الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

وفيه أن الظاهر أن صدق الخائن عليه شرعا وعرفا لا يحصل الا بفعل ما يوجب الخيانة ، لا بمجرد النية ، والا لصدق على من نوى الزنا ولم يزن أنه زان ، ونحو ذلك ، ولا ريب في بطلانه.

الثاني ـ ما ذكر من الضمان لو طلبها المالك أو من يقوم مقامه فامتنع من ردها مع الإمكان.

أقول : أما وجوب الرد مع الطلب فلا ريب فيه للاية والرواية قال الله تعالى (١) «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» والاخبار بذلك قد تقدمت في صدر الكتاب (٢) والأمر بالرد فوري عندهم ، وأما وجوب الضمان في الصورة المذكورة فالظاهر أن دليله الإجماع على أن التقصير موجب للضمان ، ولم أقف على نص في ذلك ، وقد تقدم في الموضع العاشر من البحث الأول (٣) تحقيق معنى الرد وتفصيل الكلام في هذا المقام.

فروع :

الأول ـ قال في التذكرة : لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى الوكيل فطلبها الوكيل لم يكن له الامتناع ، ولا التأخير مع المكنة ، فإن فعل أحدهما كان ضامنا ، وحكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يرد عليه ، الا أنهما يفترقان في أن المستودع له التأخير الى أن يشهد المدفوع اليه على القبض لان المدفوع اليه وهو الوكيل لو أنكر الدفع صدق بيمينه ، وذلك يستلزم ضرر المستودع بالغرم انتهى.

أقول : مرجع الفرق بينهما إلى أنه في صورة إنكار الوكيل الدفع يحتاج المستودع إلى البينة ، ومع عدمها يمين المنكر ، لان هذا الفرد أحد أفراد الكلية

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٥٨.

(٢) ص ٣٩٥.

(٣) ص ٤٢٦.

٤٤١

القائلة «١» «بأن البينة على المدعى ، واليمين على المنكر». وأما في صورة إنكار المالك لو ادعى الودعي الدفع إليه فإنه وان كان أيضا أحدهما مدعيا والأخر منكرا الا أنه من حيث كونه أمينا ومحسنا وقابضا لمصلحة المالك فالقول قوله بيمينه ، ولا يكلف البينة كما هي قاعدة الأمين في أي موضع كان ، فهي مستثناة من القاعدة المذكورة بالنصوص الكثيرة هذا هو المشهور.

وقيل : ان عليه البينة في دعوى الرد على المالك أيضا ، عملا بالقاعدة المذكورة ، والأظهر ضعفه عملا بالأخبار الدالة على حكم الامانة ، وأنه يقبل قول الأمين بيمينه ، والوديعة من جملتها كما تقدم ذكره.

الثاني : لو قال المالك له : رد الوديعة على فلان وكيلي ، فلم يطلب الوكيل الرد ، قال في التذكرة : ان لم يتمكن المستودع من الرد فلا ضمان عليه قطعا ، لعدم تقصيره ، وان تمكن من الرد احتمل الضمان ، لانه لما أمره بالدفع الى وكيله فكأنه عزله ، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعية.

الثالث ـ قال في التذكرة أيضا : لو أمره المالك بالدفع الى وكيله أو أمره بالإيداع لما دفع اليه ابتداء ، فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدين ، لأن الوديعة أمانة.

وقول المستودع مقبول في الرد والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأن الودائع حقها الإخفاء بخلاف قضاء الدين ، وهو أظهر وجهي الشافعية.

أقول : فيه أنه قد صرح في الفرع الأول بأن للودعي التأخير عن الدفع الى الوكيل الى أن يشهد له على القبض ، لما يلزم بعدم الاشهاد من الضرر عليه لو أنكر الوكيل القبض ، وقد بينا الوجه فيه ، وهنا نفى الوجوب عنه ، وهذا لا يجامع الحكم الأول ، لان مقتضى ما ذكره أولا أنه لا يجب على الودعي الدفع الا مع الاشهاد له بالقبض ، ومقتضى هذا الكلام أنه لا يجب على الوكيل الاشهاد ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٧١ ح ٥.

٤٤٢

واللازم من ذلك أنه لا يجب على الودعي الدفع في صورة أمر المالك بالدفع ، كما هو المفروض في كل من الموضعين ، ولا ريب في بطلانه ، وقوله في الكلام الأخير لأن قول المستودع مقبول في الرد انما هو مسلم بالنسبة إلى دعواه الرد على المالك لما عرفت ، بناء على القول المشهور.

وبالجملة فإن الظاهر عندي هو التدافع فيما ذكره في هذين الكلامين

الثالث ـ ما ذكر من الضمان لو جحدها ثم قامت عليه البينة أو اعترف بها وعلل بأنه انما كان الجحود موجبا للضمان ، لأنه خيانة ، حيث انه بإنكاره يزعم أن يده عليها ليست نيابة عن المالك ، فلا يكون أمينه ، فيصير يده عليها يد ضمان لا يد وديعة وأمانة.

قالوا : ويعتبر في تحقيق الضمان بالجحود أمور الأول ـ أن يكون بعد طلب المالك لها ، فلو جحدها ابتداء أو عند سؤال غيره لم يضمن ، لأن الوديعة مبنية على الإخفاء فإنكاره بغير طلب يوجب الرد أقرب الى الحفظ ، ولو لم يطلبها المالك لكن سأله عنها فقال : لي عندك وديعة فجحد فلهم في الضمان قولان : أحدهما ما اختاره في التذكرة ، وهو العدم ، لانه لم يمسكها لنفسه ولم يقر يده عليها بغير رضى المالك ، حيث لم يطلبها ، ومجرد السؤال لا يبطل الوديعة ، ولا يرفع الامانة.

وثانيها ـ ما اختاره الشيخ على (رحمه‌الله) واستوجهه في المسالك من ثبوت الضمان ، قال المحقق المذكور : لان جحوده يقتضي كون يده ليست عن المالك لان نفى الملزوم يقتضي نفى لازمه من حيث هو لازمه ، فلا يكون أمينا عنه فيضمن.

الثاني ـ أن لا يظهر بجحوده عذرا بنسيان أو غلط أو نحوهما فإنه لا يضمن ان صدقه المالك على العذر والا ففي الضمان وجهان : واستقرب في التذكرة الضمان ، ووجهه يعلم مما سبق.

وفي المسالك أن عدم الضمان لا يخلو من وجه.

الثالث ـ أن لا يكون الجحود لمصلحة الوديعة بأن يقصد به دفع ظالم أو

٤٤٣

متغلب على المالك أو نحو ذلك ، لانه محسن في ذلك ، وما على المحسنين من سبيل.

الرابع ـ ما ذكر من الضمان بالخلط بماله على وجه لا يتميز ، قال في التذكرة : إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجا لا يتميز أحدهما عن صاحبه كدراهم مزجها بمثلها أو دنانير بمثلها ، بحيث لا يتميز بين الوديعة وبين مال المستودع أو مزج الحنطة بمثلها ، صار ضامنا ، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها ، أو أزيد منها ، انتهى.

ومرجع ذلك الى اشتراك الجميع في التعدي الناشي عن التصرف في الوديعة تصرفا غير مشروع ، وتعيبها بالمزج المفضي إلى الشركة الموجب إلى المعاوضة على بعض ماله بغير رضاه عند القسمة ، ولا ريب أن الشركة عيب ، وربما يفهم من قوله بماله أنه لو كان الخلط بمال المالك لم يضمن ، وليس كذلك بل يضمن أيضا كما صرح به في التذكرة في تتمة كلامه ، حيث قال : ولو مزجها بمال مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعة ، يمزج أحدها بالاخر بحيث لا يتميز ضمن أيضا ، لأنه تصرف غير مشروع في الوديعة ، وربما ميز بينهما لغرض دعى اليه والخلط خيانة ، انتهى.

وسيأتي الكلام في ذلك أيضا ان شاء الله تعالى ، وكما يضمن في الصورتين المذكورتين ، فكذا فيما لو خلطه بمال مغصوب ، بل هو أشد الجميع أو بمال يكون عنده أمانة بغير الوديعة ، لصدق التصرف المنهي عنه في الجميع.

وفي التقييد بعدم التمييز بين المالين إشارة إلى أنه لو تميز المالان فلا ضمان وهو كذلك عندهم ان لم يستلزم المزج أمرا آخر موجبا للضمان ، كما لو كان المال في كيس مختوم ، فإنه وان لم يضمن بالمزج من حيث التميز الا أنه يضمن من حيث فكه الختم الذي على الكيس كما سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى.

الخامس ـ ما ذكر من الضمان بفتح الكيس المختوم ، قال في التذكرة : لو أودعه عشر دراهم مثلا في كيس ، فان كان مشدودا أو مختوما فكسر الختم وحل

٤٤٤

الشداد أو فعل واحدا منهما ضمن ، لانه هتك الحرز على ما تقدم ، وظاهرهم أنه لا فرق في الضمان بكسر الختم وحل الشداد وبين أن يأخذ من الكيس شيئا وعدمه ولا في الختم بين أن يكون مشتملا على علامة للمالك وعدمه ، لاشتراك الجميع في العلة الموجبة للضمان ، وهي هتك الحرز والتصرف المنهي عنه ، ومثله الصندوق المقفل لو فتح قفله ، هذا كله إذا كان الختم والشد من المالك ، فلو كان ذلك من الودعي فلا ضمان ، إذ لا هتك ولا تصرف فيما فعله المالك ، الا أن يكون ذلك بأمر المالك ، فإنه عندهم في حكم فعل المالك ذلك.

بقي الكلام في أنه ربما كان القصد من الختم أو الشد انما هو الحفظ والمنع من الانتشار دون الإخفاء ، وعدم الاطلاع على ذلك ، والفارق بين الأمرين القرائن فإنه لا يبعد عدم الضمان في الصورة الاولى ، وبه جزم في المسالك وحيث يضمن للمظروف بفتح الظرف على الوجه المتقدم ، فهل يضمن الظرف أيضا أم لا؟ وجهان بل قولان : أولهما ـ اختاره في المسالك قال : للتصرف فيه المنهي عنه ، وثانيهما ـ استقر به في التذكرة ، لأنه لم يقصد الخيانة في الظرف وضعفه في المسالك بأن قصد الخيانة لا دخل له في الضمان ، بل التصرف ، قال : وقد استشكل في حكم ما لو عد الدراهم غير المختوم أو وزنها أو ذرع الثوب ، مع أن مقتضى تعليله عدم الضمان ، ولو خرق الكيس المختوم فان كان الخرق تحت الختم ، فهو كفض (١) الختم ويزيد ضمان الظرف أيضا وان كان فوق الختم فليس الا ضمان الظرف.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) المناقشة في هذا الحكم ، فإنه قال : بعد أن نقل عن التذكرة الضمان بمجرد فض الختم ، وخرق الكيس على الوجه المذكور.

والظاهر عدم الضمان في الموضعين لما فيه من عدم التصرف بخيانة ، وكأنه يخص التصرف هنا بغير الدراهم التي في الكيس ، حيث أنه لم يدخل يده فيها ،

__________________

(١) الفض بمعنى الكسر ـ فضه اى كسره.

٤٤٥

وأن التصرف الموجب لضمانها انما هو وضع اليد فيها والأخذ منها ، والا فإنما ذلك تصرف في الكيس خاصا ، والمسئلة كغيرها بمحل من الإشكال ، فإن كلامه لا يخلو من قرب ، وان كان ظاهرهم الاتفاق على أنه يضمن بمجرد فض الختم ، والله العالم.

السادس ـ ما ذكره من الضمان لو أودعه كيسين فمزجها ، ظاهر هذا الكلام يعطى وجوب الضمان بمجرد المزج ولو أمكن التميز بينهما ، ولعله مبنى على استلزامه ذلك التصرف في المالين بغير اذن المالك ، الا أنه قد تقدم في المورد الرابع عدم الضمان مع إمكان التمييز ، ويمكن أن يكون المراد بالمزج هنا هو ما كان على وجه لا يتميز أحدهما من الأخر ولعل هو الظاهر من لفظ المزج ، وحينئذ فباخراجه ما في أحد الكيسين وصبه على الأخر يضمن ذلك المخرج خاصة ، لتصرفه فيه ، ولا يضمن ما في الكيس المصبوب عليه مع تميزه ، لانه لم يتصرف فيه ان لم يكن مختوما ، وفك ختمه ، فإنه يضمن من حيث فك الختم ، وربما نقل عن بعض الأصحاب الضمان مطلقا ، وان لم يكن مختوما هذا كله إذا كان الكيسان للمودع ، كما هو المفروض أولا ، أما لو كان أحدهما للمستودع فإنه لا ضمان مع بقاء التمييز كما تقدم ، لان له نقل الوديعة من محل الى آخر ، وله تفريغ ملكه ، ولا يتعين عليه الحفظ فيما وضع فيه.

السابع ـ ما ذكر من الضمان لو حمل الدابة أثقل أو أشق مما أذن له فيه ، ولا ريب في الضمان مع المخالفة واستعمالها في الأشق والأثقل ، لانه تعد محض وتفريط موجب لذلك.

قال في المسالك : بعد قول المصنف وكذا لو أمره بإجارتها لحمل أخف فآجرها لا ثقل ، ولا سهل فآجرها لا شق كالقطن والحديد ـ ما لفظه : لا اشكال هنا في الضمان مع استعمال المستأجر لها في الأثقل ، وهل يتحقق بمجرد العقد؟ يحتمل ذلك ، لتسليطه على الانتفاع والعدوان ، فيخرج عن كونه أمينا ، كما

٤٤٦

يضمن بجحوده ، بل مجرد نيته على قول مع عدم فعل ما يوجب الضمان وعدمه كما لو نوى الخيانة أو التفريط ، أو قال : أنه يفعل ذلك ولم يفعل ، ولم أقف في ذلك على شي‌ء يعتد به ، انتهى.

أقول لا ريب أن عقد الإجارة على هذا الوجه باطل ، لان المالك انما أذن له في الإجارة بحمل الأخف وهو قد آجرها لحمل الأثقل والأشق وهو خلاف ما أذن له فيه ، فيكون باطلا ، ولا يبعد تحقق الضمان بذلك من حيث التصرف بهذا العقد الموجب لتسليط المستأجر على خلاف ما أمر به المالك.

على أن التمثيل لعدم الضمان بما لو نوى الخيانة أو التفريط مع عدم الفعل محل إشكال أيضا ، فإن العلامة في التذكرة قد صرح هنا بالضمان كما تقدم نقله عنه في المورد الأول ، وان كان فيه ما فيه كما أشرنا إليه ثمة.

وبالجملة فالظاهر أن الأقرب بمقتضى قواعدهم هو القول بالضمان في الصورة المذكورة ، ثم انه على تقدير المخالفة ووجوب الضمان فهل يضمن الجميع أو بالنسبة؟ ظاهره في المسالك الأول ، مع احتمال الثاني.

وجزم المحقق الأردبيلي بالأول من غير احتمال ، قال : لانه تعد ، فلو تلف يأخذ منه تمام القيمة ، لا أن يقسط على المأذون وغيره ، ووجه الاحتمال الذي ذكره في المسالك هو في صورة حمل الأثقل ، أن القدر المأذون فيه غير مضمون ، وانما تعدى بالزائد فيقسط التالف عليهما.

أقول : ما ذكره جيد بالنسبة إلى الأثقل ، كما لو أذن له في حمل وزن مخصوص أو كيل مخصوص لا ثقل فيه ، فزاد على ذلك الوزن أو الكيل ما حصل به الثقل ، فإنه لا يبعد ما ذكره من التقسيط ، أما لو كان ما استأجر عليه أضر وأشق على الدابة فمجموع الحمل مغاير لما أذن به المالك ، فيتوجه النهي إلى المجموع ، بخلاف الأول ، فإنه انما يتوجه الى ما حصل به الثقل من الزيادة ، وهذا التفصيل بحسب الظاهر لا بأس به على مقتضى قواعدهم.

وقال في المسالك ـ بالنسبة إلى تمثيل المصنف بالقطن والحديد ـ والمراد

٤٤٧

من الأشق في المثالين : أن الحديد أشق عند سكون الهوى ، والقطن أشق عند الهواء ، ومن ثم جمع بين المثالين.

الثامن ـ ما ذكر من الضمان لو جعلها المالك في حرز مقفل ، ففتح القفل وأخذ بعضها ، الى آخر ما تقدم.

أقول قد تقدم أنه إذا دفع اليه كيسا مختوما ففضه فإنه يضمن الجميع بفض الختم ، وان لم يأخذ منه شيئا ، فكذا هنا يضمن هنا بفك القفل. وان لم يأخذ شيئا ، ففيما إذا أخذ بعضها بطريق أولى.

أما لو لم يكن في حرز أو كانت ولكن الحرز للودعي ، فإنه يضمن ما أخذه خاصة ، لأنه لم يحصل منه تعد الا فيما أخذه.

وأما لو كان الكيس للودعي وشده بأمر المالك فهو بمنزلة شد المالك فيضمن بفتحه كما ذكروه.

قال في المسالك : ولا فرق في ضمان المأخوذ بين أن يصرفه في حاجته وعدمه عندنا ، لأن الإخراج على هذا القصد خيانة ، وعلى هذا فلو نوى التصرف في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد كانت مضمونة عليه مطلقا ، لانه لم يقبضها على وجه الامانة ، بل على سبيل الخيانة.

وفي تأثير النية في استدامة الأخذ كما تؤثر ابتداء وجهان : من ثبوت اليد في الموضعين ـ مقترنا بالنية الموجبة للضمان ـ ومن أنه لم يحدث فعلا مع قصد الخيانة ، والشك في تأثير مجرد القصد في الضمان ، وتردد في التذكرة.

ويتحقق ذلك في صور : منها ـ أن ينوي الأخذ ولم يأخذ : والاستعمال ولم يستعمل ، وأن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك ، ولم يتلفظ بالجحود وغير ذلك ، وقد جزم المصنف (رحمه‌الله) في ما سبق بأنه لو نوى الانتفاع لا يضمن بمجرد النية ، انتهى.

أقول : فيه أن ما ذكروه من الضمان بمجرد النية في المواضع المذكورة

٤٤٨

مبنى على وجوب نية قصد الايتمان في قبض الوديعة ، والا كان خائنا يترتب على قبضه الضمان ، وهو مشكل لعدم الدليل عليه ، وصدق الخائن عليه بمجرد هذه النية ممنوع ، إذ الظاهر أن الاتصاف بالخيانة لغة وشرعا وعرفا انما يتحقق بالتعدي والتصرف ، لا بمجرد النية ، والا لصدق على الإنسان كونه زانيا بمجرد نية الزنا ، وسارقا بمجرد نية السرقة ، وهكذا ولا يقوله أحد ، ولهذا ان الله تعالى لا يأخذ بمجرد النية والقصد ، وانما يؤاخذ بالفعل والتصرف في جميع أفراد المعاصي من خيانة وغيرها.

وبالجملة فإني لا أعرف لكلامهم هنا وجها وجيها ، بل الظاهر خلافه كما عرفت وما نقله عن التذكرة من التردد قد تقدم ذكره في المورد الأول ، وقد أشرنا في رده الى ما ذكرناه هنا على أن ما ذكروه أيضا من الضمان للجميع بمجرد فتح القفل وفض الختم لا يخلو من المناقشة ، لعدم الدليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، والتصرف هنا حقيقة أنما وقع في القفل والختم ، والى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أيضا.

قال في التذكرة : وان كان الصندوق مقفلا والكيس مختوما ، ففتح القفل وفض الختم ولم يأخذ ما فيه فالأقوى الضمان لما فيه من الثياب والدراهم ، وهو أصح وجهي الشافعية ، لأنه هتك الحرز ، والثاني للشافعية أنه لا يضمن ما في الصندوق والكيس ، بل يضمن الختم الذي تصرف فيه ، وبه قال أبو حنيفة ، انتهى.

قال المحقق الأردبيلي ـ بعد نقل هذا الكلام بحذافيره ـ : هذا أولى لما مر غير مرة من الأصل وعدم تصرف وتقصير في الحفظ وغير ثابت كون هتك الحرز موجبا للضمان ، ولا بد له من دليل فتأمل ، انتهى وهو جيد.

تذنيب :

قد تقدم في صدر هذا الكلام أنه لو أخذ البعض ضمن ما أخذ خاصة في صورة ما إذا كان الحرز من المستودع أو لم يكن في حرز ، بقي الكلام في أنه

٤٤٩

لو أعاد ما أخذه إلى موضعه أو أعاد بدله ، فأما على الأول فإن ظاهرهم بقاء الضمان ، وأنه لا يزول بإعادته لأن يده عليه صارت يد خيانة ، لا يخرج عنها الا بما تقدم من إيداع المالك له مرة ثانية ، كما في كل تفريط وتعد ، وسيأتي تحقيقه ان شاء الله.

ولا فرق في ذلك بين أن يمزجه بغير المضمون مزجا لا يتميز عنه ، أم لا ، لان الجميع مال المالك ، غايته أنه قد صار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون ، وأن هذا الاختلاط كان حاصلا قبل الأخذ.

قال في التذكرة ـ بعد فرض المسئلة في إيداع كيس فيه عشرة دراهم ـ وان لم يكن الكيس مشدودا ولا مختوما فأخرج منه درهما لنفسه ضمنه خاصة ، لأنه لم يتعد في غيره ، فان رده لم يزل عنه الضمان ، فان لم يختلط بالباقي لم يضمن الباقي ، لأنه لم يتصرف فيه ، وكذا ان اختلط وكان متميزا لم يلتبس بغيره وان امتزج بالباقي مزجا يرتفع معه الامتياز فالوجه أنه كذلك لا يضمن الباقي ، بل الدرهم خاصة ، لأن هذا المزج كان حاصلا قبل الأخذ وهو أصح قولي الشافعية والثاني عليه ضمان الباقي لخلطه المضمون بغير المضمون ، فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة لم يلزمه الا درهم واحد ولو تلف منها خمسة لم يلزمه الا نصف درهم ، انتهى.

وأما على الثاني فإنه لا يبرئ أيضا بإعادة البدل ، فإنه إذا كان الضمان باقيا بإعادة ما أخذه ففي بدله بطريق أولى ، لأنه لم يتعين ملكا للمالك ، إذ لا يحصل الملك الا بقبضه أو قبض وكيله والمستودع ليس وكيلا في تعيين العوض ، وانما هو وكيل في الحفظ ، وحينئذ فلا يخلو اما أن يكون المردود متميزا عن الباقي بحيث لم يخلط به ، أو كان فيه علامة من سكة أو غيرها توجب الامتياز ، فإنه لا يضمن سواء ذلك ، ولا يضمن الباقي ، أو لا يكون متميزا بل مزجه بتلك الدراهم مزجا لا يتميز منها ، فان ظاهرهم وجوب ضمان الجميع ، لما تقدم من أن مزج الوديعة بماله من موجبات الضمان للجميع والله العالم.

٤٥٠

البحث الثالث في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى ـ حيث أن الوديعة من العقود الجائزة بناء على أنه عقد ، فإنه يجوز فسخها أى وقت شاء المستودع ، وبطريق الاولى لو كانت إذنا خاصة ، الا أنه لا يجوز تسليمها الا الى المالك أو وكيله ، ومع تعذرهما فالى الحاكم الشرعي ، ومع تعذره فيدفعها إلى ثقة ، ولا ضمان مع عمله بهذا الترتيب فلو خالف ودفع الى الحاكم مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله أو دفع الى الثقة مع إمكان الدفع الى الحاكم ضمن عند الأصحاب من غير خلاف يعرف.

بقي الكلام في أن الظاهر أن جواز الرد في أي وقت شاء انما يتم بالنسبة إلى الرد على المالك أو وكيله ، أما الرد على الحاكم أو الثقة فإنما يجوز مع العذر المانع من الايتمان ، كخوف تلف الأمانة في يده بحرق أو سرق أو اضطراره الى السفر ونحو ذلك من الأسباب المانعة من بقاءها أمانة في يده ، وان لم يكن له عذر لم يجز الدفع الى الحاكم ولا الثقة ، مع عدمه لانه وان جاز له فسخ عقد الوديعة متى شاء ، لانه عقد جائز الا أنه بقبول الوديعة قد التزم حفظها الى أن يردها على مالكها ، فلا يبرئ الا بالدفع الى المالك ، ولا عذر هنا يجوز له الخروج به عن ذلك من ضرورة تعرض له أو للوديعة كما تقدم.

وربما نقل عن بعضهم أنه أجاز دفعها الى الحاكم عند تعذر المالك مطلقا ، لأنه بمنزلة وكيله ، قال في المسالك : وليس بذلك البعيد.

وقال في المسالك أيضا : ثم انه على تقدير جواز دفعها الى الحاكم هل يجب عليه القبول؟ كما إذا كان له عذر ولم يجد المالك ولا وكيله وجهان : من أنه نائب عن الغائب حينئذ ، وأنه منصوب للمصالح ولو لم يجب عليه القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ، ومن أصالة البراءة ، والأقوى الأول ، والوجهان آتيان في ما لو حمل اليه المديون الدين مع غيبة المدين ، والغاصب المغصوب أو بدله مع تلفه ، وغير ذلك من الأمانات التي يليها الحاكم ، انتهى.

٤٥١

أقول : وقد تقدمه العلامة في ذلك ، والمحقق الشيخ على كما تقدم ذكره ، وقد بينا ما فيه في التنبيه الثالث (١) من التنبيهات الملحقة بالموضوع الرابع من المقام الأول من سابق هذا البحث.

الثانية ـ الظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه متى صارت يد المستودع يد ضمان بالتعدي أو التفريط على الأنحاء المتقدمة ، فإنه لا يخرج عن ذلك ، ولا يعود الى حكم الوديعة برد الوديعة الى ما كانت عليه ، لانه صار بمنزلة الغاصب بتعديه ، فيستصحب الحكم بالضمان الى أن يحصل من المالك ما يوجب زواله ، والعود الى الحال الاولى.

قال في التذكرة : إذا صارت الوديعة مضمونة على المستودع اما بنقل الوديعة وإخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابة ولبس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ، ثم انه ترك الخيانة ورد الوديعة إلى مكانها وخلع الثوب لم يبرء بذلك عند علمائنا أجمع ، ولم يزل عنه الضمان ولم تعد أمانة ، وبه قال الشافعي ، لأنه ضمن الوديعة بعد وان ، فوجب أن يبطل الاستيمان كما لو جحد الوديعة ، ثم أقر بها ، وقال أبو حنيفة : يزول عنه الضمان ، لأنه إذا ردها فهو ما سك لها بأمر صاحبها ، فلم يكن ضمانها.

أقول : لم أقف لهم (رضوان الله تعالى عليهم) على دليل في المقام ، سوى ما يظهر من كلامهم من الأخذ بالاستصحاب ، مضافا الى دعوى الإجماع كما سمعت من كلام العلامة ، وقد عرفت ما في الاستصحاب في مقدمات الكتاب المذكور في صدر كتاب الطهارة (٢) وما في أمثال هذه الإجماعات من المناقشة التي تقدمت في غير باب والقول بما ذكروه على إطلاقه مشكل ، لما عرفت من عدم الدليل ، وان أمكن القول بذلك في بعض الموارد بنوع من التقريب الموجب لما ذكروه ، كلبس الثوب وركوب الدابة.

__________________

(١) ص ٤٣٥.

(٢) ج ١ ص ٥٢.

٤٥٢

ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (١) «قال سألته عن رجل كانت عنده وديعة لرجل فاحتاج إليها هل يصلح له أن يأخذ منها وهو مجمع على ان يردها بغير اذن صاحبها؟ قال : إذا كان عنده وفاء فلا بأس أن يأخذ ويرده». ورواه الحميري في قرب الاسناد عن على بن جعفر (٢) عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته» الخبر. وبمضمون ذلك أخبار أخر قد تقدمت في المسئلة السابعة من المقدمة الرابعة من كتاب التجارة (٣) والتقريب فيها أنها ظاهرة في أنه لا يخرج بهذا التصرف عن كونه أمينا لكون تصرفه جائزا.

وقال ابن إدريس ـ بعد إيراد خبر البزنطي المذكور ـ قال محمد بن إدريس لا يلتفت الى هذا الحديث ، لانه ورد في نوادر الاخبار ، والدليل بخلافه وهو الإجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير اذن ملاكها ، فلا يرجع عما يقتضيه العلم الى ما يقتضيه الظن ، انتهى ، وهو جيد على أصله الغير الأصل ، وكيف لا؟ والاخبار بما قلناه متظافرة كما أشرنا إليه من ذكرها في الموضع المشار اليه ، والحكم ليس منحصرا في هذا الخبر ، وقد تقدم الكلام أيضا في المناقشة في بعض الموارد المذكورة.

ثم انه على تقدير ما ذكروه من لزوم الضمان والخروج عن الوديعة فإنهم ذكروا أنه لا يعود الى الحكم الأول الا بأن يرده على المالك ، ثم يجدد له المالك وهذا الفرد مما لا خلاف ولا اشكال فيه عندهم ، لأنه وديعة مستأنف يترتب عليها أحكام الوديعة التي من جملتها كون الودعي أمينا.

قال في التذكرة : لورد الوديعة ـ بعد أن تعلق ضمانها به اما بالإخراج من الحرز أو بالتصرف أو بغيرهما من الأسباب ـ إلى المالك ثم ان المالك أودعه

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٣ ح ٢ الباب ٨ من أبواب أحكام الوديعة الرقم ٢.

(٢) قرب الاسناد ص ١١٩.

(٣) ج ١٨ ص ٣٢٥.

٤٥٣

إياها ثانيا فإنه يعود أمينا إجماعا ، وبرء من الضمان ، انتهى.

وأما لو لم يردها ولكن جدد له المالك الإيداع بأن أذن له في الحفظ فقال : أذنت لك في حفظها أو قال : أودعتكها أو استأمنتك عليها فظاهر الأكثر أنه كالأول.

وعلل بأن الضمان انما كان بحق المالك ، وقد رضى بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الامانة ، وهو اختياره في التذكرة ، حيث قال : لو لم يسلمها الى المالك لكن أحدث المالك له استئمانا فقال : أذنت لك في حفظها أو أودعتكها أو استأمنتك أو برءتك من الضمان فالأقرب سقوط الضمان عنه ، وعوده أمينا لأن التضمين حق المالك ، وقد رضى بسقوطه ، وهو أصح قولي الشافعي.

والثاني أنه لا يزول الضمان ولا يعود أمينا لظاهر قوله (عليه‌السلام) (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». انتهى ، وظاهره في المسالك التوقف في هذا المقام ، قال : ويمكن بناء ذلك على أن الغاصب إذا استودع هل يزول الضمان عنه أم لا؟ فان المستودع هنا قد صار بتعديه بمنزلته ، والمسئلة موضع إشكال ـ إذ لا منافاة بين الوديعة والضمان كما في الفرض المذكور ، فلا يزول الضمان السابق بتجدد ما لا ينافيه ، مع عموم قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (٢). ـ ومن أنه قد أقام يده مقام يده ، وجعله وكيلا في حفظها ، وذلك يقتضي رفع الضمان ، وقد سلف البحث في نظائرها في مواضع ، كالرهن والقراض والأقوى هنا زوال الضمان ، لان المستودع نائب عن المالك في الحفظ ، فكانت يده كيده ، وقبضه لمصلحته ، فكان المال في يده بمنزلة ما كان في يد المالك ، بخلاف الرهن ، انتهى.

ومرجع الوجه الثاني إلى ثبوت المنافاة بين الوديعة والضمان الذي معه أولا وهو الأظهر ولهذا رجع به في آخر كلامه عن الاستشكال الذي ذكره أولا.

وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة أن الإبراء من الضمان في حكم الألفاظ

__________________

(١ و ٢) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.

٤٥٤

المذكورة في تجدد الوديعة ، لما علله به من أن التضمين حق للمالك ، وقد رضى بسقوطه ، وربما أشكل بأن معنى الضمان أن العين لو تلفت وجب عليه بدلها ، والحال أنها الان لم تتلف ، فتكون البراءة من الضمان إبراء مما لم يجب.

ورد بأن الضمان المسبب عن التعدي معناه جعل ذمة الودعي متعلقة بالمال على وجه يلزمه بدل المال على تقدير تلفه ، ولزوم البدل ثمرة الضمان وفائدته ، لا نفسه ، والساقط بالإبراء هو الأول لا الثاني.

ويدل على أن المراد من الضمان هو المعنى الأول أنهم يحكمون عليه بمجرد العدوان ، فيقولون صار ضامنا ، ولو فعل كذا ضمن ونحو ذلك ، مع أن لزوم البدل لم يحصل بذلك ، وانما حصل قبول ذمته له ، وهذا معنى زواله بالبراءة ، بل هو متعلق البراءة.

الثالثة ـ إذا أنكر الوديعة أو أقر بها ولكن ادعى التلف أو ادعى الرد ولا بينة فهيهنا مقامات ثلاثة.

الأول ـ الإنكار ، والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في قبول قوله فيه ، لانه منكر ، والأصل عدمها من غير معارض.

الثاني : دعوى التلف ، والمشهور قبول قوله فيه بيمينه وان كان مدعيا ومخالفا للأصل ، لأنه أمين فيقبل قوله على من ائتمنه ، بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع على ذلك ، قال : إذا طلب المالك من المستودع الرد فادعى التلف ، فالقول قوله مع اليمين عند علمائنا ، سواء ادعى التلف بسبب ظاهر ، أو خفي. لأنه أمين في كل حال ، فكان القول قوله في كل حال هو أمين فيها ، انتهى.

وظاهر الأصحاب أنه لا فرق في الحكم المذكور بين دعواه التلف بسبب ظاهر كالحرق والغرق ، أو خفي كالسرق ، لاشتراكهما في المعنى وقد عرفت من ظاهر العلامة دعوى الإجماع على ذلك.

وظاهر الشيخ في المبسوط الفرق بين ذلك ، فقال : بقبول قوله في الثاني ،

٤٥٥

دون الأول ، حيث قال بعد كلام في المقام ـ : وجملته أن كل موضع يدعى الحرق والنهب والغرق فإنه لا يقبل قوله الا بالبينة ، وكل موضع يدعى السرقة والغصب أو يقول : تلف في يده ، فان القول قوله مع يمينه بلا بينة ، والفرق أن الحرق والغرق لا يخفى ، ويمكن إقامة البينة عليه ، بخلاف السرقة ، انتهى.

وظاهر العلامة في التذكرة القبول مع الإطلاق ، وعدم تعيين السبب الموجب للتلف ، كما يشير اليه كلام الشيخ المذكور أيضا ، حيث خص عدم القبول بدعوى السبب الظاهر ، وعد دعوى التلف مطلقا فيما يقبل قوله.

ثم ان ظاهر الأكثر قبول قوله مع اليمين لا بدونها ، وقد سمعت من عبارة التذكرة دعوى الإجماع عليه ، مع أن الصدوق في المقنع قال : يقبل دعوى التلف والضياع بلا يمين.

قال : «وسئل الصادق (عليه‌السلام) عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه» (١). قال : وروى في حديث آخر (٢) أنه قال : «لم يخنك الأمين ولكنك ائتمنت الخائن».

وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه (٣) مضى مشايخنا (رضي‌الله‌عنهم) على أن قول المودع مقبول ، فإنه مؤتمن ولا يمين عليه وقال الشيخ في النهاية ولا يمين على المودع ، بل قوله مقبول ، فان ادعى المستودع أن المودع قد فرط أو ضيع كان عليه البينة ، فان لم يكن معه بينة كان على المودع اليمين.

وقال ابن الجنيد وإذا قال : قد ضاعت أو تلفت فالقول قوله ، فان اتهم أحلف ، وكذا قال : أبو الصلاح.

أقول : كلامهما يرجع الى ما ذكره في النهاية ، والمشهور بين المتأخرين اليمين مطلقا ، قال في المختلف : والأشهر التسوية بين الحكمين في وجوب

__________________

(١ و ٢ و ٣) الفقيه ج ٣ ص ١٩٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٨.

٤٥٦

اليمين ، لان قول المودع أنها سرقت أو ضاعت دعوى ، فلا بد فيها من اليمين ولم يوجب البينة ، لأنه أمين ، انتهى.

وحينئذ فالأقوال في المسئلة أربعة ، ولم أقف على حديث ظاهر في اليمين في هذا المقام ، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك حسنة الحلبي (١) عن الصادق (عليه‌السلام) «قال صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان». وأنت خبير بما فيه ، بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعاه أنسب ، فان مقتضى كونه أمينا أن يقبل قوله من غير يمين ، كما هو ظاهر جملة من الاخبار ، منها الخبر المتقدم نقله عن المقنع ، مع فرض كون الودعي غير ثقة ، وهو أبلغ في الدلالة.

ومنها ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لك أن تتهم من ائتمنته ، ولا تأمن الخائن وقد جربته».

وما رواه في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لك أن تأتمن من خانك لا تتهم من ائتمنت».

وعن مسعدة بن زياد (٤) «عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : ليس لك أن تتهم من ائتمنته ، ولا تأمن الخائن وقد جربته».

والتقريب في هذه الاخبار أن منشأ اليمين انما هو الاتهام له ، وعدم تصديقه ، وقد نهوا عن اتهامه ، فلا وجه لليمين حينئذ بل يجب تصديقه وقبول قوله من غير يمين ففي هذه الاخبار رد أيضا على الشيخ ومن قال بقوله من أن له إحلافه مع تهمته فان هذه الاخبار نهت عن اتهامه ويؤيد هذه الاخبار أيضا الأخبار الدالة على أنه لم يخنك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن ، فإنها ظاهرة في أنه لا يجوز له أن يخونه ، وينسبه إلى الخيانة بعد اعتقاد كونه أمينا ، وإيداعه لذلك.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٧ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٨ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٩ ح ٩.

(٣ و ٤) الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٩ ح ٩ الباب ٤ من أبواب أحكام الوديعة الرقم ٩ قرب الاسناد ص ٣٥ و ١٠ قرب الاسناد ص ٣٥.

٤٥٧

ومنها ما رواه في الفقيه مرسلا (١) قال : «وروى أن رجلا قال للصادق (عليه‌السلام) انى ائتمنت رجلا على مال أودعته عنده فخانني وأنكر مالي ، فقال : لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت أنت الخائن». ورواه الشيخ أيضا (٢) مرسلا.

وهو ظاهر فيما قلناه ، وبه يظهر لك قوة قول الصدوق في المسئلة ، ويمكن حمل كلام الشيخ وابن الجنيد وأبى الصلاح على ائتمان من يتهمه ، بمعنى أنه لا يعتقد أمانته وقت الإيداع ، بل يجوز الخيانة عليه كما يدل عليه بعض الاخبار الواردة في تضمين القصار ونحوه.

أقول : ويؤيد ما قلناه هنا ما سيأتي إنشاء الله من الاخبار في كتاب العارية ، وما ذكرناه غير خاص بالوديعة ، بل كل موضع ثبت كونه أمانة من عارية ، أو مضاربة ، أو وكالة أو نحوها ، كما سيأتي تحقيقه ـ إنشاء الله تعالى ـ في كتاب العارية.

الثالث ـ ما لو ادعى الرد على المالك ، وفيه اشكال من حيث أن الأصل عدم الرد وعدم البينة على المدعى ، ومن حيث أنه أمين ومحسن وقابض لمصلحة المالك ، والمشهور قبول قوله بيمينه.

قال في التذكرة ، فإن ادعى ردها على من ائتمنه وهو المالك قدم قوله باليمين ، على اشكال ينشأ ـ (عليه‌السلام) من أنه أمين يقبل قوله مع اليمين كالمتلف ومن كونه مدعيا فافتقر إلى البينة ، وظاهره التوقف في الحكم ، وبقائه على الاستشكال لعدم الترجيح بشي‌ء من الدليلين على الأخر.

وكذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث جرى على ما جرى عليه في التذكرة ، ونحوه الشهيد في شرح نكت الإرشاد حيث اقتصر على مجرد نقل وجهي الإشكال المذكور وهو في محله.

ولو ادعى الرد الى وكيل المالك فظاهرهم أنه كدعوى الرد على المالك ،

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ١٩٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٦.

٤٥٨

لان يده كيده ، ولو ادعى الرد على الوارث فعليه البينة ، لخروج هذا الفرد عما نحن فيه ، لان الوارث لم يأتمنه ، فلا يكلف تصديقه ، والأصل عدم الرد.

الرابعة ـ قد عرفت الحكم فيما لو ادعى الودعي رد الوديعة على المالك أو وكيله أو وارثه بقي الكلام هنا في ما لو ادعى الرد على غير من ذكر لكن باذن المالك ، ولا يخلو الحال هنا ، اما أن يوافق المالك على دعوى الاذن ، أو ينكر ذلك ، فهنا مقامان الأول ـ أن يوافق المالك على ذلك ، ولكن المدفوع اليه ينكر ذلك ، والدافع لم يشهد عليه ، وقد اختلف كلامهم في هذا المقام ، ومثله ما لو أمره بقضاء دينه فقضاه عنه ، ولم يشهد على الدفع ، مع إنكار المدفوع اليه ، والأقوال هنا ثلاثة : فقيل : يضمن الدافع في الموضعين ، وقيل : لا يضمن فيهما وقيل : بالتفصيل ، فيضمن في القرض ، ولا يضمن في الوديعة.

قال في المختلف : إذا أمره بالإيداع فلم يشهد عليه قوى الشيخ عدم الضمان ، ولو أمره بقضاء الدين قال : يضمن بترك الاشهاد وان صدقه عليه ، فإنه فرط حيث دفع دفعا غير مبرئ ، ولو قيل بالتسوية في الموضعين في عدم الضمان كان وجها ، لانه امتثل ما أمره به ، وجهود القابض لا يوجب الضمان على الدافع ، والبراءة في نفس الأمر قد وقعت ، انتهى.

مع أنه في التذكرة قوى مذهب الشيخ ، ومنع ما اختاره هنا ، فقال : لو أمره بالإيداع لما دفعه اليه ابتداء فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدين ، لأن الوديعة أمانة ، وقول المستودع مقبول في الرد والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأن الوديعة حقها الإخفاء بخلاف قضاء الدين وهو أظهر وجهي الشافعية.

والثاني أنه يلزمه الاشهاد كقضاء الدين ، وقد بينا الفرق ، انتهى.

ثم قال ـ في المسئلة التي هي محل البحث ـ : ولو اعترف المالك بالاذن والدفع معا لكنه قال : انك لم تشهد عليه ، والمدفوع اليه ، ينكر ، كان مبنيا

٤٥٩

على الخلاف السابق ، في وجوب الاشهاد على الإيداع ، فإن أوجبناه ضمن ، والا فلا ، ومن هذا الكلام علم القول الثاني ، والثالث ، وحجة كل منهما.

وأما القول الأول فنقله في المسالك قولا في المسئلة ، ولم يسنده ، وعلله بأنه يضمن فيهما ، لأن إطلاق الإذن يقتضي دفعا ثابتا يمكن الرجوع اليه عند الحاجة ، فإذا ترك الاشهاد فقد قصر ، خصوصا الدين ، فان الغرض منه برأيه الذمة ، ولا يظهر إلا بالإشهاد ، لأن الغريم إذا أنكر فالقول قوله.

والمحقق في الشرائع اختار في كتاب الوديعة عدم وجوب الاشهاد على أداء الوديعة ، وفي كتاب الوكالة قال بالتفصيل على تردد ، وظاهره في المسالك اختيار القول بالتفصيل ، حيث أنه استحسنه من بين الأقوال المذكورة ، والمسئلة عندي محل توقف واشكال ، لعدم الدليل من النصوص ، وتدافع هذه التعليلات ، مع ما عرفت في غير موضع من أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية والله العالم.

الثاني ـ أن ينكر المالك الاذن وحينئذ فالقول قوله بيمينه ، إذا لم يكن بينة ، لانه منكر ، ويكون الحكم فيه كدعوى الرد على الوارث ، لان المدفوع اليه لم يأتمنه ليقبل قوله عليه ، وليس بوكيل لتكون يده كيد الموكل.

وبالجملة فالظاهر أن المسئلة المذكورة من جزئيات مسئلة المدعى والمنكر يوجب البينة على المدعى ، واليمين على المنكر.

واحتمل بعض المحققين كون القول قول المستودع بيمينه ، نظرا الى ما تقدم من أنه أمين ، والظاهر ضعفه ، لان القدر المقطوع به من الاخبار وكلام الأصحاب اختصاص ذلك بغير ما ذكرناه من دعوى التلف بأي أنواعه ، أو الرد على المالك أو وكيله.

بقي الكلام في أنه متى حلف المالك فلا يخلو اما أن يكون من ادعى عليه القبض مقرا بذلك ، أو منكرا ، وعلى تقدير الأول اما أن يكون موجودة أو تلفت ، فهيهنا صور ثلاثة أحدها ـ أن يقر بالقبض والعين موجودة ، ولا

٤٦٠