الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

للتعليل المذكور فيهما.

ومفهوم هذا التعليل بناء على ما ذكرنا أنه لو لم يكن مملوكة ولا مستحقة لأحد قبله ، فإنه يملكها ويستحقها ، لكون عرقه عرق غير ظالم ، ومرجعه الى كون تصرفه شرعيا ، وبه يظهر الإشكال في انطباق الاستدلال بمفهوم الخبر على المدعى في هذا المقام ، لان التصرف هنا وان كان شرعيا بالنظر الى مدة الإجارة ، فيدخل تحت مفهوم الخبر الا أنه بعد انقضاء المدة وزوال الموجب لصحة التصرف ، لا يمكن دخوله تحت المفهوم المذكور ، ومحل البحث والنزاع انما هو هنا ، لا فيما تقدم من التصرف في المدة.

فقول المحقق المتقدم ذكره أنه ثبت بالعقل والنقل أن لعرق المحق وغير ظالم حق ، والعامل غير ظالم ، فلعرقه حق ، ان أراد بالنسبة إلى مدة الإجارة فمسلم ، ولكن لا يجدى نفعا وان أراد بعد انقضائها فهو عين البحث ومحل النزاع ، فلا يخرج كلامه عن المصادرة ، فان شمول المفهوم المذكور له غير متجه ، إذ لا ريب انه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، ولهذا اضطروا الى القول بالأجرة فرارا مما ذكرناه ، فكيف يدخل تحت المفهوم المذكور ، وانه محق وغير ظالم ، فيكون لعرقه حق.

ولو قيل : ببطلان هذا العقد من أصله لم يكن بعيدا من الصواب : لعدم الدليل عليه بالخصوص ، وخروجه عن مقتضى قواعد الإجارة ، فلا يتناوله عموم أدلتها ، فإن من قواعد الإجارة قصر جواز التصرف على مدة الإجارة ، وهذا العقد على هذا الوجه المذكور خارج عن ذلك ، فلا يدخل تحت عموم أدلتها.

واللازم منه على تقدير الحكم بصحته أحد المحذورين ، اما تضرر المستأجر بقلع الغرس مجانا كما هو مقتضى القول الثاني ، أو جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه كما هو مقتضى القول الأول وهو أشد إشكالا.

والالتجاء في المخرج عن ذلك ـ الى ما ذكروه من وجوب تبقيته بالأجرة

٣٢١

أو جواز قلعه بالأرش جمعا بين الحقين ـ انما يصح إذا دل دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع ، بناء على قواعدهم ، ولا شي‌ء من هذه الثلاثة في المقام ، فاللازم منه إثبات حكم بلا دليل ، وهو مما منعت منه الآيات المتكاثرة ، والروايات المتظافرة ، ولو صح الرجوع في ذلك الى العقل لأمكن ما ذكروه ، لاندفاع الضرر من الجانبين والجمع بذلك بين الحقين ، ولكن قد علم من الآيات القرآنية والسنة النبوية أنه لا يجوز بناء الأحكام الشرعية الا على ما ظهر منهما من الأدلة الواضحة الجلية ، والله العالم.

إلحاق

أقول : ما ورد في الخبر المتقدم من «أنه ليس لعرق ظالم حق» (١). قد ورد مثله من طريق العامة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو محتمل لتنوين عرق ، فيكون ظالم صفة له ، واضافة عرق فيكون ظالم مضافا اليه.

قال في النهاية الأثيرية (٢) وفي حديث احياء الموات «ليس لعرق ظالم حق» هو أن يجي‌ء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله ، فيغرس فيها غرسا غصبا ليستوجب به الأرض والرواية لعرق بالتنوين وهو على حذف مضاف : أي لذي عرق ظالم ، فجعل عرق نفسه ظالما والحق لصاحبه ، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق ، وان روى عرق ظالم بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق ، والحق للعرق ، وهو أحد عروق الشجرة انتهى.

الخامسة ـ قد صرحوا بأنه تصح المزارعة إذا كان من أحدهما الأرض حسب ، ومن الأخر البذر ، والعمل والعوامل ، وكذا لو كان من أحدهما الأرض والبذر ومن الأخر العمل ، أو كان من أحدهما الأرض والعمل ، ومن الأخر البذر خاصة.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣١١ باب ٣ ح ١.

(٢) النهاية ج ٣ ص ٢١٩ ط القاهرة سنة ١٣٨٥.

٣٢٢

وبالجملة فإن هنا أمورا أربعة ، الأرض ، والبذر ، والعمل ، والعوامل ، والضابط أن الصور الممكنة في اشتراك هذه الأربعة بينهما كلا أو بعضا جائزة ، لإطلاق الاذن في المزارعة من غير تقييد بكون بعض ذلك بخصوصه من أحدهما.

أقول : ومن الاخبار التي تتعلق بذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن إبراهيم بن أبى زياد الكرخي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أشارك العلج «المشرك» فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ، ويكون على العلج القيام والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيرا وتكون القسمة ، فيأخذ السلطان حقه ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث ، ولي الباقي قال : لا بأس بذلك الحديث.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن يعقوب بن شعيب (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها الى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدى خراجها وما كان من فضل وهو بينهما ، قال : لا بأس ـ الى أن قال ـ : وسألته عن المزارعة فقال : النفقة منك والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله من شي‌ء قسم على الشطر ، وكذلك أعطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خيبر حين أتوه ، فأعطاهم إياها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت».

وما رواه في الكافي عن سماعة (٣) في الموثق قال : سألته (عليه‌السلام) عن مزارعة المسلم المشرك فيكون من عند المسلم البذر والبقر ، وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج؟ قال : لا بأس». ونحوها موثقة (٤) أخرى له

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢١ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٦ ح ٩ ، لفظ المشرك ليس في الكافي والتهذيب.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ باب ١٠ ح ١ و ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٤ باب ١٢ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٩٤ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٤ باب ١٢ ح ٢.

٣٢٣

أيضا ، والظاهر من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو ما قدمناه من الضابط المتقدم ، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، فيما إذا كان عقد المزارعة بين اثنين خاصة فإنه لا خلاف في الصحة.

وانما الخلاف فيما إذا زاد عليهما ، قال في القواعد بعد ذكر نحو هما ذكرناه في مزارعة الاثنين : وفي صحة البذر من ثالث نظر ، وكذا إذا كان البذر من ثالث ، والعوامل من رابع.

وقال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك أيضا : هذا إذا كانا اثنين خاصة ، فلو جعلا معهما ثالثا وشرطا عليه بعض الأربعة ، أو رابعا كذلك ففي الصحة وجهان : من عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، والكون مع الشرط ، ومن توقف المعاملة سيما التي هي على خلاف الأصل على التوقيف من الشارع ، ولم يثبت عنه مثل ذلك ، والأصل في المزارعة قصة خيبر ، ومزارعة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اليهود عليها على أن يزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ، وله (عليه‌السلام) شطره الأخر ، وليس فيها أن المعاملة مع أكثر من واحد ، وكذلك باقي النصوص التي وردت من طرقنا ، ولان العقد يتم باثنين موجب وهو صاحب الأرض ، وقابل ، فدخول ما زاد يخرج العقد عن وضعه ، ويحتاج إثباته إلى دليل ، والأجود عدم الصحة انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلامه (رحمة الله عليه) من تطرق البحث اليه ، والإيراد عليه ، أما أولا فإن ما استند اليه في منع أكثر من اثنين ـ من توقف هذه المعاملة على التوقيف من الشارع بمعنى دليل خاص ـ فهو خلاف ما يستندون إليه في أكثر الأحكام من التمسك بعموم الأدلة وإطلاقاتها ، كما لا يخفى على من له أنس بالاطلاع على أقوالهم ، وخاض في بحور استدلالهم.

وأما ثانيا فان ما ادعاه من أن معاملة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع أهل خيبر لا تدل على أن المعاملة مع أكثر من واحد من أعجب العجاب عند ذوي

٣٢٤

الألباب ، لاستفاضة الأخبار بأنه بعد فتح خيبر أقر الأرض في أيدي الذين فيها وقاطعهم بالنصف يعنى جميع من كان فيها من اليهود لا شخصا بعينه منهم ، أو اثنين أو ثلاثة مثلا ، ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب (١) المذكورة هيهنا ، وقوله فيها «أعطاهم إياها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت». وفي حديث الكناني (٢) قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما فتح خيبر تركها في أيديهم على النصف ، فلما بلغت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة إليهم ، فخرص عليهم فجاؤا إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالوا : انه قد زاد علينا فأرسل الى عبد الله وقال : ما يقول هؤلاء؟ قال : قد خرصت عليهم بشي‌ء ، فإن شاؤا يأخذون بما خرصنا وان شاؤا أخذنا ، فقال رجل من اليهود : بهذا قامت السماوات والأرض».

وفي معناه غيره من الاخبار الكثيرة ، فهل ترى هنا بعد ذكرهم بطريق الجمع في هذه الموارد مجالا للحمل على واحد منهم ، بل الظاهر لكل ناظر انما هو دفع الأرض إليهم كملا بعد فتحها وأخذها عنوة ، على أن يزرعوها بالمناصفة ، وهذا هو الذي عليه العمل الان في جميع الأصقاع والبقاع وذكر الاثنين في أكثر الاخبار انما خرج مخرج التمثيل ، لا الحصر.

وأما ثالثا فان كون العقد يتم باثنين موجب وقابل لا ينافي التعدد في جانب كل منهما كما في سائر العقود من بيع وغيره ، بأن يوجب عنه وعن غيره ، ويقبل كذلك فان قيل : انه قد ثبت ذلك بدليل من خارج ـ قلنا : وهذا قد ثبت بعموم أدلة المزارعة ، ولا سيما قضية خيبر كما عرفت ، على أنك قد عرفت في كتاب البيع أن ما ذكروه من العقد المشتمل على الإيجاب والقبول بالنحو الذي تقدم ذكره عنهم لا دليل عليه ، وانما الذي دلت عليه الاخبار هو مجرد التراضي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٣ ح ٢ ، مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٩ ح ١.

٣٢٥

بالألفاظ الجارية بينهم ، وكلامه انما يتم على الأول كما هو المشهور بينهم ، مع أنك قد عرفت أنه لا دليل عليه.

قال المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) في هذا المقام : ونعم ما قال وأيضا لا خصوصية بالاثنين فيجوز بين الثلاثة وما زاد لما تقدم ، وليست المعاملة مطلقا ، ولا هذه موقوفة على النص الخاص شرعا ، بل يكفى العموم ، ولهذا ليس في شي‌ء من المعاملات بخصوصه دليل شرعي ، كيف ولو احتاج الى ذلك لا شكل الأمر ، فإنه معلوم عدم ورود نص في كل صنف صنف من كل معاملة ، مع العلم بالمغايرة بمثل هذه ، أى كون المعاملين أكثر من الاثنين ، وهو الظاهر ولهذا يجوزون النكاح من الزوج فقط ، بأن يكون موجبا وقابلا معا مع عدم نص بخصوصه فيه مع وجوب الاحتياط في الفروج ، وكذا يجوزون في الطلاق كون المطلق زوجته بالوكالة ، مع عدم دليل بخصوصه ، ومنع البعض الوكالة في الطلاق مع الحضور ، ومنع البعض وكالة النساء خصوصا المطلقة وغيرها مع عدم نص ، بل ورد نص بعدم جواز الاتحاد في النكاح ، وليس لهم دليل الا عموم العقود وصدق النكاح مع عدم ثبوت المنع.

وبالجملة أمثاله كثيرة جدا ولا يشترطون فيه النقل بخصوصه ، وأنه لو شرط لبطل أكثر ما ذكروه ، فقول الشارح في شرح الشرائع بعدم الصحة ـ إذا زاد على الاثنين محتجا بأن القابل والموجب اثنان فيتم بهما ، ولا يتعدى الى الغير ، وأن دليل المزارعة خبر حكاية خيبر ، وليس فيه غير الاثنين ، وكذا غيره من الاخبار عندنا لما تقدم ـ غير ظاهر ، على أنه ما يظهر من حكاية خيبر وغيرها كونهما اثنين فقط ، بل هو أعم ، بل الظاهر أن أهل خيبر كانوا كثيرين ، فوقع بينه (عليه‌السلام) وبينهم.

وبالجملة ما ذكره نجده بعيدا جدا وهو أعرف انتهى.

السادسة ـ قال المحقق (رحمة الله عليه) في الشرائع ولو كان بلفظ الإجارة

٣٢٦

لم تصح لجهالة العوض ، أما لو آجرها بمال مضمون أو معين من غيرها جاز.

أقول : ما ذكره من قوله «ولو كان بلفظ الإجارة لم تصح لجهالة العوض» محتمل لمعنيين أحدهما ـ ما ذكره في المسالك قال (قدس‌سره) : لا إشكال في عدم وقوعها بلفظ الإجارة لاختلاف أحكامهما ، فإن الإجارة يقتضي عوضا معلوما والمزارعة تكفى فيها الحصة المجهولة ، انتهى.

وحاصله أنه يقصد بالعقد المزارعة ، ولكن يأتي بلفظ الإجارة ، وثانيهما ـ أن يقصد الإجارة لا المزارعة ، لكن جعل الأجرة الحصة ، فإنه لا يصح هذه الإجارة ، لوجوب العلم بالعوض في الإجارة ، والعوض هنا انما هو الحصة ، وهي مجهولة ، والظاهر أن هذا هو الأقرب في العبارة بقرينة قوله «أما لو آجرها» الى آخره ، فإنه ظاهر في أن المقصود انما هو الإجارة في كل من الموضعين ، لكنه في الأول جعل العوض الحصة ، وهي مجهولة فتبطل الإجارة لزوال شرطها وهو معلومية العوض ، وفي الثاني تصح ، وأيضا فإنه على تقدير أن يكون العقد مقصودا به المزارعة ، لكن أتى فيه بلفظ الإجارة كما ذكره ليس فيه أزيد من ارتكاب التجوز في التعبير عن المزارعة بلفظ الإجارة ، وهو جائز مع القصد اليه والقرائن الدالة عليه ، وإطلاق لفظ الإجارة وارادة المزارعة منه في الاخبار غير عزيز ، ومنه ما في صحيحة أبي المعزا (١) المتقدمة من قوله (عليه‌السلام): «أما إجارة الأرض بالطعام». فلا تأخذ نصيب اليتيم منه ، الا أن تؤاجرها بالربع والثلث والنصف كما تقدم تحقيق ذلك في إلحاق المذكور بعد الشرط الأول من المقام الأول من هذا المطلب.

السابعة ـ في جملة من أحكام التنازع ، منها ـ أن يتنازعا في المدة لما عرفت آنفا من أن المدة من جملة شروط هذه المعاملة ، وقد عرفت ما فيه ، قالوا : فلو تنازعا فيها فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه ، ولا ريب أن هذا مقتضى

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٧.

٣٢٧

القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، لأن الأصل عدم الزيادة.

وقيده بعض محققي متأخري المتأخرين بأن لا يكذبه العرف ، ولعله أراد بأن يدعى نقصان المدة عن وقت يدرك فيها الزرع يقينا ، حيث أن المعلوم عادة وعرفا أن القصد من المزارعة وبذل المال فيها هو الحاصل فلا بد أن يكون المدة تبلغ ذلك ولو ظنا ، فإذا ادعى ما يوجب نقصانها عن ذلك يقينا فإنه يكذبه العرف ولا بأس به ، لما عرفت في غير موضع مما تقدم من بناء الإطلاق على المعروف المتكرر عادة.

ومنها ما لو اختلفا في قدر الحصة ، فإنهم صرحوا بأن القول قول صاحب البذر ، وعلل بأن الحصة نماء ملكه ، والأصل بقائه على مالكه حتى يتحقق الانتقال شرعا ، فكان الحاصل في يد صاحب البذر حيث ثبت أنه له ، والمنازع خارج يدعيه فعليه البينة ، وحينئذ فالقول قول صاحب البذر بيمينه ، حيث عدمت البينة كما في المدة ، ولو أقام كل واحد منهما بينة بنى على الخلاف في تقديم بينة الداخل أو الخارج ، والمشهور الثاني.

وعلى هذا فالقول قول مالك الأرض في تقليل المدة ، والبينة بينة العامل في دعوى الزيادة ، وكذا القول قول صاحب البذر في قدر الحصة ، والبينة بينة الأخر ، وهو من لا بذر له في ذلك.

وقيل : هنا بالقرعة ، لأنها لكل أمر مشكل ، وفيه أنه لا اشكال هنا ، فان من كان القول قوله فالبينة بينة صاحبه ، كما هو مقتضى النصوص المتفق عليها.

ومنها ما لو اختلفا فقال الزارع : انها في يدي عارية ، فأنكر المالك وادعى الحصة أو الأجرة ، ولا بينة فالمشهور أن القول قول صاحب الأرض في نفى العارية بيمينه ، لانه منكر ، فيقدم قوله في ذلك ، والقول قول الزارع بيمينه في نفى الإجارة أو المزارعة ، لأنه منكر لهما ، وحينئذ فيحلف كل واحد منهما على نفى ما يدعيه الأخر ، وحيث انتفت الدعويان والحال أن الزارع قد تصرف في أرض غيره وانتفع بها ، فاللازم له أجرة المثل لذلك الزرع الى أو ان

٣٢٨

نزعه ، الا أنهم قيدوا أجرة المثل هنا بما إذا لم تزد على ما يدعيه المالك من الأجرة والحصة ، والا وجب له ما يدعيه خاصة ، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه ، ومرجعه إلى أقل الأمرين من أجرة المثل والمسمى في العقد.

وقيل : هنا بالقرعة وهو مجهول القائل ، ونسبه في التذكرة الى بعض علمائنا وفي المختلف حكاه بلفظ قيل ، والشراح أبهموه.

وكيف كان فهو ضعيف كما ذكره غير واحد من أصحابنا ، لأن القرعة انما هي مع اشكال الحكم ، وأما مع بيان وجهه ومعرفة طريقه فلا اشكال ، وطريقه هو ما ذكروه مما قدمنا نقله عنهم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في هذا المقام اشكالا من وجهين : الأول ـ ما ذكروه من وجوب أقل الأمرين من أجرة المثل وما يدعيه المالك من الحصة أو الأجرة ، لما ذكروه من التعليل ، فان فيه أولا أن أجرة المثل التي أوجبوها هنا الراجعة إلى أقل الأمرين كما عرفت انما صاروا إليها بعد الحكم ببطلان الدعويين الأوليين من كل من الطرفين بالتحالف ، وبطلان ما يترتب عليهما ، وحينئذ فالحكم بأجرة المثل هنا لا تعلق له باعتراف المالك ، لأنه لا يستحق أزيد من ذلك ، أو يستحق مثلا ، وانما فرض المسئلة ـ بعد بطلان الدعويين الأوليين ـ فرض ما لو لم يكن شي‌ء من هذين الدعويين ، وحينئذ فالواجب انما هو أجرة المثل زادت أم نقصت أم ساوت.

وثانيا ما أورده في المسالك حيث قال : واعلم أنه إذا كان الواجب للمالك بعد يمينه أقل الأمرين مما يدعيه وأجرة المثل ، وكان الأقل هو ما يدعيه ، فلا وجه ليمين الزارع ، لانه لو اعترف له بما يدعيه لم يكن له أزيد منه ، وكذا لو حلف أورد اليمين ، وما هذا شأنه لا فائدة فيه. نعم لو كان ما يدعيه أزيد من أجرة المثل اتجهت فائدة يمين الزارع ، لأنها تنفي الزائد مما يدعيه المالك عن الأجرة ، ولو ردها أو اعترف للزم الزائد انتهى.

٣٢٩

ولا يخفى ظهور ورود ما أورده عليهم ، وأما على ما ذكرناه فلا اشكال بحمد الله المتعال.

الثاني : انهم قد صرحوا في هذا الكتاب بهذه المسئلة أعنى مسئلة اختلاف الزارع والمالك في العارية والمزارعة والإجارة ، ونقلوا فيها القولين المتقدمين ، ولم يذكروا لهما ثالثا ، وفي كتاب العارية ذكروا المسئلة وهي اختلاف المالك والمستعير بأن المالك ادعى الإجارة والمستعير العارية ، وذكروا فيها قولين : أحدهما أن القول قول المستعير بيمينه ، لان المالك يدعي الأجرة ، والأصل عدمها.

والثاني أن القول قول المالك في عدم العارية ، فإذا حلف سقط دعوى المستعير ، وثبت عليه أجرة المثل ، ولم ينقلوا القول بالقرعة هناك ، وظاهر الأكثر منهم ترجيح القول الثاني ، وظاهر العلامة في القواعد التوقف ، حيث ذكر القولين المذكورين بطريق الاحتمال في المسئلة ، ولم يرجح شيئا منهما.

وأنت خبير بأن المسئلة واحدة في الكتابين ، والقولان المذكوران في كتاب العارية يجريان فيما هو مذكور في هذا الكتاب ، واستدل للقول الأول كما ذكره جملة منهم بأنهما قد اتفقا على أن تلف المنافع وقع على ملك المستعير ، وأن تصرفه فيها كان مباحا ، وانما يختلفان في أن ذلك بأجرة أم لا والأصل عدم الأجرة ، فإذا حلف الراكب على نفى الأجرة ثبت ذلك له.

وعلل القول الثاني بأن المنافع أموال كالأعيان فهي بالأصالة لمالك العين ، وادعاء المستعير ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل ، وأصالة براءة الذمة انما تصح من خصوص ما ادعاه المالك ، لا من مطلق الحق ، بعد استيفاء منفعة ملك غيره وحينئذ فيحلف على نفى العارية ، ويثبت له أجرة المثل بالتقريب المتقدم ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) ، في شرح الإرشاد تقوية القول الأول من هذين القولين ، حيث قال بعد ذكر التحالف من الطرفين كما صرحوا به في المسئلة المذكورة في هذا الكتاب : على نحو ما قدمناه ، وإن للمالك بعد

٣٣٠

ذلك أجرة المثل ، أو أقل الأمرين منها ومن المسمى : ما لفظه ، ويمكن أن يقال : لا يجوز له يعنى المالك أخذ شي‌ء ، لانه ادعى الحصة ، وقد سقطت باليمين ، فان الحق وعوضه لا يمكن الأخذ في الدنيا بعد الحلف ، كما هو المقرر عندهم ، ولانه لا يدعى عليه الا الحصة ، وقد ثبت شرعا نفيها ، ولا يدعى غيرها ، ويأخذه هو ، فكيف يكلف الشارع العامل بشي‌ء آخر ، بل قائل بعدمه ، فلا يحتاج الى التحالف ، بأن يحلف المالك بنفي العارية ، إذ ليس للعامل غرض في تلك الدعوى ، بل غرضه نفى الحصة ، وقد نفاها بيمينه.

وبالجملة لا شك أن المدعى هنا هو المالك للحصة فقط ، والعامل منكر ، وإذا حلف سقطت ، وليس للمالك دعوى أخرى ، فإن كانت مسموعة عمل بمقتضاها ، وليس للعامل غرض يتعلق بدعوى العارية ، بل غرضه نفى دعوى الحصة وقد حصل ، فلا تحالف فتأمل ، وسيجي‌ء مثله في دعوى الإجارة والعارية ، انتهى.

أقول : لقائل أن يقول : أن الغرض من دعوى العارية هو أنه لما ثبت من الشارع تحريم التصرف في مال الغير الا بوجه شرعي ، والا لكان ذلك موجبا للمؤاخذة دينار ودنيا ، أما في الدين فباستحقاق العقاب ، وأما في الدنيا فباستحقاق العوض ، احتاج العامل الى التعلق بشي‌ء يدفع عنه الأمرين ، فتعلق بدعوى العارية لذلك ، ومجرد كون دعوى العامل متضمنا لدفع الحصة وان غرضه من هذه الدعوى ذلك لا يخرجه عن كونه مدعيا يترتب عليه ما يترتب على المدعى ، حتى أنه يحصر المدعى في المالك ، وأن العامل منكر خاصة ، وحيث أن المالك ادعى الإجارة وطلب الأجرة المسماة في العقد بزعمه ، وحصل التحالف من الطرفين على نفى الدعويين بطل ما تقدم من الدعويين ، وما يترتب عليهما من الحكمين ، ورجعنا الى أن الأصل حرمة مال المسلم وعصمته عن تصرف غيره الا بوجه شرعي ، وحيث أن العامل قد تصرف بغير وجه شرعي

٣٣١

أوجبنا عليه أجرة المثل لذلك ، سواء زادت عما يدعيه سابقا أو نقصت كما قدمنا ذكره ، وان كان على خلاف ما صرحوا به كما عرفت.

وبالجملة فالمسئلة لخلوها عن النص الواضح محل اشكال ، وللنظر فيها مجال كما عرفت من اختلاف هذه الأقوال.

هذا كله فيما إذا وقع النزاع والاختلاف بعد تصرف العامل ، واستيفاء المنفعة كلا أو بعضا ، أما لو كان قبل ذلك فإنه متى تحالفا انتفت العارية والمزارعة والإجارة ، وحرم على العامل التصرف بلا خلاف ولا اشكال ، وحيث قد ثبت بناء على ما هو المشهور أن اللازم بعد التحالف انما هو أجرة المثل ، وحينئذ فيكون الاختيار في الزرع ببقائه الى أو ان الحصاد أو قصله قبل ذلك للزارع ، لما علم من أن أصل الزراعة وقع بوجه شرعي واذن من المالك باتفاق الخصمين ، وانما الخلاف في الأجرة وجودا وعدما ، فهو زرع بحق ، فلا يجوز للمالك قلعه بغير اذن مالكه ، مع أن إبقائه انما هو بأجرة لا مجانا ، والأجرة ثابتة من وقت الزرع الى وقت إزالته ، سواء كان وقت الحصاد أو قبله ، كذا ذكروه ، وعندي فيه إشكال ، لأنه وان كان أصل الزرع بالاذن أعم من أن يكون عارية أو إجارة مثلا ، الا أنه بعد التحالف قد بطل كل من دعوى العارية ودعوى الإجارة ، فكيف ترتب عليهما حكم جواز البقاء ، والحال أنه بعد التحالف قد زال الأمر الأول ، وهو الاذن المتفق عليه بل اللازم بمقتضى ذلك جواز قلع الزرع وإزالته ، وأجرة المثل انما هي لما مضى من المدة ، الا أن يتفقا على بقائه بأجرة وهو خارج عن محل البحث ، وحينئذ فينبغي أن يجوز للمالك إزالته ان لم يرض ببقائه بالأجرة.

وبالجملة فإن الحالين باعتبار التحالف وبطلان الدعويين قد اختلفا ، والاذن انما ثبت سابقا باعتبار عدم خلو الحال من صحة إحدى الدعويين ، ولما ثبت بالتحالف بطلانهما معا تغير الحكم والله العالم.

٣٣٢

ومنها ما لو اختلفا فقال العامل : أنها اعارة ، وقال المالك : انها غصب ، ولم يدع عقدا محللا كما تقدم ، فالقول هنا قول المالك بيمينه ، لأصالة عدم الإعارة ، وبقاء منافع أرضه على ملكه ، وعدم خروجها عنه بعارية ولا غيرها ، ومتى حلف على نفى دعوى العارية وثبت كون وضع الزرع فيها بغير وجه شرعي تخير المالك بين قلعه وبين مطالبته بأجرة المثل ، لما مضى من المدة ، وأرش الأرض ان نقصت ، وطم الحفر ونحو ذلك مما يلزم الغاصب كما يأتي إنشاء الله تعالى ـ في كتاب الغصب ، وان اتفقا على بقائه بأجرة جاز.

ونقل في المسالك عن التذكرة أنه يحلف العامل على نفى الغصب ، ولم يذكر يمين المالك ، ورتب باقي الأحكام ، ثم قال : والحق ما ذكر هنا من أن الحالف المالك على نفى العارية لا غير ، انتهى.

الثامنة ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز للعامل أن يشارك غيره في العمل بالحصة المعلومة ، وأن يزارع غيره من غير توقف على اذن المالك ، إذا لم يكن شرط عليه العمل بنفسه ، لما سيأتي في الإجارة ان شاء الله.

ولكن لا يسلم الأرض الا بإذن المالك ، والا كان ضامنا ، كما يأتي في الإجارة أيضا ، والأصل في ذلك عندهم انه لما كانت المزارعة من العقود اللازمة الموجبة لنقل منفعة الأرض إلى العامل بالحصة المخصوصة ، كان للعامل نقلها الى غيره ، والمشاركة فيها لعموم «الناس مسلطون على أموالهم» (١). فلا يتوقف ذلك على اذن المالك ، إذ لا حق له في المنفعة.

نعم تسليم الأرض يتوقف على اذنه كما عرفت ، واشترط بعضهم في جواز مزارعة غيره كون البذر من العامل ، ليكون تمليك الحصة منوطا به ، وبه يفرق بينه وبين عامل المساقات ، حيث لا يصح له أن تساقى غيره كما سيأتي ان شاء الله تحقيقه في المطلب الثاني ، ولان البذر ان كان من صاحب الأرض ، فالأصل أن

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.

٣٣٣

لا يتسلط عليه الا مالكه ، أو من أذن له وهو الزارع.

قال في المسالك : وهو حسن في مزارعة غيره ، أما المشاركة فلا ، لان المراد بها أن يبيع بعض حصته في الزرع مشاعا بعوض معلوم ، وهذا لا مانع منه لملكه لها فيتسلط على بيعها كيف شاء ، بخلاف ابتداء المزارعة ، إذ لا حق له حينئذ إلا العمل ، وبه يستحق الحصة مع احتمال الجواز مطلقا ، لان لزوم عقدها اقتضى تسلطه على العمل بنفسه وغيره ، وملكه للمنفعة ، والتصرف في البذر بالزرع ، وان لم يكن بنفسه ، حيث لا يشترط عليه الاختصاص ، فيجوز نقله الى الغير ، كما يجوز الاستنابة.

ويضعف بأن البذر حينئذ ليس ملكا له ، وانما هو مأذون في التصرف فيه بالزرع ، وبه يملك الحصة.

وقد يقال : ان هذا كاف في جواز مزارعة الغير ، لأنها عبارة عن نقل حقه في ذلك اليه ، وتسليطه على العمل ، فيجوز كما يجوز له التوكيل فيه والاستنابة وغيرها من الوجوه.

هذا كله إذا لم يشترط المالك العمل عليه بنفسه ، والا لم يجز المشاركة ولا المزارعة بحيث يصير العمل أو بعضه متعلقا بغيره.

ولا يرد أن ذلك يقتضي منع المالك من التصرف في ماله ، فيكون منافيا للشرع ، «لان الناس مسلطون على أموالهم» لأن ذلك حيث لا يعارضه حق غيره ، والا لم تتم الكلية ، ضرورة تخلفه في كثير كالراهن والمفلس ، انتهى.

وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا في موضعين : أحدهما ـ في الشرط المنقول عن بعضهم في جواز مزارعة غيره من أنه لا بد من كون البذر من العامل فلو كان من المالك لم تصح.

وثانيهما في ما ذكره في المسالك في بيان معنى المشاركة من أن المراد بها أن يبيع بعض حصته في الزرع الى آخره قال : واشترط بعض في هذا كون

٣٣٤

البذر من العامل ، وبه يفرق بين المزارعة والمساقاة ، حيث لا تجوز المساقاة من المساقى ، وتجوز المزارعة من العامل ، وعموم الأدلة ـ «وتسلط الناس على أموالهم» ، وتملك المنفعة والحصة مع العمل ، وعدم ظهور مانع ـ يفيد الجواز ولو كان في المساقاة ما يمنع من إجماع ونحوه فهو ، والا فينبغي القول به فيها أيضا ثم انه قيل : في شرح الشرائع : المراد بالمشاركة هو بيع العامل بعض حصته المعلوم من الحصة التي له من الأرض بعوض معين ، وهو انما يكون ببلوغ الزرع أو ان البيع ، ويكون الثمن غير العمل على الظاهر ، وظاهر العبارات أعم من ذلك ، بل غير ذلك ، فانا نفهم أن المراد أن يشارك غيره بأن يعمل معه العمل المشترط بعوض وغيره ، وكون العوض جزء من حصته ، فكأنه يرجع الى المزارعة في البعض ، أو إجارة شخص لعمل بعوض ، أو استعماله بغير عوض فتأمل ، انتهى.

أقول : وهو يرجع في التحقيق الى ما ذكره أخيرا في المسالك بقوله ، وقد يقال : «ان هذا كاف» الى آخره ، ولا بأس به والذي وصل الى من الاخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) عن سماعة (١) في الموثق قال : «سألته عن المزارعة قلت : الرجل يبذر في الأرض مائة جريب أو أقل أو أكثر طعاما أو غيره فيأتيه رجل فيقول : خذ منى نصف ثمن هذا البذر الذي زرعته في الأرض ، ونصف نفقتك على وأشركني فيه ، قال : لا بأس» وزاد في غير الفقيه «قلت : وان كان الذي يبذر فيه لم يشتره بثمن ، وانما هو شي‌ء كان عنده ، قال : فليقومه قيمة كما يباع يومئذ فليأخذ نصف الثمن ونصف النفقة ويشاركه». وما اشتملت عليه الرواية المذكورة أحد أنواع المشاركة وأفرادها ، وظاهرها أن البذر والعوامل والعمل كله من الزارع ، وأنه أعطاه نصف جميع ذلك ، فصار شريكه ، يعمل فيما بقي معه ، ويأخذ نصف ما شرط له من الحصة ، وهو ظاهر والله العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٣ «وفيه من الطعام» بدل طعاما ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٩ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٥ ح ١.

٣٣٥

التاسعة ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن خراج الأرض ومؤنتها على المالك الا مع شرطها أو بعضها على المزارع ، أما الخراج فلانه موضوع على الأرض ، كالأجرة لها بل هو أجرة ، حتى أنه روى أنه لو زاد السلطان في الخراج وأخذ من الزارع فالزيادة على المالك ، يجب عليه دفعها إليهم ، لأنها انما زيدت على أرضه.

روى ذلك الشيخ في التهذيب عن سعيد الكندي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انى آجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم قال : أعطهم فضل ما بينهما ، قلت : أنا لا أظلمهم ولم أزد عليهم ، قال : انهم انما زادوا على أرضك».

وأما المؤنة فذكرها المحقق والعلامة في بعض كتبه إجمالا ، ولم يتنبهوا على ما هو المراد منها ، مع أنهم أطلقوا أن العمل على الزارع أو من شرط عليه.

قال في المسالك : والظاهر أن المراد بمؤنة الأرض هنا ما يتوقف عليه الزرع ، ولا يتعلق بنفس عمله وتنميته ، كإصلاح النهر والحائط ونصب الأبواب إذا احتاج إليها ، واقامة الدولاب ، وما لا يتكرر في كل سنة كما فصلوه في المساقاة ، والمراد بالعمل الذي على الزارع ما فيه صلاح الزرع وبقاؤه مما يتكرر كل سنة ، كالحرث والسقي وآلاتهما ، وتنقية النهر من الحمأة ، وحفظ الزرع وحصاده ونحو ذلك ، انتهى.

هذا مع عدم اشتراطها على الزارع ، أما لو اشترطها المالك على الزارع كلا أو بعضا تعلقت بالزارع ، الا أن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك معلومية القدر المشروط وضبطه كلا أو بعضا ، حيث قال : فان شرط عليه لزم إذا كان القدر معلوما ، وكذا لو شرط بعضه معينا أو مشاعا مع ضبطه ، ولو شرط عليه الخراج فزاد السلطان فيه زيادة فهي على صاحب الأرض ، لأن الشرط لم يتناولها ، ولم يكن معلومة ، فلا يمكن اشتراطها ، انتهى.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١٠.

٣٣٦

أقول : المفهوم مما حضرني من الاخبار المتعلقة بهذه المسئلة خلاف ما ذكره (رحمه‌الله) وهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود بن سرحان (١) في الصحيح «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يكون له الأرض عليها خراج معلوم ، وربما زاد وربما نقص فيدفعها الى رجل أن يكفيه خراجها ويعطيه مأتي درهم في السنة ، قال : لا بأس». ورواه الصدوق في الفقيه عن يعقوب بن شعيب (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) مثله.

وما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (٣) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها الى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ، ويؤدى خراجها ، وما كان من فضل فهو بينهما ، قال : لا بأس».

وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في عدم ضرر جهالة الشرط المذكور هنا ، سيما الخبرين الأولين ، بل ورد ما هو أظهر اشكالا من ذلك مما يدل على جواز قبالة الأرض وإجارتها بما عليها من الخراج قل أو كثر.

كما رواه في الكافي عن إبراهيم بن ميمون (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قرية لا ناس من أهل الذمة لا أدرى أصلها لهم أم لا غير أنها في أيديهم ، وعليهم خراج ، فاعتدى عليهم السلطان ، فطلبوا إلي فأعطوني أرضهم وقريتهم أن أكفيهم السلطان بما قل أو كثر ففضل لي بعد ذلك فضل ، بعد ما قبض السلطان ما قبض قال : لا بأس بذلك لك ما كان من فضل».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٥٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٢ ح ٢.

٣٣٧

وما رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن سرحان (١) قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القوم يدفعون أرضهم الى رجل فيقولون له كلها وأد خراجها ، قال : لا بأس به ، إذا شاءوا أن يأخذوها أخذوها».

وما رواه في الفقيه عن أبى الربيع (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في رجل يأتي أهل قرية وقد اعتدى عليهم السلطان وضعفوا عن القيام بخراجها ، والقرية في أيديهم ولا يدرى هي لهم أم لغير هم فيها شي‌ء ، فيدفعونها اليه على أن يؤدى خراجها فيأخذها منهم ويؤدى خراجها ، ويفضل بعد ذلك شي‌ء كثير ، فقال : لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم بذلك».

وهي ظاهرة في جهالة مال الإجارة ، إذ ليس لهذه الاخبار محمل على غير الإجارة ، وهذه الاخبار مما يؤيد القول بالاكتفاء بمعلوميتها في الجملة ، خلافا لظاهر المشهور من اشتراط معلوميتها تفصيلا بالكيل لو كانت مكيلة ، والوزن كذلك ونحو ذلك ، وسيأتي تحقيق المسئلة ـ ان شاء الله تعالى ـ في محلها والله العالم.

العاشرة ـ قد صرحوا بأنه في كل موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة ، فإنه يجب لصاحب الأرض أجرة المثل ، وهو مبنى على ما إذا كان البذر من الزارع ، لان الحاصل حينئذ يكون له ، حيث أنه نماء بذره ، ويجب لصاحب الأرض عليه أجرة مثله ، لتصرفه فيها وأخذه منفعتها من غير أن يكون ذلك تبرعا ولا بتعيين أجرة ، فيلزم العوض وهو أجرة المثل.

وأما لو كان البذر لصاحب الأرض فإن النماء يكون له لما عرفت ، وعليه للعامل أجرة المثل بالنسبة إلى العمل ، والعوامل والآلات.

ولو كان البذر منهما معا أنصافا مثلا ، فالحاصل بينهما كذلك ، ولكل منهما

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٦٤ لكن عن أبى بردة بن رجا ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٢ ح ٣.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٥٨ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٢ ح ٤.

٣٣٨

على الأخر أجرة ما يخصه على نسبة ما للآخر من الحصة ، فلو كان البذر بينهما أنصافا كما فرضناه رجع المالك بنصف أجرة أرضه على العامل ، ورجع العامل على المالك بنصف أجرة عمله وعوامله وآلاته.

وعلى هذا القياس لو كان البذر من ثالث بناء على جواز المزارعة مع الزيادة على اثنين ، فان الحاصل له ، وعليه أجرة المثل بالنسبة إلى الأرض لصاحبها ، وأجرة المثل لعاملها بالنسبة إلى عمله وعوامله وآلاته والله العالم.

الحادية عشر ـ قد صرحوا بأنه يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على الزارع ، والزارع بالخيار في القبول والرد فان قبل كان استقراره مشروطا بالسلامة ، فلو تلف الزرع بآفة سماوية أو أرضيته لم يكن عليه شي‌ء.

أقول : اما جواز الخرص وتخيير الزارع بين القبول وعدمه فيدل عليه جملة من الاخبار ، مضافا الى ظاهر اتفاق الأصحاب ، ومنها أخبار خيبر ، وقد تقدم في المسئلة الخامسة خبر الكناني ، الدال على خرص عبد الله بن رواحة عليهم ، وتخييرهم.

ومثلها صحيحة يعقوب بن شعيب (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) وفيها فلما بلغت الثمرة أمر عبد الله فخرص عليهم النخل ، فلما فرغ منه خيرهم فقال : قد خرصنا هذا النخل بكذا صاعا فإن شئتم فخذوه وردوا علينا نصف ذلك ، وان شئتم أخذناه وأعطينا كم نصف ذلك ، فقال اليهود بهذا قامت السموات والأرض.

وأما ان ذلك يكون لازما له بعد القبول ، وبموجب ذلك يكون الزيادة له والنقص عليه فيدل عليه ما رواه في الكافي والفقيه (٢) عن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه ، قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : ان لنا أكرة فنزارعهم فيجيؤن ويقولون لنا : قد حزرنا هذا الزرع بكذا وكذا فأعطوناه ، ونحن نضمن لكم أن نعطيكم حصتكم على هذا الحزر فقال : وقد بلغ؟ قلت : نعم قال :

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠ ح ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩ ح ٤.

٣٣٩

لا بأس بهذا ، قلت : فإنه يجي‌ء بعد ذلك فيقول لنا : ان الحرز لم يجي‌ء كما حزرت وقد نقص ، قال : فإذا زاد يرد عليكم؟ قلت : لا قال : فلكم أن تأخذوه بتمام الحرز كما أنه إذا زاد كان له كذلك إذا نقص كان عليه.

وما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن مسلم (١) عن أبى جعفر وأبى عبد الله (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يمضى ما خرص عليه في النخل؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت ان كان أفضل مما خرص عليه الخارص أيجزيه ذلك؟ قال : نعم».

وقد صرح الأصحاب بأن محل الخرص بعد بلوغ الغلة ، وهو عبارة عن انعقاد الحب ، واليه يشير قوله في صحيحة يعقوب المذكورة «فلما بلغت الثمرة» وقوله في مرسلة محمد بن عيسى قال «وقد بلغ قلت : نعم قال : لا بأس».

وأما ان استقراره مشروط بالسلامة بمعنى أنه لو تلفت الغلة بآفة من جهة الله تعالى فلا شي‌ء عليه ، ولو تلف البعض فبالنسبة ، فالأخبار خالية منه ، مع ظهور منافاة ذلك الحكم باللزوم بعد القبول كما عرفت ، الا أن ظاهر الأصحاب عدا ابن إدريس الاتفاق على الحكمين المذكورين.

قال في المسالك ـ بعد أن ذكر أن المشهور ان لزوم العوض فيه مشروط بالسلامة ـ ما لفظه والحكم بذلك هو المشهور بين الأصحاب ، ومستنده غير واضح وحكمه لا يخلو من اشكال ان لم يكن انعقد عليه الإجماع ، وانى لهم به ، وانما هو شي‌ء ذكره الشيخ في بعض كتبه ، وتبعه عليه الباقون معترفين بعدم النص ظاهرا على هذه اللوازم ، انتهى.

وهو كما ترى ظاهر في توقفه في الحكم بذلك ، وظاهر المحقق الأردبيلي (قده) الميل الى ذلك بتكلف بالوجوه المصححة له حيث قال : ووجه توقفه على السلامة من الآفات السماوية والأرضية أنه بمنزلة معاملة مشترطة بقبض العوض ، ووصوله

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٥ ح ٥١. الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٦ ح ٣.

٣٤٠