الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

فيه ، نعم يجوز له الدخول لسقي الشجر ومرمة الجدار وحراسة لملكه عن التلف والضياع ، انتهى.

وعلى هذا المنوال عباراته في سائر كتبه وعبائر غيره في هذا المجال ، والوجه فيه أنه إذا أعاره أرضا للغرس فيها فإنه يجوز لكل منهما دخولها.

أما المعير فإنه المالك لعينها ، فله الدخول في كل وقت شاء وله الاستظلال بالشجر وإن لم يكن ملكه ، لانه جالس في ملكه كما لو جلس في أرض مباحة واتفق له التظليل بشجر غيره ، وانما يمنع من التصرف في الغرس خاصة.

وأما المستعير فلانه يملك الغرس الذي فيها ، فله الدخول لأجل إصلاحه ، والقيام به بسقي ونحوه مما يتوقف عليه حفظه وحراسته وليس له الدخول لغرض آخر غير ما يتعلق بالغرس من التفرج ونحوه ، حيث أن الاستعارة وقعت مخصوصة بالغرس دون غيره.

وظاهرهم أنه لا يجوز له الجلوس والاستظلال حيث أنهم خصوا ذلك بالمعير ، ووجهه ظاهر كما عرفت ، ولم يذكروا ذلك في المستعير ، الا أن الشهيد في اللمعة صرح بجواز ذلك لهما.

وعلله الشارح بالنسبة إلى المستعير بقضاء العادة بذلك ، ومقتضى منعهم المستعير هنا من الدخول للتفرج ، أنه لا يجوز للغير دخول أرض غيره لذلك بطريق الأولى إلا بإذن المالك ، وينبغي أن يستثني من ذلك ما إذا كان المالك صديقا يعلم منه أو يظن الرضاء بذلك ، والله سبحانه العالم.

السادسة : لا خلاف بين الأصحاب في أنه لا يجوز للمستعير اعارة العين بدون إذن المالك ، والوجه فيه ظاهر لما تقدم ان من شروط الإعارة أن يكون المعير مالكا للمنفعة ، والمستعير ليس كذلك ، ولهذا لا يجوز له أن يؤجر وان كان له استيفاءها من حيث الاذن المترتب على الإعارة.

ويؤيده أن الأصل عصمة مال الغير عن التصرف فيه الا بإذن مالكه ، والإعارة

٥٠١

انما اقتضت تصرف المستعير خاصة ، فيبقى غيره داخلا تحت المنع ، وأيضا فإن الإعارة انما تفيد اباحة الانتفاع ، والمستبيح لا يملك نقل الإباحة إلى غيره ، كالضيف الذي أبيح له الطعام ، فإنه ليس له أن يبيحه الى غيره.

نعم يجوز للمستعير استيفاء المنفعة بنفسه أو وكيله ، وهذا لا يعد إعارة ، لأن النفع المستوفي عائد إلى المستعير لا الى الوكيل ، ولم ينقل الخلاف هنا الا عن بعض العامة.

قال في التذكرة : وقال أبو حنيفة : يجوز للمستعير أن يعيره وهو الوجه الآخر للشافعية ، لأنه يجوز إجارة المستأجر للعين ، فكذا يجوز للمستعير أن يعير لأنه ، تمليك على حسب ما ملك.

والفرق أن المستأجر يملك بعقد الإجارة الانتفاع على كل وجه ، فلهذا ملك أن يملكها ، وأما في العارية فإنه ملك المنفعة على وجه ما أذن له ، فلا يستوفيه غيره فافترقا ، انتهى.

والأظهر في التعبير عن بيان الفرق أن مقتضى الإجارة تمليك المنفعة ، ورفع يد المالك عنها ومقتضى العارية إباحتها خاصة ، مع تسلط المالك عليها بالرجوع وان كان كلامه يرجع الى ذلك ، وبذلك يظهر أن ما ذكره أبو حنيفة ومن تبعه قياس مع الفارق.

بقي الكلام في أنه لو خالف المستعير فأعار غيره فالظاهر أنه لا خلاف في أن للمالك الرجوع في العارية الثانية بأجرة المثل ، وبدل العين لو تلفت على من شاء منهما ، لكن لو رجع على المعير لم يرجع على المستعير إذا كان جاهلا بالحال ، فإنه مغرور ، وقد سلطه عليه بغير عوض ، الا أن يكون العارية مضمونة فيرجع عليه من هذه الحيثية ببدل العين خاصة لو تلفت كما هو حكم العواري المضمونة ، ولو كان عالما استقر الضمان عليه كالغاصب.

وقال في التذكرة : وان رجع على المعير بأجرة المثل كان له الرجوع على المستعير العالم ، وفي الجاهل اشكال ، وكذا العين ، ونحوه في القواعد ،

٥٠٢

والظاهر أن وجه الاشكال ـ كما ذكره بعض شراح القواعد ـ ينشأ مما تقدم مما يدل على عدم الرجوع ومن أنه قد استوفى المنافع ، فيرجع عليه.

وأنت خبير بأن الموافق لقواعدهم انما هو عدم الرجوع لما عرفت من الوجه المتقدم ، ومجرد استيفاء المنافع مع تسليطه عليها مجانا لا يوجب الرجوع عليه ولو رجع على المستعير قال في المسالك : رجع على المعير بما لا يرجع عليه به ، لو رجع عليه ، لغروره.

وهو ظاهر في رجوعه عليه بأجرة المثل وبدل العين مع فقدها ، وهي التي لا يرجع بها المعير على المستعير مع الجهل ، فإنه يرجع بها المستعير هنا على المعير ، لأنه قد غره بإعارته له وهو جاهل ، وتصرف فيه بناء على أن ذلك مجانا ، فلما رجع عليه المالك وأغرمه استحق الرجوع على من أعاره وغره.

وقال في التذكرة : فإن رجع على المستعير لم يرجع المستعير على المعير وان كان جاهلا على اشكال.

وأنت خبير بأن الموافق لقواعدهم انما هو ما ذكره في المسالك ، فان هذه المسئلة من جزئيات مسئلة من استعار من الغاصب ، والمعير هنا بإعارته بدون اذن المالك غاصب ، فيترتب على إعارته ما يترتب على اعارة الغاصب.

وما ذكره في المسالك هو مقتضى ما فصلوه في اعارة الغاصب كما تقدم ذكره في المسئلة الرابعة من الفصل الثاني (١).

السابعة : لو أذن له في غرس شجرة فانقلعت ، فهل يجوز له أن يغرس غيرها استصحابا للإذن الأول؟ قيل : نعم لما ذكر ، فإن الإذن قائم ما لم يرجع المعير.

وقيل : بعدم الجواز لأن الاذن انما وقع في ذلك الأول لا في غيره ، فقوله ان الاذن قائم مطلقا ممنوع ، ومثله الزرع والبناء ووضع الجذع ، الا أنه قال في التذكرة : لو انقلع الفصيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد ، أو سقط الجذع كذلك ، وقصر الزمان جدا فالأولى أن يعيده بغير تجديد الاذن ، انتهى.

__________________

(١) ص ٤٨٨.

٥٠٣

الفصل الرابع فيما يلحق ذلك من الأحكام في المقام.

وفيه أيضا مسائل الاولى : لا خلاف بين الأصحاب في أن العارية أمانة في يد المستعير ، لا تستعقب الضمان إلا في مواضع مخصوصة يأتي التنبيه عليها إنشاء الله تعالى ، فلو تلفت في يد المستعير بغير تفريط ولا عدوان فلا ضمان عليه ، سواء كان التلف بآفة سماوية أو أرضية.

وبذلك تكاثرت الأخبار فروى في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنها الا أن يكون قد اشترط عليه». وزاد في الكافي قال : وفي حديث آخر «إذا كان مسلما عدلا فليس عليه ضمان».

وعن عبد الله بن سنان (٢) في الصحيح قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تضمن العارية الا أن يكون قد اشترط فيها ضمانا الا الدنانير فإنها مضمونة وان لم يشترط فيها ضمان».

وعن زرارة (٣) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام العارية مضمونة؟ قال : فقال : جميع ما استعرته فتوى ، فلا يلزمك تواه ، الا الذهب والفضة ، فإنهما يلزمان الا أن يشترط عليه أنه متى توى لم يلزمك تواه ، وكذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك يلزمك ، والذهب والفضة لازم لك وان لم يشترط عليك».

وروى المشايخ الثلاثة بأسانيدهم وفيها الصحيح عن محمد بن مسلم (٤) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تسرق قال : فقال : إذا كان أمينا فلا عزم عليه».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ١ و ٢.

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٩ ح ١ التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ٧ و ٩.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٢ ح ٢ التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ٧.

٥٠٤

وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العارية؟ فقال : لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا».

وروى الشيخ عن الحلبي (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وقال : ليس على المستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن».

وعن عبد الملك بن عمرو (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس على صاحب العارية ضمان الا أن يشترط صاحبها الا الدراهم ، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط».

وعن إسحاق بن عمار (٤) في الموثق عن أبي عبد الله وأبي إبراهيم عليهما‌السلام «قالا : العارية ليس على مستعيرها ضمان ، الا ما كان من ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترط أو لم يشترط».

ورواه في الفقيه بإسناده عن إسحاق بن عمار أيضا وعن محمد بن قيس (٥) في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة فقضى عليه‌السلام أن لا يغرمها المعار ، ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة».

وعن مسعدة بن زياد (٦) عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : «سمعته يقول لا عزم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا».

وأما ما رواه الشيخ عن وهب (٧) عن جعفر عن أبيه أن عليا عليه‌السلام كان يقول :

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ٣ وص٢٣٧ ح ٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٠ ح ٣ و ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٢ ح ١ ..

(٥) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ٩.

(٦ و ٧) التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ١٠ وص ٢٣٨ ح ١١.

٥٠٥

من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن». فلا يخفى ما في حال رواية من الضعف ، فلا يبلغ قوة في معارضة ما ذكرناه من الأخبار ، وحملها الشيخ على من استعار بغير إذن المالك ، وجوز حمله على من فرط ، وعلى من شرط عليه الضمان.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن تحقيق الكلام في المقام يقع في موارد ، الأول : المفهوم من كلام الأصحاب ان العارية تضمن في مواضع ، فهي عندهم مستثناة من القاعدة المتقدمة ، الأول اشتراط الضمان ، وهو متفق عليه نصا وفتوى ، وقد تقدم في صحيح الحلبي أو حسنته الدلالة على ذلك ، ومثله صحيح عبد الله بن سنان ، وصحيح زرارة.

الثاني : الذهب والفضة وعليه تدل جملة من الأخبار المذكورة ، وسيأتي في الموضع الثاني تحقيق الكلام في ذلك.

الثالث : التعدي والتفريط ، وعليه قوله في صحيح محمد بن قيس المتقدم ، ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة ، وأيضا فإن معنى عدم ضمان الأمانة في كل موضع ذكروه ليس إلا من حيث التلف مع عدم التعدي والتفريط ، فاستثنائه في الحقيقة مستغنى عنه.

الرابع : العارية من غير المالك ، ويدل عليه موثقة إسحاق بن عمار (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام وأبى إبراهيم عليه‌السلام قال إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها ، فهلكت فالمستعير ضامن».

وهذا الموضع في الحقيقة كسابقه ، لأن هذه كما تقدم تحقيقه ليست بعارية ، وان عبر عنها بذلك ، فان اعارة الثاني لها غصب ، فهذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى صورة التعدي والتفريط ، لتعدي المعير الثاني في إعارته بغير إذن المالك ،

الخامس : ما تقدم من عارية الصيد للمحرم ، وقد تقدم ما فيه من الإشكال بالنسبة إلى حق المالك في المسئلة الثالثة ، من الفصل الثاني وأما بالنسبة إلى حق

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٠ ذيل حديث ١.

٥٠٦

الله تعالى فلا اشكال فيه.

السادس : ما نقل عن ابن الجنيد من حكمه بضمان الحيوان قال على ما نقله عنه في المختلف ، وليس يضمن المعار تلف ما تلف منها إذا كان السلعة متاعا الا أن يتعدى ، وما كان منها عينا أو ورقا أو حيوانا ضمن المعار تلف ذلك ، إلا أن يشترط المالك سقوط الضمان عنه.

ونقل في المختلف عنه الاستدلال بقوله (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وبرواية وهب (٢) ولا يخفى ما في دليله المذكور من الوهن والقصور مع تظافر الأخبار كما عرفت بالعدم ، مضافا الى الأصل ومما ذكرنا علم أن الاستثناء في التحقيق انما يتجه في المواضع الثلاثة الأول ، بل في الموضعين الأولين خاصة ، لما عرفت في الثالث من عدم الحاجة الى استثنائه ، وأن ذلك ظاهر من حكمهم بعدم ضمان الأمانة.

وقسم في المسالك العارية بالنسبة إلى الضمان وعدمه مع الشرط وعدمه إلى أقسام أربعة : أحدها : ما يضمن ، وان اشترط عدم الضمان ، وعد من ذلك صورة التعدي والتفريط ، والصورتين التاليتين لها ، ثم قال : ويحتمل قويا سقوطه في الأول ، لأنه في قوة اذن المالك له في الإتلاف مجانا ، فلا يستعقب الضمان.

وأما الأخيرتان فالأمر فيهما واضح ، لأن إسقاط غير المالك الضمان لمال المعير لا عبرة به ، وكذلك إسقاط الضمان عن المحرم ، لانه ثابت عليه من عند الله سبحانه ، باعتبار كونه صيدا لا باعتبار كونه مملوكا.

أقول : ما احتمله في الصورة الأولى من هذه الثلاث وقواه جيد ، بل الظاهر أنه متعين.

وأما الأخيرتان فقد عرفت أنهما ليستا من باب العارية التي هي موضوع

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١٧ الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٨ ح ١١.

٥٠٧

الكتاب ، ومحل البحث فيه ، وان تجوزوا فيهما بإطلاق هذا اللفظ فاطلاقهما وإدخالهما في التقسيم لا يخلو من اشكال.

وثانيها : ما لا يكون مضمونا وان اشترط الضمان ، وهو استعارة المحل للصيد من المحرم ، قال : وقد تقدم تسمية المصنف له استعارة.

أقول : هذا أيضا مبني على القول بصحة الإعارة في الصورة المذكورة ، كما هو ظاهر جمع ممن قدمنا ذكره ، والتحقيق هو البطلان كما تقدم بيان وجهه فلا ثمرة لعده هنا ، بناء على ما هو التحقيق في المسئلة.

وثالثها : ما يكون مضمونا إلا أن يشترط عدم الضمان وهو استعارة الذهب والفضة أقول : ويضاف إليهما الحيوان بناء على مذهب ابن الجنيد ، وإن كان قد عرفت ضعفه.

ورابعها : ما لا يكون مضمونا الا أن يشترط الضمان ، وهو باقي أقسامها.

أقول : وبما ذكرنا خلال كلامه ظهر أنه لا شي‌ء من العارية يكون مضمونا الا أن يفرط ويتعدي فيه ، أو يشترط فيه الضمان ، الا الذهب والفضة ، فإنهما مضمونان اشترط أو لم يشترط ، وهذا هو مقتضى الأخبار التي قدمناها ، والله سبحانه العالم.

المورد الثاني لا خلاف ولا اشكال بين الأصحاب في ضمان عارية الدراهم والدنانير من غير شرط ، لما تقدم من الأخبار المشتملة جملة منها على الذهب والفضة وبعض على الدنانير والدراهم.

وانما الخلاف والاشكال في غيرهما من الذهب والفضة ، كالحلي المصوغ والسبائك ونحوهما ، ومنشأ الخلاف من حيث اشتمال بعض الاخبار على الذهب والفضة بقول مطلق ، واشتمال بعض على خصوص الدراهم والدنانير ، فمن ذهب الى العموم نظر الى الاخبار الدالة على استثناءهما من عموم عدم الضمان في العارية ، وان تخصيص الدراهم والدنانير بالذكر في بعض آخر ، انما هو من

٥٠٨

حيث كونهما أحد أفراد الذهب والفضة ، ولا منافاة بينهما ، ومن ذهب الى التخصيص بالدراهم والدنانير نظر الى أن ما دل على الذهب والفضة مطلق ، وما دل على الدراهم والدنانير مقيد ، ومقتضى القاعدة العمل بالمقيد ، وتقييد المطلق به.

وأيده بعضهم بأن منفعة الدراهم والدنانير منحصرة في الإتلاف ، فكانت مضمونة بالإعارة ، وأما غيرهما من المصوغ فان له منفعة مع بقاء عينه ، وهي التجمل ونحوه ، ومن أجل ذلك توقف في المسئلة جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة ، وهو في محله لما عرفت من تعارض احتمال الجمع بين روايات المسئلة ، الا أنه يمكن أن يقال أن نصوص هذه المسئلة على أقسام ثلاثة :

منها ما هو مطلق في عدم الضمان من غير تقييد ، كحسنة الحلبي (١) وصحيحة محمد بن مسلم (٢) وصحيحة عبد الله بن سنان (٣) وصحيحة الحلبي (٤) ورواية مسعدة بن صدقة (٥) فان الجمع مشترك الدلالة في عدم الضمان في العارية من غير فرق بين كونها ذهبا أو فضة أو غيرهما.

ومنها ما دل على استثناء الذهب والفضة من هذا الحكم ، وأنه يضمن الا مع اشتراط العدم ، وهو صحيح زرارة (٦) وموثق إسحاق بن عمار (٧).

ومنها ما دل على استثناء الدراهم والدنانير وهو خبر عبد الملك بن عمرو (٨) ، حيث ورد باستثناء الأول ، وصحيح عبد الله بن سنان (٩) حيث ورد باستثناء الثاني ، والاستثناء في جميع هذه الاخبار انما وقع من العموم الذي دلت عليه أخبار القسم الأول.

وحينئذ فيجب إخراج الدراهم والدنانير واستثناءهما على كل حال من ذلك العموم ، لتصريح بعض الأخبار بهما بخصوصها ودخولهما في الذهب والفضة اللذين اشتمل عليهما البعض الآخر ، بقي العموم فيما عداهما مع معارضته بمطلق

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ١ و ٣ وص ٢٣٧ ح ٧ و ٦ و ١٠ والراوي هو مسعدة بن زياد كما تقدم.

(٦ و ٧ و ٨ و ٩) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٩ ح ٢ وص ٢٤٠ ح ٤ و ٣ ص ٢٣٩ ح ١.

٥٠٩

الذهب والفضة ، ومقتضى القاعدة تخصيص العموم بهما ، فيجب استثناءهما من العموم المذكور ، والقول بالضمان فيهما اشترط أو لم يشترط الا مع اشتراط العدم.

وأما ما ذكره القائل بالتخصيص من أن الذهب والفضة مطلق ، والدراهم والدنانير مقيد ، فيجب تقييدهما بذلك ، ففيه أنه لا تعارض بين أخبار الذهب والفضة ، وبين أخبار الدراهم والدنانير ليجب ارتكاب الجمع بينهما بتقييد المطلق منهما بالمقيد ، وانما كل من هذين الفردين قد وقع مستثنى من العموم الأول ، ومخصصا له ، فأخرجنا الدراهم والدنانير من ذلك العموم ، لاتفاق الأخبار على استثناء هما كما عرفت وبقي الكلام فيما عدا أخبار الدراهم والدنانير وقد عرفت وجه الجمع فيه.

وبالجملة فإن العموم الذي دلت عليه أخبار القسم الأول قد خصص بمخصصين ، أحدهما أعم من الآخر ، فيجب أن يخص ذلك العام بكل منهما ، أو يقيد مطلقه بكل منهما ، ولا منافاة بين ذينك المخصصين ، على أن أحدهما يخصص الآخر أو يقيده ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر.

وأما التعليل بأن الدراهم والدنانير تنحصر منفعتهما في الإتلاف ، فكانت مضمونة بخلاف غيرهما : ففيه أولا أن هذه العلة لا أثر لها في النصوص ، فهي مستنبطة ، وثانيا الانتقاض بالنقاد والسبائك ونحوهما مما لا يترتب عليه أثر بالتجمل والتزين الذي ذكروه في المصوغ ، على أن ظاهر كلام المبسوط والخلاف أن للدراهم والدنانير منفعة غير الإتلاف كما سيأتي إنشاء الله في كتاب الإجارة.

وأما ما تكلفه صاحب الكفاية في هذا المقام ، وزعم به عدم ثبوت الضمان في الذهب والفضة ، فلا يخفى ما فيه ، وحاصل كلامه أنه قد وقع التعارض بين المستثنى منه في خبر الدراهم والدنانير ، وحاصله أنه لا ضمان في غير الدراهم والدنانير ، فهو يدل على عدم الضمان في الذهب والفضة ، وبين المستثنى في خبر الذهب والفضة ، وحاصله أنه لا ضمان في غير الذهب والفضة ، فهو يدل على الضمان

٥١٠

فيهما ، والنسبة بين الموضعين العموم من وجه الى آخر كلامه.

وفيه أنه إن سمى هذا تعارضا يحتاج الى الجمع فإنه وارد عليه في الدراهم والدنانير ، فإنه لم يقع استثناءهما في محل واحد بل دل صحيح عبد الله بن سنان على استثناء الدنانير خاصة. وحاصله أنه لا ضمان في العارية الا أن يكون دنانير ، وبموجبه أنه لا ضمان في الدراهم ، ودل خبر عبد الملك بن عمرو على استثناء الدراهم خاصة ، وحاصله أنه لا ضمان في العارية الا أن يكون دراهم وهو ظاهر في عدم الضمان في الدنانير ، فيجري فيه ما أورده ثمة ، والتعارض بين المستثنى منه في كل من الخبرين ظاهر ، ولا نراه تكلفا للجمع بينهما هنا ، مع ظهور التعارض كما عرفت ، بل عمل بالخبرين ، وخصص بهما عموم الأخبار الدالة على أنه لا ضمان في العارية ، وما نحن فيه من أخبار الذهب والفضة مع أخبار الدراهم والدنانير كذلك ، حيثما شرحناه.

وبما أوضحناه يظهر قوة القول باستثناء الذهب والفضة ، ووجوب ضمانهما ، والله سبحانه العالم.

المورد الثالث : ظاهر جملة من الاخبار المتقدمة أنه يقبل قول المستعير لو ادعى التلف بغير يمين ، وفتوى الأصحاب على خلاف ذلك ، حيث انهم صرحوا بأنه إنما يقبل قوله بيمينه ، ونقل في التهذيب عن ابن بابويه (١) أنه قال : مضى مشايخنا (رحمة الله عليهم) على أن قول المودع مقبول ، وأنه مؤتمن ولا يمين عليه.

وقد روى (٢) أن رجلا قال للصادق عليه‌السلام : بأني ائتمنت رجلا على مال أودعته عنده ، فخانني وأنكر مالي فقال : لم يخنك الأمين ، وإنما ائتمنت الخائن. انتهى.

وظاهر هذا الكلام يدل على أنه في كل موضع يحكم بكون المال أمانة فلا يمين على من هو بيده لو ادعى تلفه أو أنكره ، ويدخل فيه العارية والوديعة

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨١ في ذيل ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٦.

٥١١

والقراض ونحوها مما حكم بكون المال فيه أمانة ، مع أن صريح كلام الأصحاب في هذه الأبواب كما صرحوا به في غير كتاب ـ هو أنه لا يقبل قول أحد من هؤلاء إلا مع اليمين ، ولم أقف في الأخبار الواردة في هذه الأبواب على ما يدل على ما ادعوه ، بل ظاهرها إنما هو قبول قولهم بغير يمين.

وقد تقدم في كتاب الوديعة جملة من الأخبار الدالة على ما قلناه ، ومثلها الأخبار الواردة هنا في العارية ، فإن ظاهرها أنه متى كان المستودع أو المستعير مأمونا فلا ضمان عليه ، بمعنى أنه يقبل قوله بمجرد دعواه التلف ، أو الإنكار ، فإن قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : «إذا كان أمينا فلا غرم عليه» ، ظاهر فيما ذكرناه.

لا يقال أن العارية إنما تضمن باشتراط لضمان ، وبدونه لا ضمان ، فلا غرم فيها لأنا نقول : نعم إذا علم المالك بالتلف ووافق عليه فلا ضمان هنا الا مع الشرط وأما مع عدم ذلك بل ادعائه بقاء العين أو التفريط فيها فالذي صرحوا به أنه لا يقبل قوله إلا باليمين ، وهذا محل البحث في المسئلة ، فان ظاهر هذا الخبر كما ترى أنه متى كان المستعير أمينا فلا عزم عليه وهو ظاهر في قبول قوله من غير يمين.

قال شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في حواشيه على هذا الخبر : يمكن أن يكون المراد بالأمين من لم يفرط في حفظها أو المعنى أنه لما كان أمينا فلا غرم عليه ، وبالجملة لو لا الإجماع لكان القول بالتفصيل قويا ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن ارتكاب التأويل في الخبر فرع المعارض ، وليس إلا الإجماع الذي أشار اليه ، وهو لا تصلح للمعارضة لما ذكره هو وغيره من المحققين في هذه الإجماعات ، مع أنك قد عرفت خلاف الصدوق (رحمه‌الله) في المسئلة ، مع جماعة من مشايخه الذين نقل عنهم ذلك.

ومثله الشيخ في النهاية كما قدمنا نقله عنه في كتاب الوديعة وغيرهم ممن

٥١٢

تقدم ذكره ، فالإجماع غير ثابت لو سلم حجيته.

على أن ما ذكره من التأويل بحمل الأمين على من لم يفرط في حفظها بعيد جدا ، لعدم جريانه في ما إذا ادعى المالك عليه التفريط مع عدم العلم بعدم التفريط ، الا من قبل المستعير ، ولأنه تخصيص لمعنى الأمين ، والعدل ، من غير مخصص ، بل استعمالهما في غير معناهما المتبادر لغة وشرعا ، بل المستفاد من الخبر انما هو المعنى الثاني الذي ذكره ، ونحو الخبر المذكور قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة «لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا» ، والمرسلة (١) التي نقلها في الكافي عقيب حسنة الحلبي ، وكتب شيخنا المتقدم ذكره في حاشيته ، على هذه المرسلة أيضا ما صورته ، ربما يحمل الخبر على أنه إذا كان مسلما عدلا ينبغي أن لا يكلفه المعير اليمين ، فيلزمه بنكوله الضمان. أو يحمل العدل على من لم يقصر ولم يفرط ، وهما بعيدان ، والمسئلة في غاية الإشكال ، انتهى.

أقول : ما استبعده من الاحتمالين في محله ، فان ظاهر الخبر المذكور هو قبول قول المستعير متى كان كذلك من غير يمين ، لأنه مع التكليف باليمين والنكول عنها يلزمه الضمان كما هو مقتضى القواعد ، مع أن الحديث مصرح بنفي الضمان مطلقا ، وتفسير نفي الضمان بمعنى أن الأولى للمعير أن لا يكلفه باليمين تعسف صرف ، وكذا حمل العدل على المعنى الذي اعترف ببعده.

وأما قوله أن المسئلة في غاية الإشكال ، ففيه ما عرفت مما شرحناه بحمد الله تعالى الملك المستعان من أنه لا اشكال بعد دلالة الأخبار على ما ذكرناه من أخبار هذا الباب وغيره كما تقدم ، وسيأتي إنشاء الله تعالى.

وعدم وجود خبر يدل على ما ادعوه وليس إلا مجرد الشهرة التي سموها إجماعا لما عرفت من وجود المخالف ، ومن ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في رواية مسعدة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ في ذيل ح ١.

٥١٣

بن زياد المتقدمة لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا.

وسيأتي إنشاء الله تعالى في كتاب الإجارة جملة من الأخبار الدالة على صحة ما ادعيناه زيادة على ما ذكرناه هنا وما تقدم في كتاب الوديعة.

المسئلة الثانية : قالوا : إذا رد العارية إلى المالك أو وكيله برء ، وإذا ردها الى الحرز لم يبرء ، ولو استغار الدابة إلى مسافة فجاوز بها ضمن ، ولو أعادها إلى الأولى لم يبرء.

أقول : قد اشتمل هذا الكلام على ثلاثة من الأحكام ، أما الأول منها وهو برأيه المستعير من العارية متى ردها على المالك أو وكيله ، فظاهر لا ريب فيه.

وأما الثاني وهو عدم البراءة بالرد الى الحرز كالدابة إلى الإصطبل مثلا ، فالوجه فيه الخبر الدال (١) «على أن على اليد ما أخذت حتى تؤدي». فإن المراد من الأداء في الخبر هو الدفع الى المالك أو وكيله ، لا مجرد ردها في داره أو اصطبله ، بل مقتضى القاعدة أن تكون مضمونة عليه بعد ذلك ، وان لم تكن مضمونة أولا لتفريطه في وضعها في موضع لم يأذن له المالك فيه ، إذ لو تلفت بعد وضعها في الموضع المذكور وقبل أن يتسلمها المالك لزمه ضمانها ، لما قلناه ، وهذا لا خلاف فيه عندنا.

وانما نقل فيه الخلاف عن أبي حنيفة قال : في التذكرة إذا رد المستعير العارية إلى مالكها أو وكيله برء من ضمانها ، وان ردها الى ملك مالكها بأن حمل الدابة إلى إصطبل المالك فأرسلها فيه ، أو ردها الى الدار لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي ، بل عندنا أن لم تكن العارية مضمونة فإنها تصير بهذا الرد مضمونة لأنه لم يدفعها الى مالكها ، بل فرط بوضعها في موضع لم يأذن له المالك بالرد اليه ، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها ، فتلفت قبل أن يتسلمها المالك ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.

٥١٤

لأنه لم يردها الى صاحبها ، ولا من ينوب منابه ، فلم يحصل الرد ، كما لو ردها إلى أجنبي.

وقال أبو حنيفة ، إذا ردها الى ملك المالك صارت كأنها مقبوضة لأن رد العواري في العادة إلى أملاك أصحابها ، فيكون مأذونا فيه من طريق العادة وهو غلط ، لأنه يبطل بالسارق إذا رد المسروق الى الحرز ولا تعرف العادة التي ذكرها فيبطل ما قاله ، انتهى وهو جيد.

وأما الثالث وهو ما لو استعار الدابة إلى مسافة مخصوصة فتجاوزها ، فان الوجه في الضمان هنا أنه قد تعدى في العارية من وقت المجاوزة ، فكان ضامنا لها الى أن يردها الى المالك هذا بالنسبة إلى ضمان العين لو تلفت فأما ضمان المنفعة وهو أجرة الدابة فعندهم أنه يثبت في المسافة المتجاوز بها عن موضع الاذن ذهابا وإيابا الى أن يرجع الى الموضع المأذون فيه ، لأنه في هذه المدة غاصب. ولا تبطل الإعارة بذلك ، فيكون تصرفه فيها بعد رجوعه الى المكان المأذون فيه الى أن يردها على المالك ، جائزا لدخوله في الإعارة ، فإنه مأذون فيه ، وانما حصل التعدي الموجب للأجرة في تلك المدة المتوسطة ، وان كان أصل العين مضمونة بذلك التعدي الى أن ترد على المالك.

ونقل في التذكرة عن بعض الشافعية أنه يضمن الأجرة أيضا كالعين الى أن يردها على المالك ، محتجا بأن ذلك الاذن قد انقطع بالمجاوزة ، ثم رده بأنه ممنوع.

أقول : حيث انه سابقا قبل هذا الكلام قال : وهل يلزمه الأجرة من ذلك الموضع الذي وقع فيه العدوان الى أن يرجع الى البلد الذي استعار منه الأقرب العدم لأنه مأذون فيه من جهة المالك ، وهو أحد وجهي الشافعية.

والثاني اللزوم ثم نقل القول الذي ذكرناه ورده هنا بالمنع من انقطاع الاذن بالمجاوزة.

وأنت خبير بأن المعير انما أذن في تلك المسافة المعينة ذهابا وإيابا

٥١٥

وهو بتجاوزه عن المسافة الى ما زاد عليها قد حكموا عليه بضمان العين من حيث التعدي والتفريط ، الى أن ترد سالمة على المالك ، وظاهر ذلك هو زوال العارية بهذا التعدي ، حيث أن المفروض أنها غير مضمونة وانما حصل الضمان بهذا التعدي الموجب للخروج عن كونها عارية ، وحينئذ فكما أثر هذا التعدي في زوال العارية بالنسبة إلى ضمان العين ، فلم لا يكون كذلك بالنسبة إلى ضمان المنفعة ، لأن مقتضى العارية العدم ، فلا وجه لحكمهم هنا بضمان المنفعة في خصوص موضع التعدي إذ التعدي إن كان موجبا للخروج عن العارية ، فينبغي أن يكون بالنسبة إلى ضمان العين ، وضمان المنفعة ، والا فلا وجه للفرق بأن يكون ضمان العين مستمرا الى الرجوع الى المالك.

وضمان المنفعة ينقطع بالرجوع الى محل التجاوز عن موضع الاذن ، سيما أنهم صرحوا كما قدمنا ذكره بأنه في صورة ضمان المنفعة بأنه لا تبطل الإعارة ، وان كان عاصيا في تلك المدة المتوسطة ، فلم لا يقال بذلك أيضا في صورة ضمان العين بأن الإعارة باقية ، ومقتضيها عدم ضمان العين إلا في المدة التي تجاوز عنها حتى يرجع إليها ، لا أنه يستمر الضمان الى الرد على المالك.

وكما أن الرجوع من محل التجاوز الى بلد الإعارة مأذون فيه ، كما ذكروه بالنسبة إلى ضمان الأجرة ، فلا أجرة عليه في ذلك كذلك ، من حيث أنه مأذون فيه ، لا ضمان للعين أيضا ، والغصب إن أثر الضمان الى الرجوع الى المالك ففي الحالين ، وإلا فلا.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه واضح في ما ذكروه من الفرق ، والمسئلة خالية من النص ، وتعليلاتهم كما ترى ، هذا كله إذا كانت العارية غير مضمونة.

أما لو كانت مضمونة كان شرط الضمان في العارية أو قلنا بضمان العواري ، فان الدابة المذكورة تكون مضمونة إلى نهاية موضع الاذن ضمان عارية ، ولا أجرة عليه ، لأنه مأذون له في التصرف فيها ، فإذا تجاوز موضع الاذن ضمنها ضمان الغصب ، ووجب عليه أجرة منافعها إلى أن يعود إلى المكان المأذون فيه ،

٥١٦

ومنه إلى الرجوع إلى المالك وردها عليه يضمن ضمان العارية هذا مقتضى تقريرهم في المقام ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : إذا حمل السيل حبا لرجل أو نوى أو جوزة أو نحو ذلك فثبت في أرض غيره بغير علمه قال في المبسوط : من الناس من يقول لا يجبر على قلعه ، لأنه غير متعد فيه فهو كالمستعير ، ومنهم من قال : يجبر على قلعه من غير أرش ، لأنه لم يأذن له في ذلك وهذا أقرب إلى للصواب.

وقال ابن البراج : لا يجوز لصاحب الأرض مطالبته بقلعه ، لأنه لم يتعد في ذلك ، قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والوجه ما قاله الشيخ ، لأن الأرض لمالكها فله الانتفاع بها على أي وجه ، وتفريغها من مال الغير الحاصل فيها بغير إذن ، ولأن الناس مسلطون على أموالهم وعدم الإثم والتعدي لا يقتضي منع المالك عن التسلط على ملكه ، انتهى.

وبنحو ذلك صرح في التذكرة : فقال : إن لصاحب الأرض قلعه ، وإن امتنع صاحب الزرع أجبر عليه ، وبذلك صرح في الشرائع ، والظاهر أنه هو المشهور بين المتأخرين وهو الأوفق بالأصول والقواعد الشرعية ، وما ذهب اليه ابن البراج ضعيف لا يعول عليه.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول : لو أعرض المالك عنه وإن كان كثيرا فإنه يتخير صاحب الأرض بين قلعه وبين تملكه ، ويكون من قبيل السنبل والثمار التي يعرض عنها ملاكها الا أن للمالك الرجوع فيها ما دامت العين باقية.

وظاهر التذكرة هنا أنه لا يجبر المالك على نقله ، ولا على أجرة الأرض ولا غير ذلك لأنه حصل بغير تفريط ولا عدوان ، فكان الخيار لصاحب الأرض المشغول به ، إن شاء أخذه لنفسه وإن شاء قلعه.

الثاني : لو لم يعرض عنه المالك وبقي حتى ظهر له ثمر فان ثمره ونمائه لمالكه ، وعليه أجرة الأرض للمدة التي كان باقيا فيها ، إن طالبه صاحب الأرض

٥١٧

بقلعه ، لأنه في هذه الحال غاصب ، وإن لم يطالبه فلا أجرة على الأقرب ، لأنه لم يقصر في القلع حيث لم يطلب منه ، ولا حصل في الأرض بفعله ليكون متعديا.

الثالث : إذا قلعه المالك وجب عليه تسوية الأرض وطم الحفر لأنها حدثت بفعله لتخليص ماله من ملك صاحب الأرض ولصاحب الأرض إجباره لو امتنع من ذلك.

الرابع : لو امتنع المالك من القلع جاز لصاحب الأرض إجباره ، وإلا نزعه منها ، كما لو سرت أغصان شجرة جاره الى ملكه وداره.

الخامس : قال في المسالك : لو اشتبه المالك في قوم منحصرين وجب عليهم أجمع التخلص بالصلح أو التمليك ونحوه ، ويجب على مالك الأرض أيضا مراجعتهم في ما يراجع فيه المالك المعين ولو لم ينحصر المالك كان بمنزلة اللقطة يجوز تملكه إن كان دون الدرهم حين التملك ، ولو تركه من غير نية التملك حتى بلغ وجب تعريفه كاللقطة ، ويحتمل كونه كمال مجهول المالك ، في جواز التصدق به عنه من غير تعريف ، انتهى.

السادس : قالوا : لو حمل السيل أرضا بشجرها فثبتت في ملك الغير فتلك الأرض وما فيها لمالكها ويجبر على إزالتها كما تقدم.

الرابعة : لا إشكال في الضمان مع اشتراطه كما تقدم في الأخبار فإن اختص الضمان بالتلف ضمن العين خاصة ، وإن اختص بالنقصان ضمنه خاصة ، وإن كانا معا ضمنهما معا.

وانما الكلام والاشكال في ما لو أطلق ، فعلى هذا لو أطلق ولم يعين شيئا من الأفراد الثلاثة المتقدمة ونقصت العين المستعارة بالاستعمال حتى تلفت فهل يضمن القيمة يوم التلف خاصة؟ لأن النقصان غير مضمون من حيث انه حصل بفعل مأذون فيه فلا يكون مضمونا ولأنه لو لم يتلف فردها على المالك في تلك الحال لم يجب عليه شي‌ء ، فإذا تلفت وجب قيمتها في تلك الحال وهو اختيار المحقق ، ونقل عن المبسوط والتذكرة.

٥١٨

أو أنه يضمن النقص أيضا نظرا إلى اشتراط الضمان فيكون ذلك النقص مضمونا وهو المنقول عن ابن الجنيد وأبى الصلاح واستشكل في القواعد في المسئلة.

قال في المسالك : ويمكن الفرق بين تلف الاجزاء الموجب للنقص بالاستعمال ، وبين تلفها بغيره فيضمن على الثاني دون الأول ، لأن تلفها بأمر مأذون فيه فلا يستعقب ضمانا ويمكن تأييد القول الثاني بمنع أصل التوجيه المذكور في القول الأول.

قوله : انه حصل النقصان بفعل مأذون فيه فلا يكون مضمونا يمكن خدشه بأن الاذن في أصل الاستعمال لا ينافي الضمان ، والحال إنه مشروط إذ ليس من لوازم أصل الاستعمال النقص ، فيجوز أن يكون الاستعمال مأذونا والنقص مضمونا وكذا استناده إلى أنه لو لم تتلف وردها في تلك الحال لا يجب عليه شي‌ء ، فإنه ممنوع أيضا إذ هو من موضع البحث ، فانا لا نسلم ذلك مع الشرط ، وإنما يتم بدونه ، فان للمانع أن يمنع من كون النقص غير مضمون في المضمونة ، سواء تلفت أو ردها قبل التلف ، والوجه فيه أن مقتضى تضمين العين تضمين أجزاءها ، لأنها مركبة منها ، ثم انه على تقدير هذا القول فإنه يضمن أعلى القيم من حين القبض الى يوم التلف ، إن كان الاختلاف والتفاوت في القيم بسبب الاجزاء كالثوب ينسحق باللبس ، وأما لو كان الاختلاف من حيث القيمة السوقية لم يضمن الزائد بسببه لأن ذلك ليس من مدلول الضمان سيما مع عدم إيجاب ذلك على الغاصب هذا كله مع اشتراط الضمان.

أما لو استعملها حتى تلفت من غير شرط الضمان في العارية فإن ظاهر الأكثر عدم الضمان مطلقا ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثانية من الفصل الثاني ، والله سبحانه العالم.

الخامسة : اختلف الأصحاب في ما لو ادعى المستعير الإعارة ، وادعى المالك الإجارة ، وقد مضت لذلك مدة في يد المستعير ، فذهب في الخلاف الى أن القول

٥١٩

قول المستعير ، قال في الكتاب المذكور : إذا اختلف صاحب الدابة والراكب ، فقال الراكب : أعرتنيها ، وقال صاحبها : أكريتكها بكذا ، كان القول قول الراكب بيمينه ، وعلى صاحبها البينة ، وكذا إذا اختلف الزارع وصاحب الأرض فادعى الزارع العارية. وادعى صاحب الأرض الكرى ، فالقول قول الزارع قيل في توجيهه : انهما متفقان على أن تلف المنافع وقع في ملك المستعير ، لأن مقتضى كلام المالك أنه ملكها بالإجارة ، ومقتضى كلام المستعير أنه ملكها بالاستيفاء المستند إلى الإعارة ، فيده شرعية على كل من القولين ، والمالك يدعى عليه العوض عما استوفاه عن ملكه ، وهو ينكر استحقاقه ، والأصل براءة ذمته منه ، فيكون القول قوله بيمينه ، عملا بالقاعدة المنصوصة.

وذهب ابن إدريس وتبعه المحقق الى أن القول قول المالك في عدم العارية وان لم يقبل قوله في الإجارة ، قال ابن إدريس : لا يقبل قول المالك في قدر ما ادعاه من الأجرة ، ولا قول الراكب في العارية ، فالواجب أجرة المثل عوضا عن منافع الدابة ، وكذا البحث في الأرض إذا اختلف المالك والزارع.

وقيل في توجيه هذا القول : انه لا شك في أن المنافع أموال كالأعيان ، فهي بالأصالة لمالك العين ، فادعاء الراكب ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل وأصالة براءة ذمته كما تمسك به القائل الأول إنما يتم بالنسبة إلى خصوص ما ادعاه المالك من قدر الأجرة ، لا من مطلق الحق بعد العلم باستيفاء المنفعة التي هي من جملة أموال المالك وحقوقه ، والأصل يقتضي عدم خروجها عن ملكه إلا بعوض ، ومن أجل ذلك يكون القول قول المالك في عدم العارية ، لأن الراكب يدعي العارية والمالك ينكرها ، فيكون القول قوله بيمينه ، ولا يقبل قول المالك في ما يدعيه من الإجارة ، لأنه مدع أيضا يحتاج إلى البينة ، وحينئذ فإذا حلف المالك على نفي العارية كما هي وظيفته الشرعية لم تثبت الإجارة ، لما عرفت من أن ثبوتها يتوقف على البينة ، ولكن تثبت أجرة المثل ، لأن الراكب

٥٢٠