الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

قد تصرف في ملكه بغير تبرع منه ، لأن دعوى التبرع قد سقطت باليمين ، فالواجب حينئذ أجرة المثل.

واعترض بعض أفاضل متأخري المتأخرين وهو الخراساني في الكفاية على هذا الكلام بمنع الأصل المدعي هنا أعني قوله والأصل يقتضي عدم خروج المنافع عن ملك المالك الا بعوض ، قال : إذ لا حجة عليه عقلا ونصا.

أقول : مرجع هذا الأصل إلى الاستصحاب ، فإنه أحد المعاني التي يطلق عليها ، ولا شك أن العين من حيث هي ملك للمالك ، فكذا منافعها ، فبعد خروجها عن يد المالك على هذا الذي وقع فيه الاختلاف ، لو تمسك المانع باستصحاب بقاء المنافع على ما ثبت لها أولا من ملكية المالك حتى يقوم الدليل على خلافه فهو صحيح ، والظاهر أنه ليس من الاستصحاب الذي هو محل الخلاف بين الأصحاب ، بل الاستصحاب المتفق عليه ، وهو استصحاب الإطلاق أو العموم حتى يقوم دليل التقييد أو التخصيص.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه ما ذكره ، نعم استشكل هذا القول في المسالك بما لو كان ما يدعيه من الأجرة أقل من أجرة المثل ، لاعترافه بنفي الزائد ، قال : فينبغي أن يثبت له بيمينه أقل الأمرين مما يدعيه وأجرة المثل ، لأن الأقل إن كان ما يدعيه فهو معترف بعدم استحقاقه سواه ، وإن كان الأقل أجرة المثل فلم يثبت بيمينه سواها ، إذ لم تثبت الإجارة ، وإنما لزم تصرف الراكب في ماله بغير إذن المالك على وجه التبرع.

أقول : من أجل ما ذكره من هذا الاشكال صار في المسئلة قولا ثالثا فذهب في القواعد الى هذا القول ، وهو أنه بعد حلف المالك فالثابت له أقل الأمرين من أجرة المثل ومن المسمى ، الا أنه قد أورد عليه أيضا أن المالك على تقدير كون المسمى أكثر من أجرة المثل ، فالمالك يدعي الزائد من الأجرة عن أجرة المثل ، والراكب ينفيه ، فلا بد من وجه شرعي يقتضي نفيه ، وليس الا بيمين الراكب على نفي الإجارة.

٥٢١

وتوضيحه أن حلف المالك على نفي الإعارة ، لم يدل على نفى الإجارة ولا إثباتها ، فيبقي دعوى الإجارة على حالها ، ولما لم يثبتها المالك بالبينة رجعنا الى الأصل المتقدم من أصالة بقاء ملكه للعين وللمنافع ، فلا بد من الحكم على الراكب بعوض في مقابلتها ، حيث تصرف فيها من غير أن يتبرع بها المالك ، ووجب الحكم له بأقل الأمرين لما تقدم ، لكن يبقي النزاع في الزائد على تقدير كون المسمى في الإجارة زائدا على أجرة المثل ، فان المالك يدعيه ، وراكب الدابة ينفيه ، ولا يندفع ذلك إلا بيمين الراكب على نفي الإجارة : أو نكوله فيحلف المالك على الإجارة ، ويأخذ الزائد.

ومن هنا انقدح في المسئلة قول رابع ، فذهب في المختلف وجماعة منهم الشهيدان ، الأول منهما في بعض تحقيقاته ، على ما نقل عنه ، والثاني في المسالك إلى أنهما يتحالفان ، فان كلا منهما مدع ومدعى عليه ، لما عرفت من التوضيح المتقدم.

أقول : وبهذا ترجع المسئلة هنا الى ما نقلناه عنهم في كتاب المزارعة ، حيث أنهم لم يذكروا ثمة خلافا في المسئلة على نحو ما ذكروه هنا ، وإنما نقلوا فيها قولين ، أحدهما وهو المشهور التحالف ، بأن يحلف صاحب الأرض على نفي العارية ، ويحلف الزارع على نفي الإجارة ، فيتساقط الدعويان ، ويرجع إلى أجرة المثل ، أو أقل الأمرين ، والقول الثاني القرعة كما تقدم ذكره ثمة ، وهنا قد أكثروا الخلاف كما عرفت ، والمسئلة واحدة في الكتابين كما هو ظاهر نصب العين.

وكيف كان فإن لقائل أن يقول أيضا : إن المالك هنا يدعي بالإجارة حقا معينا ، ولا يدعى شيئا آخر سواه ، فإذا حلف الراكب على عدم الإجارة ، سقط بيمنه هذا الحق الذي يدعيه المالك ، لأن اليمين من المنكر مسقطة الحق ، وقد اعترف بأنه لا حق له سواه ، فإذا سقط باليمين ، فبأي شي‌ء يثبت أقل الأمرين ،

٥٢٢

وإثبات حق المالك من غير الوجه الذي يدعيه ، بناء على ما ذكروه من تصرف الراكب بغير إذنه ، فيقضي له بأجرة المثل ، أو أقل الأمرين مشكل ، لأنه باليمينين الواقعتين منهما معا صار هذا التصرف محتملا لكونه تصرفا صحيحا شرعيا بلا أجرة ، وكونه تصرفا شرعيا بالأجرة ، والأجرة انما تثبت على تقدير الثاني ، وهو غير معلوم ، لاحتمال كونه شرعيا مجانا كما يدعيه المستعير ، ومن المعلوم كذب احدي اليمينين في هذا المقام ، وأصالة عدم اشتغال الذمة مؤيد ، والحكم له بشي‌ء لا يدعيه ـ ولا يطلبه ، وإنما يطلب غيره مما قد انتفى باليمين ـ غير متجه.

وبالجملة فإن الرجوع إلى التعليلات العقلية لا ينتهي إلى ساحل ، والمسئلة لما كانت عارية من النصوص كثر فيها الكلام ، وتقابل النقض فيها والإبرام.

وفي المسئلة أيضا قول خامس بالقرعة ، ذهب اليه الشيخ في كتاب المزارعة من الخلاف ، قال : لأن القرعة لكل أمر مشكل ، ورده جملة من المتأخرين بالضعف ، قالوا : لأنه لا اشتباه مع القاعدة المتفق عليها من حكم المدعي والمنكر.

أقول : لا يخفى ما فيه بعد ما عرفت مما وقع لهم من الخلاف في المقام ، وتصادم هذه التعليلات منهم في النقض والإبرام ، فكيف لا يحصل الاشتباه ، والحال كما عرفت ، هذا كله فيما إذا مضت لذلك المتنازع فيه مدة في يد المتصرف قد استوفي فيه منافعه.

أما لو لم يمض لذلك مدة ، ولم يحصل الانتفاع بشي‌ء من المنافع المترتبة عليه ، فالقول في ذلك قول المتصرف ، لأن المالك هنا لا يدعى التصرف في شي‌ء من المنافع ، وانما يدعى عليه الإجارة ، وتحقق الأجرة في ذمته ، واشتغالها بها والمتصرف ينكر ذلك ، فالقول قوله بيمينه ، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط دعوى الأجرة ، واسترد المالك العين ، وان نكل حلف المالك اليمين المردودة ، واستحق الأجرة ، والله سبحانه العالم.

٥٢٣

إلحاق في المقام :

وهو يشتمل على جملة من الأحكام ، أحدها ـ أنه إذا استعار شيئا للانتفاع به في شي‌ء مخصوص ، فانتفع بها في غيره فظاهر الأصحاب الحكم عليه بالضمان لتعديه في العين بالتصرف فيها على غير الوجه المأذون له فيه وتلزمه الأجرة لمثل ذلك العمل وهو ظاهر.

وثانيها ـ أنه إذا جحد العارية فالقول قوله بيمينه ، لأن الأصل العدم ، فإن أثبتت المالك عليه صحة الدعوى المذكورة زال استيمانه ، ولزمه الضمان ، والظاهر أن الكلام هنا كالكلام في الوديعة لو جحدها ، وأثبتها المالك عليه ، وقد تقدم تفصيل البحث في ذلك في كتاب الوديعة.

وثالثها ـ ما إذا ادعى التلف ، فان القول قوله بيمينه عندهم ، وقد عرفت ما فيه في المسئلة الأولى من مسائل هذا الفصل في كتاب الوديعة (١).

ورابعها ـ ما إذا ادعى الرد على المالك ، فان القول قول المالك بيمينه ، لأنه منكر ، والأصل عدمه ، وقد تقدم في كتاب الوديعة أن المشهور فيما إذا ادعى الودعي الرد على المالك أن القول قول الودعي بيمينه ، مع أن الأصل عدم الرد ، وعموم البينة على المدعى ، الا أنهم فرقوا بينه وبين العارية ، بأن الودعي إنما قبض لمصلحة المالك فهو محسن محض ، و « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (٢) ،» وأنت خبير بما فيه ، حيث أن هذه العلة غير منصوصة ، مع مخالفة ما ذكروه في الوديعة للقواعد الشرعية ، ولهذا توقف جملة من الأصحاب في حكم الوديعة كما تقدم ذكره ثمة ، واستشكلوا القول المشهور وهو في محله لما عرفت.

قال في المسالك : واعلم أن هذه العلة تجري في كثير من أبواب تنازع المستأمنين ، الا أنها تقتضي قبول قول الوكيل في الرد لو كان بغير جعل ،

__________________

(١) ص ٤٥٥.

(٢) سورة التوبة ـ الاية ٩١.

٥٢٤

وهو مشكل لمخالفة الأصل وكون هذه العلة ليست منصوصة وانما هي مناسبة ، انتهى وهو جيد.

والتحقيق أن يقال : ان مقتضى الأخبار المتقدمة في كتاب الوديعة هو قبول قول الأمين ، وعدم اتهامه فيما يقوله ، وان خالف الأصل ، وحينئذ يكون هذه الأخبار مخصصة لهذه القاعدة ، أعني قاعدة البينة على المدعي ، واليمين على المنكر والحكم متعلق بالأمين ودعيا كان أو مستعيرا ، أو وكيلا أو نحوهم ، ودعوى الفرق ـ بين الودعي وغيره ممن قبض لمصلحته ، كالمستعير والوكيل بجعل والمرتهن ـ فيه أولا ما ذكر من عدم الدليل على هذا التعليل ، وثانيا أن قبضه على أحد هذه الوجوه لا ينافي الايتمان الذي رتب عليه قبول قوله لأن الايتمان إنما هو عبارة عن الوثوق به في عدم الخيانة ، والمخالفة لأمر المالك ، وإدخال الضرر عليه ، فكل من دفع اليه المالك بهذا الوجه ودعيا كان أو مستعيرا أو وكيلا بجعل أو بغير جعل ، فإنه يقبل قوله ، بمقتضى تلك الأخبار ، ويؤيده أخبار «ما خانك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن». كما تقدم في كتاب الوديعة.

وخامسها ـ ما إذا فرط في العارية ثم تلفت ، فإنه ان كانت من ذوات الأمثال ضمن المثل بغير إشكال ، وان كانت من ذوات القيم فقد اختلف الأصحاب ـ في ذلك.

فقيل : ان الواجب عليه قيمتها يوم التلف ، وهو مختار الشرائع والمسالك وعلل بأن الواجب على المستعير مع بقاء العين ردها دون القيمة ، وانما ينتقل إلى القيمة مع التلف ، وحينئذ فالمعتبر القيمة وقت التلف.

وقيل : أن الواجب أعلى القيم من وقت التفريط الى وقت التلف ، وعلل بأن العين لما كانت مضمونة ، فكل واحدة من القيم المتعددة في وقت كونها مضمونة ، إذ معنى ضمان العين كانت لو تلفت ضمن قيمتها ، وهو حاصل في جميع الوقت ، فيضمن أعلى القيم لدخول الباقي فيها.

وقيل : المعتبر قيمتها وقت الضمان ، قال في المسالك. وموضع الخلاف ما

٥٢٥

لو كان الاختلاف بسبب السوق ، أما لو كان بسبب نقص في العين فلا إشكال في ضمانه ، لأن ضمان العين يقتضي ضمان أجزائها ، انتهى.

أقول : وقد تقدم الكلام في ذلك ، وهذا القول الأخير نقله في الكفاية قولا ثالثا في المسئلة ، ولعله أشار به إلى ما نقله في المختلف عن ابن حمزة ، حيث قال ابن حمزة : إن هلك مضمونا لزم قيمته يوم القبض ، وإن هلك غير مضمون بالتفريط لزم قيمته يوم التلف ، بأن يكون المراد بقيمته وقت الضمان ، كما ذكره يعنى يوم القبض الذي ثبت فيه الضمان واستقر ، الا أن الظاهر أن ما ذكره في المختلف مسئلة أخرى على حيالها غير ما نحن فيه ، فان فرض المسئلة التي ذكرناها في كلام الأصحاب إنما هو بالنسبة إلى العارية الغير المضمونة لو فرط فيها ثم تلفت في يده.

وظاهر كلام المختلف مسئلة أخرى وهو أنه إذا هلكت العارية عند المستعير فقد قال ابن حمزة : بأنها إن كانت العارية مضمونة باشتراط الضمان فيها ونحوه فاللازم قيمتها يوم القبض ، وإن لم يكن مضمونة وهلكت بالتفريط لزمته قيمته يوم التلف ، وهذا يرجع الى القول الأول الذي قدمناه ، فان هذا الفرد الثاني من الترديد يرجع الى ما تقدم.

وفي المختلف بعد أن نقل عن ابن حمزة قال : والمعتمد أن نقول : إن كان من ذوات الأمثال ضمنه بالمثل ، وإن كان من ذوات القيم ضمنه بقيمته يوم التلف إن كان مضمونا ، وبأعلى القيم من حين التفريط الى حين التلف إن هلك بالتفريط ، إن قلنا أن الغاصب يضمن بأعلى القيم ، وإلا فالقيمة يوم التلف ، وظاهره في اختياره أعلى القيم ـ فيما لو لم تكن مضمونة ، وإنما هلكت بالتفريط ـ موافقة القول الثاني المتقدم.

وقد تلخص مما ذكرناه أن العارية إذا تلفت عند المستعير وكانت قيمية فإن كانت مضمونة ففيها قولان : أحدهما مذهب ابن حمزة ، وهو قيمته يوم القبض ،

٥٢٦

وثانيهما مذهب العلامة وهو قيمته يوم التلف وإن لم تكن مضمونة ، وهلكت بالتفريط ، فالأقوال الثلاثة المتقدمة : وابن حمزة قد وافق الأول ، والعلامة وافق الثاني ، وهذا الخلاف هنا متفرع على الخلاف في ضمان المغصوب ، حيث انه هنا بالتفريط لحقه حكم الغاصب ، واليه يشير كلام العلامة المذكور والله سبحانه العالم.

وسادسها ـ ما لو اختلفا في القيمة بعد التفريط على تقدير تلفه ، وكذا لو كان مضمونا بأمر آخر ثم تلف ، فقيل : إن القول قول المالك مع يمينه ، وبه قال الشيخان ، وسلار وابن حمزة ، وابن البراج.

وقال أبو الصلاح : وإن اختلفا في مبلغها أو قيمتها أخذ ما أقر به المستعير ووقف ما زاد عليه على بينة أو يمين المعير ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه فان قصد يمين المعير برد المستعير صار قوله مخالفا لما تقدم ، وإلا فلا.

وقيل : القول قول المستعير لأنه منكر ، فيدخل في عموم الخبر ، وبه قال ابن إدريس ومن تأخر عنه ، قال ابن إدريس : الذي تقتضيه أصول الأدلة والمذهب أن القول قول المدعي عليه ، واليمين على المنكر ، وهو المستعير مع يمينه.

قال في المختلف : وهو الوجه عندي ، لنا أنه منكر ، فالقول قوله مع اليمين ، لقوله عليه‌السلام (١) «البينة على المدعى ، واليمين على من أنكر». ثم نقل عن الأولين الاحتجاج على ما ذهبوا اليه ببطلان الأمانة بالخيانة ، فلم يكن قوله مقبولا في القيمة.

ثم رده بأنه لا يلزم من بطلان الأمانة خروجه عن حكم المنكر ، وهو جيد ، وحاصله أن قبول قوله بيمينه إنما هو من حيث كونه منكرا وهذا حكم المنكر شرعا لا من حيث كونه أمينا حتى يتجه منعه بالخيانة والله سبحانه العالم.

وسابعها ـ ما لو اختلفا في التفريط فالمشهور أن القول قول المستعير بيمينه

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ١٧٠ ح ١ باختلاف ما والمستدرك ج ٣ ص ١٩٩.

٥٢٧

مع عدم البينة ، وهو قول الشيخ وابن البراج ، وابن حمزة وأبى الصلاح ، وابن إدريس ، وعليه المتأخرون.

وظاهر كلام المفيد وسلار على ما نقل عنهما في المختلف أن القول قول صاحب العارية بيمينه ، ولا ريب في ضعفه ، لأن المستعير منكر ، فالقول قوله بيمينه ، وعلى المدعي البينة ، وهو ظاهر ، وثامنها : ما لو اختلفا فقال المالك : غصبتنيها ، وقال المتصرف : أعرتنيها ، فالمشهور أن القول قول المالك مع يمينه ، وهو مذهب ابن إدريس ، والعلامة في جملة من كتبه ، والشيخ في كتاب المزارعة من المبسوط ، وقال في الخلاف وكتاب العارية من المبسوط : إن القول قول الآخر ، قال : إذا اختلفا فقال المالك : غصبتنيها وقال الراكب : أعرتنيها قدم قول الراكب ، لأصالة براءة الذمة ، والمالك يدعي الضمان للدابة ولزوم الأجرة إن كان ركبها ، والوجه في القول الأول على ما ذكره في التذكرة ما تقدم من أصالة تبعية المنافع للأعيان في التملك ، فالقول قول من يدعيها مع اليمين وعدم البينة ، لأن المتصرف يدعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة وبراءة ذمته من التصرف في مال الغير ، فعليه البينة وعلى هذا فبعد حلف المالك يستحق لما مضي من المدة ، فيرجع الدابة مع الأجرة هذا إذا مضت مدة لمثلها أجرة ، ولو لم تمض مدة والعين باقية ، فان هذه الدعوى لا ثمرة لها ، بل يرد المتصرف العين الى مالكها ، ولو تلفت العين في تلك المدة التي مضت ، فالكلام في الأجرة يبني على الخلاف المتقدم ، وأما القيمة ، فإن كانت العارية التي يدعيها المتصرف مضمونة ، فهو يعترف في القيمة فيلزمه أداءها.

قال في التذكرة : ويحكم فيها بقول المتصرف ، لأصالة براءة ذمته من الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القيم» وإن كانت العارية غير مضمونة ، قال في التذكرة : فإن القول قول المالك في عدم الإعارة» وقول المتصرف في عدم الغصب ، لئلا يضمن ضمان الغصب ، ثم يثبت على المتصرف

٥٢٨

بعد حلف الراكب على نفي الإعارة قيمتها وقت التلف انتهى ، والله سبحانه العالم.

وتاسعها ـ ما لو ادعي الراكب الإجارة ، والمالك العارية المضمونة بعد تلف العين ، وقبل مضي مدة لها أجرة ، قال في المبسوط : القول قول الراكب مع يمينه ، لأن صاحبها يدعي ضمانا في العارية ، فعليه البينة والأصل برأيه الراكب.

وقال في المختلف : الأقرب أن القول قول المالك ، لأن الأصل تضمين مال الغير ، لقوله عليه‌السلام (١) «على اليد ما أخذت». وأنت خبير بما في هذه الفروع من الاشكال لخلوها من النص الذي هو العمدة في الاستدلال ، وعدم صحة بناء الأحكام على هذه التعليلات التي يتداولونها في هذا المجال ، سيما مع تصادمها وتضادها كما عرفت ، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.

٥٢٩

كتاب الإجارة

والبحث فيه في مطالب أربعة الأول : في الإجارة والعقد ، وما يترتب عليه والكلام في ذلك يقع في مواضع الأول الإجارة ثابتة بالنص كتابا وسنة ، وإجماع علماء الخاصة والعامة ، قال الله عزوجل (١) «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وقال (٢) «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» وقال تعالى (٣) «قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» ـ «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ» الآية.

وأما السنة فمستفيضة كما ستأتيك بذلك الأخبار.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (٤) عن محمد بن سنان عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الإجارة فقال : صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، وقد آجر موسى بن عمران عليه‌السلام نفسه واشترط فقال : إن شئت ثمانيا وإن شئت عشرا فأنزل الله فيه «أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ (٥)». وروي

__________________

(١) سورة الطلاق ـ الاية ٦.

(٢) سورة الكهف ـ الاية ٧٧.

(٣) سورة القصص ـ الاية ٢٦.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٩٠ ح ٢ ، الفقيه ج ٣ ص ١٠٦ ، ح ٩٠ التهذيب ج ٦ ص ٣٥٣ ح ١٢٤ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٧٦ ح ٢.

(٥) سورة القصص ـ الاية ٢٨.

٥٣٠

الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول (١) عن الصادق عليه‌السلام «أنه سأل عن معايش العباد وساق الخبر إلى أن قال : وتفصيل الإجارات فإجارة الإنسان نفسه إلى أجرة الى آخره ، وقد تقدم الخبر بتمامه في المقدمة الثالثة فيما يكتسب به من المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (٢) والمفهوم من جملة من الأخبار كراهة إجارة الإنسان نفسه لأنه يحظر على نفسه الرزق ، فروى في الكافي عن المفضل بن عمر (٣) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق». قال في الكافي (٤) وفي رواية أخرى وكيف لا يحظره وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره».

وروى في الفقيه عن عبد الله بن محمد الجعفي (٥) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : من آجر نفسه فقد حظر عليها الرزق وكيف لا يحظره». الحديث كما تقدم.

وروى المشايخ الثلاثة عن عمار الساباطي (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه أعطى ما يصيب في تجارته ، فقال : لا يؤاجر نفسه ، ولكن يسترزق الله عزوجل ويتجر ، فإنه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق» وفي الفقيه «أعطى أكثر مما يصيب من تجارته».

والشيخ جمع بين هذه الأخبار ، وخبر إجارة موسى عليه‌السلام نفسه بحمل المنع على الكراهة ، واستبعده في الوافي بالنسبة إلى النبيين المذكورين (صلوات الله على نبينا وآله وعليهما) قال : والأولى أن يحمل المنع على ما إذا استغرقت أوقات الموجر كلها بحيث لم يبق لنفسه منها شي‌ء كما دلت عليه الرواية الأخيرة من الحديث الأول.

__________________

(١) تحف العقول ص ٢٤٨ ط نجف ، الوسائل ج ١٢ ص ٥٦ في أواسط ح ١ وج ١٣ ص ٢٤٢ ح ١.

(٢) ج ١٨ ص ٧٠.

(٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٩٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٣ ح ١ و ٢.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٠٧ ح ٩٢ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٧٦ ح ٤.

(٦) الفقيه ج ٣ ص ١٠٧ ح ٩١ ، الكافي ج ٥ ص ٩٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥٣ ح ١٢٣ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٧٦ ح ٣.

٥٣١

وأما إذا كانت بتعيين العمل دون الوقت كله فلا كراهة فيها كيف؟ وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يواجر نفسه للعمل ليهودي وغيره في معرض طلب الرزق ، كما ورد في عدة أخبار ، انتهى وهو جيد.

الثاني : قد عرف بعض الأصحاب الإجارة بأنها عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم ، وعرفها آخر بأنها عبارة عن تمليك المنفعة الخاصة بعوض معلوم ، ومرجعه إلى أنها عبارة عن نفس العقد الذي ثمرته ذلك أو عبارة من التمليك الذي هو الثمرة ، والبحث في ذلك لا ثمرة له بعد ظهور المراد ، بقي الكلام في أن المشهور بين الأصحاب هو أنه لما كانت من العقود اللازمة وجب انحصار ألفاظها في الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة ، مثل آجرتك في الإيجاب ، وأكريتك وفي معناه استكريت وتكاريت ، ومنه أخذ المكاري ، لأنه يكري دابته ، أو نفسه ، وكذا يشترط فيه ما يشترط في غيره من العقود اللازمة من العربية حتى في الأعراب والبناء ووقوع القبول على الفور ، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب البيع.

وقد تقدم ثمة ما في ذلك من البحث ، وأنه لا دليل شرعا على أزيد من الألفاظ الدالة على الرضا من الجانبين بتلك المعاملة كيف اتفق في هذا الموضع وغيره ، وبذلك صرح جملة من محققي متأخري المتأخرين.

وأما لزوم العقد فلا اشكال فيه للأدلة العامة في الوفاء بالعقود والشروط وخصوص ما رواه في الكافي عن علي بن يقطين (١) في الصحيح قال : «سألته يعني أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يكتري السفينة سنة أو أقل أو أكثر قال : الكري لازم الى الوقت الذي اكتراه اليه والخيار في أخذ الكرى الى ربها ان شاء أخذ وان شاء ترك». وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن محمد بن سهل قال : «سألت

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٣ ، الوسائل المصدر.

٥٣٢

أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل يتكارى من الرجل البيت والسفينة سنة أو أقل أو أكثر قال : كراه لازم الى الوقت الذي تكاراه اليه» الحديث. كما تقدم.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتكاري عن الرجل البيت والسفينة». مثل الحديثين المتقدمين ، ثم انهم بناء علي ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط ألفاظ مخصوصة جوزوا ذلك أيضا بلفظ ملكتك إذا أضيف إلى المنفعة ، وذلك لأن التمليك يفيد نقل ما تعلق به ، فلو قال : ملكتك هذه الدار أفاد نقل عينها ،

مع أن المقصود من الإجارة هو تمليك المنفعة مع بقاء العين علي ملك صاحبها ، وحينئذ فإذا أريد بهذا اللفظ الإجارة تعين إضافته إلى المنفعة ، قالوا : وكذا تصح الإجارة بلفظ أعرتك حيث ان الإجارة مخصوصة بالمنفعة ، فتصح لو قال : أعرتك هذه الدار سنة بكذا وكذا.

وبالجملة فإنه لما كانت الإعارة لا تقتضي ملك العين ، وانما تفيد التسلط على المنفعة كان إطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة ، فتصح إقامتها مقام لفظ الإجارة بغير إضافته إلى المنافع ، ويشكل بأن الإعارة وان تعلقت بالمنافع لا بالعين الا أنها انما تفيد الإباحة ، والمطلوب في الإجارة تمليك المنفعة ، والعوض لا مدخل له في ماهيتها بخلاف التمليك ، فإنه يجامع العوض ، وارتكاب التجوز في مثل ذلك خروج عما قرروه من قواعدهم في العقود اللازمة ، كذا أورده في المسالك.

واختلفوا فيما لو قال : بعتك هذه الدار وقصد الإجارة ، أو قال : بعتك سكناها سنة بكذا ، فالمشهور بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع عليه حيث نسبه الى علمائنا هو البطلان ، وعلل ذلك باختصاص البيع بنقل الأعيان والمنافع تابعة لها فلا يثمر الملك لو تجوز به في نقل المنافع مفردة وان نوى الإجارة.

وفي التحرير جعل المنع أقرب وهو يؤذن بالخلاف ، وتردد في الشرائع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.

٥٣٣

ومنشأ التردد مما تقدم ، ومن أنه بالتصريح بإرادة نقل المنفعة مع أن البيع يفيد نقلها أيضا مع الأعيان وان كان بالتبع ناسب أن يقوم مقام الإجارة إذا قصدها.

وظاهر المحقق الأردبيلي هنا بناء على القول بالاكتفاء بكل ما دل على المراد من الألفاظ والتراضي به ، كما قدمنا ذكره ، حيث أنه ممن اختار ذلك القول بالجواز في العارية ، وفي البيع على الوجه المذكور ، حيث قال في العارية ـ بعد الإشارة الى ما قدمنا نقله عن المسالك من الاشكال ـ ما لفظه : ولا يبعد إخراجها عن ظاهرها بما يخرجها عنه صريحا مثل أن يقول : أعرتك هذه الدار سنة بكذا ، غايته أن يكون مجازا بقرينة ظاهرة بل صريحة ، بحيث لا يحتمل غير المجاز ولا مانع منه لغة ولا عرفا ولا شرعا كما في لفظة ملكتك.

نعم لو ثبت كون صيغة الإجارة متلقاة من الشرع وليس هذه منها لصح عدم الانعقاد بها ، ولا يكفي مجرد كونه عقدا لازما ، ودعوى أن التجوز بمثل هذا يخرجه عن كونه لازما كما قاله في شرح الشرائع ، وقال : بالنسبة إلى البيع ، وقد مر ما يفهم البحث منه في عدم انعقادها بنحو البيع ، مثل بعتك هذه الدار أو منفعتها سنة بكذا ، وأنه فهم الإجماع من التذكرة ، فإن كان إجماعا فلا كلام والا فالظاهر أن لا مانع من الانعقاد إذا علم القصد ، فان الظاهر أنه يكفى مع صلاحية اللفظ في الجملة ، وان كان موضوعا متعارفا في الأصل لنقل الأعيان ، وهو وجه التردد في الشرائع ، انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار الواردة في هذا المقام زيادة على ما قدمناه في كتاب البيع مما يدل على سعة الدائرة في العقود وأنها ليست على ما ذكروه من الشروط والقيود ما رواه في الكافي عن زرارة (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يأتي الرجل فيقول : اكتب لي بدراهم فيقول له : آخذ منك وأكتب لك بين يديك قال : فقال : لا بأس» الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٣ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥١ ح ١.

٥٣٤

وما رواه في الفقيه عن محمد بن الحسن الصفار (١) في الصحيح «أنه كتب الى أبى محمد الحسن بن على عليه‌السلام يقول : رجل يبدرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ويشارطونه على شي‌ء مسمى ، إله أن يأخذ منهم أم لا؟ فوقع عليه‌السلام إذا واجر نفسه بشي‌ء معروف أخذ حقه إنشاء الله».

وما رواه عن محمد بن عيسى اليقطيني (٢) «أنه كتب الى أبى محمد الحسن بن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام في رجل دفع ابنه الى رجل وسلمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له ، ثم جاء رجل آخر فقال له. سلم ابنك مني سنة بزيادة ، هل له الخيار في ذلك؟ وهل يجوز له أن ينفسخ ما وافق عليه الأول أم لا؟ فكتب عليه‌السلام يجب عليه الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف.

وفي هذا الخبر دلالة على لزوم الإجارة كما تقدم ذكره ، وظاهر هذه الأخبار كما ترى وقوع الإجارة فيما تضمنته من غير عقد ، ولا إيجاب ولا قبول غير مجرد التراضي الواقع بينهما بهذه الألفاظ.

وما رواه في الفقيه عن أبان عن إسماعيل (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل استأجر من رجل أرضا فقال آجرنيها بكذا وكذا إن زرعتها أو لم أزرعها أعطيك ذلك فلم يزرع الرجل قال : له أن يأخذه بماله ، إن شاء ترك وان شاء لم يترك».

وما رواه في الكافي عن أبان عن إسماعيل بن الفضل (٤) مثله ، وما رواه في الكافي عن أبي حمزة (٥) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكتري الدابة فيقول أكثريتها منك الى مكان كذا وكذا ، فان جاوزته فلك كذا وكذا زيادة ويسمى ذلك؟ قال : لا بأس به كله».

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ١٠٦ ح ٨٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٤ باب ١٤ وباب ١٥.

(٣ و ٤) الفقيه ج ٣ ص ١٥٥ ح ٥ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٨ ح ١.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.

٥٣٥

وهذان الخبران وان اشتملا على العقد الا أنه في عكس القاعدة المقررة عندهم حيث ان الإيجاب فيهما انما وقع ممن وظيفته القبول ، والقبول ممن وظيفته الإيجاب مع عدم ذكر لفظة تدل على القبول ، وانما ظاهرهما كون القبول وقع بمجرد الرضا من غير لفظة ، وهو أبلغ في الرد لما قالوه ، ومن ذلك يعلم ما ذكرناه من اتساع الدائرة في العقود ، والله سبحانه العالم.

الثالث : قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أن الإجارة من العقود اللازمة وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ، وحينئذ فلا تبطل الا بالتقايل أو أحد الأسباب الموجبة للفسخ ، مثل أن يتعذر الانتفاع بالعين المستأجرة لغصبها ، أو انهدامها ، أو مرض الأجير كما تقدم في مكاتبة اليقطيني ونحو ذلك مما سيأتي إنشاء الله تعالى.

ولا تبطل بالبيع إذ لا منافاة بينهما لأن الإجارة انما تتعلق بالمنافع والبيع إنما يتعلق بالأعيان والمنافع وان كانت تابعة للأعيان ، الا أن المشتري متى كان عالما بالإجارة فإنه يتعين عليه الصبر الى انقضاء مدة الإجارة ، لأنه قدم على شراء مال مسلوب المنفعة هذه المدة وان كان جاهلا تخير بين فسخ البيع وإمضائه مسلوب المنفعة إلى تمام المدة المعينة.

والأقرب أنه لا فرق في صحة العقد بين كون المشتري هو المستأجر أو غيره فيجتمع عليه لو كان هو المشتري الثمن من جهة البيع ، والأجرة من جهة الإجارة وربما قيل ببطلان الإجارة وانفساخها في الصورة المذكورة ، لأن تملك العين يستلزم ملك المنافع ، لأنها نماء الملك ، وفيه ان ذلك مسلم فيما لو لم يسبق سبب آخر لتملكها وهيهنا قد تقدم عقد الإجارة الموجب لملك المنفعة ، والبيع إنما ورد على ملك مسلوب المنفعة في تلك المدة بعين ما ذكرناه في صورة ما ، إذا كان المشتري شخصا آخر غير المستأجر.

وكيف كان فإن العقدين صحيحان لا منافاة بينهما ، ولو ثبتت المنافاة بين البيع والإجارة لكان الباطل هو البيع ، دون الإجارة.

والذي وقفت عليه من الأخبار الدالة علي صحة البيع هنا ما رواه في الفقيه

٥٣٦

عن أبي همام (١) «أنه كتب الى أبي الحسن عليه‌السلام في رجل استأجر ضيعة من رجل فباع المؤاجر تلك الضيعة بحضرة المستأجر ولم ينكر المستأجر البيع وكان حاضرا له شاهدا عليه فمات المشتري وله ورثة هل يرجع ذلك الشي‌ء في ميراث الميت؟ أو يثبت في يد المستأجر الى أن تنقضي إجارته؟ فكتب عليه‌السلام يثبت في يد المستأجر الى أن تنقضي إجارته».

ورواه في الكافي عن أحمد بن إسحاق الرازي قال : كتب رجل إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : «رجل استأجر» الحديث. بأدنى تفاوت لا يخل بالمقصود.

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحسين بن نعيم الصحاف (٢) عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل جعل دارا سكنى لرجل أيام حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده؟ قال : هي له ولعقبه من بعده كما شرط؟ قلت : فإن احتاج الى بيعها يبيعها؟ قال : نعم ، قلت : فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : لا ينقض البيع السكنى ، كذلك سمعت أبي يقول : قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه علي أن الذي يشتريه لا يملك ما اشتري حتى ينقضي السكنى ـ علي ما شرط ـ والإجارة ، قلت : فإن رد علي المستأجر ماله وجميع ما لزمه من المنفعة والعمارة فيما استأجره ، قال : علي طيبة النفس ورضا المستأجر بذلك لا بأس».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (٣) قال : «كتبت الى الرضا عليه‌السلام أسأله عن رجل تقبل من رجل أرضا أو غير ذلك سنين مسماة ثم ان المقبل أراد

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٦٠ ح ١٢ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧١ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٤١ ح ٤٠ ، الاستبصار ج ٤ ص ١٠٤ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٥ ح ١ ، الكافي ج ٧ ص ٣٨ ح ٣٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٧ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٧٠ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٦٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٧ ح ٤.

٥٣٧

بيع أرضه التي قبلها قبل انقضاء السنين المسماة هل للمتقبل أن يمنعه من البيع قبل انقضاء أجله الذي تقبلها منه اليه وما يلزم المتقبل له؟ قال : فكتب : له أن يبيع إذا اشترط علي المشتري أن للمتقبل من السنين ماله».

أقول قد اشتركت هذه الأخبار في الدلالة على صحة الإجارة ، وأن البيع لا يبطلها ، وأما ما اشتمل عليه الخبر الثالث من أنه يبيع بشرط أن يشترط على المشتري منافع الأرض للمستأجر ، فهو محتمل للحمل علي وجوب الاخبار أو استحبابه ، بناء علي الخلاف في وجوب الاخبار بالعيب في المبيع وقت البيع ، وعدمه ، فإن قلنا بالوجوب كان الشرط هنا محمولا علي الوجوب ، والا فهو محمول علي الاستحباب ، وكيف كان فالبيع صحيح.

والخبر الثاني قد دل على أن حكم السكنى كالإجارة في صحة الجميع ، وعدم المنافاة بين الأمرين ، والأصحاب قد اتفقوا علي ذلك في الإجارة ، واختلفوا في السكنى ، والمشهور أنه لا تبطل السكنى والعمري والرقبى بالبيع ، ويجب الوفاء بذلك إلى انقضاء الأجل أو العمر ، ثم يرجع للمشتري واضطرب كلام العلامة في ذلك ففي الإرشاد قطع بجواز البيع ، وفي التحرير استقرب العدم ، لجهالة وقت انتفاع المشتري ، وفي القواعد والمختلف والتذكرة استشكل الحكم.

وأنت خبير بما فيه بعد ورود الخبر الصحيح المذكور ، وتأيده باتفاقهم علي ذلك في الإجارة ، والجميع من باب واحد ، قالوا : ولو فسخ المستأجر بعد البيع بحدوث عيب ونحوه رجعت المنفعة إلى البائع لا إلى المشتري ، ووجهه ظاهر ، لأن المشتري إنما اشتري مالا مسلوب المنفعة في تلك المدة ولا يتسلط عليها الا بعد انقضاء تلك المدة ، وإنما هي للمستأجر مع بقاء الإجارة أو ترجع للمالك بعد فسخها.

قالوا : ولا تبطل الإجارة بالعذر مهما كان الانتفاع الذي تضمنه عقد الإجارة

٥٣٨

من إطلاق أو تعيين ممكنا ، ومرجعه إلى إمكان حصول الانتفاع الذي تضمنه العقد في الجملة ، كان تخرب الدار مع بقاء الانتفاع بها في الجملة ، لكن متي كان الأمر كذلك فإنه وان لم تبطل الإجارة الا أنه يتخير المستأجر دفعا للضرر عليه بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة.

قال في المسالك : ولا عبرة بإمكان الانتفاع بغير العين كما لو استأجر الأرض للزراعة ففرقت وأمكن الانتفاع بها بغيرها ، فإن ذلك كتلف العين ، وعدم منع العذر ـ الانتفاع أعم من بقاء جميع المنفعة المشروطة وبعضها وعدم البطلان ـ حاصل علي التقديرين ، لكن مع حصول الانتفاع ناقصا يتخير المستأجر بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة ، انتهى.

واختلفوا في بطلانها بالموت علي أقوال ثلاثة فقيل : بأنها تبطل بموت كل من الموجر والمستأجر ونسبه في الشرائع إلى المشهور وقيل : بأنها لا تبطل بموت أحد منهما ، وهو المشهور بين المتأخرين بل قال في المسالك أن عليه المتأخرين أجمع.

وقيل : أنها تبطل بموت المستأجر ولا تبطل بموت الموجر ، وهذا القول مع القول الأول للشيخ ، ونقل في المختلف عن ابن البراج أنه قال : ان عمل أكثر أصحابنا علي أن موت المستأجر هو الذي يفسخها ، لا موت الموجر ، وفيه إشارة إلى شهرة هذا القول أيضا في ذلك الوقت.

قال في الخلاف : الموت تبطل الإجارة سواء كان موت المؤجر أو المستأجر ، وفي أصحابنا من قال موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها ، وقال في المبسوط : الموت يفسخ الإجارة سواء كان الميت المؤجر أو المستأجر عند أصحابنا والأظهر أن موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها ، ونقل القول الأول عن المفيد والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وغيرهم.

احتج القائلون بالأول علي ما نقله في المختلف بأن استيفاء المنفعة يتعذر

٥٣٩

بالموت ، لأنه استحق بالعقد استيفائها علي ملك المؤجر ، فإذا مات زال ملكه عن العين ، وانتقلت إلى الورثة فالمنافع تحدث على ملك الوارث ، فلا يستحق المستأجر استيفائها ، لأنه ما عقد علي ملك الوارث ، وإذا مات المستأجر لم يكن إيجاب الأجرة في تركته.

ثم أجاب عن ذلك بأن المستأجر قد ملك المنافع ، وملكت عليه الأجرة كاملة وقت العقد ، قال : وينتقض ما ذكره بما لو زوج أمته ثم مات.

أقول : الأظهر في النقض عليهم هو ما صرحوا به في البيع بعد الإجارة من أن المنتقل إلى المشتري بالبيع كذلك ، إنما هو العين مسلوبة المنافع في تلك المدة وأن المنفعة بالإجارة قد خرجت عن ملك صاحب العين ، وبه يظهر أنه لا معني لقولهم أن المنافع بعد موت الموجر تحدث علي ملك الوارث ، فإنها وإن حدثت في ملك الوارث إلا أنها قد صارت مملوكة قبل الانتقال إلى الوارث ، فالوارث هنا كالمشتري إنما انتقلت اليه العين خالية عن المنافع تلك المدة ، وهكذا القول في موت المستأجر فإن الأجرة قد صارت دينا في ذمته بعقد الإجارة مستحقة عليها للموجر ، فلا تبرأ إلا بأدائها حيا كان أو ميتا.

واستدل القائلون بالقول الثاني بأن الإجارة من العقود اللازمة ، ومن شأنها أن لا تبطل بالموت ، ولعموم (١) «الأمر بالوفاء بالعقود» ، وللاستصحاب واحتج في المختلف للقول المذكور حيث انه المختار عنده قال : لنا انه حق مالي ومنفعة مقصودة يصح المعاوضة عليها وانتقالها بالميراث وشبهه ، فلا يبطل بموت صاحبها كغيرها من الحقوق ، ولأن العقد وقع صحيحا ويستصحب حكمه ، ولأن العقد ناقل فيملك المستأجر المنافع به ، والموجر مال الإجارة ، فينتقل حق كل واحد منهما إلي ورثته انتهى ، وهو جيد.

ومرجع هذا الاستصحاب الذي ذكروه هنا الى استصحاب عموم الدليل

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.

٥٤٠