الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

فإنه متبرع ، واستحسنه في المسالك الا أنه احتمل أيضا الرجوع مع نيته ، قال : لإذن الشارع له في ذلك فيقدم على اذن المالك ، ولان فيه جمعا بين الحقين مع مراعاة حق الله تعالى في امتثال أمره بحفظ المال ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما في هذا الاحتمال ، بناء على ما قدمنا ذكره من النظر.

الثامن ـ الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في عدم صحة وديعة الطفل والمجنون ولا إيداعهما ، بمعنى أنه لا يترتب على ذلك أحكام الوديعة ، أما الحكم الأول ـ فلانه لا شبهة في عدم أهليتهما للإذن ، واللازم منه كون يد المستودع على المال يدا عارية بغير حق ، فيضمن البتة سواء كان المال لهما أو لغيرهما وان ادعيا الاذن في إيداعه.

بقي هنا شي‌ء وهو أن ظاهر جملة من الأصحاب إطلاق الضمان هنا كما ذكرناه ، والأقرب كما قواه في المسالك أيضا أنه لو كان قبضه للوديعة بعنوان استنقاذها من يديهما ، وخوف هلاكها عندهما بنية الحسبة في الحفظ ، فإنه لا ضمان عليه ، لانه محسن ، وما على المحسنين من سبيل.

لكن يجب مراجعة الولي أو الحاكم الشرعي إن أمكن ، والا كان في يده وترتب عليه أحكام الوديعة ، الا أنه لا يبرء بالرد إليهما ، لا في هذه الصورة ولا في الصورة المتقدمة ، للحجر عليهما المانع من ذلك ، ولا يبرء الا بالرد إلى الولي أو الحاكم أو هما بعد زوال المانع.

وأما الحكم الثاني فلأنه لو استودعهما لم يضمنا بالإهمال ، فإن المودع لهما مع علمه بعدم تكليفهما قد أهمل ماله ، وأتلفه ، ولان الضمان بالإهمال انما يثبت حيث يجب الحفظ ، والوجوب غير متعلق بهما ، لانه من خطاب الشرع المختص بالمكلف ، فإذا لم يجب الحفظ عليهما لم يترتب على الإهمال ضمان ، وهو ظاهر.

نعم لو كان التلف بغير الإهمال بأن تصرفا في الامانة وتعديا فيها فتلفت

٤٢١

فهل يضمنان مطلقا أم لا مطلقا أم للمميز خاصة وجوه ثلاثة.

والمختار عند جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هو الضمان مطلقا ، قال : لأن الإتلاف لمال الغير سبب في ضمانه إذا وقع بغير اذنه ، والأسباب من باب خطاب الوضع يشترك فيها الصغير والكبير ، ومثله القول في ما يتلقانه من مال الغير ، ويأكلانه منه ، فإنهما يضمنان.

ثم نقل الوجه الثاني وهو عدم الضمان مطلقا لعدم التكليف ، وتسليط مالكها لهما عليها فكان سببا قويا ، والمباشر ضعيف ، قاله في المسالك بعد نقل ذلك ثم قال : وجوابه يظهر مما سبق ، ثم نقل الوجه الثالث وهو الفرق بين المميز وغيره ، فيضمن المميز خاصة ، لعدم قصد غيره إلى الإتلاف ، فكان كالدابة ثم تنظر فيه بأن المقتضي للضمان وهو الإتلاف موجود ، والمانع غير صالح للمانعية.

أما القصد فإنه لا مدخل له في الضمان وعدمه ، كما يعلم من نظائره ، وأما تسليط المالك فإنه انما وقع على الحفظ لا على الإتلاف ، غاية ما في الباب أنه عرض ماله له بسبب عدم صلاحيتهما للحفظ ، وهو غير كاف في سقوط الضمان عنهما لو باشراه ، بخلاف ما إذا تركا الحفظ.

أقول : والمسئلة محل توقف لعدم الدليل الواضح والركون الى هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية سيما مع تقابلها وتدافعها لا يخلو من الاشكال كما نبهت عليه في غير مقام مما تقدم ، ثم انه على تقدير وجوب الضمان عليهما فإنه صرح بأن المخاطب بالدفع هو الولي ان كان لهما مال ، والا كان دينا عليهما قضائه بعد التكليف ، ولا يسقط بعدم المال وقت الإتلاف ، لأن تعلق الحق بالذمة لا يتوقف عليه ، نعم إيجاب التخلص من الحق عليهما يتوقف على التكليف.

أقول : وفيه من الاشكال ما في سابقه وقد تقدم في كتاب الحجر في المسئلة الثالثة : من المطلب الثاني من الكتاب المذكور من التحقيق (١) ما فيه دلالة

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٢٦٩.

٤٢٢

على عدم وجوب الضمان الذي ادعاه هنا ، وقد تقدم في الموضع المذكور أنه من باع للسفيه مالا ودفعه اليه مع علمه بذلك ، فتلف ، فان تلفه من مال صاحبه ، لانه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه ، وان فرض فك الحجر عنه بعد ذلك وتقدم أيضا النقل عن العلامة في التذكرة أن حكم المجنون والصبي حكم السفيه في ذلك ، فإنهما إذا أتلفا الوديعة والعارية فالأقرب أنه لا ضمان عليهما ، وهكذا الحكم فيما أتلفاه من مال الغير مطلقا.

وبالجملة فمن أراد تحقيق المسئلة ليظهر له صحة ما ذكرناه هنا فليرجع الى الموضع المذكور ، والله العالم.

التاسع ـ لو ظهر للمستودع أمارات الموت بأن حصل له مرض من الأمراض القاتلة أو حبس للقتل ونحو ذلك.

فأقوال ثلاثة : أحدها ـ وجوب الرد على المالك أو وكيله ، أو الحاكم عند تعذرهما أو إيداعها الثقة عند تعذره ، فان تعذر ذلك أشهد عليها اختاره العلامة في التذكرة ، الا أنه رجع عنه بعد ذلك الى الإيصاء بها.

وثانيها ـ الاشهاد على ذلك اختاره جمع منهم المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد.

وثالثها ـ الوصية بها وقد عرفت أنه مذهب العلامة في التذكرة ، والوجه في ذلك أن حفظ الوديعة لما كان واجبا على المستودع وجب كلما يتوقف عليه الحفظ من أحد هذه الأمور الثلاثة ، الا أنى لم أقف على نص في المقام يتضمن وجوب شي‌ء مما أوجبوه ، والاحتياط في المسئلة مطلوب بل واجب ، لخلوها عن النص وهو أحد مواضع وجوب الاحتياط عندنا ، حيث أن المسئلة صارت بذلك من الشبهات ، حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك. والاحتياط هنا في العمل بالقول الأول ، ثم انه على تقدير القول بالإشهاد ، فالظاهر أن المراد به إشهاد عدلين ، بحيث يحصل الإثبات بها لو أنكر الورثة ، أو كانوا جميعا أو بعضهم

٤٢٣

صغارا ، وربما قيل : بالاكتفاء بواحد ، واليه يشير كلام العلامة في جملة من كتبه ، حيث جعل الواجب هو الإيصاء بها ، وهو متحقق بدون الاشهاد كذا ذكره في المسالك.

والتحقيق أن القول بالإيصاء غير القول بالإشهاد ، كما قدمنا ذكره ، وكيف كان فلو أخل بالإشهاد والوصية ضمن ، وكذا لو أخل بالرد على الوجه المتقدم ، ولكن لا يستقر الضمان الا بالموت ، ولو فرض موته فجأة فلا ضمان ، وان لزم التلف إذ لا يعد مقصرا والحال هذه ، والا لوجب الاشهاد على كل ودعي ، لإمكان ذلك في حقه ، ولا قائل به ، ولا دليل على ما قالوا.

ويعتبر في الوصي على القول بوجوب الوصية العدالة ، والظاهر أن المراد به الأمين الثقة الذي تسكن النفس إلى إيصاله لها الى المالك ، ولا فرق بين الأجنبي والوارث في التعيين للوصاية ، والمراد بالوصية إليه بذلك أن يعلمه بها ويأمره بردها بعد الموت ، لا أن يسلمها إليه ، لأنه إيداع لا يصح ابتداء كما سيأتي ذكره إنشاء الله.

قال في التذكرة : توهم بعض الناس أن المراد من الوصية بها تسليمها إلى الوصي ليدفعها الى المالك ، وهو الإيداع بعينه ، وليس كذلك ، بل المراد الأمر بالرد من غير أن يخرجها من يده ، فإنه والحال هذه مخير بين أن يودع للحاجة ، وبين أن يقتصر على الاعلام والأمر بالرد لان وقت الموت غير معلوم ، ويده مستمرة على الوديعة ما دام حيا ، انتهى.

ولو لم يوص ولم يشهد وأنكر الورثة فالقول قولهم ، كما لو أنكرها المورث ، لأن الأصل عدمها ، وكذا كل من يدعى عليه ، ولا يمين على الورثة ، الا أن يدعى عليهم العلم بالوديعة ، لأن دعوى العين انما يتعلق بالمورث ، كما لو ادعى عليه بدين ، الا أنه إذا ادعى عليهم العلم بذلك لزمهم الحلف على نفى العلم لا على البت ، لان ذلك ضابط الحلف على نفى فعل الغير.

٤٢٤

قال في المسالك : ومثله ما لو أقر الورثة بالوديعة ، ولكن لم توجد في التركة فادعى المستودع أنه قصر في الاشهاد ، وقال الورثة : لعلها تلفت قبل أن ينسب الى التقصير فالقول قولهم ، عملا بظاهر براءة الذمة ، ولا يمين أيضا إلا مع دعواه عليهم التقصير ، انتهى.

وعندي في هذا الكلام إشكال ، لأن مرجعه ـ كما يفهم من تتمة عبارته في المقام ـ الى أن المالك يدعى بقاءها ، وتقصير الودعي في الاشهاد ، والورثة مقرون بها ، ولكن يدعون عدم وجودها في التركة ، وأنه لعلها تلفت قبل أن ينسب المالك الى التقصير ، وظاهر هذا الكلام أن كلام المالك يتضمن دعويين إحديهما ـ أنها كانت باقية في التركة ، وظاهر هذه الدعوى يرجع الى الورثة بأنها عندهم ، وأن إنكارهم لكونها في التركة بعد الإقرار بها غير مسموع ، وثانيهما تقصير المورث بعدم الاشهاد ليتحقق الضمان ، وسقوط اليمين عن الورثة إنما يتجه على الدعوى الثانية ، دون الاولى ، اللهم الا أن يحمل على أن المالك موافق على عدم وجودها في التركة ، وانما يدعى بقاءها الى وقت عروض المرض الذي هو السبب الموجب للوصية ، أو الإشهاد ، فيلزم الضمان بالتفريط في ذلك ، والورثة ينكرون الوجود الى ذلك الوقت ، وحينئذ فلا يتعلق الدعوى بالورثة على الوجه المذكور أولا ، والله العالم.

العاشر ـ لا خلاف في وجوب رد الوديعة إلى المالك متى طلبها ، وهي باقية في أول أوقات الإمكان مسلما كان أو كافرا ، للاية وهي قوله تعالى (١) «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» والروايات المتقدمة في صدر الكتاب (٢) فإن جملة منها قد صرحت بوجوب الرد ولو إلى غير مسلم فلو أخل والحال كذلك كان ضامنا ، ونقل عن أبى الصلاح أنه إذا كان المودع حربيا وجب على المودع أن يحمل ما أودعه إلى سلطان الإسلام ، وهو ضعيف مردود بالاخبار المشار إليها

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٥٨.

(٢) ص ٣٩٥.

٤٢٥

من أن كونه حلال المال مقيد بغير الامانة ، فيجب استثناؤها للاخبار الصريحة المذكورة.

وبالجملة فالحكم مما لا يخالف فيه سواه وظاهرهم القول بالفورية كما أشرنا إليه ، لأنه حق مضيق للادمى ، قالوا : والمراد بالإمكان ما يعم الشرعي والعقلي والعادي ، فلو كان في صلاة واجبة أتمها ، أو بينه وبينه مانع من مطر ونحوه صبر حتى يزول ، أو في قضاء حاجة ضرورية فإلى أن ينقضي ، وهل يعد أكل الطعام والحمام ، وصلاة النافلة وانقطاع المطر الغير المانع عذرا؟ وجهان : واستقرب في التذكرة العدم مع حكمه في باب الوكالة بأنها أعذار في رد العين إذا طلبها الموكل ، وينبغي أن يكون هنا أولى ، وحيث كان وجوب الرد فوريا فإنه يأتي بناء على ذلك ، وعلى أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص بطلان الصلاة الواجبة مع سعة الوقت لو حصل الطلب قبل الدخول فيها ، وكذا بطلان النافلة مطلقا ، وكذا بطلان جميع العبادات المنافية لذلك ، الا أن الظاهر عندي كما تقدم تحقيقه في كتب العبادات عدم ثبوت ما ادعوه ، من أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، بل قام الدليل على خلاف ذلك ، ولما فيه من لزوم الحرج والضيق المنفي بالآية والرواية.

قالوا : والمراد بوجوب الرد لا بمعنى مباشرته للرد وتحمل مؤنته ، كما ربما يظهر من بعض العبارات ، بل بمعنى رفع اليد عنها والتخلية بين المالك وبينها ، فلو كانت في صندوق مقفل فتحه ، وان كانت في البيت المغلق فكذلك ، وهكذا.

ولو أخر الدفع لأجل الإشهاد عليه فهل يكون ذلك عذرا مرتفعا به الضمان؟ أقوال : الأول نعم ، ليدفع عن نفسه النزاع واليمين لو أنكر المالك.

والثاني لا ، لان قوله في الرد مقبول ، فلا حاجة الى البينة ، ولأن الوديعة مبنية على الإخفاء غالبا.

الثالث التفصيل بأنه ان كان المالك وقت الدفع قد أشهد عليه بالإيداع

٤٢٦

فله الاشهاد ليدفع عن نفسه التهمة ، والا لم يكن له ذلك ، وهذا القول من حيث الاعتبار أقوى الثلاثة ، الا أن ما ادعوه من الفورية عندي محل توقف ، إذ لا أعرف عليه دليلا واضحا أزيد من الأمر بالرد متى طلبها المالك ، والأمر من حيث هو لا يقتضي الفورية ، فإيجابها يحتاج الى دليل واضح ، زيادة على الأمر بالرد ، كما لا يخفى ، وكونه حقا لادمى لا يقتضي تضييقه بهذا النحو الذي ذكروه.

نعم لو فهم منه التضييق فالأمر كما ذكروه ، ولو كان المودع غاصبا فإنه لا يجوز ردها عليه ، ولا على وارثه لو طلبها ، بل يجب إعادتها على مالكها ان عرف ، ولو لم يعرف فأقوال : أحدها ما ذهب اليه الشيخ في النهاية ، قال : انه يعرفها حولا كما يعرف اللقطة ، فإن جاء صاحبها ، والا تصدق بها عنه ، وتبعه ابن البراج وهو المنقول عن ابن الجنيد أيضا ، وبه صرح العلامة في التذكرة والإرشاد ، وفي المسالك : انه هو المشهور بين الأصحاب.

وثانيها ـ ما ذهب ، اليه الشيخ المفيد قال : ان لم يعرف أربابها أخرج منها الخمس الى فقراء آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأتباعهم ، وأبناء سبيلهم وصرف منها الباقي الى فقراء المؤمنين.

وقال سلار : وان لم يعرف أربابها جعل خمسها لفقراء أهل البيت (عليهم‌السلام) والباقي لفقراء المؤمنين وهو يرجع الى قول الشيخ المفيد.

ثالثها ـ ما ذهب إليه أبو الصلاح قال : إذا لم يعرف صاحبها ولا من ينوب منابه حملها الى الامام العادل ، فان تعذر ذلك في المسلمين فعلى المودع حفظ الوديعة إلى حين التمكن من إيصالها إلى مستحق ذلك ، والوصية بها الى من يقوم مقامه ، ولا يجوز ردها على المودع مع الاختيار.

وقال ابن إدريس : ان لم يتعين له حملها الى الامام العادل ، وان لم يتمكن لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق به في ذلك بعد وفاته الى حين التمكن من المستحق ، قال في المختلف : وهو الأقوى ، لنا أنه أحوط.

٤٢٧

وقال في المسالك بعد نقل ذلك عن ابن إدريس وقواه في المختلف : وهو حسن.

أقول : وهو يرجع الى قول أبى الصلاح المتقدم ، والذي وقفت عليه من الاخبار هنا ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا واللص مسلم هل يرده عليه؟ قال : لا يرده ، فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل ، والا كان في يده بمنزلة اللقطة ، يعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها عليه والا تصدق بها ، فان جاء بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم ، فان اختار الأجر فله ، وان اختار الغرم غرم له ، وكان الأجر له». وهذه الرواية ظاهر في ما ذهب اليه الشيخ ، وليس غيرها في المسئلة ، ولم أقف على دليل يدل على شي‌ء من القولين الأخيرين.

قال في المختلف ـ بعد نقل الرواية ـ : والجواب الطعن في السند ، ولا نسلم مساواته للقطة ، ثم قال : على أن قول الشيخ لا يخلو من قوة ، وفيه أن الطعن بالسند لا يقوم حجة على الشيخ وأمثاله الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، ومنع المساواة للقطة بعد تصريح الخبر بذلك ممنوع ، وهو انما تمسك في قوة ما اختاره بالاحتياط ، والاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي ، ورد الخبر بلا معارض غير معقول ولا منقول.

وقال في المسالك ـ بعد الإشارة الى الخبر المذكور ـ : والطريق ضعيف ، لكنه مجبور بالشهرة ، وبه يعلم قوة ما ذهب اليه الشيخ وأتباعه.

وفي المسالك ـ بعد أن استحسن مذهب ابن إدريس كما قدمنا نقله عنه ـ قال : وان كان القول بجواز التصرف بها بعد اليأس والتعريف متوجها أيضا كما في كل مال ييأس من معرفة صاحبه ، لان فيه جمعا بين مصلحتي الدنيا والآخرة بالنسبة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٦٨.

٤٢٨

الى مالكها ، فإنه لو ظهر غرم له ان لم يرض بالصدقة ، فلا ضرر عليه ، ثم قال ـ بعد نقل مذهب الشيخ المفيد ـ : والأجود التخيير بين الصدقة بها وإبقائها أمانة ، وليس له التملك بعد التعريف هنا ، وان جاز في اللقطة ، وربما احتمل جوازه بناء على الرواية ، فإنه جعلها فيه كاللقطة ، وهو ضعيف ، ويمكن أن يريد بها منزلته منزلة اللقطة في وجوب التعريف مطلقا ، ولم يذكر من عمل بالرواية جواز التملك ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من المدافعة للكلام الأول لدلالته على التملك ، وجواز التصرف مع الضمان ، وبيان الوجه في قوة ذلك ، ودلالة هذا الكلام على عدم جواز التملك هنا وان جاز في اللقطة ، والمراد بجواز التملك حيث كان انما هو مع الضمان ، واحتمال العدول عما ذكر أولا ، ولا سيما مع بيان الوجه في القول الأول والتصريح بالعلة وعدم التعرض لذلك في الثاني بعيد ، ومقتضى هذا الكلام الأخير حدوث قول رابع في المسئلة كما لا يخفى ، وظاهره أن ذلك هو الحكم هنا وان لم يعرفها بالكلية.

وقال في المسالك أيضا : وانما يجب منع الغاصب منها مع إمكانه ، فلو لم يقدر على ذلك سلمها اليه ، وفي الضمان حينئذ نظر ، والذي يقتضيه قواعد الغصب أن للمالك الرجوع على أيهما شاء ، وان كان قرار الضمان على الغاصب انتهى.

ولو مزج الغاصب الامانة بماله وأودع الجميع فقد أطلق جمع منهم المحقق في الشرائع أنه إن أمكن الودعي تمييز المالين ميزهما ورد عليه ماله ، ومنعه الأخر وان لم يمكنه وجب رد الجميع على الغاصب ، وعلل الوجوب هنا بأن منعه منهما يقتضي منعه من ماله ، لان الفرض عدم إمكان التمييز ، ومنعه من ماله غير جائز.

واستشكله في المسالك بأن في الرد تسليطا للغاصب على مال غيره بغير حق ، وهو غير جائز ، ثم قوى الرد الى الحاكم ليقسمه إن أمكن إلى آخر كلامه.

أقول : وهذا الفرع أيضا كغيره من الفروع المشكلة لعدم الدليل الواضح

٤٢٩

في صورة ما إذا أودع الجميع مع تعذر التمييز أو تعسره ، فهل يرد عليه الجميع لو طلبه أم لا ، أم يرجع فيه الى الحاكم ، ولعل الأقرب الى القواعد الشرعية رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فيلزم الغاصب بالإقرار بالقدر المغصوب ، ويلزمه المقاسمة إن أمكن ولو بالصلح نيابة عن المالك ، والله العالم.

البحث الثاني في موجبات الضمان :

وهو دائر بين أمرين التفريط والتعدي فهنا مقامان الأول : التفريط ـ ويرجع الى ترك ما يجب عليه من الحفظ ونحوه ، وهو أمر عدمي بخلاف التعدي فإنه عبارة عما لا يجوز فعله كلبس الثوب وركوب الدابة ونحو ذلك ، وهو أمر وجودي والتفريط كان يطرحها في غير حرز أو يترك نشر الثوب الذي يتوقف حفظه على النشر أو يودعها غيره من غير ضرورة ، ولا اذن ، أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق وأمنه ، وطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها وترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليه في العادة فتموت ونحو ذلك.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ ما ذكر من أن من جملة أسباب الضمان أن يطرحها في غير حرز.

قالوا : ويجب تقييده بما إذا طرحها وذهب عنها ، أما لو بقي مراعيا لها بنظره لم يعد تفريطا لان العين حرز ، الا أن يكون المكان غير صالح لوضعها فيه بحسب حالها ، وهو نوع آخر من التفريط.

أقول : ما ذكر من التقييد المذكور لما كان شاذا نادرا صح الإطلاق ، لأن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكررة المتعارفة الشائعة كما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع ، وكذا عد من أسباب الضمان تأخير الإحراز مع المكنة ، وقيده بعض المحققين بالتأخير الزائد على المتعارف ، قال : وأما إذا كان تأخيرا قليلا وفي الجملة على الوجه المتعارف فليس بموجب للضمان وهو جيد.

٤٣٠

الثاني ـ ما ذكر من أنه يضمن بترك نشر الثوب الذي يتوقف على النشر ، والوجه في ذلك أنه يجب عليه الحفظ ومن جملة ما يتوقف عليه نشر الثوب الذي يحتاج الى النشر وتعريضه للهواء في كل وقت يفتقر إليه عادة ، قالوا : حتى لبسه لو لم يندفع ضرره الا به.

وبالجملة فكل ما يتوقف عليه الحفظ كما يجب عند الإطلاق سقي الدابة وعلفها ، ونحو ذلك مما يتوقف عليه بقاؤها ، وحفظها ، الا أن ينهاه المالك عن ذلك فإنه لا يلزمه الضمان ، وان جاز له الحفظ كما تقدم مثل ذلك ، في نفقة الدابة ، ولم أقف في المقام على خبر ، ولكن ظاهرهم الاتفاق على ذلك ، ومقتضى قواعدهم يقتضيه ، الا أنه قد تقدم في كتاب الرهن من الاخبار ما هو ظاهر ، بل صريح في المنافاة فإن جملة منها يدل على أنه لو كان الرهن ثيابا وتركه المرتهن ولم يتعهده ولم ينشره حتى هلك وتأكل فإنه من مال الراهن ، مع أنه لا خلاف في أن الرهن في يد المرتهن أمانة ، يضمنها مع التفريط ، وبمضمون هذه الاخبار المذكورة أفتى الصدوق في المقنع أيضا ، فقال : ان رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع ولم يخرجه ولم يتعهده وفسد فان ذلك لا ينقص من ماله شيئا ، انتهى.

وهو كما ترى صريح في أنه لا ضمان عليه حسب ما دلت عليه الاخبار المشار إليها ، ومنها صحيحة الفضل بن عبد الملك (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الأخر قال : نعم ، قلت أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال : نعم ، أو دابتين فهلكت إحديهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال : نعم ، أو متاعا فهلك من طول ما تركه أو طعاما ففسد ، أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو ثيابا فتركها مطوية لم يتعاهدها ولم ينشرها حتى هلكت؟ قال : هذا يجوز أخذه يكون حقه عليه». ونحوها غيرها وهي كما ترى صريحة في خلاف ما ذكروه من وجوب التعاهد والضمان مع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٧٥ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٢٨ ح ١.

٤٣١

عدمه ، لو تضرر بذلك ، ولا معارض لها في البين الا ما يظهر من ظاهر اتفاقهم ، مع أنك قد عرفت خلاف الصدوق في ذلك ، ولم أقف على من تنبه لذلك منهم ، (رحمهم‌الله) والعلامة في كتاب الرهن من المختلف نقل عبارة الصدوق المذكورة ، ثم قال : والأقرب ان على المرتهن الضمان ، لان ترك نشر الثوب المفتقر الى نشره يكون تفريطا والمفرط ضامن ، انتهى.

وهو مؤذن بغفلته عن الاخبار المذكورة ، وعدم اطلاعه عليها ، والا كان الواجب ذكرها ، لأنها مستندة في هذه المسئلة ، والجواب عنها ، وبالجملة فالمسئلة عندي لما عرفت محل توقف واشكال ، والله العالم.

الثالث ـ ما ذكر من أنه يضمن مع إيداعها الغير من غير ضرورة ولا اذن ، وهو مما لا خلاف فيه عندهم ، قال في التذكرة : إذا أودع المستودع الوديعة غيره فان كان باذن المالك فلا ضمان عليه إجماعا ، لانتفاء العدوان ، وان لم يكن باذن المالك فلا يخلو اما أن يودع من غير ضرورة ، أو بعذر ، فان أودع بغير عذر ضمن إجماعا لأن المالك لم يرض بيد غيره وأمانته ، ولا فرق في ذلك الغير بين عبده أو زوجته أو ولده أو أجنبي عند علمائنا أجمع ، انتهى.

ومقتضى كلامهم انه يسقط الضمان بأحد شيئين : أحدهما الاذن ، فإنه يجوز الإيداع على النحو المأذون به ولا ضمان ، وثانيهما العذر كخوف سرقة أو نهب أو حرق أو أراد سفرا الا أن ظاهرهم هنا هو أن الواجب أولا ردها الى المالك أو وكيله إن أمكن ، والا فإلى الحاكم ، لأنه قائم مقام المالك شرعا مع تعذره ولا يسمى هذا ايداعا ، ومع عدم إمكان الحاكم فإنه يودعها الثقة ، وهذا هو الخارج بالقيد المذكور ، فلو دفعها الى الحاكم مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله ضمن كما أنه لو دفعها الى الثقة مع إمكان الدفع الى الحاكم ضمن ، ولا فرق في المنع من إيداع الغير بدون أحد الوجهين المذكورين ، بين أن يكون الغير مستقلا بها ، أو شريكا في الحفظ بحيث تغيب عن نظره.

٤٣٢

قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، ولانه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، قال :

وفي حكم مشاركته في الوديعة وضعها في محل مشترك في التصرف ، بحيث لا يلاحظه في سائر الأوقات نعم لو كان عند مفارقته لضروراته يستحفظ من يثق به ويلاحظ الحرز في عوداته ، رجح في التذكرة اغتفاره لقضاء العادة به ولأنه إيداع عند الحاجة ، ثم قال : ولو فوض الحفظ الى الغير لا لضرورة أو أشركه أو لم يحرز عنه ضمن ، انتهى.

ولو أودعها من غير اذن ولا ضرورة ضمن ، وكان لصاحبها أن يرجع على من يشاء منها لو تلفت ، فان رجع على المستودع الأول فلا رجوع له على الثاني ، وان رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأول ، لأنه دخل معه على أن لا يضمن كذا ذكره في التذكرة.

والوجه فيه أن الحكم هنا كما في الغاصب ، وقد ذكروا ثمة أنه مع رجوع المالك على أيهما شاء ، فان الجاهل منهم بالغصب يرجع على من غره ، فسلطه على مال الغير ، ولم يعلمه بالحال ، وأما العالم فلا رجوع له فهيهنا أيضا كذلك فمتى رجع المالك على المستودع الأول ، فإنه لا رجوع للمستودع الأول على الثاني ، لعلمه بعدم جواز ما فعله ، فقد سلطه على إتلافه ، بخلاف رجوع المالك على المستودع الثاني لأنه مغرور ، فلا ضمان عليه ، بل يرجع على الأول.

الرابع ـ ما ذكر من أنه يضمن مع السفر بها على الوجه المذكور ، والظاهر أنه مما لا خلاف فيه ، قال في التذكرة : لو عزم المستودع على السفر كان له ذلك ، ولم يلزمه المقام لحفظ الوديعة ، لأنه متبرع بإمساكها ، ويلزمه ردها الى صاحبها أو وكيله ، والا فالحاكم ، ويجب عليه قبولها ، لانه موضوع للمصالح فان لم يجد دفعها الى أمين ، ولا يكلف تأخير السفر ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كانت عنده ودائع ، فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن ، وأمر عليا (عليه‌السلام)

٤٣٣

أن يردها ، فان ترك هذا الترتيب فدفعها الى الحاكم أو الأمين مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله ضمن ، ولا يجوز أن يسافر بها ، فان سافر بها مع القدرة على الرد على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ضمن عند علمائنا أجمع ، سواء كان السفر مخوفا أو غير مخوف ، انتهى.

قيل : والمراد بتعذر الوصول الى المالك أو وكيله أو الحاكم المشقة الكثيرة الراجعة إلى التعسر ، لان ذلك معنى هذا اللفظ عرفا ولغة ، لما في التزامه بتحمل ما يزيد على ذلك من الحرج والضرر المنفيين ، وهو جيد.

بقي الكلام في ما لو اضطر الى السفر بالوديعة بأن يضطر الى السفر ، وليس في البلد حاكم ولا أمين ولم يجد المالك ولا وكيله أو اتفق في البلد ما يوجب الخروج من حريق أو غارة أو نهب ، ولم يجد أحدا من هؤلاء المذكورين. فان ظاهرهم جواز السفر بها ، ولا ضمان وادعى عليه في التذكرة الإجماع ، قال : لان حفظها حينئذ في السفر بها والحفظ واجب ، وإذ لم يتم الا بالسفر بها كان السفر بها واجبا ، ولا نعلم فيه خلافا أما لو عزم السفر من غير ضرورة في وقت السلامة وأمن البلد وعجزه عن واحد هؤلاء المذكورين وسافر بها فالأقرب الضمان لانه التزم الحفظ في الحضر ، فليؤخر السفر أو يلزم خطر الضمان ، انتهى.

وظاهر آخر كلامه جواز السفر من غير ضرورة مع العجز عن أحد هؤلاء واستصحاب الامانة مع التزام الضمان ، ومنعه في المسالك في الصورة المذكورة فقال بعد نقل ذلك عنه : والأجود المنع ، وهو الأقرب الى جادة الاحتياط المطلوب في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص.

وكيف كان فالضمان مما لا اشكال فيه ، فان ظاهر إطلاق الإيداع والحفظ انما ينصرف الى الحضر ، ولان السفر لا يخلو من خطر في الجملة ، ويؤيده أنه الا وفق بالاحتياط.

٤٣٤

تنبيهات :

أحدها ـ قال في التذكرة : لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثم سافر ضمنها ان كان دفن في غير حرز ، فان دفنها في منزله في حرز ولم يعلم بها أحدا ضمنها أيضا ، لأنه غرر بها ، ولانه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها إليها ، لأنه ربما خرب المكان أو غرق فلا يعلم أحد مكانها ، فإن أعلم بها غيره وكان غير أمين ضمن ، لانه قد زادها تضييعا ، وان كان أمينا ولم يكن ساكنا في الموضع ضمنها ، لأنها لم يودعها عنده ، وان كان ساكنا في الموضع فان كان مع عدم صاحبها والحاكم جاز ، لان الموضع وما فيه في يد الأمين ، والاعلام كالإيداع ، انتهى.

وثانيها ـ هل المراد بالسفر هنا هو السفر الشرعي أعني قصد المسافة أو ما هو أعم منه ومن العرفي كالتردد فيما دون ذلك ، قال في شرح القواعد : لم أقف على تحديد ، والمتبادر منه شرعا قصد المسافة ، فعلى هذا لا يجب الرد الا بالخروج إلى مسافة ، وهو مشكل لانه متى خرج المستودع من بلد الوديعة على وجه لا يعد في يده عرفا يجب أن يقال أنه ضامن ، لأنه أخرج الوديعة من يده ، فقصر في حفظها فيضمن ، وينبغي الجزم بأن تردده في البلد وما حوله في المواضع التي لا يعد الخروج إليها في العادة خروجا عن البلد وانقطاعا عنه كالبساتين ونحوها لا يجب معها رد الوديعة ، ومن تعذر الحاكم والثقة كذا ذكره المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وهل الجميع من كلام الشرح أو ممزوجا بكلامه احتمالان ، حيث أنه لا يحضرني الان الشرح المشار اليه.

وقال في المسالك : وأما السفر فالأولى حمله على العرفي أيضا لا الشرعي ، فعلى هذا لا يجوز استصحابها في تردداته في حوائجه إلى حدود البلد ، وما قاربه من القرى التي لا يعد الانتقال إليها سفرا مع أمن الطريق ، ولا يجوز إيداعها في مثل ذلك مع إمكان استصحابها ، كما لا يجب ردها على المالك ، انتهى.

٤٣٥

وقال المحقق الأردبيلي ـ بعد ذكر ما قدمنا ذكره نقلا عنه من كلام شرح القواعد وكلام في البين ونعم ما قال : فإنه الحق الحقيق بالامتثال ـ : واعلم أنه ليس في الآيات والاخبار ما يمنع السفر بالوديعة ، ولا عدم السفر للودعي الا بأن يسلمها الى المالك أو الى الحاكم أو يودعه عند ثقة ، حتى يجب علينا تحقيق السفر ، بل هو كلام الفقهاء ، بل فقهاء العامة.

ثم قاله الأصحاب أيضا ، والذي علم أنه يجب حفظها على ما يقتضيه العرف والعادة في ذلك الشي‌ء ومن مثل ذلك الشخص كما أشرنا إليه ، فيجوز له فعل كل شي‌ء ما لم يكن تركا للحفظ عرفا ، ولا يجب الكون عندها بعد وضعها في الحرز ، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة ـ بالنظر الى سياق البحث ـ أن المراد بالسفر الشرعي ، فإنه الذي يدور عليه كلامه وتمثيلاته ، وان لم يصرح بشي‌ء من الفردين المذكورين.

وثالثها ـ ما تقدم في عبارة التذكرة من وجوب القبول على الحاكم لو عزم على السفر ، ولم يتمكن من الدفع الى المالك أو وكيله ، قد صرح به في القواعد أيضا ، فقال : والأقرب وجوب القبض على الحاكم ، وكذا المدين والغاصب إذا حملا الدين والغصب اليه ، وعلل الشارح وجه القرب قال : لانه منصوب للمصالح ولو لم يجب القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ، وهو الأصح ، ويحتمل ضعيفا العدم ، تمسكا بأصالة البراءة ، وهو يرجع الى ما ذكره في التذكرة.

وفيه أنه لا دليل على ما ذكروه ، من أن الغرض من نصبه هو ذلك ، بل غاية ما يفهم من الاخبار أنه منصوب للحكم والقضاء والفتوى خاصة ، وهي الأخبار الدالة على نيابته عن الامام (عليه‌السلام) وكما لم يقم دليل على وجوب ذلك على الامام (عليه‌السلام) الذي هو المنوب عنه في الأحكام ، كذلك لم يقم بالنسبة إليه ، بل غاية أخبار النيابة انما هو ما ذكرناه ، على أنه إذا كان الغرض من

٤٣٦

الدفع اليه انما هو الحفظ للمالك ، فهو غير منحصر فيه ، بل يحصل ذلك بالثقة.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه من الوجوب هنا دليلا واضحا.

ورابعها ـ أنه ينبغي أن يعلم أن جواز السفر لضرورته أو ضرورتها مشروط بأمن الطريق ، فلو كان مخوفا علما أو ظنا بظهور بعض الأمارات فظاهرهم أنه لا يجوز السفر بها والحال كذلك ، فلو سافر ضمن ، لانه تعزير بها ، قالوا : حتى لو فرض الخوف أيضا في الحضر ، وتعارض الخطران رجح الإقامة ، لأن السفر في حد ذاته خطر ، فإذا انضم إليه أمارة الخوف زاد خطره على الخطر ، والله العالم.

الخامس ـ ما ذكر من أنه يضمن بطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها والمراد طرحها كذلك مدة يمكن حصول التعفن فيها ، فلو لم يكن كذلك بأن طرحها مدة لا يحصل ذلك بل يقطع بعدم التضرر فلا ضمان ، فإنه لا يعد تفريطا يوجبه ، ومثله وضع الكتب التي يخاف عليها من النداوة المفسدة بها ، ونحو ذلك والمرجع في الجميع في ذلك الى اشتراط كون الموضع صالحا للوديعة بحسب حالها وما يناسبها مكانا وزمانا ، إلا أنك قد عرفت في الموضع الثاني ما ينجر به المناقشة الى هذا الحكم في هذا الموضع أيضا ، والله العالم.

السادس ـ ما ذكر من الضمان مع ترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليه فتموت ، فإنه لا خلاف فيه الا أن تخصيص الضمان بذلك محل اشكال كما سيظهر لك ان شاء الله.

وكيف كان فإنها لو ماتت بغيره ، فإنه لا يضمن ، وكذا لو ماتت في زمان لا تتلف في مثله لم يضمن أيضا ، لأنها لم تتلف بذلك ، صرح به في التذكرة ، وقد تقدم نقله عنه آنفا ، وكذا لا يضمن لو كان بها جوع وعطش سابق لا يعلم بهما فماتت بهما ، بحيث لو لا التقصير لما ماتت ، أما لو كان عالما بهما فإنه يضمن ، ولو لم تمت بذلك بل نقصت ضمن النقصان.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عبارات الأصحاب في هذا المقام لا يخلو من اختلاف

٤٣٧

واضطراب ، فان المفهوم من بعضها أن مجرد الترك ولو مرة واحدة تفريط موجب للضمان ، وكذا مجرد المخالفة لما أمر به المالك وان لم يترتب عليه الفوات ، ومتى تحقق الضمان زال حكم الوديعة كما تقدم ذكره ما لم يحصل إيداع جديد ، والمفهوم من بعضها تخصيص الضمان بترك العلف والسقي مدة لا تصبر عليه فماتت ، كما عرفت من العبارة المتقدمة ، وهو مؤذن بتخصيص الضمان بصورة الموت ، ونحوها الصور الملحقة بها ، وكذا مجرد التقصير في الحفظ لا يوجب ضمانا الا مع التلف ، ولهذا قال في المسالك ـ ونعم ما قال بعد ذكر عبارة المصنف بنحو ما قدمنا ذكره ما صورته ـ : واعلم أن الواجب علفها وسقيها بحسب المعتاد لأمثالها ، فالنقصان عنه يعد تفريطا سواء صبرت عليه أم لا ، ومتى عد تفريطا صار ضامنا لها ، وان ماتت بغيره ، هذا الذي يقتضيه قواعد الوديعة.

وحينئذ فتعليق المصنف الحكم على موتها بسبب ترك ذلك مدة لا تصبر عليه عادة ان أريد به هذا المعنى ، فلا اشكال من هذه الحيثية ، لكن يشكل اختصاص حكم الضمان بموتها به ، مع كونها قد صارت مضمونة بالتفريط ، ومن شأن المضمون به أن لا تفترق الحال بين تلفه ونقصه بذلك السبب وغيره ، وسيأتي له نظائر كثيرة في كلام المصنف وغيره.

وان أراد به معنى آخر أخص مما ذكرناه كما هو الظاهر أشكل الحكم بما سبق ، ومن توقف الضمان على ترك هذه المدة مع أن الواجب القيام بالمعتاد منه ، وبتركه يتحقق التفريط ، وفي عبارة العلامة ما هو أبلغ مما هنا ، قال في التذكرة : لو امتنع المستودع من ذلك ، وعنى به العلف والسقي حتى مضت مدة يموت مثل الدابة في مثل تلك المدة ، نظر ان ماتت ضمنها ، وان لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، وان ماتت قبل مضى تلك المدة لم يضمنها ، هذه عبارته ، وقد علق الضمان فيها كما ترى على ترك ذلك مدة تموت فيها عادة ، لا تأخيره زيادة عن العادة ، ولا زيادة على ما تصبر عليه عادة ، انتهى.

٤٣٨

وبالجملة فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، لعدم الدليل الواضح في هذا المجال ولم أقف في المقام الا على ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن محمد بن الحسن (١) في الصحيح قال : «كتبت الى أبى محمد (عليه‌السلام) رجل دفع الى رجل وديعة فوضعها في منزل جاره ، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه ، فوقع (عليه‌السلام) هو ضامن لها ان شاء الله».

ورواه في الفقيه (٢) هكذا «رجل دفع الى رجل وديعة وأمره أن يضعها في منزله أو لم يأمره فوضعها في منزل جاره». الى آخر ما تقدم ومورد الخبر وقوع التلف بالمخالفة ، وهو مما لا اشكال فيه ، انما الإشكال في الضمان بمجرد المخالفة وان لم يترتب عليه التلف ، كما هو ظاهر شيخنا المتقدم ذكره وغيره.

المقام الثاني في التعدي : وقد عرفت أنه عبارة عن فعل ما لا يجوز فعله ، قالوا : مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها ، وكذا لو طلبت منه فامتنع من ردها مع الإمكان ، فإنه يضمن أيضا ، ونحوه لو جهدها ثم قامت عليه البينة ، أو اعترف بها ويضمن بالخلط بماله على وجه لا يتميز ، ويضمن أيضا بفتح الكيس المختوم ، وكذا لو أودعه كيسين فمزجهما ويضمن لو حمل الدابة أثقل مما أذن له فيه ، أو أشق ولو أودعه المالك في حرز مقفل ففتح القفل وأخذ بعضها ضمن الجميع ، ولو لم يكن في حرز أو كان الحرز من الودعي وأخذ بعضها ضمن ما أخذ خاصة.

والكلام في تحقيق هذه المواضع يقتضي بسطه في موارد الأول ـ ما ذكر من الضمان بلبس الثوب وركوب الدابة ويجب تقييده بما إذا لم يتوقف الحفظ عليهما ، والا كان واجبا فضلا عن أن يكون جائزا كما لو كان الثوب من الصوف يتوقف حفظه من الدود على لبسه ، بحيث أنه لا يندفع ذلك بمجرد النشر في

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٩.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٨٨٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٩ ح ١.

٤٣٩

الهواء وكذا الدابة لو توقف نقلها الى الحرز أو سقيها على ركوبها ، وفي حكم الثوب الكتب المودعة ، فلو توقف حفظها على المطالعة فيها ، أو النسخ منها لم يكن ذلك تعديا.

قال في التذكرة : ولو استودع ثياب صوف وجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح ، لئلا يفسدها الدود ، ولو لم يندفع الفساد الا بأن يلبس ويفتق به رائحة الأدمي وجب على المستودع لبسها ، وان لم يفعل ففسدت بترك اللبس أو تعريض الثوب للريح كان ضامنا ، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أقول قد عرفت في الموضع الثاني من المقام الأول (١) ما في هذا الكلام من الاشكال والداء العضال لدلالة الاخبار على عدم الضمان في صورة عدم التعريض للهواء ، وعدم وجوب ذلك وان هلك بطول المكث ، كما هو ظاهر الصحيحة المتقدمة ، ونحوها غيرها مما تقدم في كتاب الرهن (٢) وكما يضمن في الصورة المذكورة ، كذا يضمن عندهم لو أخرج الثوب من محله ليلبسه والدابة ليركبها ، فإنه يضمن أيضا ، وان لم يلبس ولم يركب كذا ذكره في التذكرة ، قال : لأن الإخراج على هذا القصد خيانة ، فوضع يده على مال الغير خيانة وعدوانا من غير أمانة فيكون ضامنا انتهى.

ولو نوى ذلك ولم يخرج شيئا منهما عن محله ولم يستعمله ، وكذا لو نوى أخذ الدراهم من الكيس ولم يأخذ ، قال في التذكرة في الضمان إشكال ، ينشأ من أنه لم يحدث في الوديعة فعلا ولا قولا ، فلا يضمن ، ومن أنه قصد الخيانة فصار خائنا ولا أمانة للخائن فيكون خائنا ضامنا ، ثم انه صرح أيضا بأنه لو أخذ الوديعة من المالك بقصد الخيانة ، فالأقوى الضمان ، لانه لم يقبضها على سبيل الامانة ، فيده يد خيانة لا يد أمانة ، فلا يكون أمينا بل خائنا ضامنا.

__________________

(١) ص ٤٣٠.

(٢) ج ٢٠ ص ٢٣٤.

٤٤٠