من الأصحاب منهم العلامة والمحقق الشيخ علي وغيرهم ، بأنه لا يسلم العين إلى المستأجر الثاني الا بإذن المالك ، والا لكان ضامنا لها ، واعترضه المحقق الأردبيلي فقال : ما عرفت دليله ، والظاهر عدم الاشتراط ، وعدم الضمان بدونه ، للأصل وللاذن بالاستيجار.

وقد سبقه الى ذلك شيخنا الشهيد على ما نقل عنه في المسالك ، فإنه قوى الجواز من غير ضمان ، قال : لأن القبض من ضروريات الإجارة للعين ، وقد حكم بجوازها والأذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، ورد بمنع كون القبض من لوازمها لإمكان استيفاء المنفعة بدونه ، أقول : الأظهر في الاستدلال على ذلك هو الاستناد الى الأخبار الدالة على جواز الإجارة ممن استأجر وقد تقدمت في كتاب المزارعة ، فإن إطلاقها ظاهر في عدم هذا الاشتراط ، وتقييدها بما ذكروه يحتاج الى دليل واضح ، وليس فليس.

ويدل على ذلك خصوص ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر (١) عن أخيه قال : «سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال : ان كان اشترط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وان لم يسم فليس عليه شي‌ء». والى هذا القول مال أيضا في المسالك استنادا إلى الصحيحة المذكورة ، وحينئذ فله أن يؤجرها بأقل مما استأجر أو ما ساواه بلا خلاف.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩١ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٥ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٨ ح ٦.

٥٦٤

وانما الخلاف في جواز الإجارة بالأكثر فالمشهور ذلك ، قال بعض محققي متأخري المتأخرين والأصل والقاعدة وأدلة جوازها تقتضي جوازها بأكثر من الأجرة ولو كان بجنسها أيضا وان لم يحدث حدثا من عمارة وشبهها ، انتهى.

ونقل جملة من المتأخرين الخلاف هنا عن الشيخ في المسكن والأجير والخان قال في التذكرة : قال الشيخ : لا يجوز أن يوجر المسكن ولا الخان ولا الأجير بأكثر مما استأجره إلا أن يوجر بغير جنس الأجرة أو يحدث ما يقابل التفاوت ، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي وعلى هذا النهج كلام المحقق وغيره ، والمفهوم من كلام المختلف أن موضع الخلاف أعم من هذه المذكورات ، قال في الكتاب المذكور : قال الشيخان : إذا استأجر شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما استأجره به الا أن يحدث فيه حدثا من مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس ، وبه قال المرتضى ظاهرا ، انتهى.

وقد تقدم تحقيق الكلام في المقام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في كتاب المزارعة ، (١) وان كان محله انما هو هذا الكتاب ، الا أنه جرى القلم به ثمة استطرادا فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.

الخامسة : المشهور بين الأصحاب أنه لو استأجره ليحمل عليه متاعا الى موضع معين بأجرة في وقت معين فان قصر عنه نقص من أجرته شيئا جاز ، ولو شرط سقوط الأجرة ان لم يوصله فيه لم يجز وكان له أجرة المثل ، قال الشيخ في النهاية : من اكترى من غيره دابة على أن يحمل له متاعا الى موضع بعينه في مدة من الزمان ، فان لم يفعل ذلك نقص من أجرته كان ذلك جائزا ما لم يحط بجميع الأجرة ، وان أحاط الشرط بجميع الأجرة كان الشرط باطلا ، ولزمه أجرة المثل ونحوه كلام ابن الجنيد ، وكلام ابن البراج وغيرهما الا أن ظاهر كلام ابن الجنيد أنه متى أحاط الشرط بالأجرة كملا وجب القضاء بالصلح فلا تسقط الأجرة كلها ولا بأخذها جميعا ، وظاهر العلامة في المختلف ـ ونقل عن ابنه فخر المحققين أيضا ـ

__________________

(١) ج ٢١ ص.

٥٦٥

بطلان العقد ، لبطلان الشرط ، فتجب أجرة المثل سواء أو صلة في المعين أم غيره ، وسواء أحاط بالأجرة أم لا ، ولا يخفى ما فيه ، فإنه اجتهاد في مقابلة النص ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.

وقال ابن إدريس : والأولى عندي أن العقد صحيح ، والشرط باطل ، لأن الله تعالى قال (١) «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وهذا عقد فيحتاج في فسخه الى دليل ، والشرط إذا انضم إلي عقد شرعي صح العقد ، وبطل الشرط ، إذا كان غير شرعي وأيضا لا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة متواترة ولا إجماع منعقد ، ولم يورد أحد من أصحابنا هذه المسئلة إلا شيخنا في النهاية ، لا أنها تضمنت التواتر وغيره.

أقول : ما ذكره ابن إدريس جيد على أصله الغير الأصيل ، والذي يدل على ما ذكره الشيخ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : انى كنت عند قاض من قضاة المدينة فأتاه رجلان فقال أحدهما : اني اكتريت من هذا دابة ليبلغني عليها من كذا وكذا الى كذا وكذا فلم يبلغني الموضع فقال القاضي لصاحب الدابة : بلغته الى الموضع؟ قال : لا قد أعيت دابتي فلم تبلغ فقال له القاضي : فليس لك كراء إذا لم تبلغه الى الموضع الذي اكترى دابتك اليه ، قال عليه‌السلام فدعوتهما الي فقلت للذي اكترى ليس لك يا عبد الله أن تذهب بكراء دابة الرجل كله ، وقلت للآخر : يا عبد الله ليس لك أن تأخذ كراء دابتك كله ولكن انظر قدر ما بقي من الموضع وقدر ما ركبته فاصطلحا عليه ففعلا».

هذا صورة الخبر في الفقيه ، وفيه برواية الكتابين الأخيرين حذف ونقصان وإخلال بالمعنى المذكور في هذا المنقول.

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ٧٢ و ٣٢ ، الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٤ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٣ ح ١.

٥٦٦

وما رواه المشايخ المذكورون أيضا في الموثق عن محمد الحلبي (١) «قال كنت قاعدا عند قاض من القضاة ، وعنده أبو جعفر عليه‌السلام جالس ، فأتاه رجلان فقال أحدهما : اني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا الى بعض المعادن فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا ، لأنها سوق أتخوف أن يفوتني ، فإن احتسبت عن ذلك حططت من الكرى عن كل يوم احتبسه كذا وكذا ، وانه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوما فقال القاضي : هذا شرط فاسد وفه كراه ، فلما قام الرجل أقبل الي أبو جعفر عليه‌السلام فقال : شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه».

وأنت خبير بأن الرواية الأولى من هاتين الروايتين وان استدل بها الأصحاب للشيخ كما ذكرناه ، الا أن الظاهر أنه لا دلالة فيها عند التأمل ، إذ غاية ما تدل عليه أنه إذا شرط عليه أن يوافي به الى موضع معين في يوم معين صح ذلك ، فلو لم يفعل وجب الصلح بإسقاط بعض الأجرة بنسبة ما تركه من الموضع ولم يبلغه فيه ، ولا دلالة فيها على أجرة المثل أيضا نعم الرواية الثانية ظاهرة الدلالة على المطلوب.

وأما ما يظهر من المسالك ـ وقبله الشيخ المحقق الشيخ علي من الحكم ببطلان الإجارة هنا ، قال في المسالك بعد ذكر المصنف الحكم المذكور كما قدمنا ذكره عن الأصحاب : هذا قول الأكثر ، ومستنده روايتان صحيحة وموثقة عن محمد بن مسلم والحلبي عن الباقر عليه‌السلام ويشكل بعدم تعيين الأجرة لاختلافهما على التقديرين كما لو باعه بثمنين على تقديرين ، ومن ثم ذهب جماعة إلى البطلان ويمكن حمل الأخبار على الجعالة إلى آخر كلامه ـ ففيه أن عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ووجوب الوفاء بالشروط كتابا وسنة مما تقضي بالصحة في هذا العقد ، وما ادعاه من البطلان بهذه الجهالة لا دليل عليه ، بل الدليل واضح في خلافه كالخبر المذكور ، ومثله صحيحة أبي حمزة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكتري

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٤ ح ٢٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٢ ح ٣٢٧٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٤ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.

٥٦٧

الدابة فيقول : اكتريتها منك الى مكان كذا وكذا فان جاوزته فلك كذا وكذا زيادة وسمى ذلك قال : لا بأس به كله». وهي مع صحتها صريحة في عدم اشتراط ما ادعاه من العلم ، وعدم الضرر بمثل هذه الجهالة ، وتمسكه في البطلان بما لو باعه بثمنين على تقديرين مردود ، بأنه وإن قيل : بالبطلان في ذلك إلا أن مقتضى الأخبار الصحة كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع ، وهو مؤيد لما ذكرناه هنا وبه يظهر أن ما ذكراه من التنزيل على الجعالة لا موجب له ، ولا ضرورة تدعو اليه ، على أنه لا معنى لقوله عليه‌السلام في الرواية «ما لم يحط بجميع كراه» إذ الظاهر كما ذكره بعض المحققين هو صحة هذا الشرط في الجعالة ، ولو كانت جعالة لم يتجه هذا الاستثناء ، ويؤيد ما ذكرناه أيضا ما صرح به جملة منهم من الصحة في قولهم إن خطته روميا فلك كذا ، وإن خطته فارسيا فلك كذا وقولهم إن عملت هذا العمل اليوم فلك درهمان ، وإن عملته في غد فلك درهم ، كما سيأتي تحقيق ذلك إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فان كلا من الفعلين المردد بينهما في هذه المواضع المعدودة ، معلوم ، وأجرته معلومة ، والواقع لا يخلو منهما ، فلا مانع من الصحة ، والمعلومية على هذا الوجه كافية ، بمقتضى ما ذكرناه من الاخبار في البيع ، والإجارة ، ودعوى الزيادة على ذلك بحيث يحكم بالبطلان مع عدمها يتوقف على الدليل ، وليس فليس والله سبحانه العالم.

السادسة : اختلف الأصحاب فيما لو قال : آجرتك كل شهر بكذا فقيل : بالبطلان مطلقا لجهالة العوضين المقتضية للغرر إذ لا يلزم من مقابلة جزء معلوم من المدة بجزء معلوم من العوض كون مجموع العوضين معلومين ، فان العوض هنا المجموع ، وهو مجهول وانما عليه اجرة المثل فيما سكن ، لعدم صحة الإجارة والى هذا القول ذهب ابن إدريس والمختلف والمسالك وغيرهم ، وقيل : ان الإجارة تصح في شهر وتبطل في الباقي وله أجرة المثل ان سكن وهو المنقول عن الشيخين في المقنعة والنهاية ، وبه صرح في اللمعة والشرائع وغيرهم ، والوجه فيه أن الشهر

٥٦٨

معلوم وكذا أجرته فلا مانع من الصحة فيه ، نعم يبطل الزائد لعدم انحصاره في وجه معين ، وأن الأجرة تابعة له ، ورجح المحقق الأردبيلي الصحة مطلقا في المسئلة ، حيث قال بعد ذكر القولين المذكورين ، وهيهنا احتمال ثالث ، وهو الصحة في كل ما جلس ، واشتراط العلم بحيث يمنع من هذا غير معلوم ، ولا ضرر ولا غرر ، إذ كلما جلس شهرا يعطى ذلك ، ونصفه في نصفه ، وعلى هذا انتهى وهو جيد ، ووجهه معلوم مما قدمناه في سابق هذه المسئلة من الأخبار المذكورة ، والعلل المأثورة.

أقول : ويظهر من كلام ابن الجنيد هنا القول بذلك ، حيث قال على ما نقله في المختلف : وقال ابن الجنيد : ولا بأس أن يستأجر الدار كل شهر بكذا وكل يوم بكذا ، ولا يذكر نهاية الأجل ، ولو ذكرها عشرين سنة أو أقل أو أكثر جاز ذلك ، انتهى ، وهو ظاهر كما ترى في القول بالصحة ، ولم أقف على من نقله عنه في كتب الاستدلال كالمسالك وغيره ولا أشار اليه ، وإنما المشهور في كتبهم نقل القولين المذكورين.

وكيف كان فإنك قد عرفت في مواضع مما قدمناه في المباحث السابقة أن الحق الحقيق بالاتباع وان كان قليل الاتباع هو الوقوف في موارد الأحكام على النصوص ، وعدم الالتفات إلى ما اشتهر بينهم من القواعد التي زعموها أصولا حتى ردوا لأجلها الأخبار ، وارتكبوا فيها التأويلات البعيدة والى القول بالصحة هنا أيضا يميل صاحب الكفاية ، وقد عرفت قوته.

وقد اختلفوا أيضا في ما لو قال : ان عملته اليوم فلك درهمان ، وان عملته في غد فلك درهم ، فقيل : بالصحة وهو اختيار الشرائع واللمعة تبعا للخلاف ، حيث قال في الكتاب المذكور : إذا استأجره لخياطة ثوب ، وقال : ان خطت اليوم فلك درهم ، وان خطت في الغد فلك نصف درهم ، صح العقد فيهما ، لأن

٥٦٩

الأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج الى دليل ، وقوله عليه‌السلام (١) «المؤمنون عند شروطهم». وفي أخبارهم ما يجرى مثل هذه المسئلة بعينها منصوصة (٢) وهي أن يستأجر منه دابة على أن يوافي به يوما بعينه على أجرة معينة ، فان لم يواف به ذلك اليوم كان أجرتها أقل من ذلك ، وان هذا جائز» ، وهذا مثلها بعينها سواء ، وقال في المبسوط : صح العقد فيهما ، فان خاطه في اليوم الأول كان له الدرهم ، وان خاطه في الغد كان له أجرة المثل ، وهو ما بين الدرهم والنصف ، ولا ينقص من النصف الذي سمى ، ولا يبلغ الدرهم ، قال في المختلف : وهذا القول الذي اختاره في المبسوط قول أبي حنيفة.

وقال ابن إدريس : يبطل العقد وتبعه عليه أكثر المتأخرين كالمحقق الثاني والشهيد الثاني في المسالك ، والعلامة في المختلف ، وغيرهم اعترض في المختلف على كلام الشيخ في الخلاف ، فقال : وقول الشيخ بالأصل ممنوع ، إذ يترك لقيام معارض ، وفرق بين صورة النزاع وصورة النقل ، لأن صورة النقل أوجب عليه أن يوافي به في يوم بعينه ، وشرط ان لم يفعل أن ينقص من أجرته شيئا ، وصورة النزاع لم توجب شيئا معينا فتطرقت الجهالة إليه ، بخلاف الأول انتهى.

وفيه أن الأصل الذي تمسك به الشيخ أصل رزين ، وهو العمومات الدالة على صحة العقود والشروط كتابا وسنة ، وما عارضه به ليس الا مجرد دعواهم الجهالة في الصورة المذكورة ، ونحوها مما تقدم ، والدليل على الأبطال بنحو هذه الجهالة غير ثابت ، بل المعلوم من الأدلة كما عرفت إنما هو خلافه ، وما ادعاه من الفرق أيضا بين صورة النزاع والنقل ضعيف أيضا ، لأن المنازع في تلك المسئلة إنما تمسك بما تمسك به هنا من الجهالة ، ورد الرواية بذلك كما عرفت ، ومرجع الرواية إلى أنه إن أدخله في ذلك الوقت المعين فله كذا ، وان تخلف عنه فله

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤ وج ١٣ ص ٢٥٣ ح ١.

٥٧٠

أنقص ، وهذا عين ما نحن فيه.

نعم ما ذكره في المبسوط ضعيف بما أورده عليه في المختلف ، حيث قال : وتفصيل الشيخ في المبسوط ضعيف ، لأن العقد ان صح فله المسمى ، وان بطل فله أجرة المثل ، ويكون وجوده كعدمه ، كسائر العقود الباطلة ، انتهى.

ولو قال : ان خطته فارسيا فلك درهم ، وان خطته روميا فلك درهمان ، وفسر الرومي بدرزين ، والفارسي بدرز واحد ، فالخلاف المتقدم ، الا ان ابن إدريس قال هنا بعد الحكم بالبطلان : وان قلنا هذه جعالة كان قويا ، فإذا فعل الفعل المجعول عليه استحق الجعل ، واعترضه في المختلف بأنه ليس بجيد ، لتطرق الجهالة إلى الجعل ، فيجب أجرة المثل وأجاب في المسالك بأن مبنى الجعالة على الجهالة في العمل والفعل كمن رد عبدي فله نصفه ، ومن رد عبدي فله كذا ، ومحله غير معلوم ، وكذا من رد عبدي من موضع كذا ، فله كذا أو من موضع كذا فله كذا مع الجهالة فيهما انتهى ، والكل نفخ في غير ضرام ، لما عرفت من التحقيق في المقام والله سبحانه العالم.

السابعة : قد تقدم أنه لا خلاف ولا إشكال في أن الأجير يملك الأجرة بنفس العقد ، ولكن لا يجب التسليم الا بتسليم العين المستأجرة ان كانت الإجارة على عين ، أو تمام العمل ان كانت على عمل ، وإنما الكلام هنا في أنه هل يتوقف استحقاق المطالبة بالأجرة بعد العمل على تسليم العين المعمول فيها كثوب يخيطه ، وشي‌ء يصلحه ، ونحو ذلك؟ وفيه أقوال ثلاثة ، فقيل : بعدم التوقف وهو اختيار الشرائع والإرشاد وغيرهما ، وقيل : بالتوقف على التسليم ، وهو مختار المسالك وقبله المحقق الثاني في شرح القواعد ، وقيل : بالفرق بين ما إذا كان العمل في ملك الأجير ، فيتوقف على التسليم أو ملك المستأجر ، فلا يتوقف لأنه بيده تبعا للملك ، وهذا القول نقله في الشرائع وعلل القول الأول بأن العمل إنما هو في ملك المستأجر أو ما يجرى مجراه ، بمعنى أنه وإن وقع في ملك الأجير الا أنه لما

٥٧١

كانت يد الأجير كيد المستأجر لأنه مأذون عنه ، ووكيل عنه أو وديعة عنده فكأنه عمل وهو في يد المستأجر ، فيكون ذلك كافيا عن التسليم ، ولهذا لو عمل وهو في يد وكيله أو ودعيه فالظاهر أنه لا يحتاج الى التسليم.

والأظهر عندي الاستناد الى عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ، والشروط وخصوص ما تقدم من الأخبار الدالة على أنه لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته.

وبالجملة فإن العمل هو الذي استحق به الأجير الأجرة عقلا ونقلا ، والمعاوضة إنما وقعت عليه خاصة ، والعين في يد الأجير أمانة لا يضمنها إلا مع التعدي والتفريط ، فلا اعتبار بتسليمها وعدمه ، سواء كان العمل في ملك أحدهما أولا ، ولا يسقط بعدم تسليمها مع عدم ضمانها شي‌ء من الأجرة المستحقة بالعمل ، والروايات شاهدة بذلك.

وعلل الثاني كما ذكره في المسالك حيث اختاره بأن المعاوضة ، لا يجب على أحد المعاوضين فيها التسليم الا مع تسليم الآخر ، قال : فالأجود توقف المطالبة بها على تسليم العين ، وان كان العمل في ملك المستأجر ، وعلى هذا النهج كلام المحقق المتقدم ذكره.

وفيه أولا أن ما ذكره من هذه القاعدة في المعاوضة وان اشتهر في كلامهم ، الا أنه لا دليل عليه ، بل الظاهر إنما هو خلافه ، كما تقدم تحقيقه في المطلب الثالث في التسليم من الفصل الرابع في أحكام العقود من كتاب التجارة.

وثانيا ما عرفت من دليل القول الأول.

وأما القول الثالث فوجهه ظاهر مما ذكر ، ولكنه مردود بما ذكرناه في دليل القول الأول ، قال في المسالك : وما نقله من الفرق قول ثالث بأنه ان كان في ملك المستأجر لم يتوقف على تسليمه ، لأنه بيده تبعا للملك ، ولأنه غير مسلم للأجير حقيقة ، وإنما استعان به في شغله كما يستعين بالوكيل ، وان كان في ملك الأجير توقف ، وهو وسط أوجه ، من إطلاق المصنف والأوسط الذي اخترناه أوجه ، انتهى.

٥٧٢

وفيه ما عرفت وإلى ما رجحناه من القول الأول يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال بعد قول المصنف ويستحق الأجير الأجرة بالعمل وان كان في ملكه ما لفظه : دليل مختاره ومختار الشرائع وغيره هو استحقاق الأجير طلب أجرته بعد إتمام العمل ، وان لم يكن سلم العين إلى المستأجر وكان العمل في ملك المستأجر بل في بيت الأجير ، ولا يتوقف على تسليم العين ، نعم يجب عليه تسليم العين عند الطلب مع عدم المانع الشرعي فلو منع كان غاصبا ضامنا والظاهر أنه لا يستحق المستأجر المنع منه حتى يتسلم فلو منع كان غاصبا ظالما ، وهو خلاف ما مضى من أنه يملك الأجرة بمجرد العقد ، إذ قد قام الدليل العقلي والنقلي على عدم جواز منع المالك عن ملكه ، واستحقاقه الطلب ، وقد خرج قبل العمل بالإجماع ونحوه ، وبقي الباقي ويؤيده وجوب أجرة العقارات قبل الاستيفاء ، وعموم وخصوص أدلة لزوم الوفاء بالعقود والشروط.

والأخبار مثل حسنة هشام بن الحكم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الجمال والأجير قال : لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته». وقد مرت واختار البعض مثل المحقق الثاني والشهيد الثاني عدم استحقاقه الا بعد تسليم العين وان كانت في ملك المستأجر ، الا أن يكون في يد المستأجر لأنه لا يلزم العوض ولم يستحق طلبه في المعاوضات إلا بالتسليم ، وتسليم المنفعة إنما هو بتسليم العين كما هو في البيع.

وفيه تأمل يعلم مما تقدم ، ولا نسلم الكلية ، ولا نعرف له دليلا خصوصا إذا كان العوض منفعة بعد ثبوت الملك ، وفي البيع أيضا ان كان دليل فهو متبع لذلك ، والا نمنع هناك أيضا ، كما فيما نحن فيه ، على أنه قد يقال : أنه لما كانت بيد الأجير فهي بمنزلة كونه بيد المستأجر لأنه وكيل ومأذون في وضع اليد أو وديعة ، فكأنه فعل العمل والعين في يد المستأجر انتهى ، كلامه وهو كلام شاف وإنما نقلناه بطوله لتقف على جودة محصوله ، والله سبحانه العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٦ ح ١.

٥٧٣

الثامنة : قد صرحوا بأن كل موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه أجرة المثل ، مع استيفاء المنفعة أو بعضها ، سواء زادت عن المسمى أو نقصت ، وعلل ذلك بأن مقتضى البطلان رجوع كل عوض الى مالكه ، كما إذا بطل البيع يرجع البائع إلى مبيعه ، والمشتري الى ثمنه ، ولا يملك أحد منهما مال الآخر ولا منافعه إلا أنه في الإجارة لما كان أحد العوضين المنفعة ومع استيفائها من العين المستأجرة يمتنع ردها وجب الرجوع إلى عوضها ، وهو أجرة المثل ، كما إذا تلفت احدى العينين في المعاوضة الباطلة ، وإلا للزم الظلم على المؤجر بأخذ منفعة ماله بغير عوض ، لأنه لم يعطها مجانا وإنما أعطاها بأجرة ، لكنها من حيث بطلان العقد لم تسلم له ، فلا بد من العوض ، والمرجع فيه الى العرف المعبر عنه بأجرة المثل ، سواء زادت عن المسمى أم نقصت ، أم ساوت.

وهذا ظاهر مع الجهل ببطلان العقد ، أما مع العلم بالبطلان وأن الأجير لا يستحق بذلك أجرة ، ولا يجب على المستأجر دفعها ، فان عمل الأجير والحال هذه يرجع الى التبرع بعمله ، فلا يستحق شيئا بالكلية ، كمن خاط ثوبا لشخص بغير إذنه بالأجرة ، فإنه لا حق له شرعا ، ولو دفع المالك له شيئا ، والحال هذه فإنه يكون من قبيل سائر العطايا التي يستحق صاحبها الرجوع فيها مع بقاء العين ، وعدم الرجوع مع الإتلاف ، لأنه سلطه عليه باختياره كما صرحوا به في أمثاله.

والظاهر أن الأجير العالم كالغاصب في تصرفه ، فيترتب عليه الضمان ، بل قيل : ان المفهوم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا ، وهو مشكل من حيث الجهل ، واعتقاد صحة العقد ، وأنه إنما قبض بعقد صحيح ، ظاهرا ـ في اعتقاده وظهور فساده لا يكون موجبا لذلك ، فإنه غير مكلف بما في الواقع ونفس الأمر ، من صحة أو بطلان أو تحليل أو تحريم أو طهارة أو نجاسة أو نحو ذلك.

ونقل في المسالك عن الشهيد : أنه استثنى عن أصل الحكم المذكور ما لو

٥٧٤

كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد أو متضمنا له كما لو لم يذكره أجرة فإنه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة لدخول العامل على ذلك قال : وهو حسن ، أقول : لقائل أن يقول بالنسبة إلى الصورة الأولى وهو اشتراط عدم الأجرة كأن يقول آجرتك نفسي لأعمل لك كذا وكذا بغير أجرة ، ان مرجع هذا الكلام الى التبرع بالعمل ، فلا أثر لقبول المستأجر ولا إذنه الذي هو شرط في صحة العقد ، وأيضا فإن هذا الشرط مناف لمقتضى معنى آجرتك كما تقدم في تعريف الإجارة من أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة الخاصة بعوض ، أو عبارة عن نفس الثمرة ، فالأظهر أنه ليس بعقد فاسد ، بل اذن في العمل بغير أجرة ، والا فلا معنى لهذا اللفظ بل لا يمكن أن يتلفظ به عالم ، عاقل الا أن يقصد التجوز بلفظ آجرتك ، وإخراجه عن معناه ، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر.

وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية وهي ترك ذكر الأجرة ، فإنه يمكن أن يقال : ان ترك ذكرها لا يدل على الرضا بعدمها ، بل هو أعم إذ قد يكون لنسيان أو جهل أو اعتقاد أنه معلوم مقرر أو أنه ينصرف إلى العادة والعرف ، ويؤيده أن الأصل عدم التبرع ، ولهذا حكموا مع عدم صحة العقد بأجرة المثل ، بناء على ذلك حتى يعلم المخرج عنه بدليل.

وبالجملة فإن الترك أعم والعام لا دلالة على الخاص ، وفي المسالك بعد أن نقل عن الشهيد ما قدمنا ذكره قال : وربما استشكل الحكم فيما لو كانت الإجارة متعلقة بمنفعة عين كدار مثلا ، فاستوفاها المستأجر بنفسه ، فان اشتراط عدم العوض إنما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمنه من التراضي فحقه وجوب أجرة المثل ، كما لو باعه على أن لا ثمن عليه.

ثم أجاب بأنه مع اشتراط عدم الأجرة في الصورة المذكورة يكون ذلك من قبيل العارية دون عقد الإجارة ، قال : فإن الإعارة لا يختص بلفظ مخصوص ، بل ولا يتوقف على لفظ مطلقا ، ولا شك أن اشتراط عدم الأجرة صريح في الأذن

٥٧٥

في الانتفاع بغير عوض ، فلا يترتب عليه ثبوت عوض أجرة.

أقول : وهذا إيراد آخر على القول المذكور من غير الجهة التي قدمنا ذكرها ، ثم انه قال : أما لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير فعمل بنفسه مع فسادها ، توجه عدم استحقاقه بشي‌ء ظاهر ، لأنه متبرع بالعمل ، وهو المباشر لإتلاف المنفعة ، ثم أنه أورد على ذلك ما لو كان عمله بأمر المستأجر فإنه يستحق أجرة المثل من حيث الأمر ، كما في كل أمر يعمل ، نعم لو كان عمله بغير سؤال المستأجر وأمره فإنه لا يستحق شيئا بالكلية ، لتحقق التبرع حينئذ.

أقول : الظاهر أن هذا الإيراد وما اشتمل عليه من التفصيل بين أمر المستأجر وعدمه انما يتم في الصورة الثانية ، وهو عدم ذكر الأجرة في العقد نفيا ولا إثباتا ، والا ففي صورة اشتراط عدم الأجرة فإنه وان أمره المستأجر وأذن له الا أنه لا أثر له مع اشتراطه على نفسه عدم الأجرة الراجع الى كونه متبرعا بالعمل كما عرفت.

ثم انه قال في المسالك بعد ذلك : فان قلت : أي فائدة في تسميته عقدا فاسدا مع ثبوت هذه الأحكام وإقامته مقام العارية ، قلت : فساده بالنسبة إلى الإجارة بمعنى عدم ترتب أحكامها اللازمة لصحيح عقدها ، كوجوب العمل على الأجير ونحوه ، لا مطلق الأثر ، انتهى.

التاسعة : قد صرح الأصحاب بأنه يكره استعمال الأجير قبل أن يقاطعه ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، ويدل عليه من الأخبار ما رواه في الكافي والتهذيب عن مسعدة بن صدقة في الموثق (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يستعملن أجيرا حتى يعلمه ما أجره» الحديث.

وعن سليمان بن جعفر الجعفري في الصحيح (٢) قال : «كنت مع الرضا عليه‌السلام في بعض الحاجة وأردت أن أنصرف الى منزلي ، فقال لي : انطلق معي فبت عندي

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ١١ وص ٢١٢ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٥ ح ١ و ٢.

٥٧٦

الليلة ، فانطلقت معه فدخل الى داره مع المعتب فنظر الى غلمانه يعملون بالطين أواري الدواب وغير ذلك ، إذا معهم أسود ليس منهم ، فقال : ما هذا الرجل معكم؟ قالوا : يعاوننا ونعطيه شيئا قال : قاطعتموه على أجرته؟ فقالوا : لا ، هو يرضى منا بما نعطيه ، فأقبل عليهم يضربهم بالسوط ، وغضب لذلك غضبا شديدا فقلت : جعلت فداك لم تدخل على نفسك ، فقال : انى نهيتهم عن مثل هذا غير مرة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه على أجرته : واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثم زدته لذلك الشي‌ء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك نقصت أجرته فإذا قاطعته ثم أعطيته حمدك على الوفاء ، فان زدته حبة عرف ذلك لك ورأى أنك قد زدته».

وأنت خبير بأن ظاهر هذين الخبرين إنما هو التحريم ، إلا أنهم عليهم‌السلام كثيرا ما يؤكدون في النهي عن المكروهات بما يوهم إلحاقها بالمحرمات ، وفي المستحبات بما يكاد يدخلها في حيز الواجبات ، وعلى هذا فربما يستفاد من الخبر الثاني جواز الضرب على فعل المكروه ، ويحتمل أن يقال : ان ذلك وإن كان مكروها إلا أنه من حيث مخالفة أمر المولى حيث أنه عليه‌السلام نهاهم عن ذلك مرارا كان ما فعلوه محرما ، فيجوز التأديب عليه بلا إشكال.

بقي الكلام في أنه في الشرائع عد من جملة ما يكره هنا تضمينه ، إلا مع التهمة ، حيث قال : ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطعه على الأجرة ، وأن يضمن إلا مع التهمة ، والأول من هذين الفردين قد عرفت الكلام فيه.

وأما الثاني فهو لا يخلو من الإجمال الموجب لتعدد الاحتمال ، ولهذا قال في المسالك : فيه تفسيرات : الأول : أن يشهد شاهدان على تفريطه ، فإنه يكره تضمينه للعين إذا لم يكن متهما.

الثاني : لو لم يقسم عليه بينة ، وتوجه عليه اليمين يكره تحليفه ليضمنه كذلك.

٥٧٧

الثالث : لو نكل عن اليمين المذكورة وقضيناه بالنكول حينئذ كره تضمينه كذلك.

الرابع : على تقدير ضمانه وان لم يفرط كما إذا كان صائغا على ما سيأتي يكره تضمينه حينئذ مع عدم تهمته بالتقصير.

الخامس : أنه يكره له أن يشترط عليه الضمان بدون التفريط على القول بجواز الشرط.

السادس : لو أقام المستأجر شاهدا عليه بالتفريط كره أن يحلف معه ليضمنه مع عدم التهمة.

السابع : لو لم يقض بالنكول يكره له أن يحلف ليضمنه كذلك.

والأربعة الأول سديدة ، والخامس مبني على صحة الشرط ، وقد بينا فساده وفساد العقد به ، والأخيران فيهما أن المستأجر لا يمكنه الحلف إلا مع العلم بالسبب الذي يوجب الضمان ، ومع فرضه لا يكره تضمينه ، لاختصاص الكراهة بعدم تهمته فكيف مع تبين ضمانه ، انتهى.

أقول : لا يخفى ان الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل كالوجوب والتحريم والاستحباب ، ومتى ثبت للإنسان حق شرعي بالبينة أو اليمين أو النكول أو نحو ذلك لا وجه لكونه يكره له أخذه من غير دليل ، يدل على ذلك وبه يظهر ما في أكثر هذه المواضع المعدودة.

والأظهر عندي هو حمل ذلك على الصائغ والقصار ونحوهما ممن يعطى الأجرة ليصلح فيفسد أو يتلف ، فان الروايات قد اختلف في تضمينهم مع دعوى التلف ، وعدم التفريط في الإفساد فأكثر الأخبار على تضمينهم مع التفريط.

وجملة من الأخبار قد فصلت بين كونه مأمونا فلا ضمان عليه ، ومتهما فضمنه ، وبعض الأخبار يدل على عدم التضمين مطلقا ، وطريق الجمع بين الجميع كراهة التضمين إلا مع التهمة ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى ،

٥٧٨

وبسط الأخبار والأقوال في المطلب الثالث في الأحكام.

وأما قوله : ان الخامس مبني على صحة الشرط ، وقد بينا فساده ، ففيه إنا قد بينا صحته بما هو ظاهر للناظر ، كما تقدم في الموضع الخامس من المطلب الأول ، إلا أن فيه ما عرفت من أن مجرد صحته وجوازه لا يستلزم الكراهة ، بل الأصل صحته وجوازه من غير كراهة كغيره من الأمور الجائزة المباحة حتى يقوم دليل على الكراهة ، والله سبحانه العالم.

العاشرة : قد صرحوا بأن المنفعة تملك بنفس العقد ، كما تملك الأجرة ، ووجهه ظاهر مما تقدم في المسئلة الثانية من مسائل هذا المطلب ، من اقتضاء صحة المعاوضة ولزومها نقل الملك في كل من العوضين من أحدهما إلى الآخر كالبيع ، وسائر عقود المعاوضات اللازمة والإجارة من جملتها ، فالمنفعة هنا منتقل إلى المستأجر بنفس العقد ، وان كان انما يستوفيها تدريجا وشيئا فشيئا وهو غير مناف للملك ، إذ لا يشترط في التمليك وجود المملوك ، وملك المستأجر لها هنا على حسب ملك الموجر لها ، فإنه لا إشكال في أنه مالك لمنفعة نفسه ، وليس ذلك إلا باعتبار صحة تصرفه فيها كتصرفه في العين بالنقل الى غيره ، فكذا المستأجر باعتبار صحة استيفائها ونقلها الى غيره ، ونحو ذلك من لوازم الحقوق المالية.

وبالجملة فإن ملك المستأجر لها على حسب ملك الموجر لها ، ولم يخالف في ذلك الا بعض العامة ، حيث زعم أن المستأجر لا يملك المنفعة بالعقد ، لأنها معدومة ، بل يملكها على التدريج شيئا فشيئا بعد وجودها ، وحدوثها على ملك الموجر ، وجعل ملك الأجرة تابعا لملك المنفعة ، فلا يملكها المؤجر إلا تدريجا كذلك ، وضعفه أظهر من أن يخفى ، وكما يملك الموجر الأجرة بمجرد العقد كذلك يملك المستأجر المنفعة بمجرده ، ولا فرق بينهما إلا بأن تسليم الأجرة موقوف على دفع العين المستأجرة إن وقع الاستيجار على منفعة تلك العين ، أو إتمام العمل إن وقع على العمل كما تقدم ، والمنفعة يجب تسليمها مع الطلب

٥٧٩

بتسليم العين التي يراد الانتفاع بها إن كان كذلك ، أو عمل الأجير إن كان الاستيجار على عمله.

قيل : ويمكن جواز منع كل واحد منها عما في يد صاحبه الذي انتقل اليه حتى يتسلم حقه ، كما قيل في البيع والشراء ، وهذا في غير العمل ، كالعين المستأجرة للانتفاع من دار ودابة ونحوهما ، أما العمل كالخياطة فإنه يجب عليه العمل ، ولا يجب تسليم الأجرة اليه إلا بعد كماله ، والفرق بينهما أن العمل مقدور للعامل ، فيعمل ثم يأخذ حقه ، بخلاف المنفعة فإنها إنما تستوفي باستعمال المستأجر مع مضي الزمان ، وليس على المؤجر إلا تسليم العين وقد فعل ، فيترتب عليه وجوب دفع الأجرة ، وحينئذ فيمكن ما ذكره ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في كتاب البيع ، وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا في المسئلة السابقة من مسائل هذا المطلب.

الحادية عشر : قيل : يشترط اتصال مدة الإجارة بالعقد ، فلو أطلق أو عين شهرا متأخرا عن العقد بطل العقد ، وهو منقول عن المبسوط والخلاف ، وعن أبى الصلاح متابعة الشيخ في الفرد الثاني ، ونقل عن الشيخ الاحتجاج على ما ذكره في كل من الفردين بأن عقد الإجارة حكم شرعي ، ولا يثبت إلا بدلالة شرعية ، وليس على ثبوت الإجارة في الموضعين المذكورين دليل ، فوجب أن لا يكون صحيحا.

واحتج أبو الصلاح ـ على الموضع الذي تبع فيه الشيخ ـ بأن صحة الإجارة تتوقف على التسليم.

وأجيب عن حجة الشيخ بأن الدليل موجود ، وهو الأدلة العامة كتابا وسنة على وجوب الوفاء بالعقود ، والأصل ، وعن حجة أبي الصلاح بالمنع من توقف الصحة في مطلق الإجارة على التسليم ، بل هو عين المتنازع ، ومحل البحث سيما مع ما عرفت من أصالة الصحة ، وعموم الأدلة الدالة على الصحة حتى يقوم دليل

٥٨٠