الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

سألته عن الرجل يعطى الرجل أرضه فيها الرمان والنخل والفاكهة ، فيقول : اسق هذا من الماء وأعمره ولك نصف ما خرج قال : لا بأس».

ثم أجاب عن ذلك قال : والجواب المنع ، وعن الحديث أن نفى البأس لا يستلزم اللزوم ، انتهى.

وقال في المسالك : واعلم أن الاتفاق على اشتراط تقديرها في الجملة كما قررناه ، وأما تركها رأسا فيبطل العقد قولا واحدا ، ولان عقد المساقاة لازم كما تقدم ، ولا معنى لوجوب الوفاء به دائما ، ولا إلى مدة غير معلومة ، ولا بسنة واحدة ، لاستحالة الترجيح بلا مرجح.

أقول : ان ثبت كون عقد المساقاة من العقود اللازمة كما ادعوه ، فما ذكره جيد لا حيود عنه الا أنى لا أعرف لهم دليلا على هذه الدعوى زيادة على ما يظهر من اتفاقهم على ذلك.

وربما كان الظاهر من عبارة ابن الجنيد المنقولة عن المختلف انما هو الجواز كما قال به جملة من العامة ، ثم أنه مع تسليم ذلك فإنه لا يخفى أن المقصود من المساقاة هو أخذ العامل الحصة من الحاصل ، بعد القيام بالعمل.

وحينئذ فلو اتفقا على المساقاة على ثمرة عام واحد فالظاهر أنه لا يحتاج في التحديد إلى أزيد من التحديد بالثمرة المساقى عليها كما تقدم نقله عن ابن الجنيد ، وعليه يحمل صحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة ، فكأنه قيل : فيها اسق هذا النخل والرمان والفاكهة الى أن تأخذ حصتك من الثمرة وهو النصف.

فإنك قد عرفت مما أسلفناه أن ما اشتملت عليه من هذا اللفظ هو صورة عقد المساقاة ، إذ ليس في الخبر ما يدل على زيادة على ذلك ، وهو بحسب ظاهره غير مشتمل على المدة التي أوجبوها في العقد ، فاللازم أما كونه جائزا كما قدمنا ذكره ، فلا ينافيه الإخلال بالمدة ، لجواز الفسخ متى شاء أحدهما ، أو انه لازم كما صرحوا به ، فلا بد من اعتبار ما ذكرناه ، وتقدير ما قدرناه ليتم ما ذكروه.

٣٦١

وأما قول العلامة في المختلف في الجواب عن الرواية بعد استدلاله بها لابن الجنيد أن نفى البأس لا يستلزم اللزوم فليس بموجه ، لأنه ان سلم كون هذا عقدا كما هو ظاهر الرواية ، فلا بد له من الحكم بلزومه ، ونفى البأس إنما أريد به ذلك : بمعنى أنه عقد صحيح ، وان منع كونه عقدا فلا معنى لنفي البأس عنه ، حيث أنه لغو من القول ، لا معنى له ولا ثمرة يترتب عليه.

ثم انه لو لم يقع التحديد على الوجه المشهور ولا الوجه المنقول في المسالك عن ابن الجنيد فظاهر كلامه الاتفاق على بطلان العقد ، الا أن ظاهر عبارة ابن الجنيد المتقدم نقلها عن المختلف هو الصحة في الصورة المذكورة ، والظاهر بعده ، الا أن يحمل كلامه على حكمه بجواز عقد المساقاة دون لزومه ، كما تقدمت الإشارة اليه.

ولو اتفقا على المساقاة على أزيد من ذلك العام فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب تعيين المدة بسنتين أو ثلاث أو أزيد أو أقل على حسب ما يتفقان عليه ووجهه ما تقدم في عبارته في المسالك ، والله العالم.

المقام الرابع في العمل ـ اعلم أن الظاهر من كلامهم في هذا المقام أن بعض الأعمال مع الإطلاق يختص بالعامل وبعضها يختص بالمالك ، وجعلوا لكل منهما قاعدة فالذي يختص بالعامل هو كل عمل يتكرر كل سنة مما يحصل به نفس الثمرة وجودتها وزيادتها ، ومنها إصلاح الأرض بالحرث والحفر حيث يحتاج اليه وما يتوقف عليه من الآلات وتنقية الأجاجين ، جمع الاجاجه بالكسر والتشديد والمراد بها هنا الحفر التي يقف فيها الماء في أصول الشجر التي تحتاج إلى السقي.

وكذا تنقية الأنهار ، وازالة الحشيش المضر وتهذيب جرائد النخل بقطع ما يحتاج الى قطعه منه كالأجزاء النابتة من كرم العنب والأغصان اليابسة المضمرة من الأشجار ، بل ولو كانت رطبة مع حصول الضرر بها ، كما في شجر الكرم مما يجرى به العادة.

٣٦٢

ومنها السقي ومقدماته المتكررة ، كالدلو والرشاء وإصلاح طريق الماء ، وتنقيتها من الحمأة ونحوها ، واستقاء الماء وأداة الدولاب إذا كان السقي من بئر ونحوه وتلقيح الأنثى من الذكر ، على الوجه المعتاد والمعتبر ، وتعديل الثمرة أى إصلاحها بإزالة ما يضرها من الأغصان والورق ، ليصل إليها الهواء أو الشمس أو لتيسر قطعها عند ارادة ذلك ، ووضع الحشيش ونحوه فوق العناقيد صونا لها عن الشمس المضمرة بها ، ورفعها من الأرض حيث تضربها ونحو ذلك ومنها اللقاط بفتح اللام وكسرها وهو لقاط الثمرة أى أخذها في أوانها عن محلها بحسب العادة وحسب نوعها ووقتها فما يؤخذ عنبا ، أو رطبا ففي وقتهما ، وما يؤخذ للزبيب يجب قطعه عند حلاوته في الوقت الصالح له ، وما يعمل دبسا فكذلك في الوقت الصالح ، ويحتمل أن يراد باللقاط ارادة ما سقط من الشجر على الأرض ، بمعنى التقاطه ، الا أن الأشهر في كلامهم هو الأول ، ومنها أيضا إصلاح موضع التشميس وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمرة للشمس لأجل يبسها ان كانت العادة فيها ذلك ، كما في بعض البلدان خصوصا البحرين ، ونقل الثمرة الى ذلك الموضع ، وحفظها الى وقت القسمة ، وهل نقلها الى منزل المالك ان لم يتول المالك ذلك على العامل؟ يحتمل ، ـ لانه من تمام العمل ، ولعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١) ـ وعدمه ، لانه ليس من أعمال الثمرة ، والأظهر الرجوع في ذلك الى عرف البلد وعادة أهلها في ذلك.

قالوا : والضابط أنه يجب العمل الى وقت القسمة ، هذا كله مع الإطلاق ، أما لو شرط بعضها على المالك فلا إشكال في لزومه إذا لم يكن منافيا لمقتضى العقد ، عملا بما دل على وجوب الوفاء بالشروط.

قالوا : لو أخل العامل بشي‌ء مما يجب عليه فان كان وجوبه بطريق الشرط تخير المالك بين فسخ العقد وإلزامه ، بمثل أجرة العمل ، فان فسخ قبل عمل شي‌ء

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

٣٦٣

فلا شي‌ء له ، وان كان بعده فله الأجرة ، سواء كان قبل ظهور الثمرة أم بعده ، قضية للشرط ، وان كان وجوبه من حيث الإطلاق ، فالظاهر أنه يكون كذلك قبل ظهور الثمرة ، أما بعده ففيه نظر ، ولا يبعد الجواز ، ولو حصل على الأصل نقص بسبب التقصير لزمه الأرش ، والظاهر أن الثمرة كذلك ، انتهى هذا بالنسبة إلى العامل.

وأما المالك فالضابط في ما يجب عليه عندهم هو ما لا يتكرر في كل سنة ، وان عرض له في بعض الأحوال التكرر مما يتعلق نفعه بالأصول بالذات وان حصل النفع منه للثمرة عرضا فإنه على المالك دون العامل.

ومن ذلك حفر الابار والأنهار التي منها وبها تسقى الأصول ، وبناء الحائط ، قال في المسالك : ولا فرق في بناء الحائط بين جميعه وبعضه ، وفي حكمه وضع الشوك ونحوه على رأسه ، قاله في التذكرة ، ويشكل لو كان مما يتكرر كل سنة عادة طردا لضابطين ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن بناء هذه الأفراد المعدودة في كل من الموضعين وجعلها ضابطين انما هو على العرف والعادة ، والا فإنه ليس هنا تحديد شرعي في كل من الموضعين ، فينبغي أن يكون مناط الحكم في كل من الموضعين هو ذلك.

ومنها عمل ما يستقى به من دولاب وأدواته ونحو ذلك من آلات السقي مما لا يتكرر غالبا ، دون ما يتكرر غالبا كالدلو والرشاء ، فإنه قد تقدم أن ذلك على العامل ، خلافا لابن إدريس (رحمه‌الله) حيث أوجب الجميع على العامل ، والمشهور وبه صرح الشيخ ان الكش على المالك ، والعامل انما عليه التلقيح ، واستندوا في ذلك الى أن الكش ليس بعمل ، وانما هو من الأعيان والعامل انما عليه العمل ، وأن الأصل البراءة من وجوبه على العامل.

ونقل عن ابن إدريس أنه على العامل ، واستحسنه في الشرائع ، ونقل عن ابن إدريس التعليل بأنه مما يتم به نماء الثمرة وصلاحها الواجبين على العامل.

قال في المسالك : والاولى الرجوع الى العادة ومع عدم اطرادها في شي‌ء فالأولى التعيين ، انتهى.

٣٦٤

قال في التذكرة : ان شراء الزبل وأجرة نقله على رب المال ، لانه ليس من العمل ، فجرى مجرى ما يلقح به ، وتفريق ذلك على الأرض على العامل ، كالتلقيح انتهى.

وبالجملة فالظاهر أن الكش مثل الخيوط بالنسبة إلى الخياط ، والمداد والقرطاس للكاتب في كون الجميع على المالك ، وانما على العامل العمل بذلك ، الا أن تجري العادة بخلاف ذلك لما أشرنا إليه آنفا من بناء الضابطتين المتقدمتين على العرف والعادة.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول ـ قد تقدمت الإشارة الى أن جميع ما ذكر سابقا مما يجب على المالك والعامل انما هو من حيث اقتضاء الإطلاق ذلك ، فلو وقع الشرط منهما على خلاف ذلك بأن شرط ما على المالك من تلك الأعمال على العامل ، فالمشهور الصحة بعد أن يكون ذلك معلوما بينهما على وجه لا يحتمل الضرر ، وكذا لو شرط بعضه بطريق أولى.

قال الشيخ في المبسوط : وعلى المالك ما فيه حفظ الأصل ، وهو سد الحيطان ، وإنشاء الأنهار ، فإن شرط على العامل ذلك أو بعضه قال قوم : تبطل المساقاة ، لأنه شرط ليس من مصلحة العقد ، وينافي مقتضاه ، والذي يقوى في نفسي أنه لا يمنع من صحة هذا الشرط مانع ، انتهى.

وقال ابن الجنيد : ليس لصاحب الأرض أن يشترط على المساقي إحداث أصل جديد من حفر بئر وغرس يأتي به لا يكون للمساقي في ثمرته حق ، ولو جعل له على ذلك عوضا في قسطه ، لان ذلك بيع المثمرة قبل خروجها فان جعله بعد ما يحل بيع الثمرة جاز.

قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والوجه ما قواه الشيخ ، لقوله (عليه‌السلام) (١) «المؤمنون عند شروطهم». سواء جعل له زيادة قسط أم لا وليس ذلك بيعا ، انتهى وهو جيد.

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

٣٦٥

ولو شرط ما يجب على العامل على المالك ، فان كان المشروط جميع العمل ، فالظاهر أنه لا خلاف في بطلان المساقاة ، لأن الحصة انما يستحقها العامل في مقابلة العمل فإذا لم يعمل شيئا لم يستحق شيئا ، وأيضا فإنها تصير كالبيع بغير ثمن ، والإجارة بغير مال في مقابلتها ، وبالجملة فإنها من عقود المعاوضات يترتب صحتها على وصول العوض لكل من الطرفين.

نعم لو كان المشروط بعض العمل وأبقى لنفسه منه شيئا ، وكان مما يحصل به الزيادة في الثمرة ، فإنه لا مانع منه ، ولعموم أدلة لزوم الشرط ، وتكون الحصة حينئذ في مقابلة ذلك.

وظاهر الشيخ في المبسوط الخلاف هنا ، حيث قال : إذا ساقاه بالنصف على أن يعمل رب المال معه ، فالمساقاة باطلة ، لأن موضوع المساقاة أن من رب المال المال ، ومن العامل العمل ، كالقراض ، فإذا شرط على رب المال العمل بطل كالقراض.

ورده العلامة في المختلف بأنه قد سوغ أن يشترط العامل على المالك أن يعمل معه غلامه ، وأن يكون على المالك بعض العمل ، وقواه لانه لا مانع منه ، وهذا نفس ذاك ، انتهى وهو جيد.

ونقل أيضا أنه قال في المبسوط : إذا ساقاه على أن أجرة الأجراء الذين يعملون ويستعان بهم من الثمرة ، فالعقد فاسد ، لأن المساقاة موضوعة على أن من رب المال المال ، ومن العامل العمل ، فإذا شرط أن يكون أجرة الاجراء من الثمرة كان على رب المال المال ، والعمل معا ، وهذا لا يجوز ، ثم رده بأن الأقوى الجواز إذا بقي للعامل عمل لما بيناه ، انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر إطلاق كلام العلامة هو ترتب الصحة على بقاء شي‌ء من العمل ـ اللازم للعامل ـ أعم من أن يكون مما يترتب عليه الزيادة في الثمرة أو لا بأن يكون كمجرد الحفظ لها ، والذي صرح به في المسالك هو ما

٣٦٦

قدمناه من أنه لا بد من أن يكون مما يحصل به الزيادة في الثمرة ، ولا يكفى ما فيه مجرد الحفظ ، قال : ولو بقي للعامل ما لا يحصل به مستزاد الثمرة كالحفظ لم تصح ، أيضا ، لمنافاة وضع المساقاة ، كما لو ساقاه وقد بقي من العمل ذلك. نعم لو جعلا ذلك بلفظ الإجارة مع ضبط المدة صح ، انتهى.

وظاهر ابن فهد في المهذب الاكتفاء بمجرد العمل ، كالحفظ والتشميس والكيس في الظروف ونحو ذلك ، وظاهره جواز المساقاة بمجرد بقاء هذه الأعمال ، والأظهر الأول ، فإنه هو المستفاد من الأدلة ، وغيره لا دليل عليه والله العالم.

الثاني : قالوا : لو شرط العامل أن يعمل غلام المالك معه جاز ، أما لو شرط أن يعمل الغلام لخاص مال العامل ففيه تردد ، والأشبه الجواز.

أقول : هنا مقامان : أحدهما ـ أن يشترط العامل على المالك عمل غلامه معه في مال المساقات ، وظاهر الأصحاب هو الجواز من غير ظهور مخالف ، وانما المخالف فيه بعض العامة ، مستندا الى أن يد العبد كيد مالكه ، وعمله كعمله ، فكما لا يصح اشتراط عمل المالك فكذلك غلامه المملوك له ، ولانه مخالف لوضع المساقاة ، وهو أن يكون من المالك المال ، ومن العامل العمل.

وأجيب عن ذلك أولا بأن عمل غلام المالك مال له ، فهو ضم مال الى مال ، كما أنه يجوز في القراض أن يدفع الى العامل بهيمة يحمل عليها ، والفرق بين الغلام وسيده ظاهر ، فان عمل العبد يجوز أن يكون تابعا لعمل العامل ، ولا يجوز أن يكون عمل المالك تابعا له ، لانه هو الأصل ويجوز في التابع مالا يجوز في المنفرد.

وثانيا منع حكم الأصل لما عرفت آنفا من جواز أن يشترط العامل على المالك أكثر العمل ، فإذا جاز ذلك بالنسبة إلى المالك فمملوكه أولى بالجواز.

وثانيهما ـ أن يكون الشرط في عمل الغلام العمل في ملك العامل خاصة ،

٣٦٧

بأن يكون الأرض للعامل بخصوصه لا في مال المساقاة ، كما هو المفروض أولا ، وظاهر المحقق والعلامة وقوع الخلاف هنا من أصحابنا ، لتردد المحقق في الشرائع في ذلك ، وان رجح الجواز ، وكذا العلامة ، الا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك نبه هنا على أن الخلاف في هذا المقام انما هو من الشافعي ، وظاهره أنه لا خلاف بين أصحابنا في الجواز ، حيث قال : والمعروف أن المانع من ذلك الشافعي ، لكن المصنف (رحمه‌الله) والعلامة ذكرا المسئلة على وجه يشعر بالخلاف عندنا ، وقد تكرر هذا منهما في مواضع كثيرة.

أقول : وفيه تأييد لما قدمناه من أن أصل هذه التفريعات كلها أو جلها انما هي من العامة ، حيث أنه ليس لقدماء أصحابنا أثر في ذلك ، ثم ان الشيخ تبعهم في ذلك ، واقتفى أثره من تأخر عنه ، ووجه الجواز عند أصحابنا أنه وجه سائغ لا مانع من اشتراطه ، ولأنه إذا جاز أن يعمل في المشترك بينه وبين مولاه كما في الفرض الأول ، فلان يجوز في المختص بطريق أولى.

ووجه المنع أنه شرط عملا في مقابلة عمله ، فصار في قوة اشتراط جميع العمل على المالك ، وأجابوا عنه بأن فساده ظاهر.

أقول : ويمكن أن يقال : بناء على تعليلاتهم في أمثال هذا المجال بأنه لا يصح ذلك لو فرض أن عمل الغلام أكثر أو مساو لعمل العامل في مال المساقاة لأنه يلزم كون الحصة التي يأخذها العامل بغير عوض ، لان عمل العامل قد وقع في مقابلة عمل الغلام في أرضه ، فلم يبق له عمل يستحق به الحصة ، ويصير عقد المساقاة بلا عوض من جانب العامل ، فيلزم بطلانه ، وربما أمكن الجواب بأنه لا مانع من جعل عمل الغلام وان كثر في مقابلة بعض عمل العامل وان قل ، وتصير الحصة في مقابلة البعض الباقي ، ويؤيده الأدلة العامة من وجوب الإيفاء بالعقود والشروط.

وكيف كان فالركون في أمثال هذه الفروع الى هذه التعليلات لا يخفى ما فيه كما أسلفنا التنبيه عليه في غير مقام مما تقدم ، والله العالم.

٣٦٨

الثالث ـ المشهور بينهم أنه لو شرط العامل على المالك أجرة الأجراء بأن يستأجر للعمل أجراء لإعانته ، ويدفع الأجرة من الثمرة على وجه يبقى له من العمل ما يحصل به الزيادة في الثمرة ، كما تقدم فلا بأس ، وقد تقدم في الموضع الأول نقل خلاف الشيخ في هذه المسئلة ، وقد عرفت ضعفه.

ولو شرط العامل على المالك بأن يستأجر على جميع العمل بحيث لا يبقى له الا استعمال الاجراء والقيام عليهم ، والسمسرة ، قال في المسالك : في صحة هذا الشرط وجهان : أحدهما الجواز ، لان ذلك عمل تدعو الحاجة إليه ، فإن المالك قد لا يهتدى إلى الدهقنة واستعمال الاجراء ، ولا يجد من يباشر الأعمال ويأتمنه فتدعوه الحاجة أن يساقى من العرق ذلك لينوب عنه في الاستعمال.

وثانيهما المنع للشك في أن مثل ذلك يسمى عملا من أعمال المساقاة الذي هو شرط في صحتها ، فان المتبادر من أعمالها خلاف ذلك ، والعقود انما تكون بتوقيف الشارع ، خصوصا في هذا العقد الذي هو على خلاف الأصل ، انتهى.

أقول : لا يخفى ضعف الوجه الأول من الوجهين المذكورين ، فالعمل على الثاني. والله العالم.

المقام الخامس في الفائدة ـ والكلام في هذا المقام يقع في موارد :

الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه يشترط أن يكون للعامل جزء مشاع من الحاصل ليكون مساقاة كما مر في تعريفها ، فهنا شيئان : أحدهما ـ الحصة ، والثاني ـ كونها شائعة في مجموع الحاصل ، فلو لم تكن شايعة بل كانت معينة كان ذلك اجارة ، وان وقع العقد بلفظ المساقاة لصحة ارتكاب التجوز في هذا الإطلاق ولو لم تكن حصة بالكلية كان العقد باطلا وكذا يبطل لو شرط أحدهما الانفراد بالفائدة وفساد هذا الشرط متفرع على اشتراط التشريك ، بمعنى أنه لما كان من شرط المساقاة أن تكون الفائدة شائعة في الحاصل فلو شرطها أحدهما

٣٦٩

وانفرد بها وميزها عن الحاصل في نخيل مفردة أو أشجار معينة ، خرج ذلك عن وضع المساقاة ، وما بنيت عليه ، فيبطل العقد حينئذ ، لكن يختلف الحكم في ذلك بين العامل والمالك ، فإنه ان كان شرط الفائدة على الوجه المذكور وقع للعامل بطل العقد كما عرفت ، ومتى بطل لزم أن يكون الثمرة كلها للمالك ، وللعامل أجرة المثل حينئذ ، كما يأتي بيانه ـ ان شاء الله ـ من أن كل موضع حكم بالبطلان فللعامل أجرة المثل ، والوجه فيه أن العامل انما دخل في العمل للحصة المعينة له ، وحيث لم تسلم له هنا لظهور بطلان العقد ، وجب الرجوع الى أجرة المثل.

وان كان الشرط المذكور للمالك فالأقوى عندهم أنه لا أجرة له لدخوله في العمل على وجه التبرع ، والمتبرع لا أجرة له ولا حصة ، كما تقدم نظيره في القراض.

وربما احتمل ضعيفا استحقاق الأجرة لأن المساقاة يقتضي العوض في الجملة ، فلا يسقط بالرضا بدونه ، وكذا يبطل لو شرط لنفسه شيئا معينا ، وما زاد بينهما ، وكذا لو قدر لنفسه أرطالا أو ثمرة ، نخلات معينة.

أقول : وهذا كله مما يتفرع على اشتراط الشيوع في الحصة ، والاشتراك المتفق عليه نصا وفتوى في عقد المساقاة ، فإن جميع هذه الصور خارجة عن ذلك ، ويؤكد البطلان زيادة على ما عرفت أنه إذا اتفق عدم حصول شي‌ء من الحاصل الا ذلك المقدار المعين فلا يكون للآخر شي‌ء بالكلية.

الثاني ـ قالوا : يجوز أن يفرد كل نوع بحصة مخالفة للحصة من النوع الأخر إذا كان العامل عالما بمقدار كل نوع ، لان الغرض ثبوت حصة معلومة كيف كان ولو لم يعلم مقدار أحد الأنواع لم يصح ، لجهالة الحصة ، فإن المشروط فيه أقل الجزئين ، قد يكون أكثر الجزئين ، فيحصل الغرر ، وكذا صرح به في المسالك.

أقول : ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) المناقشة في هذا المقام ،

٣٧٠

حيث قال بعد ذكر عبارة المصنف في هذا المقام : إذا كان في البستان الذي ساقاه عليه أنواع مختلفة من الثمرة واشترط الثلث من أحدهما ، والنصف من الأخر مثلا صح المساقاة ، بشرط علم العامل بمقدار كل نوع من تلك الأنواع ، ومفهوم الكلام يدل على عدم الصحة لو لم يعلم وجهه للجهالة ، وكذا مفهومه الصحة لو لم يكن الحصة مختلفة ، بل إذا ساقاه على ذلك البستان بالنصف مثلا صح مطلقا ، سواء علم مقدار الأنواع أم لا ، وهو مشكل فإن الجهالة واقعة ، فلو كانت مانعة من الصحة لمنعت هنا أيضا ، وكونه مفهوما من الكلام غير واضح ، فلا يبعد عدم الصحة بناء على اعتبار العلم وعدم الجهالة ، فتأمل ، انتهى وهو جيد.

وكيف كان فالمسئلة لخلوها عن النص لا يخلو الحكم فيها من الاشكال ، كغيرها من الفروع التي أكثروا فيها المقال والأقوال ، فإن غاية ما يستفاد من نصوص المساقاة هو الحصة من حاصل ما اشتمل عليه البستان ، نوعا واحدا كان أو أنواعا عديدة ، علم كل منها على تقدير التعدد أم لم يعلم.

وأما صحة المساقاة مع تعدد الحصة بتعدد الأنواع سواء كانت الأنواع معلومة أو مجهولة فلا دليل عليه ، ورجوعه بنوع من الاعتبار في بعض الموارد إلى الأول لا يكفي في الحكم بالصحة ، إذ لعل ثمة مانعا لم نهتد اليه ، سيما مع عدم الدليل عليه.

وملخص ذلك الرجوع في صحة العقود وبطلانها الى التوقيف ، والله العالم.

الثالث ـ قالوا : لو شرط مع الحصة من النماء حصة من الأصل الثابت احتمل الصحة ، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، والمؤمنون عند شروطهم (١) ، وان ذلك يجرى مجرى اشتراط شي‌ء غيره من ذهب أو فضة ، وهو جائز ، وان ذكروا البطلان نظرا الى أن مقتضى المساقاة جعل الحصة من الفائدة وأن الحصة من الأصول تدخل في ملكه بالشرط المذكور ، فلا يكون

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

٣٧١

العمل المبذول في مقابلة الحصة واقعا في ملك المالك ، ولا واجبا بالعقد ، إذ لا يعقل أن يشترط عليه العمل في ملك نفسه.

والى هذا الوجه مال في المسالك فقال : والقول بالمنع أوجه ، وتردد المحقق في الشرائع بعد أن حكم بعدم الصحة ، واستشكل في القواعد مع جزمه بالمنع في الإرشاد.

أقول : والظاهر هو المنع لما ذكر ، وزيادة ما قدمناه في سابق هذا المورد.

الرابع ـ قالوا : يجوز أن يشترط رب الأرض على العامل شيئا من ذهب أو فضة ، ويجب الوفاء به ، الا أن ذلك مكروه ، وعللوا الحكم الأول بعموم ما دل على الوفاء بالعقود والشروط وأنه مع ذلك غير مناف لمقتضى العقد ، لأن الثمرة مشتركة بينهما ، وهذا شرط زائد ، وأما الحكم الثاني فلم أقف لهم فيه على مستند سوى ظهور اتفاقهم عليه.

قال في المسالك : وأما كراهته فهو المشهور بين الأصحاب لا نعلم خلافا في ذلك ، ثم نقل عن العامة أنهم أطبقوا على منع هذا الشرط ، وأبطلوا به المساقاة ، هذا مع سلامة الثمرة وعدم تلفها ، فلو تلفت أجمع أو لم تخرج ذلك العام بالكلية ، فإن ظاهرهم الحكم بسقوط الشرط المذكور ، إذ لو لا الحكم بسقوطه لكان اللازم أكل مال بالباطل ، فان العامل قد عمل ولم يحصل له عوض في مقابلة عمله ، فكيف يحكم عليه بوجوب الوفاء بالشرط المذكور ، فإنه ضرر منفي بالآية والرواية (١) ، وإيجاب استحقاقه بالشرط انما وقع بناء على سلامة الحاصل وأخذه الحصة ، على أن ما حكموا به من الصحة في أصل المسئلة غير خال من الاشكال سيما في صورة زيادة ما شرط من الذهب أو الفضة على مقدار الحصة ، أو المساواة لاستلزام ذلك لذهاب عمله بغير عوض ، وهو خارج عن أفعال العقلاء ومعاملاتهم

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.

٣٧٢

بل ربما أدى ذلك الى الحكم بعدم الرشد ، ولعله الى هذا نظر العامة فحرموا ذلك ، وأبطلوا به العقد كما تقدم ذكره.

نعم لو كان هناك غرض صحيح يمكن ترتب هذا العمل عليه يتم ما ذكر ، وبالجملة فإن عندي في أصل الحكم المذكور أعني صحة هذا الشرط اشكالا لعدم النص الواضح عليه ، وان احتمل ذلك بناء على ما ذكروه من العمومات ، الا أنه لخروجه عما هو المعلوم من طريقة أرباب العقول ومعاملاتهم المحتمل للسفاهة محل إشكال ، أما لو كان هذا الشرط من العامل على المالك مضافا الى الحصة المعينة ، فالظاهر أنه لا اشكال فيه ، وبه صرح الأصحاب أيضا.

والظاهر أنه لا كراهة فيه أيضا ، وبطريق الاولى في ارتفاع الاشكال لو ذهبت الثمرة أو لم تخرج ، فإنه بعد العمل والتعب وذهاب حصته المقررة له لا وجه لسقوط هذا الشرط في حقه ، بل الاولى والأظهر في المعقول والمنقول هو دفعه اليه جبرا لما فاته من ذهاب حصته ، وعوضا عن خدمته.

وربما قيل : بمساواته للأول وهو خيال ضعيف وتوهم سخيف لما عرفت من الفرق بين الحالين ، والبون بين الصورتين ، ثم انه بالنسبة إلى الصورة الاولى لو كان التالف البعض خاصة ، فالمختار عندهم عدم سقوط شي‌ء من الشروط ، لأصالة العدم ، ولان المعتبر حصول عوض العمل ، ولا اعتبار بكثرته وقلته ، ومن ثم لا يسقط من شروط العمل شي‌ء ، بتلف بعض الثمرة أو أكثرها.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قال : يكره أن يشترط أحدهما لنفسه شيئا من ذهب أو فضة ، وان شرط ذلك وجب الوفاء به مع السلامة ، وفيه على إطلاقه بحث يعلم مما قدمناه ، ثم الظاهر أن ما ذكروه من الذهب والفضة إنما خرج مخرج التمثيل في المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام والله العالم.

الخامس ـ قال المحقق في الشرائع : ولو ساقاه بالنصف ان سقى بالنواضح وبالثلث ان سقى بالسيح بطلت المساقاة ، لأن الحصة لم تتعين وفيه تردد.

٣٧٣

قال في المسالك : وجه البطلان واضح ، لان العمل مجهول ، والنصيب مجهول ، فهو مثل بعتك بدينار مؤجلا وبنصفه حالا ، ويحتمل صحة ذلك لتعيين الحصة على التقديرين ، كما تصح الإجارة إذا قال : ان خطته روميا فلك كذا ، وان خطته فارسيا فلك كذا ، ومن ذلك يظهر منشأ التردد ، والأقوى البطلان ، ومسئلة الإجارة ان ثبتت فهي خارجة بدليل خارج ، انتهى.

أقول : ما فرضه المحقق (رحمه‌الله) هنا في المسئلة أظهر مما فرضه العلامة في الإرشاد ، حيث قال : «ولو شرط فيما سقت السماء النصف ، وفيما سقى بالناضح الثلث ، أو شرط مع الحصة جزء من الأصل بطل» انتهى.

فان وجه البطلان على هذا الفرض غير ظاهر ، الا من حيث الجهل بكل من النوعين ، كما تقدم في المورد الثاني ، فمع العلم بكل منهما في الجملة يصح.

وبالجملة فإن هذا الفرض من أفراد تلك المسئلة فلا يكون الحكم كليا ، كما هو ظاهر الأصحاب ، وبه يظهر أن ما فرضه في الشرائع ونحوه فرض المسئلة في القواعد أيضا أظهر.

بقي الكلام في التردد المذكور في الفرض الأول ، فإنه لا يبعد أن يقال بالصحة ، قوله ـ ان العمل مجهول ، والنصيب مجهول ـ قلنا : ان أريد الجهل من كل وجه فهو ممنوع ، لانه على كل من التقديرين معلوم ، والاختيار إليه في قبول أى العملين أراد ، وان أريد في الجملة أمكن أن يقال : انه غير مانع ، لان بناء هذه المعاملة انما وقع أيضا مع المجهولية في الحصة كما صرحوا به ، فالجهل في الجملة غير ضائر ، وقد تقدم نظيره في مسئلة البيع بثمن مال معجلا بأزيد منه مؤجلا وان كان المشهور بينهم البطلان ثمة ، الا أن الرواية الصحيحة دلت على الصحة ، وان كان فيها اشكال من وجه آخر كما تقدم تحقيقه في المسئلة المذكورة.

وبالجملة فالمسئلة لخلوها من النص الواضح غير خالية من التردد ، والاشكال

٣٧٤

وان كان الأقرب هو الصحة ، لما ذكرناه ، ويؤيده أيضا ما ذكره من صحة الإجارة في أمثال الخياطة ، والله العالم.

الفصل الثاني في الأحكام :

وفيه مسائل الأولى ـ المشهور في كلامهم أن كل موضع يحكم بفساد المساقاة فيه فللعامل أجرة المثل ، وللمالك جميع الثمرة ، أما الثاني فلأنها نماء ملكه ، ولم يحصل ما يوجب نقلها أو نقل شي‌ء منها ، لظهور فساد العقد الموجب لانتقال الحصة إلى العامل ، وأما الأول فلأنه لم يتبرع بعمله ، وانما دخل فيه بناء على الحصة المشترطة له ، والحصة لم تسلم له لفساد العقد ، فلا بد لعمله من عوض وأجرة ، فوجب الرجوع الى أجرة المثل ، الا أنه ينبغي تقييده بأمرين : أحد هما ـ أن يكون جاهلا بالفساد ، إذ لو كان عالما به ومع هذا أقدم على العمل كان متبرعا بعمله ، والمتبرع لا شي‌ء له شرعا ، وثانيهما أن لا يكون الفساد باشتراط المالك جميع الثمرة له ، لانه مع فرض ذلك قد دخل على أن لا شي‌ء له من الثمرة ، وان كان جاهلا يكون ذلك مفسدا للعقد.

وبالجملة فإنه على الفرضين المذكورين قد أقدم على العمل عالما بأنه لا يستحق أجرة ولا حصة ، ثم ان ما ذكرناه من وجوب أجرة المثل في صورة الجهل بالفساد وعدم الفساد باشتراط المالك الثمرة لنفسه ، هو الظاهر من كلام جل الأصحاب كما أشرنا إليه آنفا.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني أن الواجب أقل الأمرين من الحصة المشترطة وأجرة المثل ، قال بعد الكلام في المسئلة : ينبغي على ما قررناه أن يثبت للعامل أقل الأمرين من الحصة المشترطة ، وأجرة المثل ، لأن الأقل ان كان هو الأجرة فظاهر ، لان فساد العقد أسقط الحصة ، فيرجع الى الأجرة ، وان كان الأقل هو الحصة فالعامل أقدم على أن لا يكون له سواها في مقابلة عمله ، حتى لو كانت في مقابلة عشر العمل ، لكان مسقطا للزائد ، فيكون متبرعا بالزائد على هذا التقدير ،

٣٧٥

كما يتبرع على تقدير اشتراط جميع الثمرة للمالك ، وعلى تقدير علمه بالفساد.

ثم قال : ويمكن أن يجاب بالفرق بين الموضعين فإنه على هذا التقدير لم يقدم على التبرع بعمله أصلا ، بل كما يحتمل أن يكون الحصة قاصرة عن مقابلة العمل ، يحتمل مساواتها له وزيادتها عليه أضعافا مضاعفة ، فهو قادم على عمل محتمل للزيادة والنقصان ، فليس متبرعا به مطلقا وان احتمل قصوره في بعض الأحوال ، بخلاف العالم وشرط جميع الحصة للمالك ، فإنه قادم في ابتداء الأمر على التبرع المحض على كل تقدير.

وهذا الفرق لا بأس به ، وان كان ما اقتضاه البحث متوجها أيضا ، وأكثر الأصحاب أطلقوا وجوب أجرة المثل مع الفساد ، وفيه تردد ، انتهى.

أقول : لقائل أن يقول في تأييد القول المشهور وبيان أنه صحيح عار عن القصور : أن الحصة انما وجبت وتعينت بحيث لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان من حيث اشتراطها في العقد ، ولما بطل العقد بطل التعلق بها والرجوع إليها ، وان كان المالك قد رضى بها في العقد على تقدير صحته ، وصار الحكم مبنيا على قاعدة أخرى من كونه عملا موجبا للأجرة ، وأن الداخل فيه انما دخل بذلك ، ولكن لم تسلم له لظهور استحقاقها أو فسادها فلا بد لعمله من أجرة ، ورضى العامل بتلك الحصة على تقدير صحة العقد لا مدخل له هنا ، لان تلك المعاملة قد بطلت ، ورجعنا الى مسئلة أخرى كما ذكرناه ، وهذا حق أوجبه له الشارع ، بناء على الغرض المذكور ، ورضاه بأقل منه لو كان في تلك المال لا يوجب الحكم عليه به هنا ، الا أن يتجدد منه رضا آخر بذلك.

وقد تقدم نظير ذلك في المزارعة في مسئلة ما لو اختلفا في المزارعة أو العارية ، بأن ادعى المالك المزارعة وادعى العامل العارية ، والله العالم.

الثانية ـ قالوا : إذا استأجر المالك أجيرا للعمل بجزء من الثمرة ، فإن كان قبل ظهورها بطلت الإجارة من غير خلاف ، لما قرر عند هم من أن عوض

٣٧٦

الإجارة يجب أن يكون موجودا معلوما كعوض المبيع ، والحال أنه هنا ليس كذلك كما هو المفروض ، وجواز ذلك في المساقاة ، حيث أنهم قد اتفقوا على جواز العوض فيها مع الجهالة ، وعدم الوجود خرج بالنص والإجماع ، مؤيدا بمساس الحاجة الى ذلك ، وان كان بعد ظهورها ، فان كان بعد بدو صلاحها جاز بلا اشكال ولا خلاف ، وان كان قبل بدو الصلاح فإنهم بنوا الحكم هنا فيها على جواز نقلها بالبيع في هذه الحال ، وقد تقدم الكلام في ذلك في الفصل الثامن في بيع الثمار من كتاب البيع (١) وذكر الخلاف في جواز البيع مطلقا أو عدم الجواز إلا بأحد أمور ثلاثة ضم ضميمة إليها ، أو شرط القطع ، أو عامين فصاعدا ، ومن ثم ان المحقق هنا اختار القول بالجواز بعد ظهورها ، وقبل بدو صلاحها ، بشرط القطع ، حيث ان مذهبه في البيع ذلك ، الا أن الواجب عليه كان أن يذكر الضميمة ، مضافة الى القطع ، والتخيير بينهما كما هو مذهبه ثمة.

ولهذا اعترضه في المسالك بذلك ثم اعتذر عنه بما هو مذكور هناك ، والعلامة في القواعد صرح بالجواز مطلقا ، فقال : ولو استأجره على العمل بحصة منها أو بجميعها بعد ظهورها ، والعلم بقدر العمل جاز ، والا فلا.

وأنت خبير بما في الحكم المذكور من الاشكال لعدم الدليل الواضح في هذا المجال ، والحمل على البيع كما ذكروه محض قياس لا يوافق أصول الشريعة ، سيما مع ما قدمنا من الإشكال ، في اشتراط القطع في مسئلة البيع.

بقي هنا اشكال آخر أيضا في هذه الصورة على تقدير كون الأجرة جزء من الحاصل ، فإنه متى قيل بصحة الإجارة هنا بشرط القطع ، والحال أن الثمرة مشتركة بين العامل والمالك ، فإن الشركة تمنع من التسلط على القطع ، فيتعذر التسليم لتوقف جواز القطع على اذن الشريك ، ومن ثم قيل : في هذه الصورة بعدم الصحة ، وقيل : بالصحة وهو اختيار المحقق في الشرائع نظرا إلى إمكان

__________________

(١) ج ١٩ ص ٣٢٥.

٣٧٧

القطع والتسليم بالاذن ، كما في كل مشترك ولو فرض امتناع الشريك من الاذن يمكن اذن الحاكم الشرعي ، والى هذا القول مال الشارح أيضا فحكم بأنه الأصح ، أما لو كان الأجرة مجموع الحاصل فإنه لا اشكال لاندفاع المحذور المذكور ، وكذا لو اكتفى بالضميمة عن اشتراط القطع كما أشرنا إليه ، فإنه يندفع ذلك أيضا ، إلا أنك قد عرفت ما فيه من الاشكال.

وكيف كان فإنه يشترط تعيين العمل المستأجر عليه كما هو مقتضى قاعدة الإجارة ، واليه يشير قوله في القواعد «والعلم بقدر العمل» والله العالم.

الثالثة ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا قال : ساقيتك على هذا الحائط بالنصف على أن أساقيك على هذا الأخر بالثلث بطلت ، لأنهما بيعان في بيعة ، فإنه ما رضي أن يعطيه من هذا النصف الا أن يرضى منه بالثلث من الأخر ، وهكذا في البيع إذا قال : بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني عبدك بخمس مأة ، فالكل باطل ، لان قوله : على أن تبيعني عبدك بخمس مأة ، انما هو وعد من صاحب العبد بذلك ، وهو بالخيار بين الوفاء به وبين الترك ، فإذا لم يف به سقط ، وهذا ما رضي أن يبيعه بألف الا أن يشترى منه العبد بخمس مأة ، فقد نقصه من الثمن لأجله ، فإذا بطل ذلك رددنا الى الثمن ما نقصناه لأجله ، وذلك المردود مجهول ، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم كان الكل مجهولا ، فلهذا بطل ويفارق هذا إذا قال : ساقيتك على هذين الحائطين بالنصف من هذا ، والثلث من هذا ، حيث يصح ، لأنه صفقة واحدة وعقد واحد ، وليس كذلك هيهنا ، لأنهما صفقتان في صفقة ، ألا ترى أنه لو قال : بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني عبدك بمأة بطل الكل ، ولو قال : بعتك داري هذه وعبدي هذا معا بألف ، الدار بستمأة والعبد بأربعمائة صح ، وكان الفصل بينهما ما مضى ، انتهى.

ورده جملة ممن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما ممن تأخر عنهما بما سيأتي ذكره.

٣٧٨

وابن الجنيد عكس الحكم الذي ذكره الشيخ فجوز ما منعه الشيخ ، ومنع ما جوزه ، حيث قال : ولا اختار إيقاع المساقاة صفقة واحدة على قطع متفرقة ، بعضها أشق عملا من بعض ، الا أن يعقد ذلك على واحدة ، ويشترط في العقد على العقد الأخرى.

قال في المختلف بعد نقل كلامي الشيخ وابن الجنيد : والوجه عندي جواز جميع هذه العقود في البيع والمساقاة ، وقد مضى البيع وبينا صحته ، والشيخ أيضا جوزه في موضع من المبسوط ، وهو الحق ولا جهالة هنا.

وقال في المسالك بعد ذكر ملخص كلام الشيخ وكلام ابن الجنيد : والأقوى صحة الجميع ، ونمنع الجهالة التي ادعاها الشيخ ، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وما يتضمنه من الشرط كالجزء منه ، ووجوب الوفاء بالشرط ، ولو فرض عدم الوفاء لا يقتضي ذلك رد الناقص من الثمن كما ادعاه ، بل يسلط المشروط له على الفسخ ، كما في الإخلال بغيره من الشروط.

وأما ابن الجنيد (رحمه‌الله) فلم يذكر على ما ادعاه دليلا ، ومقتضى الأصل جواز الأمرين ، معا ، انتهى وهو جيد.

وبالجملة فإن مقتضى الأصول والقواعد الشرعية صحة العقد المذكور ، مع ما شرط فيه كغيره من العقود المشروطة بشروط سائغة فيصح العقد ويجب الوفاء بالشرط بمعنى أنه يلزم ذلك لوقوعه في عقد لازم ، فلو لم يف بالشرط تسلط الأخر على الفسخ على أحد القولين ، أو مع عدم إمكان جبره على القيام بالعقد وما اشتمل عليه من الشرط كما هو القول الأول فيأثم على هذا القول بالإخلال بذلك كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع ، وأولى منه بالجواز ما منعه ابن الجنيد والله العالم.

الرابعة ـ لو كانت الأصول لمالكين فساقيا واحدا إما بإيقاع العقد منهما معا أو من أحد هما أصالة ووكالة ، فلا يخلو إما أن يكون الحصة المشترطة للعامل منهما سواء كالنصف أو الثلث كان يقول أحدهما : ساقيتك على هذه الأصول أصالة ووكالة

٣٧٩

بنصف حاصلها ولا إشكال في الصحة ، سواء علم العامل بقدر حصة كل منهما أم لم يعلم ، لان حصته معلومة من الجميع ، والجميع معلوم له أيضا ، فلا يضره الجهل بحصة كل منهما أو تكون متفاوتة ، بأن شرط له أحدهما النصف ، والأخر الثلث فقال :

ساقيتك من نفسي وعن شريكي على هذه الأصول على أن لك من حصتي النصف ومن حصة شريكي الثلث ، فلا بد في صحة العقد من علم العامل بحصة كل واحد ، لئلا يتجهل حصته لأنه بمنزلة عقدين فلو ساقاه والحال هذه بطلت المساقاة ، ورجعت الثمرة إلى المالكين ، وكان للعامل أجرة المثل كما تقدم ذكره.

قال في المسالك بعد البحث في المقام : ولا فرق على تقدير العلم بحق كل واحد بين الاثنين والزائد عليهما ، فلو كان بستانا واحدا بين ثلاثة بالسوية فساقوا عليه واحدا يعلم بقدر النصيب على أن له من نصيب واحد النصف ، ومن نصيب الثاني الربع ، ومن نصيب الثالث الثمن ، صح ، وتصح مسألتهم من أربعة وعشرين مخرج السهام في عدد الشركاء ، لكل واحد منهم ثمانية ، فللعامل من حصة الأول أربع ، ومن الثاني اثنان ، ومن الثالث واحد ، والباقي لهم على التفاوت المقرر ، ولو كانت البستان لستة ملاك بالسوية وساقوا عليه على أن له من نصيب واحد النصف ، ومن نصيب الثاني الربع ، ومن الثالث الثمن ، ومن الرابع الثلثين ومن الخامس الثلث ، ومن السادس السدس ، صح وتصح مسألتهم من مائة وأربعة وأربعين لكل واحد منهم أربعة وعشرون فيأخذ العامل ممن شرط له النصف اثنتي عشر ، ومن الثاني ستة ، ومن الثالث ثلاثة ، ومن الرابع ستة عشر ، ومن الخامس ثمانية ، ومن السادس أربعة ، فيجتمع له تسعة وأربعون ، وللمالك خمس وسبعون يتفاوتون فيها على ما تقرر ، وطريق بلوغها ذلك أن مخارج الثلاثة الأولى متداخلة يكفي فيها مخرج الثمن ومخارج الثلاثة الأخيرة متداخلة يكفي فيها مخرج السدس ، فتبقى ستة وثمانون ، وبينهما موافقة بالنصف تضرب نصف أحدهما في الأخر ثم تضرب المرتفع ، وهو أربعة وعشرون في عدد الشركاء ، وقس على

٣٨٠