الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، إلا أنهم استثنوا من ذلك مواضع بعضها اتفاقي ، وبعضها خلافي ، أحدها الإعارة للرهن بعد وقوع الرهن عليه ، فإنه لا رجوع للمعير ، وتوضيح ذلك ـ حيث أنه لم يسبق لهذه المسئلة تحقيق في كتاب الرهن ـ أنه لو استعار مال غيره ورهنه باذن المالك ، فالظاهر أنه لا إشكال في صحة الرهن ، بل نقل عليه في المسالك إجماع العلماء ، قال : وسموه استعارة الرهن وجعلوها مضمونة على الراهن ، وان تلفت بغير تفريط.

وبالجملة فإنه يترتب عليه أحكام الرهن ، فيلزم العارية ، وتباع عند الحلول ويؤخذ الدين من ثمنها كما في غيرها من أفراد الرهن ، وليس للمعير الرجوع فيها بحيث يتسلط على فسخ عقد الرهانة نعم له مطالبة الراهن بالفك عند الحلول.

بقي الكلام فيما يجب لمالكه في صورة بيع المرتهن الرهن ، وأخذ ماله من قيمته بأن يكون وكيلا أو بإذن الحاكم أو البائع الحاكم ، فقيل : انه يرجع المالك بأكثر الأمرين من القيمة وما يبيع به ، وهو المشهور في كلام الأصحاب.

قال في التذكرة : فإذا بيع في الدين رجع المالك بأكثر الأمرين من القيمة ومن الثمن الذي بيعت به ، لأن القيمة ان كانت أكثر فهو المستحق للمالك ، لأنها عوض عنه ، وان كان الثمن أكثر فهو عوض العين ، انتهى.

وفيه انه موهم لجواز بيعه بأقل من القيمة ، وهو ممتنع ، إذ لا يجوز البيع بأقل من ثمن المثل فصاعدا كما هو الحكم في كل وكيل ، وهذا أحدهم والتحقيق أنه ان باعه بثمن المثل فلا إشكال في أن للمالك ذلك ، وان باعه بأكثر من ذلك فلا ريب أيضا في أنه للمالك ، لأنه ثمن ملكه ، إذ العين باقية على ملكه الى وقت البيع ، ولا يتصور البيع بدون ثمن المثل كما عرفت.

هذا كله إذا كان مع اذن المالك كما تقدمت الإشارة اليه ، أما لو لم يكن بإذنه فإن للمالك انتزاعه بغير خلاف ، ويدل عليه أيضا ما رواه في الفقيه عن أبان عن حريز (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في رجل استعار ثوبا ثم عمد اليه فرهنه ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ٣ ، الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٦ الوسائل ج ١٣ ص ٢٤١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٢.

٤٨١

فجاء أهل المتاع الى متاعهم؟ فقال : يأخذون متاعهم». ورواه الكليني عن أبان بن عثمان عمن حدثه (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وثانيها : لو أعار أرضا لدفن ميت مسلم ومن بحكمه ، فإنهم صرحوا بأنه لا يجوز الرجوع فيها بعد الدفن ، لتحريم النبش وتهتك حرمته الى أن تفنى عظامه. ونقل في التذكرة أنه موضع وفاق قال : أما لو رجع قبل الحفر أو بعده قبل وضع الميت فإنه يصح رجوعه ، ويحرم دفنه فيه ولو رجع بعد وضع الميت في القبر ، وقبل أن يواريه بالتراب ، فالأقرب أن له الرجوع أيضا ، ومؤنة الحفر إذا رجع بعد الحفر ، وقبل الدفن لازمة لولي الميت ، ولا يلزم لولي الميت الطم ، لان الحفر مأذون فيه ، انتهى.

واستشكل في المسالك والروضة في لزوم مؤنة الحفر لولي الميت فيما لو لم يمكنه الدفن الا كذلك ، قال : إذ لا تقصير منه حينئذ ، فينبغي كونه من مال الميت ، ومراده أنه لو تعذر على الولي الدفن إلا في أرض بهذه الصورة فإنه لا تقصير منه في الدفن فيها ، حتى أنه يغرم مؤنة الحفر لو أمكنه الدفن في أرض غيرها فإنه يمكن مؤاخذته بقدومه على هذه الأرض التي لصاحبها الرجوع فيها قبل الدفن فلا يكون أجرة الحفر فيها على الميت ، ويكون أجرة حفر الأرض الأخرى عليه أيضا ، بل يكون أجرة هذا الحفر عليه خاصة لتقصيره ، وأنت خبير بأن هذا الحكم هنا مبنى على تحريم النبش ، وقد تقدم في كتاب الطهارة في بحث غسل الميت (٢) أنه لم يقم لنا دليل واضح على التحريم الا ما يدعونه من الإجماع. وثالثها : ما لو أعاره جدارا ليضع عليه أطراف خشبته ، والأطراف الأخر حائط المستعير.

قال الشيخ : لم يكن له بعد الوضع الإزالة وان ضمن الأرش ، لانه يؤدى الى قلع جذوعه من ملكه مجيرا وهو غير جائز ، وتبعه ابن إدريس.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤١ ح ١.

(٢) ج ٤ ص ١٤٣.

٤٨٢

وذهب العلامة في المختلف الى الجواز قال : لأنه عارية فللمالك الرجوع فيها وان أدى الى تخريب مال الغير ، لانجباره بالأرش ، واليه ذهب في المسالك أيضا ، وتردد المحقق في الشرائع في ذلك.

ورابعها : لو أعاره لوحا يرقع به السفينة ثم لج في البحر ، فإنه لا يجوز للمعير هنا الرجوع ما دامت في البحر ، لما فيه من الضرر بالغرق الموجب لذهاب المال ، أو تلف النفس ، قالوا : وهكذا في ما إذا حصل بالرجوع ضرر بالمستعير لا يمكن استدراكه ، ولو لم يدخل السفينة في البحر أو خرجت جاز الرجوع قطعا ، ولو كانت في البحر لكن يمكن إخراجها إلى الشاطئ وجب إذا لم يحصل به ضرر على صاحبها ، قيل : ويحتمل الجواز ، ولو كانت في البحر وثبتت له القيمة مع تعذر المثل لما فيه من الجميع بين الحقين ، أو يقال : بجواز الرجوع وان لم يجب تعجيل التسليم ، وتظهر الفائدة في وجوب المبادرة بالرد بعد زوال المانع ، وهو الضرر من غير مطالبة جديدة.

وخامسها : أن يعيره أرضا للزرع فيزرع فيها ، قال الشيخ : ليس له المطالبة بقلعه قبل إدراكه ، وان دفع الأرش لأن له وقتا ينتهى اليه ، وتبعه ابن إدريس.

وقال في المختلف بعد نقل ذلك عنهما : ولو قيل له ذلك كان وجها ، لأنها عارية ، فلا تجب والظاهر أن مراده الجواز مع الأرش ، والا فهو مشكل ، وبذلك صرح في المسالك فجوز ذلك مع الأرش.

وسادسها : أن يعيره أرضا ليبنى فيها أو يغرس مدة معلومة ، قال ابن الجنيد : لو أعاره براحا ليبنى فيه أو يغرس مدة معلومة ، لم يكن لصاحب الأرض أن يخرجه من بناءه أو غرسه كرها قبل انقضاء المدة ، فإن فعل ذلك كان كالغاصب وعليه أعلى قيمة بناءه وغرسه قائما ومنفردا ، ولو كانت الإعارة غير موقتة كان لصاحب الأرض إخراجه ، إذا أعطاه قيمة بناءه وغرسه ، ثم يخرجه وهو بحاله.

وقال في المبسوط : إذا أذن له في الغرس ولم يعين مدة فغرس كان للمالك

٤٨٣

مطالبته بالقلع ، إذا دفع الأرش أن يغرم له ما ينقص فتقوم قائمة ومقلوعة ، ويغرم ما بين القيمتين ، وان قال المعير : أنا أغرم لك قيمتها أجبر المستعير على قلعها ، لانه لا ضرر عليه فيه ، ولو قال المستعير : أنا أضمن قيمة الأرض لم يكن له ذلك.

قال في المختلف ـ بعد نقل كلام الشيخ المذكور ـ : والوجه عندي أنه لا يجبر المستعير على أخذ قيمة غرسه ، بل له المطالبة بعينه والأرش ، وقال بعد نقل كلام ابن الجنيد : أما الحكم الثاني فقد وافق الشيخ فيه ، فيما تقدم وبينا ما عندنا فيه.

وأما الحكم الأول فالوجه أن للمالك المطالبة بالقلع مع دفع الأرش ، كما قلنا في المطلق ، ولا يجب الشراء ولو طلبه الغارس ، ونمنع مساواته للغاصب واختار ذلك في المسالك أيضا.

الخامسة : قال في التذكرة : لا تخلو العين التي تعلقت بها العارية أما أن يكون جهة الانتفاع فيها واحدة أو أكثر فإن كانت واحدة كالدراهم والدنانير التي لا ينتفع بها الا بالتزين والبساط الذي لا ينتفع بها إلا في فرشه ، والدار التي لا ينتفع بها الا بالسكنى ، فمثل هذا لا يجب التعرض للمنفعة ، ولا ذكر وجه الانتفاع ، لعدم الاحتياج إليه إذ المقتضي للتعيين في اللفظ حصر أسباب الانتفاع وهو في نفسه محصور فلا حاجة الى مائز لفظي.

وان تعددت الجهات التي يحصل بها الانتفاع كالأرض التي تصلح للزراعة والغرس والبناء ، والدابة التي تصلح للحمل والركوب فلا يخلو اما أن يعمم أو يخصه بوجه واحد أو أزيد ، أو يطلق فان عمم جاز له الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات المباحة المتعلقة بتلك العين ، كما لو أعاره الأرض لينتفع بها في الزرع والغرس والبناء وغير ذلك بلا خلاف ، وان خصص الوجه كان يعيره الأرض للزرع أو البناء أو الغرس اختص التحليل بما خصصه المعير ، وبما ساواه وقصر عنه في الضرر ما لم

٤٨٤

ينص على التخصيص ، ويمنع من التخطي إلى غيره ، فلا يجوز له التجاوز قطعا.

أقول : في جواز التعدي مع التخصيص وان لم يمنع من التخطي إلى غيره الى ما ساواه أو قصر عنه اشكال ، للخروج عن موضع الاذن والرخصة ، فإن الظاهر أن التخصيص في قوة المنع عن غيره ، ولا خلاف بينهم في عدم جواز الغير مع المنع عن غير ما خصصه.

ثم قال : وان أطلق فالأقوى أن حكمه حكم التعميم ، لأن إطلاق الاذن في الانتفاع يشعر بعموم الرضا بجميع وجوهه ، إذ لا وجه من الوجوه أولى بالضرر من الأخر. ثم قال : إذا أذن له في الزرع فاما أن يطلق أو يعمم أو يخصص ، ولا بحث في الأخيرين.

وأما الأول فإنه يصح عندنا ويستبيح المستعير جميع الزرع ، اختلف ضررها أو اتفق وهو أصح وجهي الشافعية عملا بإطلاق اللفظ.

وقال بعضهم : تصح العارية ولا يزرع إلا أقل الأنواع ضررا لأصالة عصمة مال الغير ، ولا بأس به.

أقول : ظاهره الرجوع عما أفتى به أولا في هذه المسئلة من العمل بالإطلاق وان اختلف الضرر ، وهو وارد عليه أيضا فيما ذكره من اختيار العمل بالإطلاق في المسئلة الاولى ، مع أنه قوى أن حكمه حكم التعميم ، ثم قال : ولو قال : أعرتكها لزرع الحنطة ولم ينه عن غيرها كان له زرع ما هو أقل ضررا من الحنطة عملا بشاهد الحال كالشعير والباقلاء ، وكذا زرع ما يساوى ضرره ضرر الحنطة ، وليس له زرع ما ضرره أكثر.

أقول : قد تقدم ما فيه من الاشكال ، ثم قال : ينقسم العارية باعتبار الزمان إلى ثلاثة كما انقسمت باعتبار النفع إليها ، لأن المعير قد يطلق العارية من غير تقييد بزمان ، وقد يوقت بمدة ، وقد يعمم الزمان كقوله أعرتك هذه الأرض ولا يقرن لفظه بوقت أو زمان ، أو أعرتك هذه الأرض سنة أو شهر أو أعرتك هذه

٤٨٥

الأرض دائما ، وانما جاز الإطلاق فيها بخلاف الإجارة ، لأن العارية جائزة وله الرجوع فيها متى شاء ، فتقديرها لا يفيد شيئا.

أقول : الظاهر ان الغرض من التقييد بالمدة دواما أو تعيينا انما هو صحة التصرف في هذه المدة المضروبة ، بمعنى أنه لا يكون عاصيا في تصرفه ، وكذا مع الإطلاق ، لا أنه يقيد العارية بذلك ، إذ لا اشكال من حيث كونها عقدا جائزا ، أن له الرجوع متى أراد إلا فيما تقدم من المواضع المستثناة ، ومتى رجع فإنه ليس للمستعير التصرف ، فان تصرف ضمن.

الفصل الثاني في المعير والمستعير :

وفيه مسائل الاولى :لا إشكال في أنه يشترط في المعير أن يكون مالكا مكلفا جائز التصرف ، والمراد بالمالك ما هو أعم من ملك العين أو المنفعة ، كما صرح به في التذكرة ، فلا تصح اعارة الغاصب للنهى عن التصرف بدون اذن المالك والإعارة تصرف ، ولا فرق بين غاصب العين أو المنفعة ، ولا يجوز للمستعير التصرف والحال هذه مع العلم بالغصب وان تصرف كان ضامنا للعين والمنفعة بلا خلاف ، والمراد بملك المنفعة كما لو استأجر عينا ، فإنه يملك منفعتها فله أن يعيرها الا أن يشترط عليه المؤجر مباشرة الانتفاع بنفسه ، فيحرم عليه حينئذ الإعارة ، وكذا الموصى له بخدمة العبد وسكنى الدار ، فإنه يجوز له إعارتهما.

ولا يصح اعارة الصبي والمجنون ، الا أن في الشرائع صرح بأنه لو أذن الولي للصبي جازت إعارته مع المصلحة ، مع أنه قد تقدم في كتاب البيع أن عقد الصبي لا عبرة به ، وان أجاز له الولي ، وفرق بينهما في المسالك بأنه انما جاز له هنا دون البيع ، لأن العارية لما كانت جائزة ولا تختص بلفظ بل كل ما دل على رضاء المعير ، ـ وهو هنا الولي ـ كان إذنه للصبي بمنزلة الإيجاب ، فالعبرة حينئذ بإذنه ، لا بعبارة الصبي.

ولا يخفى ما فيه سيما على ما تقدم تحقيقه في البيع من عدم قيام دليل على

٤٨٦

ما ادعوه من الاختصاص بلفظ مخصوص في عقد البيع ونحوه ، وأن المناط انما هو ما دل على الرضاء.

وبالجملة فإن مظهر الجواز وعدمه هو صحة تصرف المستعير والمشتري ، سواء كان العقد لازما أو جائزا ، فإن جوزنا له ذلك بعقد الصبي المأذون له من الولي ، فلا فرق في ذلك بين اللازم والجائز ، والا فلا ، إذ لا مدخل لذلك في الجواز وعدمه ، كما لا يخفى ، والمراد بالمعار هنا ما كان ملكا للصبي.

والظاهر من كلامهم أن توليه اعارة مال غيره يبنى على ما تقدم في إعارة مال نفسه ، من اذن الولي وعدمه ، وربما قيل بإطلاق المنع هنا ، كما هو ظاهر اختيار المسالك.

وكما أنه لا يجوز للصبي والمجنون الإعارة استقلالا لعدم جواز تصرفهما ، كذلك المحجور عليه لسفه أو فلس ، لاشتراك الجميع في المنع من التصرف ، والله سبحانه العالم.

الثانية : قد صرحوا بأن للمستعير الانتفاع بالعين المعارة بما جرت به العادة في الانتفاع بها نوعا وقدرا وصفة ، وهذا يرجع الى ما تقدم في الفائدة الخامسة من اتحاد جهة الانتفاع ، وعدم تعددها كالبساط الذي جرت العادة بفرشه ، واللحاف الذي اقتضت العادة جعله غطاء ونحو ذلك ، وظاهرهم أنه لو خالف فالتحف بالبساط وفرش اللحاف فإنه لا يجوز له ذلك ، لمخالفة العادة التي هي المتبادرة من العارية هنا.

أما لو كانت وجوه الانتفاعات متعددة فإنه يبنى على ما تقدم من التفصيل ، ولو نقص من العين شي‌ء بالاستعمال أو تلفت من غير تفريط لم يضمن الا أن يشترط الضمان في العارية ، لأن إطلاق الاذن أو تعميمه يقتضي الانتفاع بالعين من غير تقييد بالكثير والقليل ، فما يحصل من النقص والتلف انما استند إلى إذن المعير ، وربما قيل : بضمان المتلف ، لأن الظاهر عدم تناول الاذن للاستعمال المتلف ،

٤٨٧

وان كان داخلا في الإطلاق ، ولا يخلو عن قوة.

نعم لو لم يكن الاستعمال متلفا عادة ، وانما حصل التلف اتفاقا ، فما ذكروه جيد والله سبحانه العالم.

الثالثة : قال في التذكرة : لا يحل للمحرم استعارة الصيد من المحرم ، ولا من المحل ، لأنه يحرم عليه إمساكه ، فلو استعاره وجب عليه إرساله ، وضمن للمالك قيمته ، ولو تلف في يده ضمنه أيضا بالقيمة لصاحبه المحل ، وبالجزاء لله تعالى ، بل يضمنه بمجرد الإمساك عليه وان لم يشترط صاحبه الضمان عليه ، فلو دفعه الى صاحبه بري‌ء منه ، وضمن لله تعالى.

أقول : لا ريب فيما ذكره من عدم جواز الاستعارة في الصورة المفروضة لما ذكر من تحريم الإمساك عليه.

بقي الكلام هنا في مواضع : أحدها : انهم قالوا : إذا استعاره بعقد العارية فهل يقع العقد فاسدا أم صحيحا؟ وجه الأول النهي عنه ووجه الثاني أن النهي انما يكون مبطلا في العبادات ، دون المعاملات ، فالبطلان يحتاج الى دليل من خارج ، وكلامهم في هذا المقام حيث عبروا بأنه «لا يحل» كما هنا أو «لا يجوز» كما عبر به غيره ، لا يدل على شي‌ء من الأمرين صريحا لان عدم الحل ، وعدم الجواز أعم من الفساد ، إلا أنك قد عرفت آنفا أنه لا دليل على هذا العقد الذي ذكروه ، فلا أثر لهذا الخلاف.

وثانيها : قوله : فلو استعاره وجب عليه إرساله ، فإنه على إطلاقه مشكل ، بل ينبغي تخصيص ذلك بما إذا كان استعاره من محرم ، أما لو استعاره من محل فإنه يجب رده على المالك ، ويلزم عليه الفداء لله سبحانه خاصة ، وبرء من حق المالك ، وبذلك صرح في آخر العبارة المذكورة.

والظاهر أن مراده هو أن الواجب شرعا هو الإرسال ، وأن قبضه من محل ، وحينئذ يضمن قيمته للمحل ، فلو خالف الواجب ورده الى المالك برئت ذمته من

٤٨٨

القيمة للمالك ، وبقي حق الله سبحانه ، ويشكل حينئذ بأنه متى كان الصيد مملوكا كما هو المفروض من قبضه من المحل ، فقد تعارض حق الله سبحانه بوجوب الإرسال ، وحق المالك ، ومن القواعد المقررة عندهم مع التعارض تقديم حق الآدمي على حق الله تعالى ، فالواجب حينئذ بناء على ما قلنا هو رده على المالك ، وضمان حق الله سبحانه ، وأما لو كان المقبوض منه محرما فإنه غير مالك فيتعين الإرسال مع عدم الضمان لمن قبضه منه.

وثالثها : ما ذكره من أنه يضمن بالتلف لصاحبه المحل قيمته ، وان ذكره غيره أيضا ، حيث انهم عدوا ذلك من العواري المضمونة ، وان لم يشترط فيها الضمان ، الا أن فيه اشكالا ، لعدم الوقوف على دليل عليه في المقام ، ولم يصرحوا له هنا بدليل ، ومجرد تحريم الاستعارة لا يدل على الضمان ، سواء قيل : بفساد العقد الذي ادعوه هنا ، أم بصحته ، أما على تقدير الحكم بصحته فلما ذكرناه من عدم الدليل ، والأصل في العارية أن يكون غير مضمونة الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، لما عرفت.

وأما على تقدير الحكم بفساده فلما تقرر من القاعدة المشهورة «ان كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، ومالا فلا».

ولو قيل : بأنه يمكن الاستدلال على الضمان بإطلاق النصوص الدالة على أن المحرم إذا أتلف صيدا مملوكا فعليه القيمة لمالكه ، وما نحن فيه كذلك ، قلنا : هذا معارض بالنصوص الصحيحة الدالة على أن العارية غير مضمونة ، الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، وليس تخصيص الثاني بالأول أولى من العكس ، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج الى دليل ، هذا كله إذا كان المستعير محرما كما عرفت ، فلو كان الصيد في يد محرم فاستعاره المحل فظاهر كلامهم الجواز.

قال في التذكرة : ولو كان الصيد في يد محرم فاستعاره المحل ، فان قلنا المحرم يزول ملكه عن الصيد ، فلا قيمة له على المحل ، لأنه أعاره ما ليس ملكا له ،

٤٨٩

وعلى المحرم الجزاء لو تلف في يد المحل ، لتعديه بالإعارة فإنه كان يجب عليه الإرسال».

وان قلنا لا يزول صحت الإعارة ، وعلى المحل قيمته لو تلف الصيد عنده ، انتهى.

أقول : لا إشكال في الحكم الثاني ، ولا كلام فيه ، وإنما الكلام في الأول فإنه ان حكم بصحة الإعارة وجوازها كما هو ظاهر العبارة ، وهو صريحة في القواعد والإرشاد ، وبه صرح في الشرائع أيضا ، فإن الإشكال يتطرق اليه من وجوه : أحدها انهم صرحوا بأن من شروط صحة الإعارة كون المعار ملكا للمعير ، وهو هنا منتف لما اعترفوا به من زوال ملكية المحرم عن الصيد ، فكيف تصح الإعارة ويحكم بجوازها.

وثانيها : أن تسليمه للمحل اعانة على الصيد ، وإثبات سلطنة عليه للغير ، وهو محرم على المحرم ، فلا يناسب إثبات الجواز ، ويمكن خدش هذا الوجه بأنه لا منافاة بين تحريمه على المحرم ، والجواز للمحل ، فيحرم الإعارة على المعير من حيث الإحرام ، ويجوز للمستعير من حيث كونه محلا ، ونظائره في الأحكام غير عزيز.

وثالثها : أن تسليمه إذا كان محرما على المحرم حرم قبوله من المحل ، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان المنهي عنه في صريح القرآن ، ولما ذكرنا قوى في المسالك الحكم بتحريم الإعارة في الصورة المذكورة ، وهو جيد لما عرفت.

ويحتمل ضعيفا عدم الحكم بصحة الإعارة في الصورة المذكورة ، واليه يشير قوله في الثانية صحت الإعارة ، فإن ظاهره أنه في صورة الحكم بعدم الملك لا تصح وحينئذ فلا إشكال ، الا أنه خلاف ما صرح به في كتبه ، وصرح به غيره ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : لو استعار مغصوبا فلا يخلو اما أن يكون جاهلا بالغصب ، أو

٤٩٠

عالما به ، فعلى الأول : فهل يتخير المالك في الرجوع بالأجرة وأرش النقص ، والقيمة مع التلف على الغاصب ، أو المستعير أو أنه انما يرجع على الغاصب خاصة؟ المشهور الأول ، والوجه فيه ما تقرر في كلامهم من أن كل من ترتب يده على المغصوب ، فان يده يد ضمان عالما كان أو جاهلا ، فيد المستعير هنا يد ضمان ، وقيل : بالثاني ، وبه صرح في الشرائع والقواعد ، ووجه بأن المستعير مغرور يضعف مباشرته ، والسبب الغار أقوى.

وأنت خبير بما في الوجهين المذكورين ، وقد روى في الفقيه (١) قال : «قال على عليه‌السلام : إذا استعيرت عارية بغير اذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن».

ورواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام وأبى إبراهيم عليه‌السلام مثله وظاهر إطلاقه اختصاص الضمان بالمستعير عالما كان أو جاهلا.

ثم انه على تقدير القول المشهور من تخيير المالك لو رجع على المستعير مع جهله كما هو المفروض ، رجع المستعير على الغاصب بما أغرمه المالك لدخوله ، على أن يكون العين والمنفعة غير مضمونة ، هذا كله في العارية الغير المضمونة.

أما لو كانت مضمونة كالذهب والفضة ، فإنه لا يرجع المستعير على الغاصب بالقيمة لو تلفت العارية في يده ، لأن ضمانه إنما هو من حيث العارية ، لا من حيث التعدي.

نعم يرجع بأجرة المنفعة إذا أخذها منه المالك ، وكذلك يرجع بعوض النقصان قبل التلف ، لأن الجميع غير مضمون عليه ، وإنما دخل على ذلك ، ولو رجع المالك على الغاصب لم يرجع الغاصب على المستعير إن لم تكن مضمونة ، والا رجع عليه بما كان يضمنه ، هذا في صورة الجهل.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٢ وما أورده في الفقيه ليس منسوبا الى على (عليه‌السلام) بل الظاهر انه ذيل رواية إسحاق بن عمار عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) الذي هو ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٠ ح ١.

٤٩١

وأما لو كان عالما بالغصب فإنه يكون ضامنا ، ولا رجوع له على الغاصب ، وللغاصب الرجوع عليه إذا أغرمها المالك.

وبالجملة فإن المستعير هنا غاصب كالذي أعاره ، ومن حكم ترتب الأيدي على المغصوب تخير المالك في الرجوع على أيهما شاء ، ويستقر الضمان على من تلفت العين في يده ، والله سبحانه العالم.

الفصل الثالث في العين المعارة.

وفيه أيضا مسائل الأولى : الضابط في المستعار عند الأصحاب هو أن يكون مما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه ، وهو يتضمن شيئين بقاء العين مع الانتفاع ، وجواز ذلك الانتفاع ، فكلما يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه ، يصح إعارته ، كالعقارات والدواب ، والثياب ، والأقمشة ، والأمتعة ، والصفر والحلي ، وكلب الصيد والماشية ، والفحل ، وجميع أصناف الحيوانات المنتفع بها كالآدمي والبهائم ، ونحو ذلك.

وفي الصحيح عن محمد بن قيس (١) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة فقضى : أن لا يغرمها المعار» الحديث.

وفي رواية وهب (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أن عليا عليه‌السلام قال : من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن ، ومن استعار حرا صغيرا فعيب فهو ضامن».

وحمل الضمان هنا على الاستعارة من غير المالك أو التفريط والتعدي أو اشتراط الضمان. لما علم من عدم ضمان العارية إلا مع الوجوه المذكورة.

فأما ما لا يتم الانتفاع به الا بإتلاف عينه كالأطعمة والأشربة ، فإنه لا يجوز

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ٩ وص ٢٣٨ ح ١١.

٤٩٢

إعارتها ، لأن المنفعة المطلوبة منها انما تحصل بإتلافها وذهاب عينها والإباحة لم تقع على الإتلاف.

وكذا ما لا يجوز الانتفاع به ، فإنه لا تصح إعارته كأواني الذهب والفضة للأكل والشرب فيها ، ولو استعار كلب الصيد للهو والطرب حرم ، ولو استعاره للصيد المشروع جاز ، والجواري يجوز استعارتها للخدمة ولا يجوز للاستمتاع ، لأن العارية ليست من الأسباب المبيحة للبضع ، والمحللات محصورة في أشياء ليس هذا منها.

وهكذا كل ما له منفعة محللة ومحرمة ، فإنه يجوز الإعارة للأولى دون الثانية ، ولو استعاره للمحرمة قالوا : لم يجز الانتفاع به في المحللة ، والوجه فيه بطلان الإعارة من أصلها.

والظاهر أن التخصيص بالمنافع غالبي ، لما سيأتي ان شاء الله تعالى من اعارة الغنم وهي المنحة والمنافع المأخوذة منها إنما هي أعيان كالصوف والشعر واللبن.

الثانية : قد تقدم في كلام العلامة في التذكرة وبه صرح في غيرها من كتبه ما يدل على جواز التخطي مع الاذن في شي‌ء مخصوص الى ما هو أدون منه ضررا أو مساو له ، وظاهره أنه لا خلاف فيه ، وقد قدمنا ما في ذلك ، وبما ذكرناه أيضا صرح المحقق فقال : ويقتصر المستعير على القدر المأذون فيه ، وقيل : يجوز أن يستبيح ما هو أدون في الضرر ، كما يستعير أرضا للغرس فيزرع ، والأول أشبه واختاره في المسالك أيضا ، قال : وما اختاره المصنف أوجه ، وقوفا مع الإذن ، لأن الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه ، خرج منه ما يأذن فيبقى الباقي وكون الأدون أولى بالاذن منه ـ ، فيدخل من باب مفهوم الموافقة ـ ممنوع ، لجواز تعليق غرض المالك بالنوع الخاص ، فالأولوية ممنوعة نعم لو علم انتفاء الغرض في التخصيص توجه جواز التخطي إلى الأقل ، انتهى وهو جيد.

بقي الكلام في أنه لو عدل إلى الأضر مع النهي أو الإطلاق كما هو محل

٤٩٣

الاتفاق أو عدل إلى المساوي والأدون مع النهي ، أو الإطلاق بناء على ما اخترناه ، فهل يلزمه الأجرة بمجموع الزرع أو يسقط منها مقدار أجرة المأذون فيه وتثبت الزيادة خاصة إشكال ، ينشأ من أنه قد تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، فان هذا التصرف الذي فعله غير مأذون فيه ، وبموجب ذلك يلزم ثبوت الأجرة كملا ، ومن أنه قد إباحة المنفعة المخصوصة بذلك الفرد الذي أذن فيه ، فلا عوض لها ، فإذا تخطي الى غيرها كان مقدار منفعة ما أبيح له حلالا ، لا عوض فيها ، وإنما العوض للزائد ، وعلى هذا لا يحصل في المساوي والأقل ضررا إلا الإثم خاصة.

والظاهر أن الأول أقوى ، لأن ما أذن فيه المالك لم يستوفه ، وما استوفاه غير مأذون فيه بالكلية ، فتصرفه حينئذ عدوان محض ، وكون المالك أحل له التصرف في ذلك الفرد لا يستلزم اجزاء قدر ما فيه من المنفعة في هذا الفرد الذي تصرف فيه من غير اذن ، فيجعل الضمان في ما زاد عن ذلك ، لأن تلك المنفعة مخصوصة بذلك الفرد المجاز ، لا تعلق لها بهذا الفرد الأخر.

نعم لو كان المأذون فيه داخلا في ضمن الفرد المنهي عنه كما لو أذن له في تحميل الدابة قدرا معينا ، فزاد عليه ، أو أذن له في ركوبها بنفسه فأردف غيره معه ، أمكن إسقاط قدر المأذون فيه ، فلا أجرة عليه من حيث كونه مأذونا ، وانما الأجرة في مقابلة ما زاده ، ومثل ذلك ما لو أذن له في زرع حنطة فزرع حنطة وغيرها.

ونقل عن العلامة أنه فرق بين النهي عن التخطي ، وبين الإطلاق ، فأوجب الأجرة كملا مع النهي ، وأسقط التفاوت مع الإطلاق ، بمعنى أنه لو أمره بزرع الحنطة مثلا ونهى عن غيرها ، فإنه بالمخالفة يضمن الأجرة كملا ، ولو لم ينهه بل أمره بها من غير نهي عن غيرها ، فإنه مع المخالفة إلى غير الحنطة مما هو أضر يعتبر قدر منفعة الحنطة فيسقط من الأجرة ويؤخذ الأجرة على ما زاد.

وهو مبني على مذهبه الذي قدمنا نقله عنه من جواز المساوي والأقل ضررا

٤٩٤

وانما المحرم ما كان أضر.

وأورد عليه في هذا التفصيل بأن الفرق غير واضح لأن التخطي غير مأذون فيه في كل من الفردين المذكورين ، غاية الأمر أنه في صورة النهي جاء المنع من حيث النهي الذي نص عليه المالك ، وفي صورة الإطلاق وعدم النهي جاء المنع من حيث عدم الإذن ، إذ قد علم من الشرع المنع من التصرف في مال الغير بغير اذن المالك ، وهذا لا يوجب اختلاف الحكم والله سبحانه العالم.

الثالثة : المشهور في كلام الأصحاب على وجه لا يظهر فيه خلاف أنه يجوز إعارة الشاة للحلب وهي المسماة عندهم بالمنحة بالكسر قال في المسالك : «وجواز إعارة الشاة لذلك ثابت بالنص على خلاف الأصل ، لأن اللبن المقصود من الإعارة عين لا منفعة ، وعدوا الحكم إلى غير الشاة مما يعد للحلب من الانعام وغيرها.

وفي التذكرة : «يجوز اعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها ، وفي تعدى الحكم عن موضع الوفاق ان كان هو اعارة غير الغنم نظر للبن لعدم الدليل مع وجود المانع ، وهو أن الإعارة مختصة في الأصل بالأعيان ، ليستوفي منها المنافع ، والنص من طرقنا غير واضح ، ومن طرق العامة لا يدل على غير الشاة» انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلامه من التدافع بين صدره وعجزه ، فان صدره ظاهر في وجود نص من طرقنا بهذا الحكم ، فإنه حكم بثبوته بالنص على خلاف الأصل ومقتضاه كون ذلك النص من طرقنا كما لا يخفى ، ومقتضى كلامه أخيرا وقوله «والنص من طرقنا غير واضح ، ومن طرق العامة لا يدل على غير الشاة» كون مستند هذا الحكم إنما هو النص الذي من طرق العامة ، وأنه لا نص من طرقنا ، وهذا هو الحق الواضح ، فإنه لا مستند لهذا الحكم في أخبارنا على الوجه الذي ذكروه.

نعم هنا أخبار قد استند إليها في التذكرة حيث ذهب في الكتاب المذكور الى جواز إعارتها للانتفاع باللبن والصوف ، قال يجوز اعارة الغنم للانتفاع

٤٩٥

بلبنها وصوفها وهي المنحة ، وذلك لاقتضاء الحكمة إباحته ، لأن الحاجة تدعو الى ذلك ، والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان كما في استيجار الظئر.

وقد روى العامة عن النبي (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : «المنحة مردودة». والمنحة هي الشاة.

ومن طرق الخاصة ما رواه الحلبي (٢) في الحسن عن مولانا الصادق عليه‌السلام : «في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كل شاة كذا وكذا في كل شهر ، قال : لا بأس بالدراهم ولست أحب أن يكون بالسمن».

وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان (٣) «أنه سأل الصادق عليه‌السلام عن رجل دفع الى رجل غنمه للسمن ودراهم معلومة لكل شاة كذا وكذا في كل شهر ، قال : لا بأس بالدراهم ، فأما السمن فلا أحب ذلك ، الا أن يكون حوالب فلا بأس» ، وإذا جاز ذلك مع العوض فبدونه أولى ، انتهى.

أقول : قد قدمنا الكلام على هذه الأخبار ، وبيان ما اشتملت عليه من الحكم المذكور في المسئلة الرابعة من الفصل الحادي عشر من كتاب التجارة (٤).

وظاهر العلامة هنا حملها على العارية ، مع أنه في المختلف بعد أن رد على ابن إدريس في إنكاره هذه المعاملة ، ومنعها حيث أنها ليست بيعا ولا اجارة ، قال : والتحقيق أن هذا ليس ببيع ، وإنما هو نوع معاوضة ومراضاة غير لازمة ، بل سائغة ولا منع في ذلك ، انتهى.

على أن بعض الأخبار المشار إليها قد اشتمل على البقر أيضا كما قدمنا ثمة وهو لا يقول به ، والظاهر منها أيضا بعد ضم بعضها الى بعض أن المنافع التي يستوفيها الراعي فيها إنما هو في مقابلة رعيها وحفظها وحراستها.

__________________

(١) النهاية : لابن الأثير ج ٤ ص ٣٦٤.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٢٧ ح ٢٥ ، الكافي ج ٥ ص ٢٢٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٠ ح ١ و ٤.

(٤) ج ٢٠ ص ٦٠.

٤٩٦

ومما هو ظاهر في ذلك رواية إبراهيم بن ميمون (١) أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام قال : نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها ، وله أصوافها وألبانها ويعطينا الراعي لكل شاة درهما؟ فقال : ليس بذلك بأس» الحديث.

وبالجملة فإن حملها على العارية كما ذكره بعيد غاية البعد ، ويؤيد ذلك اتفاق الأخبار المذكورة على الاشتمال على أخذ العوض ، مع أن العارية لا عوض فيها ، ويزيده تأييدا أيضا أن المستفاد من أخبار العارية أن المستعير انما له الانتفاع بالعين فيما يترتب عليها من وجوه الانتفاعات إن كان الاذن عاما ، وأما استيفاء الأعيان منها كاللبن والسمن ونحو ذلك فلم يقم عليه دليل ، وهذه المسئلة إنما أخذها الأصحاب من العامة ، وهذه التسمية بالمنحة إنما هي في حديثهم المروي من طريقهم ، والا فأحاديثنا خالية عن ذلك بالكلية.

وبالجملة فإنه لا مستند لهذا الحكم ظاهرا الا ما يتراءى من دعوى الاتفاق إن تم ، والا فالحجة غير واضحة ، وأما تعليل العلامة لذلك بقوله فيما قدمنا من كلامه باقتضاء الحكمة إباحته فعليل ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : قد تقدم أن العارية من العقود الجائزة ، وللمالك الرجوع فيها ، سواء كانت مطلقة أو مقيدة بمدة إلا في بعض المواضع التي تقدم استثنائها وتقدم نقل خلاف ابن الجنيد في الأرض البراح يعيرها للبناء والغرس إذا قيد الإعارة بمدة ، في أنه ليس له الرجوع حتى تنقضي المدة ، فحكم بلزومها من طرف المعير حتى تنقضي المدة ، والمشهور خلافه.

بقي الكلام في أنه لو أذن له في البناء أو الغرس أو الزرع ثم طلب إزالته بعد ذلك ، فظاهر الأصحاب أن له ذلك من حيث جواز الرجوع متى شاء ، ولكن عليه الأرش من حيث الاذن ، وخالف الشيخ في الزرع ، فقال : ليس له المطالبة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٢٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٢٧ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٠ ح ٢.

٤٩٧

قبل إدراكه وان دفع الأرش ، لأن له وقتا ينتهي اليه ، واقتفاه ابن إدريس في ذلك.

والأقرب بناء على قواعدهم في الباب من حيث ان الإعارة من العقود الجائزة هو جواز الرجوع مطلقا ، الا ما قام الدليل على خروجه ، ولا دليل هنا وحديث (١) «الضرر والضرار». لازم من الطرفين ، فلا يمكن الترجيح به ، فيجب الرجوع الى الأصل من تسلط الناس على أموالهم ، مع أنه يمكن الجمع بين الحقين ، واندفاع الضرر من الجانبين ببذل الأرش من المعير.

والمراد بالأرش على ما قالوا : تفاوت ما بين كونه منزوعا من الأرض وثابتا فيها ، قال في التذكرة : ولكنه مخير بين أن يقلعه ويضمن الأرش ، وهو قدر التفاوت بين قيمته مثبتا ومقلوعا الى آخر كلامه ، وهل المراد بكونه ثابتا في تلك الأرض في صورة تقويمه كذلك هو ثبوته مجانا أو بأجرة.

قال في المسالك : كلام الشيخ في المبسوط صريح في الأول ، وهو الظاهر من كلام المصنف والجماعة ، مع احتمال اعتبار الثاني ، والى هذا الاحتمال مال (رحمه‌الله) ، ونقله عن التذكرة في غير هذا الموضع كما يأتي في كلامه.

وعلل الأول بأن وضعه في الأرض لما كان صادرا عن إذن المالك تبرعا اقتضى ذلك بقاؤه تبرعا كذلك ، وإنما صير الى حواز القلع بالأرش جمعا بين الحقين ، فيقوم ثابتا بغير أجرة مراعاة لحق المستعير ، ويقلع مراعاة لحق المعير.

وعلل الثاني بأن جواز الرجوع في العارية لا معنى له الا أن تكون منفعة الأرض ملكا لصاحبها ، لا حق لغيره فيها ، وحينئذ فلا يستحق الا بقاء فيها الا برضاه بالأجرة ، وحق المستعير يجبر بالأرش ، كما أن حق المعير يجبر بالقلع ، وبأخذ الأجرة لو اتفقا على إبقائه بها ، قال : وهذا هو الأقوى ، واختاره في التذكرة في غير محله استطرادا.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣ و ٤.

٤٩٨

أقول : ومن هذا التعليل يظهر وجه ضعف التعليل الأول ، لأن مبنى التعليل الأول على أن اذن المالك في وضع هذه الأشياء في أرضه اقتضى بقاؤها فيها تبرعا ، وقد رده في التعليل الثاني بأن جواز الرجوع في العارية لا يتوجه الا بأن يكون منفعة الأرض لصاحبها لا حق لغيره فيها ، إذ لو كان لغيره حق فيها لم يتوجه جواز الرجوع فيها ، وإذا لم يكن لغيره حق فيها فكيف يتجه ما ذكره في ذلك التعليل من بقائه تبرعا بسبب الأذن في الوضع ، وحينئذ فلا بد في تقويمه باقيا من اعتبار الأجرة ، إذ البقاء إنما يتوجه بها.

وبالجملة : فإن الأذن في الوضع إنما اقتضى صحة التصرف ، وأن لا يكون غصبا ولا موجبا للمؤاخذة والإثم ، وبرجوع المالك في ذلك بعد ذلك لا يستحق البقاء فيها إلا بالأجرة ان تراضيا بها وحينئذ فإذا أريد التقويم بعد الرجوع لأخذ الأرش إنما تقوم باقية بالأجرة حيث أنه لا يستحق البقاء بعد الرجوع بدونها ، وتقوم مقلوعة ، فيؤخذ بالتفاوت بين القيمتين هذا مقتضى كلامه ، وهو جيد بالنظر الى هذه الاعتبارات ، والبناء على هذه التعليلات ، وينبغي أن يعلم أن ثبوت الأرش إنما يكون في صورة اختلاف حالتي القلع والبقاء ، وحيث ينتفي الاختلاف كما في صورة إدراك الزرع وبلوغه ، فإنه متى رجع المالك في تلك الحال فإنه لا أرش.

ولو بذل المعير قيمة البناء أو الغرس أو الزرع لم يجب على المستعير اجابته ، بل له قلعه وإزالته مع أخذ الأرش من المعير ، وكذا لو بذل المستعير قيمة الأرش أو الأجرة لم يجب على المعير إجابته ، لأن كلا منهما مسلط على ملكه ، لا يجوز التصرف فيه الا برضاه.

وخالف الشيخ في الأول فأوجب على المستعير الإجابة إذا بذل المعير قيمة الأشياء المذكورة معللا ذلك بعدم الضرر على المعير ، وقد تقدم نقل كلامه في الفائدة الرابعة من الفصل الأول (١) وضعفه ظاهر ، فان مجرد انتفاء الضرر على

__________________

(١) ص ٤٨١.

٤٩٩

المالك غير كاف في جواز تملك ماله بغير رضاه.

والمشهور : أن للمستعير بيع أبنيته وغرسه ولو على غير المالك ، حيث أن الجميع ملك له يتصرف فيه كيف شاء.

وقيل لا يجوز له بيعه على غير المعير لعدم استقرار ملكه برجوع المعير ، وفيه أن عدم استقرار ملكه غير مانع من البيع ، كما يباع المشرف على التلف ، ومستحق القتل قصاصا وحينئذ فإن كان المشترى جاهلا تخير بعد العلم بين الفسخ وعدمه ، وان كان عالما كان حكمه حكم المستعير فيما يترتب على ذلك ، ولو اتفقا جميعا على بيع ملكيهما بثمن واحد صح ، ووزع الثمن عليهما ، فيقسط على أرض مشغولة به على وجه الإجارة ، مستحق القلع بالأرش أو الإبقاء بالأجرة أو التملك بالقيمة مع التراضي ، وعلى ما فيها مستحق القلع على أحد الوجوه فلكل قسط ما يملكه ، هذا.

وقد صرح جملة منهم بأنه ليس للمالك المطالبة بالإزالة إلا بعد دفعه الأرش أولا ، والا فلا يجب اجابته الى ما طلب ، وعلل باحتمال تعذر الرجوع اليه بإفلاس أو غيبة أو نحوهما فيضيع حق المستعير ، ويلزم الضرر عليه بخلاف ما إذا دفع أولا.

ولو قيل : بأنه مع الدفع أولا يمكن أيضا أن يهرب المستعير أيضا ، ويتعذر مباشرته للقلع ، فيرجع الضرر على المعير أيضا.

قلنا : هذا الضرر يمكن دفعه ، بجواز مباشرة الغير لذلك باذن الحاكم الشرعي مع إمكانه ، أولا معه مع تعذره ، فلا ضرر حينئذ والله سبحانه العالم.

الخامسة : قال في التذكرة : يجوز للمعير دخول الأرض والانتفاع بها والاستظلال بالبناء والشجر ، لأنه جالس على ملكه ، وليس له الانتفاع بشي‌ء من الشجر بثمر ولا غصن ولا ورق ولا غير ذلك ، ولا يضرب وتد في الحائط ، ولا التسقيف عليه وليس للمستعير دخول الأرض للتفرج إلا بإذن المعير ، لأنه تصرف غير مأذون

٥٠٠