الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

أو إطلاقه وهو مما لا شك في صحة الاستدلال به ، لا الاستصحاب المتنازع فيه بأن عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والشروط ـ يقتضي البقاء على حكمها حتى يحصل المخرج عن ذلك والرافع له ، وليس فليس ـ بل خصوص ما قدمناه من الأخبار الدالة على لزوم الإجارة إلى الوقت المحدود.

مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة على بن يقطين المتقدمة في الموضع الأول «الكري لازم الى الوقت الذي اكتراه اليه» ونحوها رواية محمد بن سهل المتقدمة أيضا ، فإن للقائل بالصحة أن يستصحب اللزوم حتى يقوم دليل على البطلان وليس ألا ما ذكروه من تلك التعليلات العليلة مما قدمنا بيانه.

ويزيد ذلك تأييدا وان كان أخص من المدعى ما رواه في التهذيب عن إبراهيم الهمداني (١) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة في كل سنة عند انقضائها لا يقدم لها شي‌ء من الإجارة ما لم ينقض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منتقضة لموت المرأة فكتب عليه‌السلام ان كان لها وقت مسمى لم تبلغه فماتت فلورثتها تلك الإجارة وان لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا منه فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إنشاء الله تعالى.

وبهذا المضمون أيضا رواية أحمد بن إسحاق الأبهري (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام وحاصل الجواب بقرينة ما اشتمل عليه السؤال من الشرط المذكور فيه أن حكم الورثة في الإجارة المذكورة حكم المرأة من أن لورثتها تلك الإجارة إلى الوقت المسمى فيها ، الا أنهم انما يعطون الأجرة بقدر ما مضى من تلك المدة عملا بالشرط المذكور على المرأة.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٧ ح ٥٨ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٠ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٨ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٥٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٩ ح ٥.

٥٤١

وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المذكور كما عرفت مضافا الى ما عرفت في أدلة خلافه من القصور ، وقد استثنى الأصحاب من هذا الحكم بناء على القول المذكور مواضع منها ان يشترط الموجر على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه ، فإنها تبطل بموته ، وهو الظاهر عملا بالشرط المذكور.

ومنها أن يكون الموجر موقوفا عليه فيؤجر الوقف ثم يموت قبل انقضاء المدة ، فإنها تبطل بموته عندهم ، فهو بمنزلة انقضاء المدة ، لأنه إنما يملك المنفعة إلى حين موته ، الا أن يكون ناظرا على الوقف ، فيوجره لمصلحة العين أو لمصلحة البطون ، فإنها لا تبطل حينئذ بموت الناظر ، والصحة هنا ليست من حيث كونه موقوفا عليه ، بل من حيث كونه ناظرا.

ومنها الموصى إليه بالمنفعة مدة حياته لو آجرها مدة ، ومات في أثناء المدة ، فإنها تبطل بموته للعلة المذكورة في سابقه ، وهو انتهاء استحقاقه ، حيث أن ملكه مقصور على مدة حياته ، والله سبحانه العالم.

الرابع : من الكليات المتفق عليها بينهم أن كلما صح إعارته صح إجارته ، وقيدها بعضهم بما صح إعارته بحسب الأصل لا مطلقا ، فإن المنحة وهي الشاة المعارة للانتفاع بلبنها مما يصح إعارتها مع أنه لا يصح إجارتها ، الا أن هذا الحكم انما ثبت فيها على خلاف الأصل والقاعدة في العارية ، كما تقدم ذكره ، فان مقتضى قاعدة العارية أن المستفاد ما صح الانتفاع به مع بقاء عينه ، والمنحة ليست كذلك ، فحكمها مخالف لقاعدة العارية فلا بد من القيد في الكلية المذكورة.

وبعضهم حمل الكلية المذكورة على ما هو الغالب ، فلا يحتاج الى القيد المذكور ، وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف ويصح اجارة كل ما يصح إعارته ـ ما صورته : أي كل ما يصح إعارته من الأعيان للانتفاع بالمنفعة التي لا تكون عينا يصح إجارته أيضا ، لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض ، والعارية بدون العوض ، ولا فرق بينهما فكل ما يصح فيه أحدهما يصح

٥٤٢

فيه الآخر ، ووجه قيد التي لا تكون عينا ظاهر ، فإنه قد نقل الإجماع في التذكرة وغيرها على عدم صحة الإعارة عندنا إذا كانت المنفعة المنتقلة مثل لبن شاة ، وثمر بستان ونحوهما ، ولهذا ترك القيد فلا يرد عليه أنه يجوز إعارة الشاة ونحوها ، ولا يجوز إجارتها ، ولا يحتاج الى الجواب بأن المراد غالبا كما قاله المحقق الثاني فتأمل ، انتهى.

أقول : لا أعرف لما ذكره في هذا المقام من الكلام وجها واضحا لما تقدم في العارية من الاتفاق على إعارة الشاة للبن وهي المنحة ، وان كان الدليل عليها لا يخلو من القصور ، وما نقله عن التذكرة وغيرها من الإجماع على عدم صحة الإعارة عندنا إذا كانت المنفعة المنتقلة عينا مثل لبن شاة أو ثمرة بستان ـ لم أقف عليه في التذكرة وانما الذي فيها ما قدمنا نقله في كتاب العارية حيث قال يجوز اعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها ، وهي المنحة لاقتضاء الحكمة إباحته ، لأن الحاجة تدعو الى ذلك والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان إلى آخر ما قدمنا نقله عنه ثمة ، وحينئذ فإذا ثبت صحة عارية الغنم خاصة كما هو أحد القولين أو مع غيرها مما ألحق بها كما هو القول الأخر للبن خاصة أو غيره من المنافع أيضا على الخلاف ، فكيف لا يجب التقييد في الكلية المتقدمة بأحد القيدين المتقدمين.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه لصحة كلامه هنا ، ولعله أراد وجها لم يهتد إليه فهمي القاصر ، والا فإنه على ظاهره في غاية الغرابة من مثله والله سبحانه العالم.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في أن العين المستأجرة كالدابة ونحوها أمانة في يد المستأجر في ضمن المدة المستأجرة لا يضمنها الا بالتفريط أو التعدي ، والوجه فيه أنها مقبوضة بإذن المالك ، فلا يتعقبها ضمان الا على أحد الوجهين المذكورين.

وانما الخلاف فيما بعد المدة إذا لم يطالب المالك بردها أو طالب ولكن وقع التلف في أثناء الرد بحيث لم يؤخر الدفع بعد الطلب ، والمشهور بين المتأخرين العدم ، لأنه لا يجب على المستأجر رد العين على الموجر ، ولا مؤنة ذلك ،

٥٤٣

وانما يجب عليه التخلية بين المالك وبينها كالوديعة ، لأصالة براءة ذمته من وجوب الرد ، لأنها أمانة قبل انقضاء المدة ، فيستصحب ولا يجب ردها الا بعد المطالبة ، والواجب بعدها تمكينه منها ، كغيرها من الأمانات.

وخالف في ذلك جماعة منهم الشيخ وابن الجنيد ، قال في المبسوط : إذا استأجر دابة واستوفي حقه أو لم يستوف وأمسك البهيمة بعد مضي المدة فهل يصير ضامنا لها؟ وهل يجب عليه مؤنتها ومؤنة الرد بعد الاستيفاء أم لا؟ فإنه يجب عليه الرد بعد مضي المدة ، ومؤنة الرد إذا أمسكها وقد أمكنه الرد على حسب العادة صار ضامنا ، وانما قلنا ذلك لأن ما بعد المدة غير مأذون له في إمساكها ومن أمسك شيئا بغير اذن صاحبه وأمكنه الرد فلم يرد ضمن ، وفي الناس من قال : لا يصير ضامنا ، ولا يجب عليه الرد ولا مؤنة الرد وأكثر ما يلزمه أن يرفع يده عن البهيمة ، إذا أراد صاحبها أن يسترجعها ، لأنها أمانة في يده ، فلم يجب ردها مثل الوديعة.

وقال ابن إدريس : الذي يقوى في نفسي أنه لا يصير ضامنا ولا يجب عليه الرد الا بعد مطالبة صاحبها بالرد ، لأن هذه أمانة فلا يجب ردها الا بعد المطالبة ، مثل الوديعة ، لأن الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي‌ء يحتاج الى دليل ، وما ذكره شيخنا في نصرة مذهبه فبعيد ، ويعارض بالرهن إذا قضى الراهن الدين ، ولم يطالب برد الرهن ، وهلك فلا خلاف أن المرتهن لا يكون ضامنا له ، وإن كان قال : للمرتهن أمسك هذا الرهن الى أن أسلم إليك حقك ، فقد أذن له في إمساكه هذه المدة ، ولم يأذن فيما بعدها مطلقا ، بل بقي على أمانته ، وعلى ما كان أولا ، وكذلك في مسئلتنا ، انتهى.

وعلى هذا القول جرى أكثر من تأخر عنه منهم الفاضلان في غير المختلف وأما فيه فإنه بعد نقل كلام الشيخ وكلام ابن إدريس قال : وفي ذلك عندي تردد. أقول : والأظهر هو القول المشهور تمسكا بأصالة براءة الذمة حتى يقوم على

٥٤٤

خلافها دليل ، مؤيدا ذلك بالنظائر المذكورة في كلامهم.

بقي الكلام فيما لو اشترط عليه الضمان من غير تعد ولا تفريط ، وظاهرهم هنا هو القول ببطلان الشرط المذكور ، وتردد المحقق ثم استظهر المنع ، ومنشأ التردد من عموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط ، ومن مخالفة هذا الشرط لمقتضى العقد ، وذلك فإنه قد ثبت شرعا أن المستأجر أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط فلا يصح هذا الشرط.

وعندي فيه نظر ، قد تقدم ذكره في غير موضع ، فإن أكثر الشروط الواردة على العقود إنما هي بمنزلة الاستثناء مما دل عليه أصل العقد ، بمعنى أنه لو لا ذكرها لكان مقتضى العقد دخولها كما أن مقتضى البيع اللزوم ، مع أنه يدخله شرط الفسخ بلا خلاف ولا إشكال.

وإلى ما ذكرناه من صحة الشرط المذكور مال في الكفاية ، وعلله بما يقرب مما ذكرناه ، قال : ويمكن أن يقال : أدلة صحة العقود والشروط يقتضي صحة هذا العقد والشرط ، وكونه مخالفا لما ثبت شرعا ممنوع ، لأن الثابت عدم الضمان عند عدم الشرط ، لا مطلقا.

وقد روى موسى بن بكر (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل استأجر سفينة من ملاح فحملها طعاما واشترط عليه ان نقص الطعام فعليه ، قال : جائز ، قلت : له أنه ربما زاد الطعام؟ قال : فقال : يدعي الملاح أنه زاد فيه شيئا؟ قلت : لا ، قال : هو لصاحب الطعام الزيادة ، وعليه النقصان إذا كان قد شرط عليه ذلك» ، انتهى وهو جيد.

ثم انه علي تقدير بطلان الشرط ، هل يبطل العقد ببطلانه ، أم الشرط ، خاصة؟ قولان : قد تقدم ذكرهما في غير موضع ، والمشهور الأول ، وقد تقدم

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٠ باب ٢٧.

٥٤٥

تحقيق القول في ذلك مقدمات كتاب الطهارة (١) ثم إنه علي تقدير القول الثاني فالثابت عدم الضمان ، وهو الظاهر ، وعلي تقدير الأول فالظاهر أنه كذلك أيضا لأصالة العدم ، ولما تقرر في كلامهم «من أن كل ما لا يضمن بصحيحه ، لا يضمن بفاسده» ، ويأتي علي ما قدمناه من صحة العقد والشرط المذكورين الضمان ، وهو ظاهر.

قالوا : ويجوز إجارة المشترك بينه وبين غيره ، لعموم الأدلة ولعدم ثبوت مانعية الشركة ، لإمكان تسليمه واستيفاء المنفعة بموافقة الشريك ، ولو امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ، ويكون كما لو تنازع الشريكان ، والحكم اتفاقي عندهم ، كما نقله في المسالك ، ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض العامة ، حيث منع الإجارة لغير الشريك والله سبحانه العالم.

السادس : المشهور بين الأصحاب بل لا يظهر فيه مخالف صحة خيار الشرط في الإجارة ، لعموم أدلة الإجارة ، وعموم أدلة صحة الشروط الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، وعدم ظهور مانع ، ولا فرق بين شرطه لهما معا ، أو لأحدهما ، أو لأجنبي كما تقدم في البيع ، ولا فرق بين أن تكون الإجارة لعين معينة كهذه العين ، أو يكون موردها الذمة كان يستأجره لعمل مطلق غير مقيد بشخص كبناء حائط.

وقد اتفقوا أيضا على أنه لا يدخلها خيار المجلس ، لأنه مختص عندنا بالبيع ، فلا يثبت فيها مع الإطلاق ، أما لو شرط فالمشهور عدم صحته ، لأنه شرط مجهول ، لأن المجلس يختلف بالزيادة والنقصان ، وعدم قدحه في البيع من حيث أنه ثابت فيه بالنص.

وعن المبسوط صحة الشرط المذكور (٢) لعموم «المؤمنون عند شروطهم». ورد بما عرفت من أنه شرط مجهول ، فيجهل ، به العقد ، وثبوته في البيع مستثنى بما ذكرناه ، والله سبحانه العالم.

__________________

(١) ج ١ ص ١٦٤.

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

٥٤٦

المطلب الثاني في الشروط

وهي ستة الأول : كمال المتعاقدين فلا ينعقد بالصبي والمجنون ، وفي الصبي المميز بإذن الولي وجهان ، بل قولان : وقد تقدم تحقيق ، الكلام في المقام في البيع (١) بما لا مزيد عليه.

الثاني : معلومية الأجرة لا خلاف ولا إشكال في اشتراط كون الأجرة معلومة في الجملة ، لكن هل يكفي في المكيل والموزون الاكتفاء بمعلوميتها بالمشاهدة ، لانتفاء معظم الغرر بذلك ، وأصالة الصحة أم لا بد من الكيل والوزن في كل منهما؟ قولان : المشهور الثاني ، ونقل الأول عن جماعة منهم الشيخ والمرتضى ، واستحسنه في الشرائع ، واستشكل في الإرشاد في ذلك.

قال في المبسوط : مال الإجارة يصح أن يكون معلوما بالمشاهدة ، وان لم يعلم قدره ، لأصالة الصحة ، ولأن الغرر منفي لحصول العلم بالمشاهدة.

ومنع ابن إدريس من ذلك ، وأجيب عنه بأن الإجارة معاملة لازمة مبنية على المغالبة والمماكسة ، فلا بد فيها من نفي الغرر عن العوضين ، وقد ثبت من الشارع اعتبار الكيل والوزن في المكيل والموزون في البيع ، وعدم الاكتفاء بالمشاهدة ، فكذا في الإجارة ، لاتحاد طريق المسئلتين ، ولنهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) عن الغرر مطلقا ، وهو شامل لموضع النزاع ومثله المعدود ، وكذا أجاب به في المسالك ، ونحوه كلام العلامة في المختلف.

وظاهر المحقق الأردبيلي هنا الميل إلى القول الأول ، حيث قال بعد نقل الخلاف في المسئلة : والأصل وعموم أدلة الإجارة وعدم دليل صالح للاشتراط دليل الأول ، إذ ليس الا الغرر المنفي في البيع على ما نقل عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلو صح كان دليلا في البيع فقط ، الا أن يعلم أن السبب هو الغرر فقط من حيث

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٦٧.

(٢) الدعائم ج ٢ ص ١٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٠ ح ٣.

٥٤٧

هو ، وأنه الموجب للفساد ، وأنه موجود فيما نحن فيه فكان دليلا للثاني أيضا ولكن أنى بإثبات ذلك كله ، فإن المراد بالغرر المنفي غير واضح ، وكذا عليته فقط ، ووجوده فيما نحن فيه ، إذ نعلم انتفاعه في مشاهدة غير المكيل والموزون بالاتفاق ، والظاهر أنه يكفي العلم بالمشاهدة في المكيل والموزون ، وفي المعدود والمزروع بالطريق الأولى ، ويؤيده بطلان القياس ، وكون الإجارة غير بيع عندنا.

وقال في الشرح قلت : الحديث ورد في البيع ، والإجارة محمولة عليه عند بعض العامة ، لأنها بيع ، وأما عندنا فلا يأتي الا من طريق اتحاد المسئلتين إلى آخره ، وقد عرفت عدم إمكان إثبات الاتحاد بحيث لا يكون قياسا باطلا ، انتهى كلامه وهو جيد.

أقول : وقد تقدم في كتاب البيع الكلام في هذه المسئلة (١) والنقل عن جملة من الأصحاب جواز البيع مع المشاهدة في الصورة المذكورة ، وأنه هو الظاهر من أكثر من الأخبار ، وإذا ثبت ذلك في البيع بطل ما اعتمدوه من حمل الإجارة عليه ، وما استندوا اليه من الخبر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في النهي عن بيع الغرر لم يثبت من طرقنا ، وإن كثر تناقله في كلامهم وعلى تقدير ثبوته فحمل الإجارة على البيع في ذلك لا يخرج عن القياس ، كما ذكره المحقق المذكور.

وما ذكره في المسالك من نهى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الغرر مطلقا ، (٢) وهو شامل لموضع النزاع مردود ، بعدم ثبوت ما ادعاه ، والمنقول من كلام غيره إنما هو دعوى ورود الخبر في البيع لا مطلقا ، مع عدم ثبوته من طرقنا كما عرفت ، وبذلك يظهر لك قوة القول الأول وإن كان الأحوط هو المشهور والله سبحانه العالم.

الثالث : أن تكون المنفعة مملوكة ، اما تبعا لملك العين بأن يكون مالكا

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٨١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٠ ح ٣.

٥٤٨

للأصل ، فتبعه المنفعة وهو ظاهر ، أو منفردة بأن يكون قد استأجره وملك منفعته بالاستيجار من غير أن يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه ، أو عدم الإجارة لغيره ، فلو شرط عليه أحد الأمرين لم يجز عملا بالشرط ، والظاهر أن المراد بالملكية هنا هو صحة التصرف والسلطنة على المنفعة بوجه شرعي ، لتدخل فيه ما إذا كان وقفا بناء على القول بعدم ملك الموقوف عليه.

أقول : وقد تقدم الكلام في أن للمستأجر أن يوجر غيره في المسئلة الرابعة من مسائل المطلب الثالث (١) وكذا في كتاب المزارعة ، فإنه هو الموضع الذي بسطنا فيه الأخبار ، ونقحنا المسئلة فيه كما هو حقها ، واختلفوا فيما لو آجر غير المالك شيئا مما يصح للمالك إيجاره فضولا ، هل يقع باطلا أو يقف على الإجازة؟ قولان.

قال في المسالك : ولا خصوصية لهما بالإجارة ، بل الخلاف وارد في جميع عقود الفضولي ، ولكن قد يختص الإجارة عن البيع بقوة جانب البطلان ، من حيث أنه قضية عروة البارقي (٢) مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شراء الشاة دلت على جواز بيع الفضولي وشرائه ، وقد يقال : باختصاص الجواز بمورد النص ، والأقوى توقفه على الإجازة مطلقا ، انتهى.

أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسئلة في البيع بما لا مزيد عليه (٣) ومن العجب العجاب أنهم يردون الأخبار المروية في أصولهم المشهورة المعول عليها بين متقدميهم بلا خلاف ، من جهة ضعف السند بهذا الاصطلاح الجديد ، ويتلقون هذا الخبر العامي بالقبول ، ويفرعون عليه ما لا يخفى من الفروع ، وأعجب من ذلك أن مورد خبرهم إنما هو البيع ، وهم يعدون ذلك إلى جميع المعاوضات كما سمعت من كلامه هنا ، ونحوه غيره ، فأسأل الله عزوجل المسامحة

__________________

(١) ص ٥٦٣.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٢. ب ١٨ ح ١.

(٣) ج ١٨ ص ٣٧٦.

٥٤٩

لناولهم فيما زالت فيه الأقدام.

الرابع : أن يكون المنفعة معلومة بين المتعاقدين ، ليزول الغرر ، اما بتقدير العمل كخياطة هذا الثوب ، وركوب الدابة إلى الموضع الفلاني ، أو بتقدير المدة كخياطة شهر ، وركوب شهر ، وسكنى الدار سنة ونحو ذلك.

ولو قدره بالمدة والعمل معا ، قيل : يبطل وقيل : يصح ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مقامين : الأول : ينبغي أن يعلم أن التخيير هنا بين التقدير بكل من هذين الأمرين ليس كليا ، وإنما المراد أن كل منفعة يمكن تقديرها بهما معا فإنه يتخير بين تقديرها بأحدهما ، وذلك كاستئجار الآدمي والدابة ، فإنه يمكن ضبطه بالعمل والمدة كالمثالين المتقدمين من خياطة هذا الثوب ، وركوب الدابة إلى الموضع الفلاني ، ويمكن ضبطه بالزمان كخياطة شهر وركوب شهر ، فبأيهما ضبطها كان صحيحا ، وما لا يمكن ضبطه وتقديره الا بالزمان كالعقارات مثل سكنى الدار والإرضاع ، فإنه لا بد من تقديره بالزمان وضبطه به ، والضابط هو العلم بالمنفعة على أحد الوجهين المذكورين.

وعن التحرير أنه جعل الضابط بالنسبة إلى ما يجوز بهما معا ما كان له عمل بالعمل كالحيوان ، وما يختص بالزمان ما ليس له عمل كالدار والأرض ، وأورد عليه بأنه ينتقض الأول باستئجار الآدمي للإرضاع ، فإنه عمل ولا ينضبط الا بالزمان.

الثاني : فيما لو قدر بهما معا بأن جمع بين تعيين العمل وضبط المدة بحيث يتطابق بتمام العمل والمدة ، ولا يزيد أحدهما على الآخر مثل أن يخيط هذا الثوب في هذا اليوم ، فإنه قيل : بالبطلان ، لأنه غرور ، ولأن استيفاء العمل في تلك المدة قد لا يتفق ، وان اتفق فهو نادر ، فكأنه استأجره على ما لا يقدر عليه عادة ، فإنه يمكن انتهاء العمل قبل انتهاء الزمان ، وبالعكس فإن أمر بالعمل على تقدير الأول إلى أن ينتهي المدة لزم الزيادة على ما وقع عليه العقد بالنسبة إلى شرط

٥٥٠

العمل لانتهائه ، كما هو المفروض ، وإن لم يأمر بالعمل لزم ترك العمل في المدة المشروطة بالنظر إلى التحديد بالزمان ، وعلى تقدير الثاني وهو العكس ان أمر بالإكمال مع انتهاء الزمان كما هو المفروض لزم العمل في غير المدة المشروطة ، وان لم يأمر كان تاركا للعمل الذي وقع عليه العقد.

وقيل : بالصحة ونقله في المسالك عن المختلف ، ولم أقف عليه في كتاب الإجارة بعد التتبع له وكونه في غير الكتاب المذكور بعيد ، قال : واختار في المختلف الصحة محتجا بأن الغرض إنما يتعلق في ذلك غالبا بفراغ العمل ، ولا ثمرة مهمة في تطبيقه على الزمان ، والفراغ أمر ممكن لا غرر فيه ، فعلى هذا ان فرغ قبل آخر الزمان ملك الأجرة ، لحصول الغرض ، فإن خرجت المدة قبله فلمستأجر فسخه ، فإن فسخ قبل عمل شي‌ء فلا شي‌ء ، أو بعد شي‌ء فأجرة مثل ما عمل ، وان اختار الإمضاء لزم الإكمال خارج المدة ، وليس له الفسخ.

ثم قال في المسالك : والحق أن ما ذكره إنما يتم لو لم يقصد المطابقة ، وهو خلاف موضع النزاع ، فلو قصداها بطل ، كما قالوه ، ومع ذلك يشكل لزوم أجرة المثل مع زيادتها على المسمى ، فإن الأجير ربما يجعل التواني في العمل وسيلة إلى الزائد ، فينبغي أن يكون له أقل الأمرين من المسمى ان كان أتم العمل وما يخصه منه على تقدير التقسيط ان لم يتم ، ومن أجرة مثل ذلك العمل ، والأقوى البطلان الا مع إرادة الظرفية المطلقة ، وإمكان الوقوع فيها انتهى.

وفي الشرائع قد تردد في المسئلة ، وهو في محله ، لخلو المسئلة عن النصوص ، وتصادم ما ذكر هنا من التعليلين بالخصوص ، وان كان كلام العلامة لا يخلو من قرب ، حملا للمطابقة على المبالغة ، فإن الظاهر أن الغرض الكلى من الإجارة إنما هو تحصيل المنفعة ، فيكون دائرا مدار الفراغ من العمل ، والزمان لا دخل له في ذلك الا من حيث الظرفية ، فبوقوعه فيه قبل تمامه تثبت استحقاق الأجرة ، وقبل تمامه يتسلط المستأجر على الفسخ كما ذكره ، هذه

٥٥١

ثمرة اشتراطه في المقام ، وارادة المطابقة حقيقة ـ لو فرض قصدهما كذلك ، مع كونه لا يترتب عليه أثر ولا ثمرة مهمة ـ نادر ، والأحكام إنما تبنى على الأفراد الغالبة المتكررة ، وكيف كان فالمسئلة في محل من الأشكال والله سبحانه العالم.

الخامس : أن تكون المنفعة مباحة ، والكلام هنا في موضعين الأول : الظاهر أنه لا خلاف في تحريم اجارة البيت ليحرز فيه الخمر ، والدكان ليبيع فيه الآلة المحرمة ، والأجير ليعمل له مسكرا ، بمعنى أن الإجارة وقعت لهذه الغايات أعم من أن يكون قد وقع شرطها في متن العقد أو حصل الاتفاق عليها.

ويدل عليه رواية جابر (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر ، قال : حرام أجرته».

إنما الخلاف هنا في موظعين أحدهما أنه هل تكون الإجارة باطلة ، وكذلك البيع ، أو أنه يصح ذلك وان أثم ، فالمشهور الأول وقيل : بالثاني ، ولعل وجهه أن النهى إنما يفيد البطلان في العبادات ، لا في المعاملات ، وفيه أن مقتضى ما قدمنا تحقيقه في هذه المسئلة من التفصيل بأنه ان كان النهى راجعا إلى شي‌ء من العوضين بمعنى عدم صلاحيته للعوضية ، فإن النهي يدل على البطلان ، وان كان راجعا إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة ، فإن غاية النهى الإثم خاصة من غير أن يبطل العقد ، وما نحن فيه إنما هو من قبيل الأول بمعنى عدم صلاحية المبيع للانتفاع والانتقال ، كما في بيع الغرر ونحوه ، وبه يظهر قوة قول المشهور.

وثانيهما أنه لم يقع الإجارة لهذه الغايات ولكن يعلم أن المستأجر والمشترى يعمل ذلك ، وذهب جمع منهم الشهيد في المسالك وتبعه المحقق الأردبيلي إلى أن حكمه كالأول في التحريم والبطلان ، لأنه معاونة على الإثم ، للنهي عنه في الآية الشريفة (٢) ، والخبر المتقدم وذهب جمع إلى الجواز ، ويدل عليه جملة من الأخبار

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٢٧ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ١٣٤ ح ٦٤ وفيه عن صابر الوسائل ج ١٢ ص ١٢٥ ح ١.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ٢.

٥٥٢

التي قدمت في المقدمة الثالثة من مقدمات كتاب التجارة (١) وقد استوفينا تحقيق الكلام فيه ثمة فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.

الثاني : اختلف الأصحاب في جواز إجارة الحائط المزوق للتنزه فجوزه ابن إدريس ، ومنعه الشيخ ، وتردد في الشرائع ، قال في الخلاف والمبسوط : لا يجوز إجارة حائط مزوق أو محكم للنظر اليه والتفرج فيه والتعلم منه ، لأنه عبث ، والنفع منه قبيح ، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة.

وقال ابن إدريس : يجوز ذلك إذا كان فيه غرض وهو التعلم من البناء المحكم ، كما يجوز اجارة كتاب فيه خط جيد للتعلم منه ، لأن فيه غرضا صحيحا ولأنه لا مانع منه.

قال في المختلف ـ بعد نقل القولين وقول الشيخ ـ : جيد لأنها منفعة ليس للمالك منع المنتفع بها ، فلا يصح إجارتها كالاستظلال بالحائط ، وفرق بين المزوق ، والكتاب ، لأن في الكتاب يتصرف المستأجر بالتسليم والتقليب بخلاف صورة النزاع ، ولو فرض عدمها لم تقع الإجارة ، كالحائط.

أقول : لا يخفى أن الظاهر من كلام الشيخ أن العلة في المنع إنما هي من حيث عدم اباحة هذه المنفعة ، كما هو عنوان أصل هذه المسئلة فكأنه جعل التنزه هنا من قبيل اللهو ، كما يشير اليه قوله «ولأنه عبث ، والنفع منه قبيح ، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة» ، لا أن العلة في عدم جواز الإجارة ما ادعاه العلامة ، وعلل به قول الشيخ من أنه يمكن استيفاء هذه المنفعة بدون إذن المالك ، كالاستظلال بحائط الغير ، وليس للمالك المنع من ذلك ، فلا تصح إجارته ، لأنه غير مملوك للمالك.

وأنت خبير بأنه أين هذا من عبارة الشيخ المتقدمة ، والعجب من المسالك حيث تبع العلامة في ذلك فقال بعد نقل قول ابن إدريس بالجواز : ومنعه الشيخ وجماعة ، لأن ذلك يمكن استيفائه بدون اذن المالك ، كما يجوز الاستظلال بحائطه بدونه انتهى.

__________________

(١) ج ١٨ ص ٦٧.

٥٥٣

وبالجملة فإن الظاهر من كلامي الشيخ وابن إدريس يرجع إلى الاختلاف في كون المنفعة هنا مباحة أو غير مباحة ، وابن إدريس يدعي الأول ، والشيخ الثاني ، نعم هذا الاختلاف إنما يتفرع على ما إذا كان التزويق داخل البيت ، كما هو الغالب لا في جدرانه الخارجة في الطرق التي تراها جميع الناس ، فينبغي تقييد محل النزاع بذلك ، بناء على الغالب المتعارف ، وتقييد إطلاق كلامهم بذلك ، وكيف كان فالظاهر بناء على ما قلناه ترجيح كلام ابن إدريس فإن ما ذكره غرض صحيح لأرباب تلك الصناعة ، والله سبحانه العالم.

السادس : أن يكون مقدورا على تسليمها ، والكلام هنا يقع في مواضع : الأول : لا ريب أن من شرط صحة الإجارة عندهم قدرة الموجر على تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر ، ولا ريب أيضا في اشتراط كون العين المستأجرة مقدورة الانتفاع في الجملة ، ليمكن الانتفاع المطلوب إذ استيجار الغير المقدورة التي لا يمكن الانتفاع بالمطلوب منها سفه محض وغرر ، ويدل عليه العقل والنقل ، فلو استأجر الأخرس للتعليم أو الأعمى لحفظ متاع بالبصر بطل ، لما ذكرنا.

والظاهر كما تقدم ذكره في كتاب البيع عدم اشتراط كون تسليم المنفعة مقدورا للموجر ، بل يكفي إمكان التسلم ، فلو كان المستأجر قادرا على استيفاء المنفعة بأخذ العين من الغاصب بنفسه. أو معاون أو قادرا على تحصيل الآبق ، فالظاهر جواز الاستيجار ، ونحوه أيضا استيجار الغاصب للمغصوب الذي في يده ، لحصول التسلم ، والظاهر أنه يخرج عن الضمان والغاصبية بمجرد العقد ، وأن الأظهر في الجميع صحة الإجارة ، لعموم الأدلة والأصل عدم ثبوت مانع ، ثم انه فيما عدا صورة الغصب ان بذل الجهد في تسليمه ولم يمكن التسليم بطل الإجارة ، لأن لزوم الأجرة موقوف على إمكان التسليم والتسلم ، الا أن يقصر المستأجر مع القدرة ، فيلزم العقد.

بقي الكلام في إجارة الآبق مع الضميمة ، وقد تردد في ذلك جملة من

٥٥٤

الأصحاب ، منهم الشرائع والتحرير والتذكرة ، وأطلق المنع في الإرشاد وقيده في القواعد بعدم الضميمة ، ومفهومه جوازها مع الضميمة ، وهو اختيار الشهيد قيل : وجه التردد في ذلك من حيث عدم القدرة على تسليم المنفعة ، ومن جواز بيعه من الضميمة للنص الدال على ذلك ، فكذا إجارته بطريق أولى ، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله البيع ، ومن ذلك يعلم وجه المنع ، كما اختاره في المسالك والروضة ووجه الجواز كما اختاره الشهيد ، قال في اللمعة : فلا يصح اجارة الآبق وان ضم إليه أمكن الجواز ، قال الشارح : كما يجوز البيع لا بالقياس بل لدخولها في الحكم بطريق اولى ، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله ، وبهذا الإمكان أفتى المصنف في بعض فوائده ، ووجه المنع فقد النص المجوز هنا ، فيقتصر هنا على مورده ، وهو البيع ومنع الأولوية ، انتهى.

أقول : والظاهر هو ما اختاره شيخنا المذكور من المنع لما ذكره ، فإنه وجيه ، ومع تسليم الأولوية فإنه لا يخرج عن القياس المنهي عنه في الأخبار ، كما قدمنا تحقيقه في مقدمات الكتاب في كتاب الطهارة (١).

ثم إنه على تقدير الجواز مع الضميمة فإنهم قد صرحوا بأنه يشترط كونها متمولة يمكن إفرادها بالمعاوضة ، قالوا : وفي اعتبار أفرادها بجنس ما يضم إليه ففي البيع تفرد بالبيع ، وفي الإجارة تفرد بالإجارة ، أو يكفي كل واحد منهما في كل واحد منهما ، وجهان : من حصول المعنى ، ومن أن الظاهر ضميمة كل شي‌ء إلى جنسه ، وقوى الشهيد الثاني.

الثاني : لو منعه المؤجر ولم يسلمه العين المستأجرة سقطت الأجرة ، وليس للمؤجر المطالبة بها ، والحال ذلك ، والظاهر على هذا بطلان العقد وانفساخه بنفسه ، ويكون كتلف العين ، والمبيع قبل التسليم ، وهو مختار التذكرة الا أنه قيده بمنع الموجر المستأجر من العين قبل أن يستوفي المنافع ، وقرب ثبوت الخيار

__________________

(١) ج ١ ص ٦٠.

٥٥٥

لو استوفاها وقيل : انه لا ينفسخ الا بالفسخ ، فيتخير بين الفسخ لتعذر حصول العين المستأجرة ، فإذا فسخ سقط المسمى ان لم يكن دفعه ، والا استرجعه وبين الالتزام بالعقد ، ومطالبة المؤجر بعوض المنفعة ، وهو أجرة مثلها ، لأن المنفعة مملوكة له ، وقد منعه الموجر منها وهي مضمونة بالأعيان ، وحينئذ فيرجع بالتفاوت ، وهو زيادة أجرة المثل عن المسمى ان كان ، لأن المؤجر يستحق المسمى في العقد ، والمستأجر أجرة المثل ، ويرجع عليه بالزيادة عما يستحقه ان كان هناك زيادة ، وهذا القول اختيار الشرائع ، والمسالك ، والقواعد.

الثالث : لو منع المستأجر ظالم غير الموجر عن الانتفاع بالعين المستأجرة ، فلا يخلو اما ان يكون قبل قبضها من المؤجر أو بعده ، فهيهنا مقامان الأول أن يمنعه قبل القبض ، والظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أن المستأجر يتخير بين الفسخ فيرجع كل ملك الى مالكه ، ويرجع المستأجر بالأجرة على الموجر ان كان قد دفعها له ، والا فلا ، ويرجع المالك على الغاصب بأجرة المثل كلا أو بعضا من حيث الغصب ، ومنع تحصيل المنفعة من العين ، وبين التزام العقد والرضاء به فيرجع على الغاصب بالعين المنتفع بها ، وبأجرة المثل في مدة المنع ، لأنه المباشر للإتلاف ظلما وعدوانا.

قيل : ولا يسقط هذا التخيير بعود العين إلى المستأجر في أثناء المدة ، بل له الفسخ في الجميع ، وأخذ المسمى لفوات المجموع من حيث هو مجموع ، ولأصالة بقاء الخيار السابق ، وله الإمضاء واستيفاء باقي المنفعة ، ومطالبة الغاصب بأجرة مثل ما فات في يده من المنافع ، وليس له الفسخ في الماضي خاصة ، والرجوع بقسطه من المسمى على الموجر ، واستيفاء الباقي من المنفعة ، لاقتضائه تبعيض الصفقة على الموجر ، وهو خلاف مقتضى العقد ، بل اما أن يفسخ في الجميع ، أو يمضيه ، مع احتماله ، لأن فوات المنفعة في هذه الحال يقتضي الرجوع الى المسمى وقد حصل في البعض خاصة ، فاستحق الفسخ فيه ، انتهى.

٥٥٦

أقول : هذا الاحتمال لا يخلو عن قرب ، لأن مبني المنع في الكلام الأول على لزوم تبعيض الصفقة على الموجر ، وهو غير جائز عندهم في جميع العقود ، وفيه ما تقدمت إليه الإشارة في غير موضع مما تقدم أنه وان اشتهر ذلك بينهم ـ حتى صار قاعدة كلية بنوا عليها في جملة من الأحكام ـ الا أنا لم نقف على دليل من الأخبار ، لا في باب البيع ولا غيره ولعل ذلك من جملة ما اتفقوا فيه العامة ، وان اتفقوا عليه وكم من مثله في قواعدهم الأصولية ، كما لا يخفى على المتتبع.

الثاني أن يمنعه بعد القبض ، والظاهر أنه لا خلاف في صحة العقد ، وعدم فسخه ، لأن وجه التخيير في الأول ، وجواز الفسخ انما كان من حيث أن العين قبل القبض مضمونة على المؤجر ، فللمستأجر الفسخ عند تعذرها ، والعلة هنا منتفية ، لأنه قد قبضها ولزمت الإجارة باجتماع شروطها ، وانما عرض بعد ذلك حيلولة الغاصب له بمنعه عن التصرف ، وعلى هذا فيرجع المستأجر على الغاصب بأجرة مثل المنفعة الفائتة في يده لا غير ، ويرجع الموجر على المستأجر بالمسمى لو لم يقبضه سابقا والعين مضمونة في يد الغاصب لصاحبها ، قالوا : ولو كان الغاصب هو الموجر فلا فرق.

الرابع : قالوا : إذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة الا أن يعيده صاحبه ، ويمكنه منه ، وتردد في الشرائع في ذلك.

أقول : ظاهر هذا الكلام أن العقد لا ينفسخ بنفسه ، ولو أدى الانهدام الي عدم الانتفاع بالمسكن بالكلية ، وبه صرح المحقق الأردبيلي أيضا فقال بعد ذكر عبارة المصنف المشتملة على مثل هذا الإجمال أيضا ما لفظه : أي لو انهدم المسكن المستأجر بحيث لا يمكن الانتفاع به أو انقض ونقص نقصانا لو كان قبل العقد لم يرغب في الإجارة عرفا بالأجرة المقررة لم ينفسخ ، بل للمستأجر فسخ العقد ، والرجوع الى المالك بعد الفسخ بمقدار حصة الباقي من أجرة المدة ، الا أن يعيد المالك المسكن إلى أصله الى آخره ، وصريح كلام شيخنا في المسالك تقييد هذا الإطلاق بما لو لم يؤد الانهدام الى فوات الانتفاع بالكلية ، أو أنه يمكن زوال المانع

٥٥٧

والا انفسخ العقد بنفسه ، قال بعد ذكر المصنف الحكم كما نقلناه عنهم : ومقتضى جواز الفسخ أن العقد لا ينفسخ بنفسه ، فلا بد من تقييده بإمكان إزالة المانع ، أو بقاء أصل الانتفاع فلو انتفيا معا انفسخت الإجارة ، لتعذر المستأجر عليه انتهى.

الا أن يحمل إطلاق كلام المحقق المتقدم ذكره على إمكان إزالة المانع فلا تنافي حينئذ ، وله البقاء على العقد وعدم الفسخ لو لم ينفسخ العقد بنفسه ، وتلزمه الأجرة ووجه الفسخ ـ على تقدير خروج السكنى عن الانتفاع المراد منه عرفا ظاهر ، الا أن يكون سبب ذلك من المستأجر ، وحصول الضرر من جهته ، لأن الأجرة انما بذلت واستحقت في مقابلة الانتفاع ، فإذا فات في الزمان المقرر فلا أجرة الا أن يكون ذلك من المستأجر كما عرفت ، والمراد بإعادته المستثناة من الخيار يعني الإعادة بسرعة على وجه لا يفوت به شي‌ء من المنافع ، ووجه التردد هنا على تقدير إعادته سريعا من زوال المانع بإعادته سريعا مع عدم ذهاب شي‌ء من المنافع ، ومن ثبوت الخيار بالانهدام ، فيستصحب حيث لم يدل دليل على سقوطه بالإعادة ، وهو ظاهر اختياره في المسالك ، أقول : لم أقف في هذا المقام على نص والله سبحانه العالم.

المطلب الثالث في الأحكام

وفيه مسائل الاولى : قد صرحوا بأن الأجير الخاص وهو الذي يستأجر مدة معينة للعمل بنفسه أو يستأجر عملا معينا مع تعيين أول زمانه ، بحيث لا يتوانى في فعله ، حتى يفرغ منه لا يجوز له العمل لغير من استأجره إلا باذنه ، والأجير المشترك وهو الذي يستأجر لعمل مجرد عن المباشرة ـ مع تعيين المدة ـ ، أو عن المدة مع تعيين المباشرة ، ـ أو مجردا عنهما يجوز له ذلك.

أقول : والأولى في التعبير عن الأول بالمقيد ، عوض الخاص ، وعن الثاني بالمطلق عوض المشترك ، كما لا يخفى.

٥٥٨

وكيف كان فتفصيل هذا الإجمال يقع في مقامين الأول : في الأجير الخاص وقد عرفت تفسيره ، والوجه في عدم جواز عمله ـ لغير من استأجره إلا بالإذن ـ أنه متى وقعت الإجارة على أحد الوجهين المذكورين ، فان منفعته المطلوبة قد صارت ملكا للمستأجر ، فلا يجوز له صرف عمله الذي استأجر عليه ، ولا صرف زمانه المستأجر فيه في عمل ينافي ما استوجر عليه ، وأما لو لم يناف ما استوجر عليه كالتعليم والتعلم والعقد ونحو ذلك حال الاشتغال بالخياطة المستأجر عليها مثلا : فالأقرب الجواز ، كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين.

قال في المسالك : وهل يجوز عمله في الوقت المعين عملا لا ينافي حق المستأجر كإيقاع عقد ونحوه في حال اشتغاله ، أو تردده في الطريق بحيث لا ينافيه وجهان : من شهادة الحال بالإذن في مثل ذلك ، والنهي عن التصرف في ملك الغير بغير اذنه.

أقول : لا يخفى أنه وان كان لا خلاف ولا إشكال في النهي عن التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ، إلا أن اجراء ذلك فيما نحن فيه ممنوع ، لأن مقتضى الإجارة اشتغال الذمة بأداء العمل المستأجر عليه ، والحال أنه لا خلاف ولا إشكال في براءة الذمة بأدائه على هذا الوجه ، حيث أن المفروض عدم المنافاة ، وإذا ثبت براءة الذمة من العمل المذكور ، فلا يضر هذا التصرف بوجه من الوجوه ، واللازم مما ذكروه ـ لو تم ـ المنع من كلامه مع الغير مطلقا ، وكذا نظره لغيره ، وبطلانه أوضح من أن يخفى والظاهر أن له في الصورة المذكورة العمل فيما لم تجر العادة بوجوب العمل فيه للمستأجر كالليل ، لكن يشترط أن لا يؤدي الى ضعف العمل نهارا ، وكما أنه لا يجوز له العمل بما ينافي العمل للمستأجر عليه ، كذلك لا يجوز للغير استعماله في المنافي. والذي حضرني من الأخبار في المقام ما رواه

في الكافي في الموثق عن إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يستأجر الرجل بأجرة معلومة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٣ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٠ ح ١.

٥٥٩

فيبعثه في ضيعة فيعطيه رجل آخر دراهم ويقول : اشتر بها كذا وكذا وما ربحت بيني وبينك ، فقال إذا أذن له الذي استأجره فليس به بأس».

وهي دالة بالمفهوم على ثبوت البأس مع عدم الاذن ، والظاهر أن المراد به التحريم ، ويحمل الخبر على الأجير الخاص كما هو ظاهر الكلام ، وبه استدل في المفاتيح على الحكم المذكور.

الثاني : في الأجير المشترك وقد عرفت تعريفه ورجوعه إلى ثلاثة أقسام : الأول : الاستيجار على عمل مجرد عن المباشرة مع تعيين المدة ، كأن يستأجره على تحصيل الخياطة بنفسه أو غيره يوما.

الثاني : أن يستأجره على عمل مجرد عن المدة مع تعيين المباشرة ، كأن يستأجره ليخيط له ثوبا بنفسه ، من غير أن يقيده بمدة.

والثالث : أن يكون مجردا عنهما كان يستأجره على تحصيل خياطة ثوب بنفسه أو غيره من غير تقييد بزمان ، وهذا يجوز له العمل لغير من استأجره ، لأن مقتضى الاستيجار هنا بجميع أقسامه الثلاثة أنه يجب عليه أن يعمل ذلك العمل بنفسه أو غيره أي زمان أراد ، ولم يملك المستأجر عمله ومنفعته على وجه لا يجوز له العمل لغيره ، كما في الأول ، بل له عليه ذلك العمل مطلقا ، الا أن يكون ثمة قرينة تدل على كونه في زمان خاص كالحج ، فإنه يصير من قبيل الأجير الخاص ، أو قلنا بوجوب العمل بعد الفراغ من العقد ، كما نقل عن شيخنا الشهيد ، فإنه نقل عنه في بعض تحقيقاته أن الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل والمبادرة إلى الفعل ، وعلى هذا يقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة اعتبار المباشرة ، وفرع عليه منع صحة إجارة الثانية في الصورة المذكورة.

والظاهر ضعف القول المذكور ، ولعدم وضوح الدليل عليه لا من الأخبار ولا من الاعتبار قال في المسالك : ونعم ما قال : واعلم أن الشهيد حكم في بعض تحقيقاته بأن الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل ، وأنه يجب المبادرة الى

٥٦٠