الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

هذا ما شئت من فروض المسئلة ذكرنا منها هذا القدر للتدرب ، انتهى.

الخامسة ـ إذا هرب العامل بعد العمل ، وقبل إتمامه قالوا : انه لا يصح للمالك الفسخ بمجرد ذلك ، لان المساقاة من العقود اللازمة لا تنفسخ بمجرد هرب العامل ولا يتسلط المالك على فسخها فيستصحب اللزوم حتى يثبت الفسخ كما لو امتنع عن العمل مع حضوره ، بل للمالك أن يطلبه ويجبره على العمل فان أبى مع حضوره أو تعذر طلبه مع هربه فان حصل من يقوم بالعمل تبرعا ولو كان المالك بنفسه ، والا رفع الأمر إلى الحاكم فيطلبه ويجبره ، فان تعذر أخذ من ماله واستأجر عنه ، لإتمام العمل ، لانه مستحق عليه ، فان لم يكن له مال يستأجر بالدين عليه الى وقت الحاصل أو يستأجر من بيت المال قرضا عليه ، ولو تعذر جميع ذلك اما لعدم الحاكم ، أو لعدم من يعمل له أو لعدم بسط يده ، أو لعدم إمكان إثبات الحق عنده ، تخير المالك بين فسخ المساقاة دفعا للضرر ، وبين إبقائها.

أقول : حيث كان الحكم المذكور غير منصوص لا بالعموم ولا الخصوص فللمناقشة فيما ذكروه مجال ، وللقائل فيه مقال ، فإنه يمكن أن يتطرق اليه الاحتمال بأن يقال : لو كان العقد يقتضي كون العمل من العامل خاصة أو أنه لا يوجب العمل المشترط من غيره ، فينبغي جواز الفسخ للمالك ، للزوم الحرج والضرر لو لم يجز له ذلك ، وان وجد باذل متبرع أو حاكم يعين من يقوم بالعمل فهو ظاهر بل يمكن القول بجواز الفسخ له مع الإطلاق أيضا ، خصوصا مع عدم الباذل ، وما ذكروه من التكلفات بالرجوع الى الحاكم وما أوجبوه على الحاكم كله منفي بالأصل ويؤيده أن حقه ثابت في ذمة العامل ، فله أن لا يقبل من غيره ، ولا يجب عليه تحصيله من غيره وان أمكنه ، ولأن الحصة انما جعلت له بشرط العمل فإذا امتنع عنه سقط حقه كما قالوا في البيع من أن لأحد المتبايعين الامتناع من حق الأخر على تقدير امتناع ذلك الأخر ، وكذا الإجارة.

ويعضده أيضا أن شرط العمل هنا ليس بأقل من الشروط المذكورة في

٣٨١

العقود ، وهم قد صرحوا بأن فائدة الشرط على تقدير عدم الإتيان به ممن شرط عليه تسلط الأخر على الفسخ.

وبالجملة فإن ما ذكروه من الحكم الذي قدمنا نقله عنهم لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت ، ثم انهم قالوا في صورة تخير المالك بين الفسخ وإبقاء العقد مع تعذر العمل ـ على الوجه المتقدم تفصيله في كلامهم ـ : انه ان فسخ المالك صارت الثمرة له ، وعليه أجرة المثل لذلك العمل الذي عمله العامل قبل هربه ، لانه عمل محترم صدر باذن المالك في مقابلة عوض ، وقد فات العوض بالفسخ ، فيجب قيمته وهو المراد من أجرة المثل.

لكن انما يفسخ إذا كان ذلك قبل ظهور الثمرة ، أو بعده إذا لم يمكن بيعها أو بعضها للإنفاق على العمل ان لم يف به ، والا باعها أو بعضها ان أمكن الاجتزاء به ، والا فسخ لزوال الضرر ، ولو لم يوجد راغب في البعض مع الاكتفاء به في العمل باع الجميع ، وحفظ الباقي للعامل ، وان لم يفسخ ـ واختار البقاء على العقد والحال على ما عرفت فقد اختلف كلامهم هنا ، فقيل : ان له أن يستأجر على بقية العمل ، ويشهد على ذلك ، ويرجع به على العامل ، ولو لم يشهد لم يرجع سواء أمكنه الاشهاد أم لم يمكن ، لأن الإشهاد شرط في جواز الرجوع ، كإذن الحاكم فينتفى بدونه.

وظاهر المحقق الأردبيلي أنه يرجع أيضا في صورة تعذر الاشهاد دفعا للضرر ، وللزوم العقد ، وحمل الإطلاق في كلام من قال بهذا القول على التقييد بالإمكان ، والمحقق في الشرائع قد جزم هنا بأنه لو لم يشهد لم يرجع ، وتردد في الرجوع مع الاشهاد ، فقال : ولو لم يفسخ وتعذر الوصول الى الحاكم كان له أن يشهد انه استأجر عنه ، ويرجع عليه على تردد ، ولو لم يشهد لم يرجع.

قال في المسالك : في توجيه التردد : من لزوم الضرر بدون ذلك ، وهو منفي بالآية والرواية ، ومن أصالة عدم التسلط على مال الغير ، وثبوت شي‌ء في ذمته بغير أمره أو من يقوم مقامه.

٣٨٢

أقول : يمكن الجواب بأن الضرر انما نشأ من اختياره عدم الفسخ ، والا فإنه يمكنه إسقاطه بالفسخ ، لتسلطه على ذلك.

وقيل : انه يرجع مع تعذر الاشهاد لا مع إمكانه ، كما في اذن الحاكم دفعا للحرج والضرر ، وهذا القول لا أعرف له وجها ظاهرا وقيل : انه يرجع مع الإنفاق بنية الرجوع مطلقا أشهد له أم لم يشهد ، واليه مال في المسالك ، قال : وهو الأقوى إذ لا مدخل لشهادة الشاهدين في التسلط على مال الغير وإثبات شي‌ء في ذمته ، ولا ولاية لهما على العامل ، وانما فائدتهما التمكن من إثبات الحق ، وهو أمر آخر والمقتضى لعدم الرجوع هو نية التبرع أو عدم نية الرجوع ، ولأصالة عدم الاشتراط ، فعلى هذا يثبت حقه في ذمته في ما بينه وبين الله تعالى ، ويحتمل قويا قبول قوله بيمينه ، لأن الأصل أن الإنسان لا يتبرع بعمل يحصل به غرامة عن الغير ، انتهى.

وهو جيد بالنسبة إلى تعليلات باقي الأقوال المذكورة هنا ، لكن قد عرفت ما في المسئلة من الاشكال لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال ، مع ما قدمنا ذكره من الاحتمال ، ثم انه على أى من هذه الأقوال متى تحقق الرجوع على العامل فإنه إن أمكن الأخذ منه ، والا أخذ من الحصة التي له ، فان زادت على ذلك رد عليه ، وان نقصت كان الباقي دينا عليه يتبع به ، والله العالم.

السادسة :قيل : إذا ادعى المالك أن العامل خان أو سرق أو أتلف أو فرط فتلف وأنكر فالقول قوله مع يمينه ، وبتقدير ثبوت الخيانة هل يرفع يده أو يستأجر من يكون معه من أصل الثمرة ، الوجه أن يده لا ترفع عن حصته من الربح ، وللمالك رفع يده عما عداه ، ولو ضم المالك إليه أمينا كانت أجرته على المالك خاصة.

أقول : الكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة : أحدها ـ أن ما ذكره من أن القول

٣٨٣

قول العامل بيمينه هو مقتضى القواعد الشرعية ، لأنه في الحقيقة بالنسبة إلى حصة المالك أمين ، كعامل القراض ، والأصل عدم ما ادعاه المالك ، فيكون القول قول المنكر بيمينه.

قال العلامة في التذكرة انما تسمع دعوى المالك في ذلك كله إذا حرر الدعوى وبين قدر ما خان فحينئذ يقبل قول العامل بيمينه ان لم يكن بينة ، واعترضه في المسالك بأن هذا الكلام منه بناء على أن الدعوى المجهولة لا تسمع ، مع أن مذهبه في باب القضاء سماع الدعوى المجهولة.

ثم قال : فلو قلنا بسماعها كما هو الأقوى كفى في توجه الدعوى مجرد دعوى أحد هذه الأمور من غير احتياج الى بيان القدر ، وهذه قاعدة ببابها أليق ، فلا وجه لتخصيص البحث فيها بهذه الدعوى ، انتهى.

وثانيها ما ذكره من الوجه الجامع بين عدم رفع يده بالكلية ، وبين تصرفه في الجميع ، كالحال الأولى فإنه جيد ، ومرجعه الى تصرفه في حصته خاصة ، ولكن لما كانت الحصة شائعة ومشتركة والتصرف فيها مستلزم للتصرف في مال المالك ، فإنه يضم إليها المالك أمينا من جهته ، وكان الوجه في رفع يده بالكلية ، هو ما ذكرنا من أن إثبات يده على حصة يستدعي إثباتها على حصة المالك من حيث الاشتراك ، وعدم التمييز ، وإثبات يده على حصة المالك غير جائز ، بل الواجب رفع يده عنها ، ولا يتم ذلك الا برفع يده عن حصته ، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ، فيجب عليه رفع يده عن حصته من باب مقدمة الواجب.

ورد مع ـ ظهور مخالفته للقواعد الشرعية و «أن الناس مسلطون على أموالهم» (١) ـ بأن اللازم منه ترجيح أحد الحقين بلا مرجح ، وأنه يمكن دفع ذلك بضم المالك للعامل أمينا من جهته.

وثالثها ما ذكره من أن أجرة النائب على المالك خاصة ، والوجه فيه ظاهر ،

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.

٣٨٤

لأنه قائم مقامه في حفظ ماله ، وعمله لمصلحته.

وخالف فيه بعض العامة فجعلها على العامل ، لأن مؤنة الحفظ عليه ، وفيه أن العامل انما يجب عليه العمل ، وهو باذل له ، وخيانته لا ترفع ذلك ، ولا يجوز أن يجعل الأجرة من الأصل ، لأن في ذلك حق العامل ، فلا يصح بدون اذنه ، والله العالم.

السابعة ـ لا خلاف في أنه لو ظهرت الأصول المساقى عليها مستحقة للغير ، بطلت المساقاة كما صرحوا به ، الا أنه يجب تقييده بناء على قولهم بصحة العقد الفضولي بعدم اجازة المالك ، لان الغاصب عندهم ـ داخل في الفضولي كما قدمنا نقله عنهم في كتاب البيع ، (١) بل صرح به في المسالك هنا أيضا (فقال : ان المساقى الغاصب ـ لا يقصر عن كونه فضوليا ، فينبغي تقييده بما إذا لم يجز المالك المساقاة ، ثم اعترض على نفسه ، فقال : لا يقال : ان مثل ذلك لا يتصور فيه إجازة المساقاة مع وقوع العمل له بغير عوض ، فكيف ترضى بدفع العوض ، وهو الحصة مع ثبوتها له مجانا ، ثم أجاب بأن هذا الاستبعاد انما يتم لو كان الظهور بعد تمام العمل ، والمسئلة مفروضة في ما هو أعم ، فيمكن أن يبقى من العمل ما يؤثر المستحق منه دفع الحصة في مقابلة الباقي ، لأن الأغراض لا تنضبط ، انتهى وهو جيد لو قلنا بصحة الفضولي.

ثم انه مع الحكم ببطلان المساقاة فإن الثمرة تكون لمستحق الأصل ، لأنها نماء ملكه ، ولم يحصل الانتقال منه لا في الكل ولا في البعض ، وللعامل الأجرة على من ساقاه ، لانه استعمله بعوض لم يسلم له ، فيجب عليه دفع أجرة المثل ، كما تقدم ذكره من أن كل موضع تبطل المساقاة فالواجب أجرة المثل ، ويجي‌ء على القول الأخر أقل الأمرين كما تقدم أيضا.

هذا كله مع جهل العامل كما هو مقتضى عنوان المسئلة وسياق الكلام ،

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٨١.

٣٨٥

والا فلو كان عالما بالغصب لم يرجع على المساقي بشي‌ء ، ولو هلكت الثمرة كملا أو سرقت فلا شي‌ء للعامل والفرق بين هلاكها وسرقها وبين استحقاق الغير لها الموجب لاجرة المثل أن ظهور استحقاقها موجب لبطلان العقد وبطلان العقد موجب لاجرة المثل كما عرفت ، وأما في صورة هلاكها وسرقها فان العقد صحيح ، والعامل شريك المالك بالحصة المقررة له ، فإذا تلف ذلك كان على الجميع.

ولو كان ظهور استحقاق الأصول بعد ظهور الثمرة فهيهنا صورتان : الاولى ـ أن يكون الثمرة باقية ، ولا إشكال في وجوب ردها على المالك كما تقدم ، الثانية : ـ أن يتلف الثمرة بعد اقتسامها بين المساقى والعامل ، فقيل : بأنه يرجع المالك على كل منهما بما قبضه وأتلفه ، وهو المنقول عن الشيخ في المبسوط ، وقيل : بأن له مع ذلك الرجوع بالجميع على الغاصب ، فيتخير بين الأمرين ، وهو اختيار المحقق في الشرائع ، وقيل : له مع ذلك الرجوع على العامل بالجميع ، فيتخير بين الأمور الثلاثة ، وهو اختياره في المسالك ، وهذا هو الموافق لقواعدهم في الغصب ، من أن كل من وقع يده على المغصوب وتصرف فيه فللمالك الرجوع عليه.

قال في الشرائع : ولو اقتسما الثمرة ، وتلف كان للمالك الرجوع على الغاصب بدرك الجميع ، ويرجع الغاصب على العامل بما حصل له ، وللعامل على الغاصب أجرة عمله ، أو يرجع على كل واحد منهما بما حصل له ، وقيل : له الرجوع على العامل بالجميع ان شاء ، لان يده عارية والأول أشبه ، الا أن يكون العامل عالما به.

وقال في المختلف : إذا ظهر النخل مستحقا بعد أن اقتسما الثمرة وأتلفاها رجع المالك على العامل بنصف الثمرة ، لا جميعها ، قاله الشيخ في المبسوط ، لانه ما قبض الثمرة كلها ، وانما كان مراعيا لها حافظا نائبا عن الغاصب ، فعلى هذا لو تلفت كلها بغير تفريط فلا ضمان عليه ، والأقرب أن عليه الضمان في الموضعين للجميع ويرجع على الغاصب ، لانه غار ، انتهى وهو ظاهر في اختياره جواز الرجوع على

٣٨٦

العامل بالجميع كما اختاره في المسالك.

إذا عرفت ذلك فحجة القول الأول اشتغال ذمة كل منهما بمال المالك ، فيرجع على كل منهما بما أتلفه ، وعدم رجوعه بالجميع على العامل لما علله به في المختلف ، وأما حجة القول الثاني فبالنسبة إلى الرجوع عليهما ما عرفت ، وأما الرجوع على الغاصب بالجميع ، فلانه الأصل في تلف الجميع من حيث تصرفه بالأخذ منه ، وإعطاء العامل منه ، وأما عدم رجوعه بالجميع على العامل فلما عرفت من التعليل المذكور في المختلف.

وحجة القول الثالث ما تقدمت الإشارة اليه ، وسيأتي بيانه ـ ان شاء الله تعالى ـ في كتاب الغصب وملخصه تخير المالك في الرجوع على كل منهما بالجميع وبالبعض ، لان كلا منهما ضامن لجميع الثمرة ، بوضع يده عليها ، وقوله في تعليل نفى ضمان الجميع عن العامل أنه انما كان راعيا حافظا نائبا عن الغاصب لا يمنع كون يده على الثمرة ، وان كان بطريق النيابة ، والسبب الموجب للضمان هو ذلك.

وعلى هذا فان رجع المالك على الغاصب بالجميع رجع الغاصب على العامل بالحصة التي قبضها وأتلفها ، لعدم استحقاقه لها بعد ظهور فساد العقد ، ورجع العامل على الغاصب بأجرة المثل مع جهله ، وان رجع بالجميع على العامل رجع العامل على الغاصب بما استهلكه من الثمرة ، وبأجرة مثله مع جهله ، ومع علمه لا يرجع بالأجرة ، وانما يرجع بحصة الغاصب خاصة ، ولو رجع على كل منهما بما قبضه ، فليس لأحدهما الرجوع على الأخر بشي‌ء من الثمرة ، نعم يرجع العامل على الغاصب بأجرة المثل مع الجهل كما عرفت.

بقي هنا صورتان آخران أيضا : وهو أن يتلف الجميع في يد العامل ، أو يتلف الجميع في يد الغاصب ، قالوا في الاولى : انه لا ريب في رجوعه على العامل بحصة ، وكذا يرجع عليه بحصة الغاصب ، لانه وان كان يده عليها يد أمانة بالنظر الى ظاهر الأمر أو لا حيث أنه أمين من جهة المساقى ، الا أنه بعد ظهور

٣٨٧

الغصب فإنه يرجع على الغاصب بما أخذه من المالك ، لانه غيره ، فيرجع عليه ، لغروره له ، وفي الثانية يترتب على كون يد الغاصب يد أمانة أو يد ضمان؟ فيترتب على كل منهما مقتضاه كما سيأتي ـ إنشاء الله ـ تحقيقه في كتاب الغصب.

الثامنة ـ الخراج في الأرض الخراجية ، وهي المفتوحة عنوة على المالك لأنه بمنزلة الأجرة ، بل هو أجرة الأرض مع خلوها عن الشجر ، وقد يوضع على الشجر المغروس فيها بواسطة الأرض ، لأن حق المسلمين انما هو في الأرض لا في الشجر ، حيث انه مال المالك الذي غرسه ، الا أن يكون فيها وقت الفتح ، فإنه للمسلمين أيضا ، وبالجملة فإن الأرض والأشجار لما كانت ملكا للمالك فجميع ما عليها وما يحتاجان اليه يلحق بالمالك ، ومنه الخراج ، الا أن يشترط على العامل ، أو يشترط كونه بينهما معا ، وحينئذ فلا بد من علمهما بقدره ، ليصح اشتراطه في العقد اللازم ، ولا يتجهل لجهل العوض ، ولو زاد السلطان بعد ذلك فهو على المالك ، ولا يدخل في الشرط كما تقدم نظيره في المزارعة.

التاسعة ـ قالوا : ليس للعامل أن يساقى غيره ، أما إذا شرط في متن العقد العمل على العامل بنفسه فظاهر ، لوجوب الوفاء بالشرط ، وبطلان المشروط بالإخلال بالشرط ، وأما مع الإطلاق بأن يكون العمل في الذمة فإنهم عللوا المنع بأن المساقاة انما تصح على أصل مملوك للمساقي والعامل لا يملك الأصول وانما يملك الحصة من الثمرة بعد ظهورها ، كما تقدم في تعريفها ، وظهر من أحكامها.

وتوضيحه أن في المساقاة تسليطا على أصول الغير ، وعملها والناس يختلفون في ذلك اختلافا زائدا ، فليس لمن رضى المالك بعمله وأمانته أن يولى من لم يرضه المالك لذلك ، وهذا بخلاف المزارعة كما تقدم ذكره في المطلب الأول من أنها لما كانت من العقود اللازمة الموجبة لنقل المنفعة إلى العامل بالحصة المعينة كان للعامل نقلها الى غيره ، لعموم «الناس مسلطون على أموالهم» (١). ولا يتوقف ذلك

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.

٣٨٨

على اذن المالك ، إذ لا حق له في المنفعة.

نعم تسليم الأرض يتوقف على اذنه الا أن هذا انما يتم فيما إذا كان البذر من العامل ، أما لو كان من صاحب الأرض فالأصل أن لا يتسلط عليه الا مالكه ، أو من أذن له وهو الزارع.

وظاهر المحقق الأردبيلي جواز مساقاة الغير هنا ، لعموم الأدلة ، وعدم المانع إذا فهم الاذن من المالك ، فإنه لا فرق بينها وبين المزارعة.

ويظهر من المسالك الجواز فيما لو ظهرت الثمرة ، وبقي بسببها عمل يحصل بسببه الزيادة فيها ، فان المساقات حينئذ جائزة ، والعامل يصير شريكا ، الى آخر كلامه.

وكيف كان فالمسئلة عندي محل توقف واشكال ، لخلوها من النص القاطع لمادة القيل والقال ، وقد تقدم في مسئلة جواز مزارعة الزارع لغيره ما هو من هذا القبيل والله الهادي إلى سواء السبيل.

العاشرة ـ لا خلاف بينهم في أن الفائدة تملك بالظهور ، وأسنده في التذكرة إلى علمائنا ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وفي المسالك لا نعلم فيه خلافا ، والخلاف فيه من بعض العامة ، حيث جعل ملك العامل موقوفا على القسمة.

والوجه في القول المشهور ـ زيادة على الإجماع المذكور ـ أن العقد قد اقتضى كون الثمرة بينهما ، لاشتراط ذلك فيه ، وصحة العقد والشرط تقتضي ثبوت مقتضاهما ، كغيره من الشروط الصحيحة ، فمتى تحققت وظهرت دخلت في ملكها ، ويتفرع على ذلك وجوب الزكاة على من بلغ نصيبه منها نصاب الزكاة ، لتحقق شرط وجوب الزكاة ، وهو ملك الثمرة قبل تحقق الوجوب ونموها في ملكه.

ونقل الخلاف هنا عن السيد بن زهرة ، فإنه أوجب الزكاة على من كان منه البذر ، مستندا الى أن الحصة كالأجرة ، قال ـ على ما نقله عنه في المختلف ـ : لا زكاة على العامل ، لأنه أخذ حصته أجرة.

٣٨٩

أقول : وبذلك قال أيضا في المزارعة ، حيث قال : كل من كان البذر منه وجبت الزكاة عليه دون الأخر ، لأن ما يأخذه كالأجرة.

وقال ابن إدريس في كتاب المزارعة من كتاب السرائر : فأما الزكاة فإن بلغ نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه الزكاة وجب عليه ، لانه شريك مالك ، سواء كان البذر منه أو لم يكن ، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون البذر أجرة ، ولا كالأجرة.

وقال بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له : كل من كان البذر منه وجب عليه الزكاة ، ولا تجب الزكاة على من لا يكون البذر منه ، قال : لان ما يأخذه كالأجرة ، والقائل بهذا القول العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي ، شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني ، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذره بأعذار غير واضحة ، وأبان بها أنه ثقل الرد عليه ، ولعمري ان الحق ثقيل كله ، ومن جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه أن المزارع مثل الغاصب للحب ، إذا زرعه ، فإن الزكاة تجب على رب الحب ، دون الغاصب ، وهذا من أقبح المعارضات وأعجب الشبهات ، وانما كانت مشورتي عليه أن يطالع تصنيفه وينظر في المسئلة ويغيرها قبل موته ، لئلا يستدرك عليه مستدرك بعد موته ، فيكون هو المستدرك على نفسه ، فعلت ذلك في علم الله شفقة وسترة عليه ونصيحة له ، لان هذا خلاف مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وشيخنا (رحمة الله عليه) قد حقق المسئلة في مواضع عدة (عديدة) من كتبه ، وقال : الثمرة والزرع نماء على ملكهما ، فيجب على كل واحد منهما الزكاة إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه ذلك ، وانما السيد أبو المكارم نظر الى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة في مبسوطه ، فظن أنه مذهبنا ، فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق ، وعرفته أن ذلك مذهب أبي حنيفة ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطه ، لما شرح أحكام المزارعة ، ثم عقب بمذهبنا

٣٩٠

وأومأت إلى المواضع التي حققها شيخنا في كتاب القراض وغيره فما رجع وما غيرها في كتبه ، ومات (رحمه‌الله) وهو على ما قاله نسئل الله له بالغفران وحشره مع آبائه في الجنان ، انتهى. كلامه.

وقال العلامة في المختلف بعد نقل ملخص هذا الكلام عن ابن إدريس : وقول ابن إدريس وان كان جيدا مستفادا من الشيخ أبى جعفر الا أن قول ابن زهرة ليس بذلك البعد من الصواب.

أقول : الظاهر أن الحامل لشيخنا العلامة (رحمه‌الله عليه) لنفى البعد عن هذا القول انما هو التحامل على ابن إدريس ، والا فهو في البعد من الصواب أظهر من أن يخفى على سائر ذوي الألباب.

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ بعد نقل القول المذكور ونعم ما قال ـ : وضعفه ظاهر ، لأن الحصة قد ملكت هنا بعقد المعاوضة ، في وقت يصلح لتعلق الزكاة بها ، لا بطريق الأجرة ، ثم لو سلم كونها كالأجرة فمطلق الأجرة لا تمنع من وجوب الزكاة ، بل إذا تعلق الملك بها بعد الوجوب ، إذ لو استأجره بزرع قبل بدو صلاحه ، أو آجره المالك الأرض بالزرع كذلك ، لوجبت الزكاة على مالك الأجرة ، كما لو اشترى الزرع كذلك.

نعم لو كان يذهب الى أن الحصة لا يملكها من لا بذر له بالظهور ، بل بعد بدو صلاحها ونحوه أمكن ترتب الحكم عليه ، لكنه خلاف إجماع الأصحاب ، ومع ذلك لا يتم تعليله بالأجرة ، بل بتأخر ملكه عن الوجوب ، ثم نقل كلام ابن إدريس ، وأنه كاتبه الى حلب ، ونبهه على فساد قوله ولم يقبل ، وأنه مات على ما قاله ، ثم نقل كلام العلامة في المختلف ، وأن هذا القول ليس بذلك البعد من الصواب ، ثم قال : وهو خلاف الظاهر ، والظاهر أن الحامل له على ذلك كثرة تشنيع ابن إدريس عليه ، انتهى.

٣٩١

تذنيب :

أجمع أصحابنا على بطلان المغارسة ، وبه قال أكثر العامة أيضا وهي عبارة عن أن يدفع أحد أرضا إلى غيره ليغرسها على أن يكون الغرس بينهما معا ، ومستند الأصحاب في البطلان هو عدم ورود نص بجوازها ، لان المعاوضات موقوفة على اذن الشارع ، وحيث لم يرد فيها كغيرها من العقود المشهورة اذن ، لا جرم وجب الحكم ببطلانها.

وتنظر فيه المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) وتبعه الفاضل الخراساني في الكفاية ، بأنه يمكن استفادة ذلك من بعض العمومات ، فإنه لو لا الإجماع المدعى لأمكن القول بصحة ذلك ، قالوا : ولا فرق بين أن يكون المغروس من مالك الأرض ، أو من العامل ، ولا بين أن يشترط العامل جزء من الأرض مع حصة من الغرس ، وعدمه ، وحيث ثبت بطلان المعاملة المذكورة ، فالغرس لصاحبه ، الا أنه ان كان صاحبه هو صاحب الأرض ، فعليه للعامل أجرة مثل عمله ، لانه لم يعمل مجانا بل بحصة لم تسلم له ، وان كان صاحبه هو العامل ، فعليه لصاحب الأرض أجرة المثل ، عوضا عن مدة شغله لها ، ولصاحب الأرض قلعه ، لبطلان المعاملة ، وأنه غير مستحق للبقاء فيها ، لكن بالأرش حيث أنه صدر عن اذنه ، فليس بعرق ظالم ، وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين العالم بالبطلان ، والجاهل به.

وأنت خبير بأنه لا يبعد الفرق بين الحالين وتخصيص الحكم المذكور بحال الجهل ، وأما مع العلم فإنه لا أجرة للعامل فيما إذا كان الغرس لصاحب الأرض ، ولا لصاحب الأرض فيما إذا كان الغرس للعامل ، ولا أرش لصاحب الغرس مع علمه ، لأن الأول مع علمه ببطلان العقد وأنه لا يستحق الحصة في مقابلة عمله يكون متبرعا بالعمل حينئذ ، ومقتضى تعليل وجوب الأجرة بأنه انما عمل لأجل الحصة ولم

٣٩٢

تسلم له فوجب له الأجرة لا يجري إلا في صورة الجهل ، كما هو ظاهر.

والثاني قد أذن للعامل في التصرف في أرضه بالحصة مع علمه بعدم استحقاقها ، فيكون في معنى الاذن بغير عوض ، فكيف يستحق عليه أجرة والحال هذه.

والثالث فمن حيث ظلمه بالغرس مع علمه بعدم استحقاقه ، وفي هذا نظر ، فإنه إنما غرس بالاذن كما هو المفروض أولا فعرقه ليس بظالم ، فيكون مستحقا للأرش.

بقي الكلام في المعنى المراد من الأرش هنا ، قال في المسالك : والمراد بالأرش هنا تفاوت ما بين قيمته في حالتيه ، على الوضع الذي هو عليه ، وهو كونه حال غرسه باقيا بأجرة ، أو مستحقا للقلع بالأرش ، وكونه مقلوعا لان ذلك هو المعقول من أرش النقصان ، لا تفاوت ما بين قيمته قائما مطلقا ، أو مقلوعا ، إذ لا حق له في القيام كذلك ليقوم بتلك الحالة ، ولا تفاوت ما بين كونه قائما بأجرة ومقلوعا لما ذكرنا ، فان استحقاقه للقلع بالأرش من جملة أوصافه ، ولا تفاوت ما بين كونه قائما مستحقا للقلع ، ومقلوعا لتخلف بعض أوصافه أيضا كما بيناه ، ولا بين كونه قائما مستحقا للقلع بالأرش ومقلوعا لتخلف وصف القيام بأجرة.

وهذه الوجوه المنفية ذهب الى كل منها بعض ، واختار الثاني منها الشيخ على (رحمة الله عليه) والأخير فخر الدين فيما ينسب اليه ، والآخران ذكر هما من لا يعتد بقوله ، ثم قال : ويجب على العامل مع ذلك أرش الأرض لو نقصت به ، وطم الحفر ، خصوصا لو قلعه بغير أمر المالك ، وقلع العروق المتخلفة عن المقلوع.

تنبيهان :

الأول : قال في المسالك : لو كان الغرس من مالك الأرض لكن الغارس ركب فيه نوعا آخر كما في شجر التوت ونحوه ، فالمركب للغارس ان كان أصله

٣٩٣

ملكه ، وكذا نماؤه مدة بقائه ، وعليه مع أجرة الأرش أجرة أصول الغرس أيضا ، وللمالك ازالة المركب مع الأرش كما مر ، انتهى.

الثاني : قالوا : لو بذل صاحب الأرض للغارس قيمة الغرس ليكون الغرس له ، بأن يبيعه إياه لم يجب عليه القبول ، وكذا لو دفع الغارس أجرة الأرض ليبقي غرسه فيها لم يجب عليه القبول ، والوجه في الموضعين واضح ، لأنها معاوضة وصحتها موقوفة على التراضي من الطرفين ، والله العالم.

٣٩٤

كتاب الوديعة

وتحقيق الكلام في هذا الكتاب يقتضي بسطه في بحوث ثلاثة :

البحث الأول ـ الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (١) ، وقال تعالى «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ» (٢).

وأما السنة فالأخبار بذلك مستفيضة تكاد تبلغ حد التواتر المعنوي ، فروى في الكافي والتهذيب عن الحسين الشيباني (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : ان رجلا من مواليك يستحل مال بنى أمية ودمائهم وانه وقع لهم عنده وديعة ، فقال : أدوا الأمانات إلى أهلها وان كانوا مجوسيا ، فان ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا (عليه‌السلام) فيحل ويحرم.

أقول : الظاهر أنه لا منافاة بين استحلال أموالهم ودمائهم وبين وجوب أداء الأمانة لهم لما سيظهر لك من تكاثر الاخبار بوجوب أدائها ، وان كان من يحل ماله ، كما يشير اليه التمثيل بالمجوس.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٥٨.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ٢٨٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٣٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥١ ح ١١٤ الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٢ ح ٥.

٣٩٥

ويحتمل حمل الخبر على عمومه من تحريم أموالهم ودمائهم ، ويكون حينئذ خارجا مخرج التقية كما يشير اليه آخر الخبر ، ويمكن حمل آخر الخبر بناء على المعنى الأول على أنه يجب أداء الأمانة لهم في ذلك الوقت ، وأنه يتغير هذا الحكم بعد ظهوره (عليه‌السلام) ولا يخلو عن شي‌ء.

وروى في الكافي عن محمد بن مسلم (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أدوا الأمانات ولو الى قاتل ولد الأنبياء (عليهم‌السلام)». وروى في الكافي والتهذيب عن عمر بن أبى حفص (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة ، الى من ائتمنكم فلو أن قاتل على بن أبى طالب (عليه‌السلام) ائتمنني على أمانة لا ديتها اليه.

وعن عمار بن مروان (٣) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في وصية له : اعلم أن ضارب على (عليه‌السلام) بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيف واستنصحني أو استشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الامانة».

وعن محمد بن القاسم بن الفضيل (٤) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا من مواليك مالا له قيمة ، والرجل الذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئا ، ولا يقدر له على شي‌ء والرجل الذي استودعه رجل خبيث خارجي فلم ادع شيئا ، فقال لي : قل له : رده عليه ، فإنه ائتمنه عليه بأمانة الله عزوجل».

وروى في الكافي عن عبد الرحمن بن سيابة (٥) قال : لما أن هلك أبى سيابة جاء رجل من إخوانه إلى فضرب الباب على فخرجت اليه فعزانى وقال لي : هل ترك أبوك شيئا ، فقلت له : لا فدفع الى كيسا فيه ألف درهم وقال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٣٣ ح ٣ الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٣ ح ٦.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ١٣٣ ح ٤ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥١ ح ١١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢١ ح ٢ وص ٢٢٣ ح ٨ و ٩.

(٥) الكافي ج ٥ ص ١٣٤ ح ٩. الوسائل ج ١٣ ص ٢١٩ ح ٦.

٣٩٦

أحسن حفظها وكل فضلها ، فدخلت إلى أمي وأنا فرح فأخبرتها فلما كان بالعشي أتيت صديقا كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري وجلست في حانوت فرزق الله فيها خيرا كثيرا ، فحضر الحج فوقع في قلبي فجئت إلى أمي وقلت لها : قد وقع في قلبي أن أخرج الى مكة؟ فقالت لي : فرد دراهم فلان عليه ، فهيأتها وجئت بها اليه فدفعتها اليه فكأني وهبتها اليه ، فقال ، لعلك استقللتها فأزيدك ، قلت : لا ولكن وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك ، ثم خرجت فقضيت نسكي ثم رجعت الى المدينة ، فدخلت مع الناس على أبى عبد الله (عليه‌السلام) وكان يأذن إذنا عاما فجلست في مواخير الناس ، وكنت حدثا فأخذ الناس يسئلونه ويجيبهم فلما خف الناس عنه أشار الى فدنوت اليه فقال لي : ألك حاجة؟ فقلت له : جعلت فداك أنا عبد الرحمن بن السيابة فقال لي : ما فعل أبوك قلت : هلك ، فتوجع وترحم ، قال : ثم قال لي : فترك شيئا؟ قلت : لا قال : فمن أين حججت؟ قال : فابتدأت فحدثته بقصة الرجل ، قال : فما تركني أفرغ منها حتى قال لي : فما فعلت في الألف قال : قلت : رددتها على صاحبها ، قال لي : قد أحسنت وقال لي : إلا أوصيك؟ قلت : بلى جعلت فداك ، فقال : عليك بصدق الحديث وأداء الأمانة ، تشرك الناس في أموالهم هكذا ، وجمع بين أصابعه قال : فحفظت ذلك عنه فزكيت ثلاثمأة ألف درهم». الى غير ذلك من الاخبار الجارية في هذا المضمار.

وأما الإجماع فقد نقله جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة قال : وقد أجمع المسلمون كافة على جوازها ، وتواترت الاخبار بذلك.

أقول : ويؤكد ذلك دلالة العقل والنقل على قضاء حاجة المؤمن وإدخال السرور عليه مع عدم المانع ، كما لو لم يثق من نفسه بالحفظ لبعض الأسباب المتوقف عليها ذلك ، قال في التذكرة ـ بعد أن صرح بالاستحباب كما ذكرنا ـ : ولو لم يكن هناك غيره فالأقوى أنه يجب عليه القبول ، لانه من المصالح العامة.

وبالجملة فإن القبول واجب على الكفاية ، ثم استثنى ما إذا تضمن بالقبول

٣٩٧

ضررا في نفسه أو ماله أو على أحد من إخوانه المؤمنين ولا بأس به ، وقال في التذكرة أيضا : الوديعة مشتقة من ودع يدع : إذا استقر وسكن ، أو من قولهم يدع كذا أى يتركه ، والوديعة متروكة مستقرة عند المستودع ، وقيل : إنها مشتقة من الدعة ، وهي الخفض والراحة ، يقال : ودع الرجل : فهو وديع وو ادع ، لأنها في دعة عند المودع ، لا تتبدل ولا تتبذل ولا تستعمل ، والوديعة يطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه ، والجمع الودائع ، واستودعته الوديعة أي استحفظته إياها ، وعن الكسائي أو دعته كذا : إذا دفعت إليه الوديعة فقبلها ، وأو دعته كذا : إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها ، وهو من الأضداد والمشهور في الاستعمال المعنى الأول ، انتهى.

أقول : قال في كتاب المصباح المنير : والوديعة : هو فعلية بمعنى مفعولة ، وأودعت زيدا مالا ، دفعته اليه ليكون عنده وديعة ، وجمعها ودائع ، واشتقاقها من الدعة وهي الراحة ، أو أخذته منه وديعة ، فيكون الفعل من الأضداد ، لكن الفعل في الدفع أشهر ، واستودعته مالا ، دفعته له وديعة يحفظه ، وقد ودع زيد بضم الدال وفتحها وداعة بالفتح ، والاسم الدعة وهي الراحة ، وخفض العيش والهاء عوض من الواو ، انتهى.

وقد عرفها بعض الفقهاء بأنها الاستنابة في الحفظ ، وعرفها في التذكرة بأنها عقد يفيد الاستنابة في الحفظ ، وهو أظهر قال : وهي جائزة من الطرفين بالإجماع ، ولكل منها فسخه ، ولا بد فيها من إيجاب وقبول ، فالإيجاب كل لفظ دل على الاستنابة بأي عبارة كان ، ولا ينحصر في لغة دون أخرى ، ولا في عبارة دون أخرى ، ولا يفتقر الى التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة ، والقبول قد يكون بالقول ، وهو كل لفظ يدل على الرضا بالنيابة في الحفظ ، بأي عبارة كان ، وقد يكون بالفعل ، وهل الوديعة عقد برأسه؟ أو اذن مجرد ، الأقرب الأول ، انتهى.

٣٩٨

وبنحو ذلك صرح جملة ممن تأخر عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال : مقتضى كونه عقدا تركيبه من الإيجاب والقبول بالقولين ، ومقتضى جوازه عدم انحصاره في عبارة ، بل يكفى كل لفظ دل عليه ، ولا يعتبر فيه التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة المفهمة لمعناه اختيارا ، ثم قال بعد قول المصنف (رحمة الله عليه) : ويكفى الفعل الدال على القبول ، أطلق المصنف وجماعة أنه يكفى القبول الفعلي مع اعترافهم بكونه عقدا نظرا الى أن الغاية منه انما هو الرضا بالاستنابة ، وربما كان الفعل فيه أقوى من القبول ، باعتبار التزامه ودخوله في ضمانه لو قصر ، بخلاف القبول القولي ، فإنه وان لزمه ذلك شرعا الا أنه ليس صريحا في الالتزام من حيث أنه عقد جائز ، فإذا فسخه ولم يكن قبضه لم يظهر أثره واليد توجب الحفظ الى أن يرده الى مالكه ، لعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١). وهذا حسن ، الا أن فيه بعض الخروج عن حقيقة العقد ، ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى أنها اذن مجرد ، لا عقد ، وفرع عليه عدم اعتبار القبول القولي ، وآخرون الى أن الإيجاب ان كان بلفظ أو دعتك وشبهه مما هو على صيغ العقود وجب القبول لفظا ، وان قال احفظه ونحوه لم يفتقر الى القبول اللفظي ، كالوكالة ، وهو كلام موجه.

أقول : لا يخفى أن ما طولوا به الكلام في هذا المقام من أنه لا بد من عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والخلاف في القبول بكونه قوليا أو فعليا ، وكذا الخلاف بكونه عقدا أو إذنا كله تطويل بغير طائل ، إذ لا يظهر له عند التأمل والتحقيق ثمرة ولا حاصل ، والأمر في ذلك معروف بين جملة الناس من عالم وجاهل ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في أن من قصد غيره بمال ليودعه عنده ، وجرى بينهما من الكلام ما يدل على الرضا بذلك ، من الطرفين بحيث لا يتوهم كونه هدية ولا عطية ولا بيعا ، ولا نحو ذلك ترتب عليه أحكام الوديعة شرعا ، سواء

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.

٣٩٩

سمى ذلك عقدا أو إذنا أو غير ذلك ، ولا فرق أيضا في ذلك بين أن يكون الدال على المراد من ذلك لفظا أو فعلا إذا اقترن بما يدل على المراد.

وبالجملة فالظاهر أنه يكفى ما يدل على الاستنابة وقبولها مطلقا ، وأنها مجرد الاذن في النيابة ، وأنه ما لم يقبض أو يقبل بما يفيد القبول لم يدخل في الضمان والا فإنه يلزم الضمان ، وليس في النصوص زيادة على ما ذكرنا عين ولا أثر

وكيف كان فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع الأول ـ إذا طرح الوديعة عنده فهيهنا صور :

الاولى ـ أن يطرحها عنده ولا يحصل منه ما يدل على الاستنابة في الحفظ ، ولم يحصل من الأخر ما يدل على القبول ، ولا إشكال في عدم ثبوت الوديعة ، ولا في عدم وجوب الحفظ.

الثانية ـ الصورة بحالها ولكن حصل القبول القولي من الأخر ، وحكمها كسابقها ، فإنه بمجرد الطرح ما لم يضم الى ذلك كونه وديعة ، لا يستلزم وجوب الحفظ ، ولا الضمان.

الثالثة ـ الصورة الأولى بحالها ، ولكن قبضه الأخر ولا ريب أنه لا يصير وديعة ، ولكن يجب حفظه ، ويضمنه لخبر «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١).

الرابعة ـ أن يطرحه ويضم الى ذلك ما يدل على قصد الإيداع ، ويحصل القبول من الأخر قولا أو فعلا ، ولا ريب في ثبوت كونه وديعة ، فيجب الحفظ ، ويضمن مع التفريط.

الخامسة ـ الصورة بحالها ولكن لم يحصل من الأخر ما يدل على القبول لا قولا ولا فعلا ، ولا ريب في أنها لا تصير وديعة ، ولا يجب عليه حفظها حتى لو ذهب وتركها لم يضمن ، الا أنهم صرحوا بأنه لو كان ذهابه بعد أن غاب المالك فإنه يأثم لوجوب الحفظ عليه من باب المعاونة على البر ، واعانة المحتاج ، فيكون

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.

٤٠٠