الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

من باب الواجبات الكفائية ، وفيه ما فيه.

ثم انه بالنسبة إلى الصورة الرابعة المشتملة على تحقق الوديعة لو ذهب المستودع بعد طرح الوديعة والمالك حاضر ، فإنه جزم في التذكرة بأن ذلك رد الوديعة ، ولو كان المالك غائبا ضمن.

قال في المسالك : ويشكل تحقق الرد بمجرد الذهاب عنها ، مع حضور المالك ، لأصالة بقاء العقد ، وكون الذهاب أعم منه ما لم ينضم إليه قرائن تدل عليه ، وهو جيد من حيث التعليل الثاني.

أما الأول أعني الاستناد إلى أصالة العقد فهو ضعيف ، لما أشرنا إليه آنفا من أنه لا عقد هنا.

وأما الثاني فإنه جيد ، لانه لما ثبت كونه وديعة كما هو المفروض فالأصل البقاء على حكمها حتى يثبت ما يوجب فسخها ، وذهاب المستودع لا يدل عليه ، لأنه أعم من ذلك ، والعام لا يدل على الخاص ،

إذا عرفت فاعلم أن ظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية المناقشة في الصورة الثانية والثالثة مدعيا حصول الوديعة بمجرد الطرح ، فان ظاهر وضع المال عنده أن غرض المالك الاستنابة في الحفظ وان لم يقل لفظا يدل عليه ، والظاهر أنه لا يعتبر في إيجاب الوديعة لفظ ، بل يكفى ما يدل على الرضا مطلقا ، فلا حاجة الى انضمام أمر آخر يدل على الاستنابة في حفظه.

أقول : لا ريب أن مجرد الطرح أعم مما ذكره ، والعام لا دلالة له على الخاص نعم ان انضم الى ذلك قرينة حالية أو مقالية تفهم قصد الوديعة فالأمر كذلك ونحن لا نوجب لفظا مخصوصا ولا فعلا مخصوصا ، ولكن لا بد من شي‌ء يفهم منه قصد الوديعة ، ومجرد الطرح لا يفيده كما عرفت.

الثاني ـ لو أكره على قبض الوديعة لم تصر وديعة ، ولا يجب عليه حفظها ولا ضمانها ، مع احتمال حفظها ، كل ذلك لمكان الإكراه.

٤٠١

واستثنى شيخنا الشهيد الثاني (رحمه‌الله عليه) في الروضة أن يكون المكره مضطرا إلى الإيداع ، قال : فيجب عليه إعانته عليه كالسابق ، وأشار به الى ما قدمنا ذكره في الصورة الخامسة.

نعم لو وضع يده عليها بعد زوال الإكراه مختارا ، فإنه يجب عليه حفظها ، باليد الجديدة ، لخبر «على اليد ما أخذت» (١).

لا من حيث الإكراه ، وهل تصير بذلك وديعة أم أمانة شرعية؟ قال في المسالك : يحتمل الأول ، لأن المالك كان قد أذن له ، واستثنا به في الحفظ ، غايته أنه لم يتحقق معه الوديعة ، لعدم القبول الاختياري ، وقد حصل الان ، والمقاربة بين الإيجاب والقبول غير لازمة ، ومن إلغاء الشارع ما وقع سابقا فلا يترتب عليه أثر ، ويشكل بأن إلغائه بالنظر الى القابض لا بالنظر الى المالك.

ثم قال : ويمكن الفرق بين وضع اليد اختيارا بنية الاستيداع ، وعدمه ، ويضمن على الثاني ، دون الأول ، إعطاء لكل واحد حكمه الأصلي ، انتهى.

أقول : والمسئلة لخلوها من النص لا تخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكره أخيرا من التفصيل لا يخلو من وجه ، والله العالم.

الثالث ـ قال بعض المحققين : إذا استودع وجب عليه الحفظ ، ولا يلزمه دركها لو تلفت من غير تفريط ، أو أخذت منه قهرا نعم لو تمكن من الدفع وجب ولو لم يفعل ضمن ، ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع ، كالجرح وأخذ المال ، ولو أنكرها فطولب باليمين ظلما جاز الحلف صوريا ما يخرج به عن الكذب ، انتهى.

أقول : وتفصيل هذا الإجمال وبيان ما اشتمل عليه هذا المقال يقع في موارد أحدها أن ما ذكره من وجوب الحفظ عليه متى استودع أى قبل الوديعة مما لا ريب فيه ، ويدل عليه الاخبار المتقدمة الدالة على وجوب أداء الأمانة ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.

٤٠٢

فإنه لو لا وجوب حفظها لم يجب أداؤها ، وذلك أنه متى رخص له في إهمالها وعدم حفظها كيف يترتب عليه وجوب الأداء

ويدل عليه أيضا ما يأتي ـ ان شاء الله ـ من الاخبار الدالة على وجوب الضمان مع مخالفة أمر المالك في الحفظ أو الرد ، ووجوب الحفظ عليه ما دام مستودعا لا مطلقا ، لأن الوديعة من العقود الجائزة التي لهما فسخها متى أرادا ، والواجب حينئذ هو ردها أو حفظها ، فيصدق وجوب الحفظ في الجملة من حيث أنه أحد فردي الواجب المخير.

واعلم أنه قد قسموا القبول الذي يتفرع عليه حكم الحفظ إلى أقسام ، ـ فمنه ما يكون واجبا كما إذا كان المودع مضطرا الى الاستيداع ، فإنه يجب على كل قادر على ذلك واثق من نفسه بالحفظ قبول ذلك منه كفاية ، ولو انحصر في واحد كان واجبا عليه عينا ، ووجوب الحفظ على هذا واضح كفاية أو عينا ، وقد يكون مستحبا كما في الصورة المذكورة ، الا أن المودع غير مضطر لما فيه من المعاونة على البر ، وقضاء حوائج المؤمنين.

وقد يكون محرما كما إذا كان عاجزا عن الحفظ ، أو غير واثق من نفسه بالأمانة لما فيه من تعريض مال الغير الى الذهاب ، والتعرض للتفريط المحرم ، ومثله ما لو تضمن القبول ضررا على المستودع في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين ، وبهذا التقسيم يظهر وجوب الحفظ وعدمه ، وأما كيفية الحفظ فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

وثانيها ـ ما ذكره من أنه لا درك عليه مع عدم التفريط ، فالظاهر أنه إجماعي نصا وفتوى ، فمن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح أو الحسن (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «صاحب

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٧٩ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٧ ح ٢.

٤٠٣

الوديعة والبضاعة مؤتمنان».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة (١) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن وديعة الذهب والفضة فقال : كل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم».

والمراد بقوله لم يكن مضمونة أى لم يشترط المستودع فيها الضمان لمن أودعه إياها ، فإنه لا يلزمه ، غرمها.

وعن إسحاق بن عمار (٢) في الموثق قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الأخر أنها كانت عليك قرضا ، فقال : المال لازم له الا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة».

وما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح وغيره عن محمد بن مسلم (٣) «عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : سألت عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق ، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال : ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا».

وما رواه (٤) في التهذيب والفقيه في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق؟ قال : هو مؤتمن». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة ، وقد تقدمت جملة منها في الكتب المتقدمة.

وثالثها ـ ما ذكره من عدم الضمان عليه لو أخذت منه قهرا ، والظاهر

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ١٧٩ ح ٢ و ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٥ ، الفقيه ح ٤٠٩٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٢. وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٤ وص ٢٣٢ ب ٧ وص ٢٣٧ ح ٨ وص ٢٢٧ ح ٢.

٤٠٤

أنه لا اشكال فيه ، سواء كان قد تولى الظالم أخذها من يده أو من مكانها التي كانت فيه ، أو قهره على الإتيان بها فدفعها اليه ، لانتفاء التفريط في كل من الحالين وحينئذ فيرجع المالك على الظالم بالعين أو العوض : ونقل في المختلف عن أبى الصلاح أنه يضمن إذا سلمها بيده وان خاف التلف ، ولا ريب في ضعفه.

وهل للمالك الرجوع على المؤتمن في الصورة الثانية ، من حيث أنه باشر تسليم مال الغير الى غير مالكه ، بمعنى أنه يتخير في الرجوع على أيهما شاء؟ استقرب العلامة في التذكرة ذلك على ما نقله عنه في المسالك ، قال : وعلى هذا فمعنى عدم ضمانه أنه لا يستقر عليه ، بل يرجع بما غرم على الظالم ، واحتمله في المسالك أيضا الا أنه قال : والأقوى عدم جواز مطالبته ، لعدم تفريطه ولأن الإكراه صير فعله منسوبا الى المكره ، ولانه محسن فلا سبيل عليه ، والتسليم باذن الشارع ، فلا يستعقب الضمان ، انتهى.

أقول : وهذا الاحتمال الذي استقربه في التذكرة يرجع الى ما قدمنا نقله عن أبى الصلاح ، وما ذكره في المسالك في رده جيد ، يمكن تأييده بما تقدم في كتاب المزارعة عن حديث سعيد الكندي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) انى أجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم ، قال : أعطهم فضل ما بينهما ، قلت : أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم ، قال : انهم انما زادوا على أرضك».

فإنه ظاهر في أنه وان كان الظالم انما ظلم أولئك وأخذ من مالهم لكن لما كان منشأه الأرض المذكورة حكم (عليه‌السلام) بذلك على المالك ، ومثله ما لو طلب الظالم ما لا في ذمته لزيد بقصد الظلم لزيد ، فان مقتضى الخبر أنه لا يرجع زيد بما أخذه الظالم على من كان المال في ذمته ، فبطريق الاولى لا يرجع فيما نحن فيه من حيث قبضه عين الامانة.

وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما نقل عن العلامة من قرب القول المذكور

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١٠.

٤٠٥

نعم لو كان الأمين هو الساعي بها الى الظالم ، ولم يقدر بعد ذلك على دفعه ، فإنه لا يبعد ضمانه من حيث تفريطه في الحفظ بالسعاية اليه ، وبذلك صرحوا جازمين بالحكم المذكور ، بخلاف ما لو كان السعاية من غيره ، أو علم بها الظالم من غير سعاية أحد.

قالوا : ومثله ما لو أخبر اللص بها فسرقها وهو ظاهر فيما لو أخبره بمكانها ، أما لو أخبره بها في الجملة فإن ظاهر العلامة في التذكرة : أنه لا يضمن.

قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : ويشكل مع كونه سببا في السرقة لانه تفريط نعم لو لم يقصدها اللص فاتفقت مصادفته لها توجه ذلك ، وهذا بخلاف الظالم ، فإنه بعمله يضمن مطلقا ، والفرق أن الظالم إذا علم بها أخذها قهرا والسارق لا يمكنه أخذها إلا إذا علم موضعها ، انتهى.

أقول : وما ذكره في الفرق يرجع الى ما قدمناه من أنه لا يضمن في صورة إخبار السارق الا مع اخباره لمكانها فلا وجه لما ذكره من الاستشكال ودعوى الضمان بكونه سببا في السرقة وأنه تفريط ، فان ذلك لا يتم الا مع الاعلام بالمكان كما لا يخفى ، وبما ذكرناه في المقام يعلم ما في كلام بعض مشايخنا الاعلام من متأخري المتأخرين الكرام في بعض أجوبة مسائله من الغفلة في المقام ، حيث سأله السائل بما صورته إذا سأل الجائر هل عندك وديعة لفلان أم لا؟ فقال : نعم فأنفذ إلى داره وأخذها ، فهل يضمن الودعي أم لا؟ فان اعتذر بأن خاف الكذب فهل يعذر أم لا؟

فأجاب بما صورته أقول : هنا مسألتان : أما الاولى فلا يضمن الودعي بمجرد اخباره ـ إذا لم ينقلها اليه وان كان السبب في إتلافه إخباره بها ـ لكنه فعل محرما لإعانته على المعصية ، لأن الدال على الشر كفاعله ، وأما الثانية فالكذب هنا غير حرام بل واجب ، لحفظ مال المسلمين من التلف ، وقد ورد في الحديث أن الله يبغض الصدق في الإفساد كما يحب الكذب في الإصلاح ، انتهى.

فان فيه كما عرفت من كلامهم أنه متى كان هو الساعي بها الى الظالم والسبب

٤٠٦

في أخذها فإنه يكون ضامنا ، ولا ريب أنه في اخباره الظالم بذلك بعد سؤاله له يكون قد سعى بها اليه.

ويؤكده أيضا ما ذكروه وسيأتي بيانه ان شاء الله تعالى من أنه لو يتمكن من الدفع وجب ، ولو لم يفعل ضمن ، فإنه إذا كان يضمن بعدم الدفع عنها لكونه مستلزما للتفريط في حفظها ، فلان يضمن مع اخباره بها بطريق أولى ، الا أنى لم أقف في الحكم المذكور على نص بالخصوص يوجب الضمان في الصورة المذكورة ، وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك ، ولعل المستند فيه صدق التفريط بذلك والنصوص قد دلت على الضمان معه ، وظاهر كلامه تخصيص الضمان بصورة نقلها اليه ودفعها بيده دون السعى بها.

وبالجملة فالظاهر أن كلامه هنا ناش عن الغفلة عن مراجعة كلام الأصحاب وإعطاء التأمل حقه في الباب ، والله العالم.

ورابعها ـ ما ذكره من أنه لو تمكن من الدفع وجب ، أى تمكن من دفع الظالم عن الوديعة ، ولا إشكال في وجوبه ، لوجوب الحفظ عليه كما تقدم ، فيجب كلما توقف عليه ، فلو أهمل مع قدرته على ذلك ضمن بالتقريب المتقدم ، سواء كان الدفع بالاختفاء والتواري عن الظالم ، أو التوسل الى ذلك بالوسائل ، ولو توقف ذلك على دفع المال منها أو من غيرها بحيث لا يندفع بدونه عادة ، قال في المسالك : الأقرب جوازه ، ويرجع به على المالك ان لم يمكن استيذانه قبل الدفع ، أو استيذان وليه ، وعدم نية التبرع ولو ترك الدفع عنها ببعضها مع إمكانه ضمن ، ما يزيد عما يدفعه به لا الجميع لان مقدار المدفوع ذاهب على التقديرين انتهى.

وأشار بقوله : ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع كالجرح وأخذ المال إلى أنه لو كان الضرر قليلا وجب تحمله في دفع الظالم الا أن فيه ان ذلك مما يختلف باختلاف إقدار الناس ومراتبهم ، فرب رجل لمزيد شرفه ورفعة قدره

٤٠٧

يكون الكلمة اليسيرة من الأذى ضررا كثيرا في حقه ، ورب رجل لا يكون الضرر في حقه لمهانته وضعته ضررا كثيرا ، الا أن يقيد بذلك فيكون المعتبر ما كان ضررا كثيرا بالنسبة إلى المؤتمن لا مطلقا ، والأظهر حمل الضرر على ما كان كذلك في حد ذاته عرفا لا بالنسبة إلى المؤتمن ، فلا يجوز له وان كان شريفا على المرتبة دفع الوديعة بمجرد كلمة تؤذيه وان كانت ضررا كثيرا بالنسبة إليه كما تقدم ، ويؤيده أنه الا وفق بالاحتياط لبراءة الذمة.

وخامسها ـ ما ذكره من أنه لو أنكرها وطولب باليمين الى آخره ، فإنه جيد إذ لا ريب في أن حفظ الامانة واجب عليه وهو موقوف هنا على هذه اليمين الكاذبة ، والاخبار قد دلت على جوازها في أمثال هذا المقام فإذا أبيحت في أمثال ذلك كانت هنا واجبة ، لتوقف الواجب ، وهو الحفظ عليها من باب مقدمة الواجب ، الا أنهم ذكروا أنه يوري في يمينه للتحرز عن الكذب ان أمكن وعرفها ، والا حلف من غير تورية ، وعلله في المسالك قال : لانه وان كان قبيحا الا أن ذهاب حق الأدمي أشد قبحا من حق الله تعالى في اليمين الكاذبة فيجب ارتكاب أخف الضررين.

وفيه نظر لأنا نمنع ما ذكره من قبح اليمين في هذه الحال ، بعد اذن الشارع بها ، وهو قد اعترف أيضا بذلك بعد هذا الكلام ، فقال : لان اليمين الكاذبة عند الضرورة مأذون فيها شرعا كمطلق الكذب النافع ، وحينئذ فأي وجه للقبح بعد الإذن الشرعي فيها.

وكيف يكون قبيحا مع كونه واجبا كما صرح به هو وغيره في المقام ، والا لزم اجتماع القبح والحسن والضرر والنفع في شي‌ء واحد ، فيلزم الذم والمدح والثواب والعقاب في شي‌ء واحد ، وهو محال. وكون الكذب قبيحا في حد ذاته لا يستلزم كونه هنا قبيحا بعد ما عرفت.

ومن الاخبار التي تدل على ما ذكرنا هنا من أرجحية اليمين الكاذبة

٤٠٨

ومشروعيتها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن عن أبى الصباح الكناني (١) قال : «والله لقد قال لي جعفر بن محمد (صلوات الله عليه) : الى أن قال : ثم قال : ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة» ،. وروى في الفقيه مرسلا (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين نزل به».

وروى في الفقيه والتهذيب عن السكوني (٣) «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : احلف بالله كاذبا ونج أخاك من القتل».

وروى في الفقيه بسنده الى ابن بكير عن زرارة (٤) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منا الا بذلك : قال فاحلف لهم فهو أحلى من التمر والزبد».

وروى فيه أيضا بسنده عن الحلبي (٥) قال : «سألته عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي عن محمد بن مسعود الطائي (٦) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : ان أمي تصدقت على بدار لها أو قال : بنصيب لها في دار ، فقالت لي : استوثق لنفسك فكتبت انى اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن فلما ماتت قال الورثة : احلف أنك اشتريت ونقدت الثمن ، فان حلفت لهم أخذته ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٤٢ ح ١٥ ، التهذيب ج ٨ ح ١٠٥٢ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٦٢ ح ٢.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٠ ح ١٥ الوسائل ج ١٦ ص ١٦٣ ح ٧.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٥ ح ٤١ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٠٠ ح ١٠٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٦٢ ح ٤.

(٤ و ٥) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٦٣ ح ٦.

(٦) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٧. الوسائل ج ١٣ ص ٣٠١ ح ٥.

٤٠٩

وان لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، قال : فقال : فاحلف وخذ ما جعلت لك» ، ونحو هذا الخبر ما رواه في التهذيب والفقيه عن محمد بن أبى الصباح (١) عن أبى الحسن.

وأما ما يدل على جواز التورية في اليمين فهو ما رواه في الكافي عن صفوان (٢) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه؟ قال : اليمين على الضمير».

رواه في الفقيه عن إسماعيل بن سعد الأشعري (٣) عن أبى الحسن الرضا مثله ، ثم قال : يعنى على ضمير المظلوم ، كأنه بنى على ما يظهر من الخبر الاتى الا أن الظاهر عندي أنه أريد بذلك جواز التورية ، وان كان في غير مقام الظلم.

وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وسئل عما يجوز وعما لا يجوز في النية على الإضمار في اليمين ، فقال : قد يجوز في موضع ، ولا يجوز في موضع آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فما حلف عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم».

والظاهر أن المراد منه أن التورية انما تصح في حال كونه مظلوما ، وأراد الحلف للنجاة من الظالم كما هو محل البحث في المقام ، وأما لو كان ظالما وأراد الحلف لإثبات ما يدعيه ظلما فان التورية لا ينفع هنا ، ولا تدفع عنه ضرر اليمين دنيا وآخرة ، بل تصير يمينا كاذبة بالنظر الى نية المظلوم.

وكيف كان فإنه متى ترك الحلف عند توقف حفظ المال عليه فأخذه الظالم فإنه يضمنه لما عرفت من حصول التفريط بذلك ، وبه صرح الأصحاب أيضا والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٨ ح ٢٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٣ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٦ ص ٢١١ ح ١.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٤٤٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٧٩ ح ٢ من باب ٢٠.

٤١٠

الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن الوديعة كما تبطل بالفسخ تبطل بالموت والجنون والإغماء من أحد الطرفين ، أما على القول بكونها إذنا فواضح ، وأما على القول بكونها عقدا كما هو المشهور فلانه لا خلاف بينهم في كونه من العقود الجائزة ومن شأن العقود الجائزة البطلان بذلك كالوكالة ونحوها ، لخروج كل منهما عن أهلية التكليف بحصول أحد هذه الأسباب الثلاثة ، ولان المال انتقل الى الغير بالموت فلا يصح التصرف فيه الا بإذن المالك ، وهو الوارث ، وفي الجنون ونحوه قد خرج عن أهلية التكليف ، وصلاحية الاذن ، والتصرف فهو في معنى الميت ، ومتى ثبت البطلان كانت أمانة شرعية يجب ردها الى المالك فورا ، فان اتفق أحد هذه الأسباب للمودع وجب على المستودع المبادرة إلى ردها الى المالك في صورة الفسخ ، والى الوارث في صورة الموت والى الولي والحاكم في صورة الجنون والإغماء ، وان اتفق ذلك للمستودع وجب ردها الى المالك في صورة الفسخ والى الولي والحاكم في صورة الجنون والإغماء وعلى الوارث في صورة الموت قالوا : ومعنى كونها أمانة شرعية بعد ذلك لحصولها في يده بغير اذن المالك ، لكنها غير مضمونة عليه لإذن الشارع في وضع اليد عليها الى أن يردها على وجهه ، ومن حكم الأمانة الشرعية وجوب المبادرة بردها على الفور الى المالك ، أو من يقوم مقامه ، فإن أخر عن ذلك مع قدرته ضمن ، ولو تعذر الوصول الى المالك أو وكيله أو وليه الخاص سلمها الى الحاكم لأنه ولي الغائب ، بقي الكلام هنا في أنه متى مات المودع وطلب الوارث الوديعة من المستودع مع شك المستودع في كونه وارثا أو في انحصار الإرث فيه وأراد البحث عن ذلك ، وتحقيق الحال ، والحال أنه ليس ثمة حاكم يرجع اليه ، فهل يكون ضامنا؟ والحال هذه ، قال في المسالك : الأقوى عدم الضمان ، خصوصا مع الشك في كون الموجود وارثا ، لأصالة عدمه.

وأما مع العلم بكونه وارثا فالأصل أيضا عدم استحقاقه ، لجميع المال والقدر المعلوم انما هو كونه مستحقا في الجملة ، وهو لا يقتضي انحصار الحق

٤١١

فيه ، وأصالة عدم وارث آخر معارضة بهذا الأصل ، فيبقى الحكم في القابض ، وجوب البحث عن المستحق ، كنظائره من الحقوق ، انتهى.

أقول : لا إشكال في قوة ما رجحه (رحمة الله عليه) وقواه في صورة الشك في كونه وارثا ، وانما يبقى الإشكال في صورة العلم بكونه وارثا مع عدم العلم بالانحصار فيه ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا خلاف ما ذكره ، حيث قال ـ في شرح الإرشاد بعد أن ذكر أنه متى كان الميت أو الخارج عن صلاحية الإيداع هو المالك ، فيمكن وجوب الرد الى الوارث ما لفظه : ـ الظاهر وجوبه أو جوازه وان لم يعلم الانحصار فيه ، ولا يجوز مع الشك في أنه وارث ، ودليل الأول الأصل عدم وارث آخر مع العلم باستحقاق الموجود ، ولا يعارض بأصل عدم استحقاق الكل ، لان الاستحقاق واضح ، ووجود آخر مانع ، وظاهر كلام البعض عدم الوجوب ، بل عدم الجواز مع عدم العلم بالحصر ، وهو محل التأمل ، انتهى.

والظاهر أنه أشار بالبعض الى ما قدمنا نقله عن المسالك ، وبالجملة فالمسئلة محل توقف واشكال ، لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال ، ويمكن ترجيح ما ذكره المحقق المشار إليه بأنه متى علم كونه وارثا ولم يعلم وارث سواه الا بمجرد احتمال وجوده ، فان ظاهر آيات الإرث وأخباره يقتضي الحكم بإرثه لجميع التركة ، فقول شيخنا ـ المتقدم ذكره ـ الأصل عدم استحقاقه لجميع المال ممنوع ، فان مقتضى الأدلة الاستحقاق ، للجميع لمعلومية كونه وارثا ، وانما يعارضه احتمال وجود آخر ، والظاهر أنه لا دليل شرعا على تأثير هذا الاحتمال في دفع ما علم بظاهر الأدلة المذكورة ، فإنه إذا قام الدليل على أن الولد يرث أباه مثلا ، ومات الأب وله ولد معلوم ، واحتمل أن يكون له ابن آخر ، فان مقتضى الأدلة وجوب دفع التركة إلى الولد المذكور المعلوم كونه وارثا ، واحتمال وجود غيره لا يؤثر شرعا في دفعه عن الجميع ، والله العالم.

٤١٢

ثم انهم قالوا : ان من جملة أحكام الأمانة الشرعية ـ مع ما تقدم من وجوب المبادرة إلى ردها وان لم يطالب المالك ـ أنه لا يقبل قول من هي في يده في ردها الى المالك مع يمينه ، بخلاف الوديعة ، والفرق أن المالك لم يستأمنه عليها ، فلا يقبل قوله في حقه مع أصالة عدمه ، بخلاف الوديعة ، مع ما انضم اليه من الإحسان الموجب لمنع السبيل.

ولها صور كثيرة : أحدها ـ ما ذكر من الوديعة التي يعرض لها البطلان ، وكذا غيرها من الأمانات كالمضاربة ، والشركة ، والعارية.

ومنها ما لو أطارت الريح ثوبا ونحوه الى داره.

ومنها ما لو انتزع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

ومنها ما لو أخذ الوديعة من صبي أو مجنون عند خوف تلفها.

ومنها ما يصير بأيدي الصبيان من الأموال التي يكتسبونها بالقمار كالجوز والبيض ، وعلم بها الولي ، فإنه يجب عليه رده الى مالكه ، أو وليه.

ومنها ما لو استعار صندوقا ونحوه أو اشتراه أو غيره من الأمتعة فوجد فيه شيئا فإنه يكون أمانة شرعية ، وان كان المستعار مضمونا.

ومنها اللقطة في يد الملتقط مع ظهور المالك ، وضابطه ما كان وضع اليد عليه من غير اذن المالك مع الاذن فيه شرعا والله العالم.

الخامس ـ يجب حفظ الوديعة بما يناسب حالها ، والوجه فيه أنه حيث علم من الشارع وجوب الحفظ ، ولم يعلم منه كيفية معينة لذلك ، وجب الرجوع في ذلك الى العادة والعرف الذي عليه الناس ، كالدنانير والدراهم ، فان محل حفظها الصندوق المقفل ، والثياب منها ما يكون محل حفظه الصندوق أيضا ، ومنها ما يكون البيت ، والدابة في الإصطبل ، والشاة في المراح ونحو ذلك ، ولو جعل أحد هذه الأشياء في مكان أوثق في الحفظ كالشاة والدابة في الدار المغلقة ، فالظاهر أنه مزيد إحسان لا يتعقبه الضمان ، وربما قيل : بالضمان من حيث مخالفة

٤١٣

المعهود والمعتاد ، والظاهر ضعفه ، والظاهر أنه لا فرق بين علم المودع بأن المستودع متمكن من تحصيل الحرز وعدمه ، فلو أودعه مالا مع علمه أنه لا صندوق عنده ، أو دابة مع علمه أنه لا إصطبل عنده أو نحو ذلك ، فإنه لا يكون ذلك عذرا بل يجب الحفظ عليه في المكان المعتاد له متى قبل الوديعة.

قال في المسالك : واعلم أنه ليس مطلق الصندوق كافيا في الحفظ ، بل لا بد معه من كونه محرزا عن غيره ، أما بأن لا يشاركه في البيت الذي فيه الصندوق يد أخرى مع كون البيت محرزا بالقفل ونحوه ، وكون الصندوق محرزا بالقفل كذلك ، وكونه كبيرا لا ينقل عادة ، بحيث يمكن سرقته كذلك مقفلا ، وهكذا القول في الإصطبل والمراح وغيرها انتهى.

ولا يخلو من اشكال سيما مع علم المودع ورضاه بما هو دون هذا القدر من الضبط ، والظاهر أنه لا يعتبر في وجوب ضبط الوديعة وحفظها أزيد مما يعتبر من ضبط المالك لما له وحفظه له ، وزيادة حرسه على حفظه ، وهو لا يبلغ الى هذا المقدار ، سيما ما ذكره من أن لا يشاركه في ذلك البيت الذي فيه الصندوق يد فإن الإنسان لا يخلو من العيال والأزواج والأولاد والخدم الذين يترددون في البيت دخولا وخروجا ، والإنسان لا يمكنه الاحتباس في البيت لأجل المحافظة ، بل يحتاج الى التردد في حوائجه من الأسواق وغيرها ، وبما صرح به في المسالك من الكلام في هذا المقام صرح به العلامة في التذكرة أيضا : فقال : لو كانت له خزانة مشتركة بينه وبين ابنه ، فدفع الوديعة الى ابنه ليضعها في الخزانة المشتركة فالأقرب الضمان ، إلا إذا علم المالك بالحال ، ثم قال : لا يجوز أن يضع الوديعة في مكان مشترك بينه وبين غيره ، كدكان أو دار مشتركة الى آخره وهو مشكل كما عرفت ، وقد تنبه لما ذكرناه من الإشكال أيضا المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) في شرح الإرشاد.

السادس ـ لو أودعه دابة ، والمراد بها مطلق الحيوان المحترم حتى العبد

٤١٤

فاما أن يأمره بالإنفاق عليه أو ينهاه عن الإنفاق ، أو يطلق فهيهنا صور ثلاث :

الاولى ـ أن يأمره وحينئذ فيجب عليه كما صرحوا به ، ويرجع بذلك على المالك ، ولو أخل به كان مفرطا ضامنا ، ويحصل التفريط والضمان ، ولو بمرة واحدة ، وفي كل موضع يحصل به التفريط يكون ضامنا ، ويخرج عن كونه أمينا بمقتضى القاعدة المقررة عندهم ، من أنه لو خالف وتعدى ، فإنه يخرج عن كونه ودعيا أمينا ، ولا يرجع الى ذلك إلا بإذن جديد من المالك ، ولو امتنع المستودع من الإنفاق في هذه الصورة ، فقد صرح في التذكرة بأنه متى مضت مدة تموت مثل الدابة في مثل تلك المدة نظر ، فان ماتت ضمنها ، وان لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، قال : وتختلف المدة باختلاف الحيوان قوة وضعفا.

الثانية ـ ان ينهاه عن الإنفاق فإن ترك الإنفاق امتثالا لأمره ، قالوا : كان عاصيا لله تعالى لما فيه من تضيع المال المنهي عنه ، لأنها من الأموال المحترمة التي لا يجوز إتلافها بغير وجه شرعي ، ومرجعه الى أن الإنفاق (حق الله تعالى) كما هو حق للمالك ، فلا يسقط حق الله تعالى بإسقاط المالك حقه ، وهل يضمن في هذه الحال استشكل ذلك في التذكرة ، ثم قرب العدم ، قال : وهو قول الشافعية كما قال : اقتل دابتي فقتلها أو أمره برمي قماشه في البحر فرماه ، أو أمره بقتل عبده فقتله ، فإنه يأثم ولا ضمان عليه ، فكذا هنا انتهى.

والواجب في هذه الصورة رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك ويجبره عليه ، لما عرفت من عدم جواز إتلاف المال بغير وجه شرعي ، وترك الإنفاق موجب لذلك ، قالوا : وللحاكم أن يستدين عليه أو يبيع بعض الوديعة للنفقة ، أو بعض أمواله لذلك ، وأن ينصب أمينا من قبله ، فان تعذر جميع ذلك أنفق المستودع وأشهد ويرجع بما أنفقه مع قصد الرجوع ، ولو تعذر الاشهاد فظاهرهم الاقتصار على نية الرجوع ، فينفق بنية الرجوع كما تقدم في أمثاله.

٤١٥

الثالثة : أن يطلق وقد صرح في المسالك بأنه يجب التوصل الى اذنه أو اذن وكيله ، فان تعذر رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك الى آخر ما تقدم في سابق هذه الصورة ، وقال العلامة في التذكرة : وان أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولم ينهه عنهما يجب على المستودع العلف والسقي ، لأنه التزم بحفظها ، ولانه ممنوع من إتلافها جوعا ، فإذا التزم حفظها تضمن ذلك علفها وسقيها ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العلف والسقي ، لأنه أستحفظه إياها ولم يأمره بعلفها ، وقد بينا الأمر الضمني ، انتهى.

وظاهر هذا الكلام أنه يجب على المستودع القيام بذلك كما في الصورة الاولى ، ولا فرق بينهما الا باعتبار كون الأمر في الأولى صريحا وفي هذه الصورة ضمنيا ، والا فهو مأمور في الصورتين ، وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن المسالك في هذه الصورة.

وأصرح منه في ذلك كلام المحقق الأردبيلي حيث قال : ثم ان الظاهر أن حكم الإطلاق هو حكم الأمر بالعلف والسقي ، لوجوبهما عليه ، فكأنه قال : وديعة عندك وأعلفها واسقها ، فالأمر الضمني فيها هنا موجود ، وحكمه حكم الصريح ، أشار إليه في التذكرة ، انتهى ، الا أنه قال في التذكرة أيضا بعد هذه المسئلة بلا فصل : مسئلة لا خلاف في أنه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابة والأدمي من ماله ، لأصالة البراءة والتضرر المنفي شرعا ، لكن ان دفع المالك إليه النفقة فذاك ، وان لم يدفع إليه فإن كان المالك قد أمره بعلفها وسقيها رجع به عليه ، لأنه أمره بالإنفاق على ماله فيما عاد نفعه عليه ، فكان كما لو ضمن عنه مالا يأمره وأداه عنه ، وان أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولانهاه فان كان المالك حاضرا أو وكيله ، طالبه بالإنفاق عليه ، أو أذن له بالمالك في الإنفاق ، فينفق ويرجع به ان لم يتطوع بذلك ، وان لم يكن المالك حاضرا ولا وكيله رفع الأمر إلى الحاكم ، الى آخر ما قدمنا ذكره

٤١٦

في الصورة الثانية ، بما يرجع إليه في المعنى.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من المدافعة لما قدمنا نقله عنه أولا ، فإن مقتضى الأول هو حصول الأمر بالإنفاق ، وان كان أمرا ضمنيا ، فيجب الإنفاق حينئذ على المستودع بعد قبوله الوديعة ، وهو صريح كلام المحقق الأردبيلي كما عرفت مسندا له إلى التذكرة ، كما قدمنا نقله عنه ، فأين هذا من كلامه الثاني.

ثم انه قال في التذكرة ـ أيضا في هذه المسئلة الأخيرة : ـ ولو ترك المستودع الإنفاق مع إطلاق الاستيداع ولم يرفع الى الحاكم ولم ينفق عليها حتى تلفت ضمن ان كانت تلفت من ترك ذلك ، لانه تعدى بتركه ، وان تلفت في زمان لا يتلف في مثله لعدم العلف ، لم يضمن ، لأنها لم تتلف بذلك.

قالوا : وفي حكم النفقة ما يحتاج اليه المريض من دواء ، وفي حكم الحيوان الشجر الذي يحتاج إلى السقي ونحوه من الخدمة ، وحيث ينفق مع عدم الإشهاد اما لتعذره ، أو لعدم اشتراطه ، فلو اختلفا في قدره فالقول قول المستودع مع يمينه ، ولو اختلفا في مدة الإيداع ، فالقول قول المودع عملا بالأصل في الموضعين.

تنبيهان :

الأول ـ إطلاق كثير من عبائر الأصحاب يدل على جواز أن يتولى المستودع علف الدابة وسقيها بنفسه ، أو غلامه أمينا كان ذلك الغلام أم غير أمين غائبا كان المستودع أو حاضرا ، والوجه في ذلك الجري على ما هو مقتضى العادة من تولى الغلام والخادم لذلك ، الا أنه قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك : ـ وليس كل ذلك جائزا هنا بل انما يجوز تولى الغلام لذلك مع حضور المستودع عنده ، ليطلع على قيامه بما يجب ، أو مع كونه أمينا ، والا لم يجز ، ونحو ذلك صرح في التذكرة ، والوجه في ذلك أما في جواز الاستنابة مع الحضور فظاهر.

٤١٧

وأما مع كونه أمينا فلقضاء العادة بالاستنابة في ذلك ، ولو لا ذلك لما جاز لما يتضمنه من إيداع الودعي ، وهو غير جائز عندهم مع الإمكان كما سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى ، وربما قيل : بأن ذلك فيمن يمكن مباشرته لهذا الأمر ونحوه ، أما من لا يكون كذلك فإنه يجوز له الاستنابة كيف كان.

ورده في المسالك بالضعف ، ولا يخلو من اشكال ، فإن الظاهر أن الودعي مع علمه بان المستودع يترفع عن هذا الأمر ، ولا يباشره بنفسه ، وانما يباشره خدمه مثلا ومع ذلك أودعه ، فإنه إنما أودعه لقبوله لذلك ، ورضاه بما هو عادة الرجل المذكور وطريقته الجارية في أمواله ودوابه.

والظاهر أن المراد بالأمين هنا هو من تسكن النفس الى فعله ، وأنه لا يخالف ما يؤمر به ، لا العدل ، والا أشكل غاية الاشكال وصار الأمر عضالا بذلك وأى عضال.

الثاني ـ قد صرح جملة منهم المحقق والعلامة : بأنه لا يجوز إخراج الدابة من المنزل الا مع الضرورة ، كعدم إمكان السقي أو العلف في المنزل ، ولا ضمان عليه ، والوجه في الأول أن النقل تصرف فيها ، وهو غير جائز مع إمكان تركه ، والثاني في أن الحفظ يتوقف على ذلك ، فإنه من ضروريات الحيوان ، ولا فرق في المنع من إخراجها لذلك بين كون الطريق أمنا أو مخوفا ، لما عرفت من أن النقل تصرف وهو غير جائز مع إمكان تركه ، ولا بين كون العادة مطردة بالإخراج وعدمه لما ذكر ، ولا بين كون المتولي لذلك المستودع بنفسه أو غلامه ، مع صحبته له وعدمها ، لاتحاد العلة في الجميع.

وقرب في التذكرة عدم الضمان لو أخرجها مع أمن الطريق ، وان أمكن سقيها في موضعها ، مستندا الى اطراد العادة بذلك ، قال في الكتاب المذكور : إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابة لعلفها أو سقيها جاز له ذلك ، لان الحفظ يتوقف عليه ولا ضمان ، ولا فرق بين أن يكون الطريق أمنا أو مخوفا إذا خاف

٤١٨

التلف بترك السقي ، واضطر إلى إخراجها من غير ضرورة العلف والسقي ، فإن كان الطريق أمنا لا خوف فيه وامكنه سقيها في موضعها فالأقرب عدم الضمان ، لاطراد العادة بذلك وهو أظهر قولي الشافعي.

السابع ـ لا خلاف في أنه متى عين له موضعا لحفظ الوديعة ، فإنه لا يجوز له نقلها الى ما هو دونه ، أما لو نقلها الى ما هو أحرز فقد ذهب جمع من الأصحاب إلى الجواز ، محتجين بالإجماع ودلالة مفهوم الموافقة عليه ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في ذلك ، نظرا الى مقتضى التعيين ، ومنع دلالة مفهوم الموافقة هنا ، قال : فإن الأغراض تختلف في مواضع الحفظ اختلافا كثيرا من غير التفات الى كون بعضها أحفظ من بعض ، والإجماع على جوازه ممنوع ، بل ظاهر جماعة من الأصحاب منع التخطي مطلقا ، انتهى.

ونقل في المسالك عن الشهيد في حواشيه على كتاب القواعد القول بعدم الجواز هنا أيضا ، واختاره المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) أيضا في شرح الإرشاد ، ونقله عن ابن إدريس والمحقق الشيخ على.

ولو نقلها إلى المساوي فقولان : الجواز نظرا الى أن التعيين أفاد الاذن في حفظها فيما كان في تلك المرتبة ، كما في تعيين نوع الزرع والمراكب في الإجارة ، فإنهم جوزوا التخطي إلى المساوي ، لتوافق المتساويين في الضرر والنفع المأذون فيه.

وقيل : بالمنع وهو اختياره في المسالك ، قال : لعدم الدليل على جواز تخطى ما عينه ، وإلحاق مساويه به قياس.

أقول : والمسئلة لخلوها من النصوص في الموضعين محل توقف ، وان كان ما اختاره في المسالك في الموضعين المذكورين لا يخلو من قوة ، سيما مع أوفقيته بالاحتياط المطلوب ، بل الواجب في أمثال هذه الفروع الخالية من النصوص ، وعلى هذا فلو نقلها إلى الأحرز أو المساوي ضمن ، وعلى القول بالجواز

٤١٩

لا ضمان عليه ، الا أنه نقل عن العلامة هنا أيضا القول بالضمان ، فإنه قال : بجواز النقل إليهما والضمان مع تلفها فيهما ، وهو مشكل ، فإن قضية الجواز تنفى الضمان كما لا يخفى.

نعم لو علم الخوف عليها في المكان المعين أو ظن ظنا قويا فالظاهر أنه لا إشكال في جواز النقل ، وينبغي أن يتحرى في ذلك الأحرز ، ثم المساوي مع الإمكان ، ثم الأدون ، لسقوط حكم المعين في الحال المذكورة.

والظاهر أنه لا ضمان عليه في الصورة المذكورة ، حيث أنه مأذون فيه ، وهو محسن في ذلك ، فلا سبيل عليه ، ولو نهاه المالك عن النقل عن ذلك المكان المعين ، فقد صرحوا بأنه يضمن بالنقل كيف كان ولو الى الأحرز إجماعا ، الا أن يخاف تلفها فيه ، فإنه يجوز النقل وان نهاه المالك والحال كذلك ، وقال له : لا تنقلها وان تلفت ، وعللوا ذلك بأن الحفظ عليه واجب ، ولا يتم الا بالنقل ، وللنهى عن إضاعة المال ، فلا يسقط هذا الحكم بنهي المالك وان صرح بقوله وان تلفت ، وعندي فيه نظر ، لان مرجع ما ذكروه الى وجوب الحفظ على الغير ، مع قصد المالك إضاعة ماله وإعراضه عنه ، ولا أعرف عليه دليلا ، والأصل براءة الذمة من هذا التكليف ، قولهم للنهى عن إضاعة المال مسلم بالنسبة إلى مالكه خاصة ، وكذا وجوب الحفظ ، فإنه بالنسبة إلى المالك ونحوه ، ووجوب الحفظ على المستودع انما يعلم مع عدم قصد المالك إضاعته وإتلافه ، وأما إذا قصد ذلك فأي دليل يدل على وجوب حفظ الغير عليه ، مع أنه ليس بطفل ولا مجنون يجب حفظ ماله على غيره.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها وجيها ، ثم انهم قالوا : لو ترك نقلها والحال كما ذكرنا أثم ولا ضمان ، لإسقاط المالك ذلك عنه ، وقد عرفت ما في الإثم من الإشكال أيضا.

ولو توقف النقل على أجرة قال في التذكرة : انه لا يرجع بها على المالك ،

٤٢٠